منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - العربي، الأدب
الموضوع: العربي، الأدب
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-06-27, 11:29   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

سيــدي مِلْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالبــاب أتـانـــًا فَضلــتْ كـلَّ أتـــان
تَيَّمتني يـوم رحـنــا بثنــاياهــا الحســـان
وبحســـــنٍ ودلالٍ سـلَّ جسمي وبراني
ولهـا خــدٌ أســـيل مثـل خـد الشيفـران
ثم سأل أحدُ الجالسين بشارًا عن معنى لفظ الشيفران، فأجابه بشار: هذا من غريب الحمار فإذا لقيتم حمارًا فاسألوه. وواضح أن الكلمة مرتجلة إمعانًا من الشاعر في التفكُّه، وكان تفسير بشار لها أكثر فكاهةً. وواضح من الأبيات سخرية الشاعر من شعراء الغزل في عصره خاصة. كما أن هذا اللون الجديد من الشعر الفكاهي قد استخدمه فريق من الشعراء للسخرية والنقد لبعض ما لا يروقهم من الأفكار والعادات.
ظهر في هذا العصر أيضًا ما يسمى بشعر الطرديات وهو ذلك الشعر الذي يصف رحلات الصيد والطرائد وكلاب الصيد والصقور، وما إلى ذلك. وهذا الغرض وإن كانت له جذور فيما سبق من العصور فقد اتسعت جوانبه، وتفنن فيه الشعراء حتى صار فنًا جديدًا، وكان أبو نواس من أبرز الشعراء ميلاً لهذا الغرض. ولا شك أن حياة الترف والثراء كانت وراء هذا الغرض الشعري. كما ظهر شعر الشكوى من البؤس، الذي كان تعبيرًا عن بعض مظاهر الفقر، كما كان سواه صدى لحياة الثراء والترف، وقريب من شعر الشكوى من البؤس شعر الشكوى من العاهات، وهو ضرب من رثاء ما ذهب من الأعضاء أو الحواس، مثل أشعار أبي يعقوب الخريمي الذي أكثر من بكاء عاهة العمى لديه، وتصوير مشاهده ومواقفه بكل صدق. وقد كان هذا الغرض الشعري وأمثاله من الأغراض نتيجة لعمق الوعي بالذات، فضلاً عن رقَّة المشاعر التي اكتسبها الشعراء، خاصة بحكم ما أصاب الحياة من التحضر والرفاهية. كما أن دقة تصوير الشعراء للنفس البشرية في أدق خلجاتها كانت نتيجة لاتساع ألوان الثقافة، التي تثري التجربة الشعرية وتكسبها العمق والاتساع.
أما الأغراض التي بقيت مع شيء من التطوير فمنها، على سبيل المثال، المديح، وهو غرض عريق شائع في الشعر العربي، غير أن الشعراء المحدثين أثروه بما أدخلوا عليه من عمق التحليل للفضائل النفسية والخلقية، نتيجة لما اكتسبوه من الثقافات، ومثل ذلك شعر الهجاء، فقد تناولوه أيضًا بشيءٍ من البسط والتحليل للأخلاق، ولكن في جوانبها السلبية. على أن شعراء هذا العصر بمدائحهم وأهاجيهم قد تغلغلوا في النفس البشرية وكشفوا عن كوامنها، كما أنهم بتناولهم للفضائل والرذائل رسموا المثُل التي ينبغي الإقبال عليها.
ولعل شعر الرثاء، وإن كان غرضًا قديمًا، قد أصابه حظ غير قليل من التطور، فلم يعد رثاءً للناس فحسب، بل صار رثاءً للمدن والأماكن، كرثاء بغداد على أثر ضربها بالمنجنيق في عصر الأمين، حيث عمّها الخراب، وعاث في جوانبها المفسدون.
كما طرأ تغيُّرٌ على الرِّثاء ليصبح رثاءً للحيوان والطيور المستأنسة، وقد استكثر أحمد بن يوسف الكاتب من هذا اللون الطريف، الذي يدل على اتساع آفاق الإبداع الشعري نتيجة لاتساع آماد الثقافة.
ويمكن القول إجمالاً أنه ما من غرض شعري قديم إلا دخله التطوير والتجديد على أيدي الشعراء المحدثين، على تباين في ذلك.
اللغة. امتدت حركة التجديد في الشعر إلى اللغة وذلك من جملة وجوه توجز فيما يلي:
أولاً: سهولة الشعر، ولا يعني هذا أن الشعراء المولعين باللفظ الغريب قد انقرضوا، فقد بقي منهم أمثال أبي البيداء الرياحي وابن الدُّمينة وأبي ضمضم الكلابي، وقدكانوا من أهل البادية، كما كانوا رواة للشعر القديم وللغة.
على أن هذه اللغة السهلة التي عمد إليها الشعراء المحدثون، لقيت إنكارًا من علماء اللغة الذين لم يكن ذوقهم يسيغ إلا الشعر القديم بألفاظه الغريبة، وذلك لسببين: الأول يتعلق بقضية الاحتجاج اللغوي، والثاني أنهم كانوا يقتصرون على رواية الشعر القديم ويتخذونه مادةً للتعليم، ويعتقدون أن هذا الشعر القديم هو الوعاء الحقيقي لأصول اللغة.
ثانيًا: استخدام بعض الألفاظ الأعجمية، ومن أشهر الشعراء في ذلك أبو نواس إذ كان يستكثر من هذه الألفاظ، حتى لتأتي بعض عباراته الشعرية فارسية خالصة، ولا شك أن امتزاج الأعاجم بالعرب قد قيَّض لهذا الشعر شيئًا من الرواج.
ثالثا: مخالفة بعض الشعراء للأقيسة المعروفة في اللغة، مما جعل نقاد هذا العصر يتهمون الشعراء بالخروج على أصول العربية، مع أن في كثير من مخالفات هؤلاء الشعراء ما يمثل لهجة عربية أو يكون من قبيل الضرورات الشعرية. يقول ابن قتيبة ـ دفاعًا عن لغة أبي نواس: "وقد كان أبو نُواس يُلَحَّنُ في أشياء من شعره لا أراه فيها إلا حُجّة من الشعر المتقدم وعلى علَّةٍ بيِّنة من علل النحو".
وخلاصة ماتقدم أن التجديد في عنصر اللغة خاصة قد أثار تيار الصراع بين القديم، الذي كان يمثّله اللغويون بمعاييرهم التقليدية المتشددة، وبين الشعراء المولدين يساندهم فريق من أنصار حركة التجديد، وعلى رأسهم ابن قتيبة.
الأوزان. تطور شعر هذا العصر في أوزانه، فعمد المولَّدون خاصة إلى المقطعات وإلى المجزوءات، واستكثروا من الأوزان الخفيفة الزاخرة بالإيقاع وبخاصة المقتضب والمتدارك، والوزن الأخير أغفله الخليل واستدركه عليه تلميذه الأخفش.
وفي تجديد الشعراء في القافية استحدثوا ما يسمى بالمزدوج والمسَمّطات. والمزدوج نوع من النظم المتعدد القوافي، إذ تختلف القافية فيه من بيتٍ إلى بيت، ثم تتحد القافية في الشطرين المتقابلين، وتكون على بحر الرجز. وقد كثر استعماله في المنظومات التعليمية بوجه خاص.
أما المسمَّطات فهي قصائد تتألف من أدوار، يتركب كل دور من أربع شطرات أو أكثر، وتتفق شطرات كل دور في قافية واحدة، عدا الشطر الأخير، فإن قافيته تكون مخالفة.
بناء القصيدة. من أهم عناصر التجديد الشعري ما يتعلق ببناء القصيدة، فقد تخلَّص الشعراء المولّدون من المقدمات الطللية التي كانت لدى القدماء، وتجاوزوها إلى أطلال مستحدثة اقتضتها تطورات الحياة، فكان هناك أطلال القصور في المدن تستقل بها قصائد تامة، ولا تتوقف عند المقدمة، ومنها سينية البحتري التي وقف فيها على أطلال إيوان كسرى وصوَّر لوحاته الفنية المنقوشة على جدرانه. وأحيانًا يستخدم الشاعر العباسي مقدمات لقصائده في وصف الطبيعة في المدن، وهي تتمثل في الحدائق التي افتن العباسيون في تنسيقها، كما اتخذوها متنزهات لهم.
النثر. إذا كان فن الشعر قد تطور على هذا النحو، فإنه من البدهيّ أن يتطور النثر، بحكم أن النثر ألصق بالواقع وأن الحاجة إليه في أمور الحياة أكثر. وكان هذا التطور نتيجة طبيعية لهذا السيل من الثقافات الأجنبية المتنوعة في مصادرها وفي أجناسها، ونتيجة لاتساع مجالات الحياة في هذا العصر. وقد استجاب النثر العربي لحاجات الواقع الاجتماعية والسياسية والعقلية والدينية، وأثبتت اللغة العربية مرونتها وقدرتها على التعبير عن هذه الحاجات جميعها. وسوف نتناول هنا ـ في إيجاز ـ أهم أشكال النثر في هذا العصر بادئين بفن الخطابة.
عرف العصر العباسي أشكالاً من الخطابة، منها الخطابة السياسية، والخطابة الدينية، والخطابة الحفلية، فأما الخطابة السياسية فإنها قويت في أول العصر العباسي بحكم استخدام العباسيين لها في تثبيت سلطانهم ومقاومة أبناء عمومتهم من العلويين، وبسبب قوة القريحة التي تميز بها أوائل خلفاء بني العباس كأبي عبد الله السفّاح وأبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون، لكن الخطابة السياسية لم تلبث بعد هذا أن ضعفت حين ترسخ سلطان العباسيين، وحين جاء من بني العباس جيل ضعفت فيه القريحة الخطابية، وبشكلٍ عام، فإن الخطابة السياسية لهذا العصر كانت أضعف مما كانت عليه في العصر الأموي.
عرف هذا العصر الخطابة الدينية، ومارسها بعض الخلفاء، وتوسع فيها الوعاظ. فمن الخلفاء هارون الرشيد، الذي تدل النصوص على بلاغته وقوة قريحته فضلاً عن تقواه وورعه. غير أن الخطابة الدينية لدى الخلفاء العباسيين باستثناء القلة النادرة كانت ضعيفة المستوى بشكل عام. أمّا الوعاظ فقد نهضت على أيديهم الخطابة الدينية بحكم تخصصهم وبسبب ماتميز به أكثرهم من الفصاحة والبيان، فضلاً عن سعة ثقافتهم. وعمق مشاعرهم الدينية، وأشهر هؤلاء الخطباء الوعاظ عمرو بن عبيد المعتزلي واعظ الخليفة أبي جعفر المنصور، وصالح بن عبد الجليل واعظ المهدي، وابن السمّاك واعظ الرشيد، ومنهم أيضًا موسى بن سيّار الإسواري، وصالح المرِّي، ولهؤلاء نصوص خطابية أوردتها كبريات المصادر التاريخية والأدبية، ويزخر كتاب البيان والتبيين للجاحظ بالكثير من نصوصهم الخطابية، فضلاً عن وصف الجاحظ لهم ولأدبهم.
والفن النثريّ الثاني هو فن المناظرة، وقد بلغ في هذا العصر مبلغًا كبيرًا من الازدهار، فاق ما سبقه من العصور، والسبب واضح، وهو أن العصر شهد من اتساع المعارف وتنوعها الشيء الكثير، وجدير بهذا الاتساع والتنوع أن ينتج خلافًا في الآراء، واختلافًا في الاتجاهات، فكانت هناك الفرق التي تتناظر فيما بينها، أو تناظر إحداها خصوم الإسلام من أهل الكتاب وأصحاب العقائد الفلسفية وأهل الزنَّدقة. وأشهر هذه الفرق المعتزلة، وأشهر مناظريهم أبو الهذيل العلاف والنَّـظَّام. وكان للمناظرة أكبر الأثر في نشأة علم البلاغة وتطوره، وذلك لحاجة المتناظرين إلى البيان الناصع والحجة القوية وحضور البديهة وتشقيق المعاني والقدرة على تحليلها.
ظهر نوع من المناظرة لا يقصد إلى انتصار عقيدة أو ترسيخ مبدأ، بل كان هدفه الجدل للجدل، والتدليل على البراعة في الاحتجاج والاستدلال، وهو لون من ألوان الترف العقلي الناجم عن سيطرة الجو الجدلي على ساحة المعرفة، وقدرة العقل على اكتساب المزيد من القدرة على الحوار والانتصار. فمن ذلك مثلاً تلك المناظرة الطريفة في المفاضلة بين جمال الديك وجمال الطاووس، ففريق ينتصر للأول، وآخر ينتصر للثاني، وكل منهم يورد من طريف الحجج ما يثير العجب حقًا.
ومن الفنون النثرية لهذا العصر فن الرسالة الديوانية وما يلحق بها من العهود والوصايا والتوقيعات. انظر: الرسائل؛ التوقيعات.
العصر العباسي الثاني (232 - 334هـ ، 846 - 945م). وأول خلفائه هو المتوكل على الله العباسي، ونهايته ظهور الدولة البويهية. وإذا كان للفرس في العصر الأول، نفوذهم الثقافي والحضاري الذي ظهرت آثاره في الأدب والمجتمع، فقد كان للترك نفوذهم السياسي في هذا العصر من خلال تحكمهم في الخلفاء، مما كان له أثره في إضعاف الخلافة العباسية. وكان الترك فرسانًا ولكنهم لم يكونوا حملة تراث أدبي أو حضاري.
تزايد الترف في عهد الخلفاء العباسيين، ومع تزايده ازدهرت حركة الغناء والموسيقى، وعُرف من المغنِّين والموسيقيين في هذا العصر عمرو بن بانج وابن المكي وعثْعث وسليمان الطبّال وصالح الدفاف وزُنام الزامر، ومن المغنيات عَريب وبدعة وشارية وجواريها.
دخلت الموسيقى في هذا العصر مرحلة جديدة من التطور، وهي التأليف، واختراع بعض الآلات، فظهرت مؤلفات لكل من الكِنْدي والفارابي، الذي ألف وشارك في تطوير بعض الآلات الموسيقية واخترع آلة العود كما ألف في الموسيقى إسحاق الموصلي، وعُدّت مؤلفاته، فيما بعد، مصادر أساسية لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. انظر: الأغاني، كتاب. حيث نجد في تضاعيفه نقولاً كثيرة عن مصادر مختلفة.
وكما عرف العصر السابق الشعوبية والزندقة والمجون، وعرف تيار رد الفعل ممثلاً في الزهد والتصوف، فكذلك كان هذا العصر. وكلا التيارين كان له أنصاره، وكان له صداه في الأدب شعرًا ونثرًا. ومثلما تصدى المتدينون لتياري الزندقة والمجون، تصدّى للشعوبية فريق من الأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة. وللجاحظ مقالات وردود على الشعوبية في كتابه البيان والتبيين خاصة، كما أن لابن قتيبة مبحثًا سماه كتاب العرب أو (الرد على الشعوبية). ومن عجب ألا تكون الشعوبية مجرد أقوال بين الناس، بل إن الشعوبيين ألّفوا كتبًا في النَّيل من العرب واحتقار شأنهم، وقد سجّل صاحب الفهرست عناوين لبعض هذه الكتب، مثل كتاب فضل العجم على العرب وافتخارها لسعيد بن حميد بن النْختكان.
ونشطت الحركة العلمية في هذا العصر نشاطًا كبيرًا، تمثل في العناية بالتعليم، لا فرق في ذلك بين الخلفاء وولاتهم، وبين العامة. وكانت المساجد مراكز نشطة للتعليم، فضلاً عن الكتاتيب وقصور الخلفاء والولاة، الذين كانوا يجزلون المكافأة للعلماء القائمين على تعليم أبنائهم، كما كثرت المكتبات وحوانيت الوراقين التي كانت تتكفل ببيع الكتب وشرائها فضلاً عن نسخها وتجليدها. كما نشطت حركة الرواية والرحلة في طلب العلم وبخاصة الحديث، كما تزايدت حركة النقل والترجمة ورعاية الخلفاء لها، ومن أشهر مترجمي هذا العصر إسحاق بن حنين وحنين بن إسحاق ولده وثابت بن قرة. وكانت حركة الترجمة شاملة للعلوم والفنون والآداب.
وكان من البدهيّ أن تنشط، أيضًا حركة التأليف في مختلف العلوم والفنون والآداب، وخاصة التأليف في العلوم الإسلامية عقيدة وشريعة، إذ شهد هذا العصر أوثق مدوَّنات الحديث وأشهرها، مثل الكتب الستة، وهي صحيحا البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي داود والترمذي والنَّسائي. كما شهد تآليف فقهية في المذاهب الأربعة، وتآليف كلامية خاصة في الاعتزال. كما ظهرت عقليات علمية فذّة لها دورها في تاريخ العلوم على مستوى العالم بأسره، ومن هؤلاء الخوارزمي في الرياضيات وواضع علم الجبر، والكِنْدي العالم الفيلسوف، والجاحظ الأديب المتكلم. وبدا واضحًا أن العقل العربي المسلم استطاع أن يستوعب ثقافات الأمم وأن يتمثلها، ثم يشارك مشاركة فعالة في الجهود الإنسانية الحضارية، فضلاً عن تميزه وابتكاره.
الشعر. وأبرز أعلامه، لهذا العصر البحتري وابن الرومي وابن المعتز، وهؤلاء أشهر شعراء هذه الحقبة، ولكن الذين لم يحظوا بشهرة كشهرتهم كثير، منهم على سبيل المثال علي بن يحيى المنجِّم وأبو بكر الصولي، وابن دريد والحسين بن الضحّاك والناشئ الأكبر والخُبز أُرْزي.

أبو بكر الصولي (رسم متخيـَّل)
ونظرة عامة إلى ساحة الشعر في هذا العصر، توضح أن حركة التجديد والتطوير قد اقتصرت على التفنن والاتساع في الأغراض التقليدية، أو تلك التي استحدثت في حقبة العصر العباسي الأول، فالمديح والهجاء والغزل والوصف اتسع الشعراء في معانيها، تحليلاً وغوصًا في المعاني. ورثاء المدن والأماكن ـ وهو من مستحدثات العصر الماضي ـ ظلَّ قائمًا إلى هذا العصر، فتناول البحتري في سينيته المشهورة إيوان كسرى، يرثيه ويصف أطلاله ويحلل لوحاته ونقوشه في تصوير دقيق رائع. ويتجه الشعراء بالوصف إلى الطبيعة، ويتوسَّعون أيّما اتساع، وخاصة في وصف الورود والأزاهير والأشجار والثمار وجداول المياه، وينتج عن توسّعهم في هذا الوصف باب جديد لفن الوصف. وأشهر الشعراء الواصفين للطبيعة: ابن المعتز وابن الرومي والصَّنَوْبري. وابن الرومي -غير مدافَع- أبرع الواصفين المصورين للطبيعة ولغير الطبيعة من المشاهد البشرية والحسية الأخرى.
النثر. ضعفت الخطابة السياسية والحفلية في هذا العصر، وقويت الخطابة الدينية على أيدي الوعاظ والقُصّاص كما كان الحال في العصر السابق. وفي هذا العصر نشأت طائفة جديدة من الوعاظ، هم المذكّرون أي المتصوفة. ومنهم على سبيل المثال: يحيى بن معاذ الرازي، وأبو حمزة الصوفي. ويؤخذ على أفراد من هذه الطائفة أنهم أدخلوا في مواعظهم ما ليس من الإسلام مثل فكرة التناسخ وفكرة الحلول. ومن هؤلاء: أبو يزيد البسطامي، والحلاّج.
أما المناظرات ـ وقد نشأت وازدهرت منذ العصر العباسي الأول ـ فقد تزايد الاهتمام بها، ولم تعد قاصرة على طائفة المتكلمين، بل تجاوزتها إلى الفقهاء واللغويين والنحاة. ومن أشهر المناظرات ما دار بين أبي علي الجبّائي المعتزلي وشيخه أبي الحسن الأشعري، وما دار بين أبي العباس بن سُريج الفقيه الشافعي وداود الظاهري، ثم محمد بن داود من بعده، وما دار بين أبي العباس المبرِّد النحوي البصري وأبي العباس ثعلب النحوي الكوفي، وما كان بين السيرافي النّحوى ومَتَّى بن يونس المترجم المتفلسف. وكل هذا كان ثمرة طبيعية لتيارات الثقافات الواسعة والمتباينة، وبخاصة الثقافة الفلسفية.
أما الرسائل الديوانية فقد ظلت على نشاطها، وأبرز كُتّابها إبراهيم بن العبّاس الصّولي كاتب المتوكل وأحمد ابن الخصيب كاتب المنتصر. انظر: الرسائل.
النقد الأدبي. حقق النقد الأدبي تقدمًا واسعًا شهده العصر مُمثلاً في كثرة النقاد وتنوع مناهجهم وشمولية النظرة للأدب. وأبرز نقاد هذا العصر ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء. انظر: الشعر والشعراء. كما شهد هذا العصر، أيضًا، نضجًا في التأليف البلاغي الذي لا يعدم صلته بالنقد الأدبي. وأبرز الأعمال البلاغية النقدية كتاب البديع لعبد الله بن المعتز مع نثار نقدي قليل ومتفرّق في كتابه طبقات الشعراء المحدثين، كما لايخلو كتاب الكامل لأبي العباس المبرد من نظرات نقدية بلاغية. انظر: الكامل في اللغة والأدب. هذا إلى ما للجاحظ من جهود رائدة في تأسيس البلاغة الممزوجة بنظرات نقدية صائبة. وبالجملة فإن القرن الثالث الهجري شهد ظهور أمهات كتب النقد الأدبي، التي غَدَت مصادر نقدية أساسية للعصور اللاحقة.
العصر العباسي الثالث. من قيام الدولة البويهية إلى سقوط بغداد، (334 - 656هـ ، 945 - 1258م). بدا واضحًا في هذا العصر أن الدول والإمارات التي انقسمت إليها الخلافة العباسية كانت، بحكم ما بينها من تنافس، سببًا في الازدهار الأدبي والحضاري، وإن كانت عامل ضعف سياسي في بناء الخلافة. وإذا كانت حركة الترجمة والاتصال بالثقافات الأجنبية قد بدأت تؤتي ثمارها في العصر السابق، فقد تأكدت نتائج هذا الاتصال بظهور مواهب فنية وعقلية فذّة، كما اتسعت فنون الأدب، شعره ونثره.
ففي مجال الشعر ظهر المتنبي والمعري والشريف الرضيّ. وفي مجال النثر ظهر أبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني. وفي مجال التأليف ظهر أبو الفرج الأصفهاني بموسوعته الكبرى الأغاني.انظر: الأغاني، كتاب. وبرز أبو منصور الثعالبي بمؤلفه يتيمة الدهر الذي كان مدرسة في التأريخ الأدبي احتذاها كثير من المشارقة والمغاربة، هذا إلى كتب أبي علي التنوخي مثل نشوار المحاضرة، والفرج بعد الشِّدّة.
اتسعت حركة التأليف اللغوي، فشهد هذا العصر لونًا جديدًا من البحث اللغوي تمثل في كتاب الخصائص لابن جِنِّي، وظهور أنماط شتى من المعاجم اللغوية. كما تمثل في حركة التأليف في التاريخ الإسلامي والجغرافيا والعلوم الإسلامية، والفلسفة والعلوم البحتة والتطبيقية، إلى غير ذلك من العلوم. ويعكس هذا النشاط التأليفي هضم العقل العربي للثقافات هضمًا جعله قادرًا على الابتكار والإسهام في الحضارة الإنسانية بجهد متميز.

أبو العلاء المعري (رسم متخيـَّل)
أما الفنون الأدبية، فأبرزها ما اصطُلح حديثًا على تسميته بالأدب الشعبي، مثل ألف ليلة وليلة ذات التأثير الواسع والعميق في الآداب العالمية، وسيرة عنترة، ثم هذا النوع من القصص الابتكاري، ومن أبرز نماذجه رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. انظر: رسالة الغفران. كما ظهرت في مجال الشعر فنون شعبية مستحدثة، منها الموشح والزجل والمواليا. وهكذا، فإن الصورة العامة لهذا العصر أدبًا وعلمًا، تدل على ازدهار متميز حقق به الإبداع العربي نبوغه ومقدرته الفذة على الابتكار.
ولم يعد الابتكار الفني والعقلي قاصرًا على بيئة دون أخرى،بل اتسعت رقعة هذا الابتكار ليشمل شتى الحواضر العربية، ثم يتجاوزها إلى ديار الأعاجم الذين شاركوا ـ بعمق ـ في حركة الابتكار الفني والعقلي.

أبو فراس الحمداني (رسم متخيـَّل)
الشعر اصطبغ بصبغ فكري جعله قادرًا على تجسيد قضايا الإنسان والكون والحياة، دون أن يفقد نبضه الوجداني ومقدرته الفذة على التخييل والتصوير، وقد ظهر أبو الطيب المتنبي نموذجًا للشاعر الذي تمثل في عمق شتَّى الثقافات، مع موهبة فنية نادرة النظير وثروة لغوية وارتكاز على التراث الأصيل، وهو يعبّر عن هموم عصره من خلال ذاته وفكره. انظر: المتنبي. وإذا كان المتـنبي والمعري يمثلان النموذج المتفرد في التعبير الإنساني، فقد كان من الطبيعي أن يظهر إلى جوارهما عشرات الشعراء، ممن كانوا دونهما نبوغًا وعبقرية، لكنهم، على كل حال، كانوا يمثلون اتجاهات شعرية متباينة ومستويات شعرية مختلفة. ومن هؤلاء الشعراء: أبو فراس الحمداني، وكشاجم والوأواء الدِّمشقي والشريف الرضِي ومهيار الدَّيـْلمي وابن نباتة السَّعْدي. ويزخر كتاب يتيمة الدهر للثعالبي بجمهور كبير من هؤلاء الشعراء الذين ظهروا في بيئات عربية وأعجمية مختلفة. وإذا كان الأندلس يفاخر المشرق بفن الموشح، فإن المشرق، في محاولة للتميز، حاول أن يتفرد بدراسة هذا الفن المستحدث واستخلاص قواعده وأوزانه، فظهر ابن سناء الملك بكتابه دار الطراز في عمل الموشحات. ولئن عجز ابن سناء الملك عن استخلاص أعاريض الموشح وحصر أوزانه في كتابه المتقدم فإنه وفق إلى استخلاص سائر قواعده من خلال منهج سديد جمع بين النظرية والتطبيق.
ونطالع في مرحلة متأخرة من هذا العصر أسماء شعراء مثل البهاء زهير وابن مطروح، وهما من أصدق الشعراء تمثيلاً لروح العصر، إذ اتسمت أشعارهما بالرّقة والعفوية، فضلاً عن تلك اللغة السهلة التي تقترب كثيرًا من لغة الحياة الدارجة، إلى ما لدى البهاء زهير من نزوع إلى الغزل الذي، وإن لم يعبر عن معاناة حقيقية، يعكس روح الدعابة وخفة الظل لديه.
كما نطالع شعر التصوف لعمر بن الفارض ولغيره من الشعراء، إذ كان الشعر الصوفي صدىً لتيار التصوف في هذا العصر.
وإذا كان الغزو الصليبي يشكل لهذا العصر أعمق الأحداث أثرًا في حياة الناس، خاصة في ديار الشام ومصر، فمن البدهي أن يترك هذا الغزو تأثيره على الشعر، إذ راح الشعراء يعبرون عن أحزانهم بهزيمة أو أفراحهم بنصر، مع رثاء المدن أو مدح السلاطين من بني أيوب. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الشعر العربي، لهذه الحقبة، كان من الضعف بحيث لا نجد شاعرًا فحلاً في مستوى أبي تمام والمتنبي، وهما يعبران في قصائدهما الحماسية عن حركة النـضال ضد الروم.
النثر. أبرز أشكال النثر في هذا العصر الفن القصصي، وقد حقق تقدمًا ملحوظًا، فلم يعد مجرد حكايات تراثية يرويها الأديب، ويُحدث فيها بعض التعديل، بل ظهر القصص الابتكاري. وتُعدّ مقامات بديع الزمان الهمذاني وتلميذه الحريري أوضح نماذج القصص الابتكاري الواقعي، ممزوجًا بصبغ تعليمي يتمثل فيما حوته المقامات من ألفاظ اللغة والألغاز والثروة البلاغية والنقدية. انظر: المقامات. وإذا كان أدباء المتصوفة شاركوا في هذا العصر بأشعارهم، فقد شاركوا أيضًا بكتاباتهم التي تمثلت في تلك الابتهالات التي نجدها لدى أمثال أبي الحسن الشاذلي وتلميذه ابن عطاء الله السكندري.
وإلى جانب القصص الشعبي عرف هذا العصر النثر الفكاهي الذي دار حول النقد الاجتماعي للعادات والتقاليد والنقد السياسي لممارسات بعض الحكام. وكتاب الفاشوش في حكم قراقوش نموذج لهذا اللون من القصص الفكاهي، الساخر من قراقوش قائد صلاح الدين الأيوبي ونائبه بمصر إبان الحروب الصليبية. فقد كان الرجل جادًا ملتزمًا في عمله إلى حد القسوة أحيانًا، مما جعل ابن ممّاتي يحمل عليه ويصوّره، في هذا الكتاب، بصورة ساخرة مبالغ فيها.
النقد الأدبي. ازدهر النقد الأدبي ازدهارًا كبيرًا في هذا العصر منتفعًا بما سبق من جهود النقاد. وأهم النقاد في هذا العصر أبو هلال العسكري والقاضي الجرجاني والآمدي، وابن رشيق القيرواني وابن الأثير.
وإذا كان أبو هلال العسكري يمثل الاتجاه النظري في النقد، متأثرًا بشيخه قدامة بن جعفر، فإن القاضي الجرجاني في الوساطة، والآمدي في الموازنة، يمثلان الاتجاه التطبيقي في النقد الأدبي.
أما كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، فيعد أشمل مؤلف في دراسة الشعر، إذ لا يقتصر على النقد بل يتجاوزه إلى البلاغة وبعض الثقافات التراثية التي تُعدّ، بحق، مفتاحًا لدراسة الشعر العربي القديم، وبخاصة الجاهلي.
كما أن كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين بن الأثير يُعدُّ نموذجًا للنقد الأدبي الذي يجمع بين الشعر والنثر.
من سقوط بغـداد (656هـ) إلى مطالع العصرالحديث
وهو ما عرف في تاريخ الأدب بعصر الانحطاط، وهي تسمية جائرة. فقد واجهت الأمة الإسلامية في هذا العصر موجات ثلاثًا من الغزو: موجة الغزو الصليبي، وموجة الغزو المغولي الأولى بقيادة هولاكو، التي أسقطت بغداد، ثم بدأت تعد العدة لغزو مصر والشام لولا هزيمتها في عين جالوت، والموجة الثالثة هي موجة الغزو المغولي الثانية، وقائدها تيمورلنْك من سلالة جنكيزخان، الذي مضى يخرّب غالب مدن العراق، كما خرّب حلب وأحرق دمشق. وقد كان لهذه الموجات الثلاث صداها البعيد في الأدب شعره ونثره.
ظل للماليك في مصر دولة حاكمة من سنة 648هـ ، 1250م إلى الفتح العثماني عام 922هـ، 1516م. وكان للماليك جولات عظيمة في الجهاد، كما لقُطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت، فضلاً عن بطولات الظاهر بيبرس في حرب الصليبيين، وكذا بطولات خلفائه من بعده، كما شهد العصر المملوكي ازدهارًا في إنشاء المدارس وتأليف الموسوعات وازدهارًا في العلوم والفن المعماري، بينما ضعف الأدب شعرًا ونثرًا.
ثم كانت الخلافة العثمانية منذ عام 922هـ ، 1516م وزوال دولة المماليك بمصر إلى العصر الحديث، مع نهاية القرن الثاني عشر ومطالع القرن الثالث عشر الهجري، وانبثاق النهضة الفكرية والأدبية في العالم العربي على تفاوت ـ في ذلك ـ بين أقطاره المختلفة. أما الأدب خلال تلك الحقبة فكان من أبرز معالمه ظهور تيارين: الأول، تيار الأدب الديني والثاني، تيار الأدب الشعبي.
أما في تيار الأدب الديني، فقد ازدهرت المدائح النبوية، موصولةً بجذورها في صدر الإسلام. ومع تيار المدائح النبوية يظهر أيضًا تيار الشعر الصوفي المتدثر بالتصوف الفلسفي على طريقة ابن عربي وابن الفارض، وممن يمثل هذا التيار عبد الغني النابلسي (ت1143هـ).
وفي النثر تطالعنا حكم ابن عطاء الله السكندري (ت709 هـ) متأثرةً هي الأخرى بالتصوف، كما تطالعنا كتب ابن تيمية ورسائله، وكتب تلميذه ابن قيم الجوزية، وهي تمثل التيار السَّلفي للأدب الإسلامي في هذا العصر. وكان من البدهي أن يعكس كل من الأدبين، الصوفي والسلفي، حركة الصراع بين هذين الاتجاهين.
أما في تيار الأدب الشعبي فقد انتشرت أشكال شعبية كالزجل الذي اتخذ من الدارجة لغةً له. ويبدو أن انشغال المشارقة بفن الزجل وتشقيقهم منه أشكالاً متعددة التلاوين، كل ذلك قد لفت انتباه ابن سعيد المغربي الأندلسي في رحلته إلى المشرق، فراح يسجل ألوانًا منه في كتابه المُشْرق في حُليِّ أَهْل المَشْرق. وتستوقفنا في هذا العصر شخصية ابن سودون الذي عدّه الباحثون أهم شخصية شعبية في القرن التاسع الهجري، وله كتاب بعنوان نزهة النفوس ومضحك العبوس، جعله في خمسة أبواب، الباب الأول في القصائد والتصاديق، أي المقدمات، وهي قصائد بالفصحى لم تخْلُ من اللفظ العامي يسوقه للفكاهة، والباب الثاني، في الحكايات البيداء الملافيق، والثالث في الموشحات الهبالية، كتبها بالعامية، والرابع في الزجل والمواليا، والخامس في الطُرف العجيبة والتحف الغريبة. واللافت للنظر أن الشعر الفصيح نفسه عند ابن سودون مثير للضحك بمعانيه وصوره، وببعض ما تخللت لغته الفصيحة من تعابير عامية.
أما النثر فلعله فاق الشعر أو ساواه في طابعه الشعبي، فما زالت سيرة عنترة شائعة سيارة بين الطبقات الشعبية في أسمارهم ومحافلهم. انظر: السيرة الشعبية.
ومن صور النثر الشعبي في هذه الحقبة كتاب عنوانه: هزّ القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف لمؤلفه يوسف الشربيني، وهو لون من النثر الشعبي الساخر يتناول واقع الريف المصري في هذه الحقبة بما تخلله من جهلٍ وفقر.
وبينما يكون نثر السيرة الشعبية بطوليًا خياليًا،كان هز القحوف وأمثاله فكاهيًا واقعيًا.
تناولت هذه العجالة أبرز تيارين أدبيين في الشعر والنثر، ولكن ذلك لا يعني اقتصار الأدب عليهما، فإلى جانب تياري الشعر الديني والشعبي، عرف الأدب سائر الأغراض التقليدية للشعر، وبخاصة شعر الحماسة، الذي عبّر عن وجدان الإنسان العربي ومشاعره تجاه الأحداث الجسام ممثلة في تيارات الحروب الصليبية والغزو المغولي. ولكن الشعر العربي لم يستطع، لضعفه، أن ينهض بعبء التعبير عن هذه الأحداث، كما أن النثر التقليدي ظل موجودًا إلى جانب النثر الشعبي، إذ ظلت الخطابة والمقامة والرسالة قائمة في هذا العصر في لغة مسجوعة مصنوعة.
ولكن ينبغي أن نشير هنا ـ ونحن بصدد الحديث عن النثر، إلى حقيقتين مهمتين: الأولى: ازدهار فَنَّيْ السيرة الذاتية والرحلة. انظر: السيرة؛ الرحلات، أدب. والثانية: أن كتب التاريخ والجغرافيا لم تخْل مواضع منها من النثر الإبداعي الوصفي الذي ينبض بالتجربة وقوة التأثير وجمال الصياغة، مما يدخلها في صميم النثر الإبداعي. وتُعدّ هذه المواضع مع ما ذكرناه من كتب السيرة الذاتية والرحلة، نقاط ضوءٍ ساطع في نثر هذا العصر الذي خَيَّمت عليه الصنعة والضعف.
الأدب في الأندلس
فتح المسلمون الأندلس عام 92 للهجرة، وظلت تحت راية الإسلام أكثر من ثمانية قرون حتى عام 898هـ، تاريخ خروج المسلمين منها. وتُعدُّ الأندلس جسرًا ثقافيًا بين الشرق والغرب، فعن طريقها تنسَّم الغرب النصراني نفحات الحضارة العربية الإسلامية. وهي حضارة حلقت بجناحين: جناح العقيدة وهي الدين الإسلامي، وجناح اللغة العربية. ومن ثَمَّ كان الأدب في الأندلس عربيًا في لغته وبلاغته وأساليبه. وقد امتزج كل ذلك بكثير من طبيعة البيئة الأندلسية التي نشأ في أحضانها.
الحياة السياسية، وآثارها الفكرية والأدبية. عرفت الأندلس ستة عصور سياسية هي:
عصر الولاة (95-138هـ). حكم الأندلس خلال هذه الفترة ثمانية عشر واليًا؛ يعيَّنهم تارة الخلفاء الأمويون في دمشق وأخرى عُمالهم في إفريقيا، وأول هؤلاء الولاة، عبد العزيز بن موسى بن نُصَيْر وآخرهم يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِي.
امتاز هذا العصر بالصراع القبلي بين العرب والبربر الذين كانوا يفخرون بأنفسهم، لأن فتح الأندلس تم على يد رجل منهم هو طارق بن زياد، ولذلك كانت ثورات البربر لا تهدأ في الأندلس خلال هذه الفترة. ثم ظهر نزاع قبلي آخر بين من عرفوا بالبلديين والشاميين؛ فالبلديون هم عرب الأندلس في حركة الفتح الأولى والشاميون هم الأفواج اللاحقة، وقد دار صراع بين الفريقين. وكذلك كان ثمة صراع قبلي ثالث بين المُضريَّة واليمنية ترك بصماته على هذه الفترة.
لم يكن هذا العصر مهيئًا لنهضة أدبية أو علمية بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي كان يمور فيه، ومن ثم لا نجد خطوطًا أدبية مميزة لهذه الفترة.
الدولة الأموية. ينقسم هذا العصر إلى قسمين: الأول إمارة قرطبة (138 - 300هـ)، وتأسست على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان الذي عرف بعبد الرحمن الداخل. وقد استطاع الداخل بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق وقضاء العباسيين على كثير من الأمويين أن ينجو بنفسه ويخوض مغامرات كثيرة جعلت منه صقر قريش الذي أسس مجدًا للأمويين في الأندلس، حيث تناوب على حكم إمارة قرطبة من بعده ستة من أبنائه وأحفاده.
وفي هذا العصر نمت قوة المسلمين بالأندلس وانعكس أثرها في سياستهم الخارجية، على حين أن النشاط الداخلي شهد حركة من البناء والعمران جعل من قرطبة العاصمة درة بين العواصم المشرقية والغربية. كما كان الأمير الحكم بن هشام مؤثرًا للعلماء والفقهاء، وإن كان عبد الرحمن الأوسط هو أشهر أمراء قرطبة في رعاية العلوم والآداب والفنون.
نهضت الحركة الأدبية في هذا العصر، إذ كان حكامه بحكم طبيعتهم العربية يعنون بالشعر والنثر وفصيح القول؛ فجعلوا بلاطهم عامرًا بأهل العلم والأدب. كما كان عبد الرحمن الداخل نفسه شاعرًا وأديـبًا. ومن أشهر مقطوعاته الشعرية وصفه للنخلة التي أهاجت شجنه وذكرته بوطنه حين يقول:
تَبَدَّتْ لنا وسط الرَّصافة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن وطن النخل
فقلت شبيهي في التغرُّبِ والنَّوى وطول التنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نَشَأْتِ بأرض أنت فيها غريبةٌ فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وكذلك كان الحكم بن هشام بليغًا فصيحًا شاعرًا مجيدًا، ومن شعره يفخر بإقرار الأمن في البلاد:
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعًا وقِدمًا لأمت الشَّعب مُذْ كنتُ يافعًا
فسائل ثغوري هل بها الآن ثغرةٌ أبادرها مُسْتَنْضِيَ السيف دارعًا
تُـنَـبِّيك أني لم أكن عن قِرَاعِهم بِوَانٍ وأني كنت بالسيف قارعًا
ومن قوله يتغزل:
ظل من فرطِ حبه مملوكا ولقد كان قبل ذاك مليكا
إن بكى أو شكا زِيْدَ ظُلْماً وبعادًا يدني حِماماً وشيكا
تركته جآذرُ القصر صَبا مستهاماً على الصعيد تريكا
ولا نستثني من زمرة الأمراء الشعراء عبد الرحمن الأوسط في مثل قوله:
إذا ما بدت ليَ شمس النهار طالعة ذكرتني طروبا
أنا ابن الميامين من غالب أشُبُّ حروبًا وأطفي حروبا
وكذلك آخر أمراء قرطبة عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن وكان شاعرًا مطبوعًا ومن رقيق غزله قوله:
يامهجة المشتاق ما أَوْجَعَك ويا أسير الحب ما أخْضَعَكْ
ويارسول العين من لحظها بالرد والتبليغ ما أَسْرَعَكْ
ومن شعراء الإمارة من غير الأمراء عاصم بن زيد العبادي، الذي جعل من محنة العمى موضوعًا لشعره، ومن أجمل تصويره لمحنته قوله:
ورأت أعمى ضريرًا إنما مَشْيُهُ في الأرض لمسٌ بالعصا
فبكت وجدًا وقالت قولة وهي حَرَّى بلغت منّي المدى
ففؤادي قرِح من قولها مامن الأدواء داء كالعمى
أما الشاعرات فتعد حَسانة التميمة سيدة شواعر عصرها غير منازعة، ومن جميل قولها مدحها للحكم بن هشام:
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملَّكَتْهُ مقاليد النُّهى الأمم
لا شيء أخشى إذا ماكنت لي كنفًا آوي إليه ولايعرونِيَ العدم
وقد كان الشعر في هذه الفترة يسير على الاتجاه المحافظ في المدرسة المشرقية ويتبع منهج القدماء في بناء القصيدة واستيحاء صورها من عالم البادية وترسم موضوعات الشعر التقليدي في مدحه وفخره وهجائه، كل ذلك في عبارات فخمة وألفاظ جزلة وبحور طويلة وقوافٍ رنَّانة.
وعلى كلٍ فقد نهض الأدب في هذا العصر نهضة واسعة بسبب عناية الحكام بالأدباء والعلماء وتيسير سبل حياتهم.
أما القسم الثاني فهو عهد خلافة قرطبة (300 - 422هـ). حيث تحولت إمارة قرطبة إلى خلافة عظيمة على يد عبد الرحمن الثالث، وهو عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن الأوسط، وعرف بعبدالرحمن الناصر. وهو أول من تسمى من أمراء الأمويين في الأندلس بأمير المؤمنين وأعلن نفسه خليفة بالأندلس وتلقب بالناصر لدين الله.
لم تشهد الأندلس عصرًا بلغ ذروة ازدهاره في مختلف مجالات الحياة، مابلغته الأندلس في هذا العصر. فقد نهضت الآداب والعلوم والفنون نهضة واسعة. وكان عبد الرحمن الناصر كثير العناية بالشعراء والكتاب، وأصبح بلاطه قبلة لأهل العلم والأدب. انظر: الناصر الأموي.
ويُعد ابن عبدربه الأندلسي صاحب العقد الفريد وأحمد بن عبدالملك بن شهيد صاحب التوابع والزوابع وعبد الملك بن جَهْوَر من أشهر شعراء هذا العصر.
انتقلت الخلافة بعد عبد الرحمن الناصر إلى ابنه الحكم وكان أمره كأبيه، فواصلت الأندلس مسيرتها العطرة في مختلف المجالات. وكان الحكم قد عهد في حياته بأمر الإشراف على ابنه هشام إلى محمد بن أبي عامر الذي استولى بعد موت الحَكَم على الحُكْم، حين حجب هشامًا الحَاكِم الشرعي وأصبح هو الحاكم الفعلي للأندلس ولقب نفسه بالحاجب المنصور.
وفي عصر المنصور اتصلت نهضة الأندلس السياسية، وإن فقدت شيئًا من رحابة الصدر التي كانت للخلفاء السابقين. وكان الحاجب المنصور أديبًا شاعرًا محبًا للعلوم مؤثرًا للأدب، فنهض الأدب في جوانبه المختلفة، وكان من أشهر شعراء العصر الرَّمادي وابن درّاج القسطلي وابن هانئ وغيرهم.
وبموت المنصور بن أبي عامر (392هـ) دخلت الأندلس في الفتن والصراعات التي أدت إلى انقطاع الدولة الأموية وموتها بانتثار عقد الخلافة، وكان ذلك بداية النهاية في الأندلس. انظر: المنصور بن أبي عامر .
عصر ملوك الطوائف (400 - 536هـ). تقسَّمت الأندلس عقب سقوط الخلافة الأموية إلى عدد من الدويلات والطوائف، وكان كل من يأنس في نفسه القدرة من رؤساء الطوائف عربًا أو موالي يستقل بالإمارة التي يحكمها ويتخذ من أهم مدينة فيها عاصمة له. ومن أهم هذه الدويلات: أ- الدولة الزيرية. ب- الدولة الحمودية. جـ- الدولة الهودية. د- الدولة العامرية. هـ- الدولة العبادية. و- دولة بني الأفطس. ز- الدولة الجهورية. ح- دولة ذي النون.
وقد نشأت بين حكام هذه الممالك وملوكها حروب متصلة، بلغ الأمر فيها استعانة بعضهم بملوك الفرنجة. كما تجاوز التنافس السياسي بينهم إلى التنافس في مجالات العمران والأدب والفن ومجالس الطرب والغناء وتشجيع الكتاب والشعراء. وبالرغم من ذلك شُغِل فريق بالبهرج والترف والتهافت على الصغائر والتلقب بنعوت الخلفاء، مما جعل سخرية الشاعر ابن عمار صادقة في حقهم حين يقول:
مما يُزَهِّدني في أرض أندلس أسماءُ معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صولةَ الأسد
وعلى كل حال حظيت الحركة الأدبية برعاية فائقة على يد عدد من هؤلاء الحكام الذين كانوا أنفسهم شعراء وأدباء، كالمعتمد بن عَبَّاد في أشبيليا والمظفر وابنه المتوكّل في بَطْلَيَوْس. كما أصبحت مراكز الأدب وإشعاعاته ليست في قرطبة وحدها كما كان الحال في عصر الدولة الأموية، ولكن تعددت مراكز الثقافة بتعدد العواصم، وقد أخذ العلماء والأدباء والشعراء يقصدون كل بلاط رغبة في نيل الحظوة وتكريم الحكّام لهم. ومن ثم فليس عدلاً أن نحكم على عصر الطوائف حكمًا أدبيًا من منظور فرقته وضعفه السياسيين، فالعصر وإن تردَّى سياسيًا، فقد نهض نهضة أدبية واسعة.
دولة المرابطين (495 - 555هـ). نشأت دولة المرابطين في المغرب على يد أحد زعماء قبائل صنهاجة، وكان أساسها دينيًا. وبعد موت مؤسسها آل أمرها إلى أسرة بني تاشفين، وكان يوسف بن تاشفين هو المقدم في هذه الدولة التي أقامها على قاعدة من الجهاد الديني العريض.










رد مع اقتباس