هذا الحديث العظيم فيه صفات من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. فهذه أربع صفات: لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلي ربهم يتوكلون. والشاهد للباب قوله ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)). فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله(( ادع الله إن يجعلني منهم))، بادر إلى الخير وسبق إليه، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (( أنت منهم))ولهذا نحن نشهد الآن بان عكاشة بن محصن_ رصي الله عنه_ يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، لان الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (( أنت منهم)). (( فقام رجل آخر فقال: ادع الله إن يجعلني منهم! قال: سبق بها عكاشة)) فرده النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه رد لطيف، لم يقل لست منهم، بل قال: (( سبقك بها عكاشة)) .فقيل: لأنه كان يعلم بان هذا الذي قال ادع الله إن يجعلني منهم منافق، والمنافق لا يدخل الجنة، فضلا عن كونه يدخلها بغير حساب ولا عذاب. وقال بعض العلماء: بل قال ذلك من اجل إن لا ينفتح الباب، فيقوم من لا يستحق إن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ويقول ادع الله إن يجعلني. وعل كل حال، فنحن لا نعلم علما يقينا بان الرسول صلي الله عليه وسلم لم يدع الله له إلا لسبب معين، فالله اعلم. لكننا نستفيد من هذا فائدة، وهو الرد الجميل من رسول الله صلي الله عليه وسلم، لان قوله: (( سبقك بها عكاشة)) لا يجرحه ولا يحزنه، وسبحان الله، صارت هذه مثلا إلى يومنا هذا، كلما طلب الإنسان شيئا قد سبق به قيل: سبقك بها عكاشة. أورد بعض العلماء إشكالا علي هذا الحديث، وقال: إذا اضطر الإنسان إلى القراءة، أي إلى إن يطلب من أحد إن يقرا عليه، مثل إن يصاب بعين، أو بسحر، أو أصيب بجن واضطر، هل إذا ذهب يطلب من يقرا عليه، يخرج من استحقاق دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ فقال بعض العلماء: نعم هذا ظاهر الحديث، وليعتمد علي الله وليتصبر ويسال الله العافية. وقال بعض العلماء: بل إن هذا فيمن استرقي قبل إن يصاب، أي: بان قال: أقرا علي إن لا تصيبني العين، أو إن لا يصيبني السحر أو الجن أو الحمي، فيكون هذا من باب طلب الرقية لامر متوقع لا واقع، وكذلك الكي. فإذا قال إنسان: الذين يكوون غيرهم هل يحرمون من هذا؟ الجواب: لا! لان الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( ولا يكتوون)) أي: لا يطلبون من يكويهم، ولم يقل ولا يكوون، وهو عليه الصلاة والسلام قد كوي اكحل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسعد بن معاذ الاوسي الأنصاري_ رضي الله عنه_ أصيب يوم الخندق في أكحله فانفجر الدم، والأكحل إذا انفجر دمه قضي علي الإنسان، فكواه النبي صلي الله عليه وسلم في العرق حتى وقف الدم، والنبي صلي الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. فالذين يكوون محسنون، والذين يقرؤون علي الناس محسنون، ولكن الكلام علي الذين يسترقون، أي يطلبون من يقرا عليهم، اويكتوون، أي: من يطلبون من يكويهم، والله الموفق. 76_ الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل))([4] )رواه البخاري. وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار: (( حسبي الله ونعم الوكيل)). الشرح وإبراهيم ومحمد_ علهما الصلاة والسلام_ هما خليلان لله عز وجل. قال الله تعالى: ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)([5]) (النساء: من الآية125)، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: (( إن الله قد اتخذ خليلا كما أتتخذ إبراهيم خليلا)) والخليل: معناه الحبيب الذي بلغت محبته الغاية، ولا نعلم إن أحد وصف بهذا الوصف إلا محمدا صلي الله عليه وسلم وإبراهيم، فهما الخليلان. وانك تسمع أحيانا يقول بعض الناس: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، وموسى كليم الله. والذي يقول: إن محمدا حبيب الله في كلامه نظر، لان الخلة ابلغ من المحبة، فإذا قال: محمد حبيب الله، فهذا فيه نوع نقص من حق الرسول عليه الصلاة والسلام، لان أحباب الله كثيرون، فالمؤمنون يحبهم الله، والمحسنون والمقسطون يحبهم الله، والأحباب كثيرون لله. لكن الخلة لا نعلم إنها ثبتت إلا لمحمد وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، وعلي هذا فنقول: الصواب إن يقال: إبراهيم خليل الله، ومحمد خليل الله، ومسي كليم الله عليهم الصلاة والسلام. علي إن محمدا صلي الله عليه وسلم قد كلمه الله_ سبحانه وتعالى_ كلاما بدون واسطة، حيث عرج به إلى السماوات السبع. هذه الكلمة: (( حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم حينما القي في النار، وذلك إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأبوا، و أصروا علي الكفر والشرك. فقام ذات يوم علي أصنامهم فكسرها، وجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم، فلما رجعوا وجدوا آلهتهم كسرت، فانتقموا_ والعياذ بالله_ لأنفسهم. فقالوا ما نصنع يا إبراهيم؟ (قَالُوا حَرِّقُوهُ )(الأنبياء: من الآية68) انتصارا لآلهتهم ( وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)(الأنبياء: من الآية68) فأوقدوا نار عظيمة جدا، ثم رموا إبراهيم في هذه النار. ويقال انهم لعظم النار لم يتمكنوا من القرب منها، وانهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بعد، فلما رموه قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟ قال الله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الأنبياء:69)، بردا: ضد حر، وسلاما: ضد هلاكا، لان النار حارة ومحرقة ومهلكة، فأمر الله هذه النار إن تكون بردا وسلاما عليه، فكانت بردا وسلاما. والمفسرون بعضهم ينقل عن بني إسرائيل في هذه القصة، إن الله لما قال ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الأنبياء: من الآية69) صارت جميع نيران الدنيا بردا! وهذا ليس بصحيح، لان الله وجه الخطاب إلى نار معينة ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً) وعلماء النحو يقولون انه إذا جاء التركيب علي هذا الوجه، صار نكرة مقصودة، أي: لا يشمل كل نار، بل هو للنار التي القي غيها إبراهيم فقط، وهذا هو الصحيح، وبقية نيران الدنيا بقيت علي ما هي عليه. وقال العلماء أيضا: ولما قال الله ( كُونِي بَرْداً) قرن ذلك بقوله: ( وَسَلاماً ) لأنه لو اكتفي بقوله: ( بَرْداً) لكانت بردا حتى تهلكه، لان كل شئ يمتثل لامر الله عز وجل، انظر إلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً )(فصلت: من الآية11) فماذا قالتا: ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت: من الآية11)، ( قَالَتَا أَتَيْنَا) منفادين لامر الله عز وجل. أما الخليل الثاني الذي قال: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فهو النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، حين رجعوا من أحد، قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم، يريدون إن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالوا: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَالْوَكِيلُ). قال الله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(آل عمران:174) فينبغي لكل إنسان راء من الناس جمعا له، أو عدوانا عليه، إن يقول: (( حسبنا الله ونعم الوكيل)) فإذا قال هكذا كفاه الله شرهم، كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام، فجعل هذه الكلمة دائما علي بالك، إذا رأيت من الناس عدوانا عليك فقل: (( حسبي الله ونعم الوكيل)) يكفك الله عز وجل شرهم وهمهم. والله الموفق. 79_ السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اله صلي الله عليه وسلم يقول: (( لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا))([6] )رواه الترمذي، وقال: (( حديث حسن)). معناه: تذهب أول النهار خماصا: أي: ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار بطانا: أي: ممتلئة البطون. الشرح يقول النبي عليه الصلاة والسلام حاثا أمته علي التوكل(( لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله)) أي: توكلا حقيقيا، تعتمدون علي الله _ عز وجل _ اعتمادا تاما في طلب رزقكم وفي غيره (( لرزقكم كما يرزق الطير)) الطير رزقها علي الله عز وجل، لانها طيور ليس لها مالك، فتطير في الجو، وتغدوا إلى أوكارها، وتستجلب رزق الله عز وجل. (( تغدوا خماصا)) تغدوا: أي تذهب أول النهار، لان الغدوة هي أول النهار. وخماصا يعني: جائعة كما قال الله تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة: من الآية3)، مخمصة: يعني مجاعة. (( تغدوا خماصا)) يعني جائعة: ليس في بطونها شئ، لكنها متوكلة علي ربها عز وجل. (( وتروح)) أي ترجع في آخر النهار، لان الرواح هو آخر النهار. (( بطانا)) أي ممتلئة البطون، من رزق الله عز وجل. ففي هذا دليل علي مسائل: أولا: انه ينبغي للإنسان إن يعتمد علي الله_ تعالى_ حق الاعتماد. ثانيا: انه ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها، حتى الطير في جو السماء، لا يمسكه في جو السماء إلا الله، ولا يرزقه إلا الله عز وجل. كل دابة في الأرض، من اصغر ما يكون كالذر، أو اكبر ما يكون، كالفيلة وأشباهها، فان علي الله رزقها، كما قال الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا )(هود: من الآية6)،