نقد الدكتور لابن تيمية :
نهض الإمام ابن تيمية رضي الله عنه ليدفع عن الدين غائلة التصوف وسواها ، وكان مما وجه إليه سهام نقده القاتل أسطورة وحدة الأديان ، فهاجمها هجوم المؤمن القوي والمفكر الرشيد اللماع الفكر ، هاجمها متسلحا بالنقل والعقل حتى صرعها وصرع القائلين بها ، وتلك خصيصة من خصائص الإمام ابن تيمية أنه ينقض الفكرة بالفكرة ، ويذود عن قضايا العقل السليمة بالعقل والنقل ، ويحامي عن الدين بالدين والفكر ، فهو لا يبطل أسطورة من الفلسفة أو التصوف إلاّ إذا برهن على بطلانها من ناحية النقل والعقل ، وهو يكاد يكون نسيج وحده من هذه الناحية العظيمة ، ولسنا بصدد عرض نقد ابن تيمية ، فهو مبسوط بوضوح في كثير من كتبه ، والدكتور الفاضل يلخص نقد ابن تيمية ، فيقول : (أورد ابن تيمية بيتا ينسب عبارته إلى ابن عربي الذي يقرر فيه وحدة العقائد والتسوية بينها فيقول :
عقد الخلائق في الإله عقائدا .... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ونظر ابن تيمية في هذا البيت ، وحاول أن يجرحه من الناحية المنطقية ، فرأى أن فيه تناقضا ، لأن الجمع بين النقيضين في الإعتقاد في غاية الفساد ، ولأن القضيتين المتناقضتين في السلب والإيجاب على وجه يلزم صدق إحداهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما ، والصوفية يزعمون عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل ، ويقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين و من سلك طريقهم يخالف لمقول والمنقول ، ولا ريب عند ابن ايمية في أنّ هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة ، وقد زاد ابن تيمية الأمر تفصيلا وإيضاحا ، فعرض لمذهب ابن عربي في الإعتقاد بكل ما وردت به الأديان المختلفة ، فإذا هو يقرر أنّ القائلين بهذا القول مشركون لأنهم عدلوا بالله كلّ مخلوق ، وجوزوا أن يعبد كلّ شيء ، مع أنهم يعبدون كلّ شيء فإنهم يقولون : (ما عبدنا إلاّ الله) ، وهذا في نظر ابن تيمية مخالف لدين المرسلين ، ولدين أهل الكتاب ، وللملل جميعا ، بل ولدين المشركين أيضا ؛ ويستدل ابن تيمية على ذلك كلّه بأنّ الرسل كانوا يعتبرون ما عبده المشركون شيئا غير الله وينظرون إلى عابده على أنه عابد لغير الله ، مشرك به عادل به ، جاعل له ندّا ، كما يستدل بأنّ الرسل دعوا الحق إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وهذا هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره )
هذا تلخيص الدكتور لنقد ابن تيمية لوحدة الأديان عند الصوفية ، وهو نقد محكم من ناحية العقل والنقل ، ولكن الدكتور يعلق على هذا بقوله : (ولكن نقد ابن تيمية على ما فيه من منطق سليم وحجة معقولة في حدود وجهة نظره التي نظر منها إلى المسألة ، وهي أنه نظر إلى الشرائع باعتبارها مختلفة في الواقع ، لا إلى أصلها باعتباره واحدا يمكن دحضه وإظهار ما فيه من اوجه الخطإ إذا لاحظنا أن في القرىن كثيرا من الآيات الكريمة التي حفلت بالمعاني الدالة على أن الدين في أصله واحد وفي فروعه متعدد) !!
واها لدكتورنا الفاضل ، إنه صوب إلى غير مرمى، وحارب في غير حرب ، وجادل وهما فهو يحاول أن يدحض رأي الإمام ابن تيمية من طريقين :
أولا : ملاحظته أن ابن تيمية نظر إلى الشرائع باعتبارها مختلفة في الواقع لا إلى أصلها باعتبارها واحدا .
وثانيا : يسوق الآيات من القرآن خيل إليه أنها تؤيّد وجهة نظر ابن الفارض في وحدة الأديان
وسنناقش الوجهة الأولى من نقد الدكتور لابن تيمية
فأقول : إن كنت تعني يا دكتور بالأديان لفظا عاما مطلقا يتناول كلّ دين سواء أكان دينا من السماء أم دينا وضعته أهواء البشر وشهواتهم ، فأقول : نعم هاجم ابن تيمية الأسطورة من هذه الناحية وجلى جلاء واضحا تناقض الأديان على إطلاقها وعمومها تناقضا بينا في الاصول والفروع ، فما يسوي عاقل بيندين سماوي وضعه العليم الحكيم الخبير ، وبين دين وضعي وضعته زندقات البشر ووثنياتهم ، وما يسوي عاقل بين دين يقوم على أساسين : عبادة الله وحده لا شريك له ، وعبادة الله بما شرع . وبين دين يقوم على تأليه الحجر أو العجل ، ولن تيتطيع يا دكتور مطلقا ، المعارضة في وضوح التناقض البين والتخالف الذريع بين هذين في الأصول والفروع .
وإن كنت تعني يا دكتور بالاديان لفظا مخصصا لا يقصد به إلاّ كلّ دين سماوي صحيح جاء به الوحي من الله رب العالمين فأقول ان ابن تيمية طالما صرّح في كتبه بغير ما أسندته غليه ، وهو انه نظر إلى الشرائع باعابارها مختلفة في الواقع لا إلى أصلها باعتبارها واحدا ؛ إن ابن تيمية يفهم جيدا أن الدين واحد وأنه كله لله ، وأن لا تخالف مطلقا إلاّ في الفروع أما الأصول فواحدة في كلّ دين سماوي وهي الإيمان بالله الواحد المعبود وحده وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعدم التفرق في الدين والإخلاص في النية ، والعمل عن بينة بما شرعه الله وحده على لسان رسله ومما بينه في كتبه .
وإليك نصا واحدا يبين لك فهم ابن تيمية فهما جيدا لهذه المسألة :
( كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، قال نوح: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:72]، وقال تعالى في حق إبراهيم : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )[البقرة:130-132]، وقال يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101]، وقال موسى عليه السلام: (يَا قَوُم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) [يونس:84-85]، وقال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) [المائدة:44]، وقال عن بلقيس : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [النمل:44]، وقال: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) [المائدة:111]، وقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران:19]، وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران:85]، وقال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [آل عمران:83]. )
إنتهى كلام ابن تيمية بنصه ..
أفرأيت يا دكتور أنّ ابن ايمية يفهم جيدا أنّ الدين كلّه لله منذ بدء الخليقة واحد ن وأنّ الانبياء جميعهم مبعوثون بدين الإسلام ، أما وقد وضح هذا جيدا فيسقط الوجه الأول من نقد الدكتور ، والوحدة التي ينقدها ابن تيمية يا دكتور هي وحدة الصوفية القائمة على أساس أن الأديان كلها على إطلاقها واحد ، سواء منها الدين السماوي القائم على التوحيد ، أم الدين الوضعي القائم على الشرك والوثنية هذه هي الوحدة التي ينقدها الإمام ، أما الوحدة بالمعنى الصحيح كما بينها القرآن فها أنت ترى في النص الذي سقناه أن ابن تيمية يقرها ويجليها ، وشتان شتان بين هذه الوحدة وبين الوحدة عند الصوفية ، فابن الفارض يعترف بالمجوسية دينا صحيحا ، ويقر عبادة العجل والصنم وغيرهما من المخلوقات ويعتبرها عبادة لله ربّ العالمين ، وغلى هذا يتوجه نقد ابن تيمية أفتستطيع أن تبطل إذن نقد ابن تيمية الذي بينا لك إلى أين يتجه ؟!
أما أن تنقل نقده إلى معنى لا يقصده بل يقره هو ، وهو أن دين الله الذي بعث به كل رسله واحد فهذا ليس من سمة الباحث الذي ينشد الحق والحقيقة يا دكتور . أما الآيات التي حاول الدكتور الإستشهاد بها ليبرهن على صحة نظر ابن الفارض فنقول الىن إنها بالذات تدمغ ابن الفارض بالوثنية الجاحدة وموعدنا بمشيئة الله مناقشته فيما فهمه منها العدد المقبل .
.............................................
(1) (9/1380)
(2) ص (300) من كتاب ابن الفارض والحب الإلهي
(3) انظر دقة ابن تيمية في إيراد الحجج المنطقية الصادقة ، وليتأمل علماؤنا الذين يحقدون على ابن تيمية
(4) إذن ذكر ابن تيمية أنّ دين الرسل جميعا هو الإسلام العام فهو إذا قد نظر إلى الدين أنه واحد في أصله وهذا الذي ذكره الدكتور يرد على الدكتور زعمه فيما بعد
(5) (ص 301) من كتاب ابن الفارض والحب الإلهي
(6) أعني يوجد تناقض بين الأديان السماوية وبين الاديان الوضعية ويوجد تناقض بين بعض الأديان الوضعية وبين بعضها الآخر .
(7) ص (77-78) من كتاب العبودية لابن تيمية ط مطبعة السنة المحمدية 1947