قوله صلى الله عليه وسلم : (( جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ )) وفي روايةٍ أخرى : (( رُفِعت الأقلام ، وجفَّت الصحف )) هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها ، والفراغ منها من أمدٍ بعيد ، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته ، ورفعت الأقلامُ عنه ، وطال عهده ، فقد رُفعت عنه الأقلام ، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها ، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها ، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها .
وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى ، قال الله تعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) .وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائق قبل أنْ يخلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألفَ سنة )) .وفيه أيضاً عن جابر : أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله ، فيمَ العمل اليوم ؟ أفيما جفَّت به الأقلامُ ، وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل ؟ قال : (( لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير )) ، قال: ففيم العملُ ؟ قال: (( اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خلق له )).وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث عبادة بن الصامت ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ أوَّل ما خلق الله القلم ، ثم قال : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة )) .والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جداً يطول ذكرها .
---------------------------------------------------------------------------------------------------
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فلو أنَّ الخلق جميعاً أرادوا أنْ ينفعوك بشيء لم يقضِهِ الله ، لم يقدِرُوا عليه ، وإنْ أرادوا أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه )) .
هذه رواية الإمام أحمد ، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضاً ، والمراد : إنَّ ما يُصيب العبدَ في دنياه مما يضرُّه أو ينفعه ، فكلُّه مقدَّرٌ عليه ، ولا يصيبُ العبدَ إلا ما كُتِبَ له من ذلك في الكتاب السابق ، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً .
وقد دلَّ القرآنُ على مثل هذا في قوله عز وجل : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا) ، وقوله : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) ، وقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) .وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ لكلِّ شيء حقيقةً ، وما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى يعلمَ أنَّ ما أصابه لم يكُنْ ليخطئَهُ ، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبَه )) .وخرّج أبو داود وابنُ ماجه من حديث زيد بن ثابت ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم معنى ذلك أيضاً .
واعلم أنَّ مدارَ جميع هذه الوصية على هذا الأصل ، وما ذُكِر قبلَه وبعدَه ، فهو متفرِّعٌ عليه ، وراجعٌ إليه ، فإنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ ، ونفعٍ وضرٍّ ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة ، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ ، المعطي المانع ، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه عز وجل ، وإفرادَه بالطاعة ، وحفظَ حدوده ، فإنَّ المعبود إنَّما يقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذمَّ الله من يعبدُ من لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئاً ، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُعطي ولا يمنعُ غيرُ الله ، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق جميعاً ، وأنْ يتّقي سخطه ، ولو كان فيه سخطُ الخلق جميعاً ، وإفراده بالاستعانة به ، والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرَّخاء ، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد ، ونسيانه في الرخاء ، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه ، قال الله عز وجل : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) .قوله صلى الله عليه وسلم : (( واعلم أنَّ في الصَّبر على ما تكره خيراً كثيراً )) يعني : أنَّ ما أصاب العبدَ مِنَ المصائب المؤلمةِ المكتوبة عليه إذا صبر عليها ، كان له في الصبر خيرٌ كثير .
وفي رواية عمر مولى غُفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام ، وهي : (( فإنِ استطعتَ أنْ تعمل لله بالرِّضا في اليقين فافعل ، وإنْ لم تستطع ، فإنَّ في الصَّبر على ما تكره خيراً كثيراً )) .وفي روايةٍ أخرى من روايةِ عليِّ بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ؛ لكن إسنادها ضعيف ، زيادة أخرى بعد هذا ، وهي : قلتُ : يا رسول الله ، كيف أصنع باليقين ؟ قال : (( أنْ تعلم أنَّ ما أصابَك لم يكن ليخطئك ، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، فإذا أنتَ أحكمتَ باب اليقين )) . ومعنى هذا أنَّ حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يُعين العبد على أنْ ترضى نفسُه بما أصابه ، فمن استطاع أنْ يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل ، فإنْ لم يستطع الرِّضا ، فإنَّ في الصَّبر على المكروه خيراً كثيراً .
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب :
إحداهما : أنْ يرضى بذلك ، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جداً ، قال الله عز وجل : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) . قال علقمة : هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ ، فيعلم أنَّها من عند الله ، فيسلِّمُ لها ويرضى .
وخرَّج الترمذي من حديث أنس ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط )) ، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : (( أسأَلكَ الرِّضا بعد القضاء )) .
وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه بمعنى قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له : إنْ أصابته سرَّاء شكر ، كان خيراً له ، وإنْ أصابته ضرَّاء صبر ، كان خيراً له ، وليس ذلك إلا للمؤمن )) .
وجاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله أنْ يُوصيه وصيَّةً جامعةً موجَزةً ، فقال : (( لا تتَّهم الله في قضائه )) .
قال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أنْ يُرضى به ، وقال ابن مسعود : إنَّ الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوحَ والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشكِّ والسخط ، فالرَّاضي لا يتمنّى غيرَ ما هو عليه من شدَّةٍ ورخاء ، كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرهما . وقال عمر بن عبد العزيز : أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر .
فمن وصل إلى هذه الدرجة ، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ وسرورٍ ، قال الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال بعض السَّلف : الحياة الطيبة : هي الرضا والقناعة. وقال عبد الواحد بن زيد : الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين
>>> يُتبع بإذن الرحمن