بعد حرب الكويت، كان السعوديون روّاداً في مؤتمر مدريد.. كان ذلك ثمناً يسددونه مقابل الحماية الأميركية التي جاءتهم على عجل من صدام حسين. فرخت مدريد صفقة اوسلو، وأوسلو فرخت انتفاضة ثانية تجاهلها السعوديون مثلما تجاهلوا الأولى عام 1987، ليتوج الأمر بحصار عرفات وقتله في صمت مريب من الجميع. وجاءت حرب تموز الصهيونية ضد لبنان عام 2006، لتزيد من الإتصالات الإسرائيلية السعودية، ولتفتح جروحاً مع سورياً وصلت الى قاب قوسين من قطع العلاقات، والى توتر في لبنان، والى محاصرة غزة ومحاربتها سعودياً.
عشق وهابي لفهد
هذه هي المحصلة النهائية من سياسة فهد الفلسطينية.. كلها سوداء.
في الصورة الإجتماعية والإقتصادية المحليّة، هناك اتفاق بين كل الباحثين العرب والأجانب والسعوديين أنفسهم، بأن عهد الملك فهد شهد أكبر انتكاسة اقتصادية، هي أشد وطأة من أزمة الستينيات الميلادية التي سببها تلاعب الملك سعود بأموال الدولة. فقد أصبحت الدولة مدانة بعشرات المليارات من الدولارات لأول مرة في تاريخها، وأصبحت ظاهرة البطالة قائمة ولاتزال بسبب سياساته، وأصبحت الخدمات في عهده في الحضيض ولاتزال.
والباحثون متفقون أيضاً على أن التطرّف الديني الوهابي لم يبلغ مداه في الداخل والخارج إلا بسياسات الملك فهد نفسه، وأن ما يجري اليوم في السعودية إنما هو استمرار لمنتجات سياسات الملك فهد، خاصة بعد انتفاضة جهيمان عام 1979م.
أيضاً هناك اتفاق بين أكثرية السعوديين، على أن الملك فهد كان أكثر من بثّ الحساسيات بين المناطق والمذاهب في الداخل السعودي. فهو لم يدعم الوهابية وجهودها الداخلية والخارجية في نشر فكرها المتطرف فحسب، بل دعم النجدية الوهابية أكثر من أي وقت مضى. وفي عهده تعرض الحجازيون كما الشيعة ومناطق اخرى مهمشة الى المزيد من التهميش في الدولة.
لعل هذا المنتج الأخير لسياسات الملك فهد، يجيب على تساؤل حقيقي يقول: إذا كان عهد الملك فهد بهذا السوء، فلماذا نرى أنه الملك الأكثر شعبية بين طاقم الدولة، وبين النجديين عامة، وبين الوهابيين بشكل خاص؟!
جواب هذا التساؤل واضح أيضاً: قد لا يثيرنا دعم النجديين وحبهم للملك فهد، فهو قد مكنهم من السلطة كاملة، وانحاز لهم بشكل جعل الدولة نجدية بقضّها وقضيضها. وما مسؤولي الدولة وطاقمها إلا من تلك الفئة بالتحديد، فلا غرابة إذن، في بلد قائم على المناطقية والمذهبية وحتى العنصرية، أن يجد الملك فهد دعماً من فئة اجتماعية ينتمي اليها والى مصالحها على حسب بقية الشعب، وهم أكثرية السكان (75% ـ 80%).
لكن السؤال الأكثر إثارة هو التالي: المعلوم ان الملك فهد ـ وقبل أن يصبح ولياً للعهد ـ كان مشهوراً عنه بتحلله الأخلاقي علناً. لم تكتب الصحافة الغربية عن شخص فاسد من العائلة المالكة بمثل ما كتبت عن فهد، ولم يوبّخ فيصل ـ الملك ـ أحداً من العائلة المالكة المسؤولين بمثل ما وبّخه. ولم تكتب صحافة غربية عن ملايين يصرفها أمير على القمار بمثل ما كتبت عن فهد؛ ولم تُنشر صورة لأمير مسؤول وهو يحتسي الخمر من قبل بمثل ما فعلت مع فهد الذي ظهر علناً مع كارتر وهو يكرع الخمر. ولم تعرف العائلة المالكة أحداً قبلها ولا بعدها من لبس (الصليب) إلا الملك فهد حين زار لندن عام 1986؛ كما لم يعرف عن ملك سابق أنه يمتلك قصوراً بعدد قصور فهد لا في الداخل ولا في الخارج، حتى أن بعضها محصّن ـ كما في سويسرا ـ ضد القنابل النووية. وفي ذات السياق، لم يعرف عن أمير أو ملك تحلّل من الأخلاق واعتدى على الأعراض واشتهر بـ (النسونجية/ بلاي بوي حسب تعبير الصحف الغربية) مثل الملك فهد؛ وأكثر من هذا، لم يعهد من ملك أنه كان ضد الدين ويتكلم ضده علناً مثل فهد، ولم يعرف عن ملك تارك للصلاة ويسخر من المصلين مثل فهد.
على الأقل بعض من هذا كان يعرفه مشايخ الوهابية؛ لكنك تجدهم الى هذا اليوم لا يترحّمون إلا عليه، ولا يذكرون اسم فيصل او سعود أو خالد، فما هو السرّ يا ترى؟!
الملك فهد رغم كرهه للمشايخ، كان يخشاهم، وكان سلوكه الشخصي كما سياساته المحلية ستثير غضبهم، ولهذا كان لا بدّ من إيجاد معادلة من نوع ما: أن يفعل ما يراه ويشتهيه، وأن يفعلوا هم ـ أي المشايخ ـ ما يرونه، وهناك منطقة وسط تتقاطع فيها مصالح الطرفين.
لكي يصمت المشايخ كان لا بدّ من إغراق أفواههم بالمال والإمتيازات والمناصب، وكان لا بدّ من دعم الوهابية في الداخل لتقمع وفي الخارج لتخوض حرباً ضد الشيعة، والشيوعية أيضاً، فهما صنوان في القاموس الوهابي. أنشأ فهد مجلساً أعلى لنشر الدعوة السلفية، برئاسة أخيه سلطان ـ ولي العهد الحالي ـ فهو الآخر يضاهي فهد فساداً وانحلالاً وسرقة، وإن كان لا يحشش مثل فهد! وعمل سلطان مع راسبوتين (الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي) لنشر الدعوة في العالم، فقامت المراكز والمساجد في بقع مختلفة من عواصم العالم تروّج للوهابية التي كانت حينها حليفاً لأميركا في حربها على السوفيات وإيران.
تحولت الكليات الدينية الى جامعات، مثل جامعة الإمام محمد بن سعود، وزيدت ميزانية الدعوة السلفية حتى بلغت مليارات الريالات، وتوسعت صلاحية المشايخ الى حدودها القصوى. تزامن ذلك مع حاجة السعودية لتفعيل الوهابية وتهجير بعض طاقاتها الى الخارج حتى تحترق (كما فعلوا مع العراق حديثاً)، والتغطية على آثار ما قام به جهيمان الذي تحدّى مشايخ الوهابية وآل سعود معاً وطعن فيهما في رسائلة المتعددة المنشورة.
على خطى الدمار الفهدي
ومشايخ الوهابية لا يحاكمون المواقف والأشخاص وفق (الدين) أو (المصلحة العامة) بل وفق مصالحهم الشخصية والطائفية، لذا كان الملك فهد ـ بالنسبة اليهم ـ الملك التقي الورع داعم العقيدة الصحيحة، ولهذا صعُب على الوهابيين التنازل عن بعض سلطاتهم بعد أن تفجر العنف فأصاب حتى أميركا نفسها وعرش آل سعود أنفسهم. كما صعب على آل سعود، خلفاء فهد، أن يتخلوا عن سياسته، فالوهابيون الكبار لا دين لهم إلا مصالحهم الضيقة ـ مذهبية أو مادية أو عنصرية مناطقية عشائرية. ولذا جرى استخدامهم من جديد ـ كما هو حالياً ـ في سياساتهم الداخلية والخارجية. فأصبح تدعيم الوهابية الوسيلة الفضلى لتنفير المواطنين حتى من الدين، وهي وسيلة لمكافحة كل أصحاب الأفكار الإصلاحية، فبهم يضرب آل سعود من يطالب بالإصلاح، وبهم يقاضونهم ويسجنونهم، وبمجانينهم يواجهون المخالفين في العراق ولبنان وغيرها.
والوهابيون اليوم غير مرتاحين من الملك عبدالله، لأنه لا يتمتع بالحماس الكافي لدعمهم. عكس ذلك تجده فيما يتعلق بموقفهم من (اشقاء) فهد كسلطان ونايف وسلمان، حيث المديح والدفاع الغبي عنهم وعن سياساتهم. حتى أنك لتستغرب لماذا يدافع الوهابيون عن نايف الذي يقوم بتقليم بعض أظافر متشدديهم. هم يعلمون بموقف نايف منهم، ولذا يستحقرون الملك عبدالله، وينحازون سياسياً الى الطرف الذي يمنحهم المال بلا حساب، ويدافع عنهم كما يفعل نايف دائماً.
هذا هو سر موقف مشايخ الوهابية من السديريين الفاسدين: من الملك فهد، وحتى سلمان، مروراً بنايف وإبنه محمد، وغيرهما. وقد استخدم الجناح السديري ولازال مشايخ الوهابية ومؤسساتهم في مواجهة جناح الملك ونجحوا في تحجيمه وإضعافه والحكم مباشرة بدلاً منه فعلاً. والوهابيون يعتقدون بأن مستقبلهم سيكون أفضل حين يصل سلطان الى كرسي الحكم، وسيكونوا أكثر من سعداء إن تولّى نايف ذلك.
الآن.. المملكة تسير وفق سياسات فهد، سواء تعلّق الأمر بتوطيد العلاقات مع أميركا (الحقيقة تقديم التنازلات الكبيرة التي لم تكن السعودية تفكر فيها في عهد فيصل) أو بتخريب الإجماع العربي الذي على أساسه ـ وعلى أساسه فقط ـ يمكن تصوّر زعامة سعودية للعالم العربي، أو فيما يتعلق بالموقف (الإستراتيجي) من إيران والعراق، واعتبارهما عدوين، من منطق طائفي بحت، وإلا فإنه يمكن التفريق بين الموقفين لو كان الأمر سياسياً، وأيضاً فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني، حيث ستستمر السعودية في رفع لواء السلام والتطبيع مع اسرائيل، حتى ولو كان المعنيون السوريون أو الأكثرية الفلسطينية ضد هذا الخيار، ما يعني أن السعودية لن تتمكن من إنجاح خيارها هذا، بل سيقودها الى توتير أكبر مع سوريا.
أيضاً، سيكون طابع السياسة السعودية الخارجية هو نفسه الذي اختطه فهد: التحلل من المشاكل العربية والإسلامية وتناسيها، والتركيز على ما له صلة بالعلاقة السعودية الغربية وما يمكن للسعودية أن تتنازل بشأنه على حساب غيرها من العرب والمسلمين. سيبقى موضوع الصومال والخلاف الجزائري المغربي على الصحراء، وكذلك موضوع دارفور، وكشمير، وأفغانستان فضلاً عن موضوع الأقليات المسلمة في مورو الفلبين وفطاني تايلاند.. ستبقى كلها وغيرها ساقطة من الأجندة السعودية، ما لم يظهر اهتمام أميركي جديد يفعل الدور السعودي رغماً عنه.
وفي المواضيع الداخلية، أيضاً تفرض رؤية الملك فهد على إخوته من الخلفاء: إبقاء التحالف مع الوهابية وتشذيبها من العنفيين الذين يواجهون النظام السعودي بشكل خاص؛ وايضاً إبقاء موضوع الحكم أمراً نجدياً لا يشارك فيه المواطنون بمناطقهم على الأقل؛ ولا إصلاحات سياسية تؤدي الى تغيير في حصحصة منافع السلطة والثروة؛ ولا تخفيف للفساد وسوء الإدارة والنهب الملكي؛ ولا تغييرات جادّة في التعليم والمناهج وغير ذلك.
المملكة دخلت ثلاجة الملك فهد منذ زمن بعيد، والخروج من الثلاجة أمرٌ صعب لدى قومٍ تعوّدوا ممارسة غير المألوف في السياسة والفكر.
https://www.alhejaz.org/seyasah/016905.htm