منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - "شيخ المؤرخين الجزائريين" الدكتور أبو القاسم سعد الله
عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-01-29, 15:23   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
أمينة صاري
شهادة من الجيل الأخير من الطّلبة في حقّ الدّكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله


لأوّل مرّة منذ أن دخلتُ الجامعة أشعر باليأس والإحباط.. لأوّل مرّة منذ ثمان سنوات مرّت على تحصيلي العلمي أشعر أنّ المسؤوليّة المناطة بجيلنا كبيرة وعظيمة، وأنّ الـحِمْلَ ثقيل.. ثقيل ثقل الجبال، رغم أنّي بذلت قصار جهدي لحدّ الآن في سبيل البحث العلمي وبكل أمانة، فقد أدركت بعد رحيل أستاذنا الفاضل الدّكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله تعالى، أنّ جيلنا نحن من سيكون سعد الله آخر، أنّنا نحن من سيحمل راية العلم ويكافح من أجله بنفس المنهج، ونفس الإصرار، ونفس الأمانة العلميّة.. أنّنا نحن من سيحمل تلك الأخلاق العلميّة السّامية.. أنّنا نحن من سيكافح من أجل إعلاء كلمة الدّين الإسلامي والعروبة والوطن. فهل نستطيع أن نكون بمثل ربع تلك القامة العلميّة الّتي فقدناها؟
رحل عنّا ذلك الرّجل الّذي عرفناه اسما وقلما، قبل أن نعرفه شخصا، ذلك العالم الجليل الّذي علّم من علّمنا من أساتذتنا الأفاضل، وزرع فيهم القيم والأخلاق السّامية، الّتي زرعوها هم بدورهم فينا.. فقد كان الفضل في معرفتي للدّكتور سعد الله رحمه الله في السّنة الأولى ليسانس، للأستاذ محمّد العربي معريش في تطبيق وحدة تاريخ الجزائر، ولطالما كان لسانه ينهج بذكر هذا الاسم الكبير، فعَلَّمَنَا منهج البحث العلمي على طريقة أستاذه، ولم يكتف الأستاذ معريش بالحديث لنا عن أستاذه وتوجيهنا إلى الاطّلاع على كتبه، بل برمج لنا لقاء معه. لكنّ ولسوء حضّي فقد حضر الدّكتور سعد الله حصّة الفوج الآخر، وعندما جاء دور فوجنا غادر لأنّ وقته لم يسمح له بالبقاء أكثر، فلم أره في ذلك اليوم إلا وهو يغادر، وتبعته بنظراتي إلى أن خرج من الرّواق. تلك كانت أوّل مرّة أراه فيها.
وفي السّنة الموالية حظيت بمشاهدته مرّة أخرى، إذ احتاجت أختي _ وكانت وقتها تحضّر مذكرة ماجستير في الأدب العربي عن شخصيّة علميّة و أدبيّة جزائرية في العهد العثماني- إلى استشارته رحمه الله، فجاءت و التقت به و تحاورت معه، كنتُ أنا مثل المتفرّجة على حوارهما، مع شعوري بالـخجل كوني أقف أمام عالم جليل مثل الدّكتور سعد الله. وإذا كنتُ في مرحلة الليسانس لم أحض بفرصة للحديث المباشر معه، وما ذلك إلاّ بسبب خجلي وحيائي من عالم مثله، أو لأنّي لم أكن أملك الجرأة التي اكتسبتها في مرحلة الماجستير ( فيما بعد)، إلاّ أنّ ذكره لم يغب، فأغلب الأساتذة كانوا يوجّهوننا إلى استعمال كتبه في بحوثنا ويتحدّثون لنا عنه، مثل الأستاذ مصطفى نويصر، والأستاذ عمّار بن خروف، والأستاذة عائشة غطّاس رحمها الله.
وبعد تخرّجي، شاركت في مسابقة الماجستير وكنتُ من النّاجحين والحمد لله، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة مكّنتني من الاحتكاك المباشر بالدّكتور سعد الله، فعرفته عن قرب، وكنت إحدى طالباته، وكان وقتها يدّرس وحدة "العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب في الفترة الحديثة"، ولم أكن أنا أنتمي لنفس التّخصّص الّذي يدرّس فيه، لكنّ نفسي كانت تتوق للدّراسة عنده، فقصدته ذات مرّة وكان يدرّس يوم الأربعاء من الثّامنة والنّصف صباحا إلى العاشرة، انتظرت إلى أن جاء وقبل أن يدخل الحصّة تحدّثت معه، طلبتُ منه أن يسمح لي بحضور حصّته طوال تلك السّنة _ السّنة الدّراسيّة 2009/ 2010م- وكم كانت فرحتي كبيرة عندما كانت إجابته "نعم". ومن ذلك اليوم أصبحت أحرص على الحضور كل أربعاء من كلّ أسبوع، وخصّصتُ للوحدة كرّاسا أنيقا لأكتب فيه كلّما يقوله الدّكتور سعد الله في حصّته.
لم يشعرني الدّكتور سعد الله أبدا أنّي لا أنتمي إلى تلك المجموعة، بل كنتُ في نظره فردا من أفرادها، و ها أنا ذي الآن أردّ بعضا من جميله عليّ إذ أنقل كلمة صدق في حقّه رحمه الله، وبكلّ إخلاص، ولا أبغي في ذلك إلاّ وجه الله تعالى، فأنا لا أهدف إلى الشّهرة والتّسلّق من خلال اسمه فهذه الشّهادة سيسألني الله عزّ وجلّ عنها يوم القيامة، إن لم أتحرّى فيها نقل الحقائق وبكلّ عفويّة.
منهج الدّكتور سعد الله في إلقاء درسه:
يعتمد منهج الدّكتور سعد الله في الأساس على التّحاور، وأن يجعل كلّ طّالب شاء أم أبى فعّالا في كلّ حصّة، وهو يقوم على طرح الإشكاليّة وإعطاء آرائه ومعلوماته حولها، مع السّماح للطّلبة بالمشاركة، فيحاورهم ويناقشهم، ويحاول إقناعهم بآرائه، ويقتنع بآرائهم إن كانت صائبة، فقد كان يسود الدّرس جو من المناقشة العلميّة الرّاقية بينه وبين الطّلبة، وهو في كلّ هذا يحاول أن يخرج ما في فكرهم من عصارة علميّة، وهو في منهجه هذا يختلف عن منهج بعض الأساتذة القائم إمّا على الشرح دون السّماح بإدلاء الآراء، أو القائم على الإملاء، مع العلم أنّ هذا الأخير يقتل الفكر ويحجّره، فتجد الطّالب يوم الامتحان يرجع للأستاذ بضاعته كما هي وعندما يتخرّج تتلاشى تلك البضاعة ولا يبقى منها إلاّ السّراب.
كان الدّكتور سعد الله في كلّ حصّة تقريبا يحضر معه مجموعة من المصادر والمراجع الّتي تدخل في صميم موضوع الحصّة، فيمرّرها علينا ويحدّثنا عنها وعن قيمتها العلميّة، ولا يخطر ببال أحد أنّ تلك الكتب كانت من إنتاجه لا والله، فما كان منها من هذه المراجع التي كان يحضرها معه يمثّل فقط خمسة بالمائة، إذ لم يكن من النّوع الّذي يتباهى بما قام به من أعمال، رغم أنّ مؤلّفاته كانت بالنّسبة لنا أشهر من نار على علم.
ومن جهة أخرى كان يحبّ أن يجعل من الطّالب يبحث ويبحث ويبحث، فكان يطلب من الطّلبة القيام ببحث أساسي للوحدة، كما يكلّفهم في كلّ حصّة بالقيام بأبحاث صغيرة، كالبحث عن هذه الشّخصيّة أو تلك، والبحث في هذا المصدر أو ذاك، وفي آخر السّنة بلغ عدد هذه البحوث الصّغيرة لكلّ طالب أكثر من عشرين، وكان يسأل باستمرار عن تقدّمهم في البحوث، وعن المصادر والمراجع الّتي تحصّلوا عليها، ويوجّههم إلى أخرى قد تفيدهم، وبين الفينة والأخرى كان يتيح الفرصة لأحد الطّلبة لعرض بحثه، ويرغّب زملائه في مشاركته بأفكارهم وآرائهم، ومناقشته مناقشة علميّة، بالإضافة إلى إثرائه هو رحمه الله لموضوع الطّالب بمعلوماته القيّمة والكثيرة.
لطالما حدّثنا عن أبي راس النّاصري، والورثيلاني، والتامقروطي، والـمُحِبـِّي، وابن القاضي، والـمقَّري. هذا الأخير الّذي كان معجبا كثيرا به، وكان له منهجه ورأيه الخاص في نطق اسمه، فالكثير من الباحثين يقولون: "الـمَقَرِي"، أو "الـمَقَرِّي" إمّا بفتح الميم والقاف، وكسر الراء دون تشديدها، أو بكسر الرّاء وتشديدها، لكنّ الدّكتور سعد الله كان يقول لنا "الـمَقَّرِي" بفتح الميم، وفتح القاف وتشديدها، ويقول لنا أنّ اسمه نسبة إلى بلدة مَقَّرَه.
حدّثنا مرّة عن مظاهر التّأثير العثماني في المجتمع الجزائري، وطلب منّا أن نقدّم له نماذج عن ذلك التّأثُّر، فراح كلّ طالب يدلي دلوه. فأعطيناه أمثلة مثل: في الألبسة، وفي العمارة، وفي الفنون، وغيرها من الأمثلة، وإذا بهاتفه يرنّ _ وكان ذلك ناذرا في الحصّة- فبدأ يبتسم وقال لنا: "ما هذا؟" وكان يقصد رنّة الهاتف، وهي رنّة تركيّة هادئة، وبهذا أوحى لنا أنّ من هذه المظاهر، التّأثّير في الموسيقى. كما أشار في نفس الموضوع إلى مسألة ألقاب بعض العائلات الجزائريّة، وخاصّة من العاصمة التي لا تزال لحدّ الآن تفتخر بنسبها الممتدّ إلى الأتراك، وإذا به يوجّه الكلام لي، ويقول مثل عائلتك أنتِ، من دون أن أخبره أنا أنّ أصولي تركيّة، إذ أنّه رحمه الله كان خبيرا بمثل هذه الألقاب.
https://www.echoroukonline.com/ara/articles/190461.html
يتبع...









رد مع اقتباس