منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - فتاوى في العقيدة - 02 - متجدد -
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-06-10, 18:23   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
miramer
عضو محترف
 
الصورة الرمزية miramer
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

القضاء و القدــــــــــــــــدر


(190) وسئل فضيلة الشيخ : عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصاً مسألة القدر خوفاً من الزلل؟
فأجاب بقوله :هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة التي لا بد للإنسان منها في دينه ودنياه لا بد أن يخوض غمارها وأن يستعين بالله تبارك وتعالى – على تحقيقها ومعرفتها حتى يتبين له الأمر ، لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة ، أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها ويخشى أن تكون سبباً لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها ما دام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماماً حتى يصل فيها إلى اليقين ، وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال - ولله الحمد - ، والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس هو أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب "كيف" على جانب "لم" والإنسان مسؤول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام "لم" و "كيف" فلم عملت كذا؟ هذا الإخلاص . كيف عملت كذا ؟ هذا المتابعة للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب "كيف" غافلون عن تحقيق جواب "لم" ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيراً ، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور ، فالناس الآن مهتمون كثيراً بهذا الجانب ،غافلون عن الجانب الأهم وهو جانب العقيدة وجانب الإخلاص وجانب التوحيد ، لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدنيا يسأل عن مسألة يسيرة جداً جداً وقلبه منكب على الدنيا غافل عن الله مطلقاً في بيعه وشرائه، ومركوبه ، ومسكنه ، وملبسه ، فقد يكون بعض الناس الآن عابداً للدنيا وهو لا يشعر ، وقد يكون مشركاً بالله في الدنيا وهو لا يشعر ، لأنه مع الأسف أن جانب التوحيد وجانب العقيدة لايهتم بهما ليس من العامة فقط ، ولكن حتى من بعض طلاب العلم وهذا أمر له خطورته ، كما أن التركيز على العقيدة فقط بدون العمل الذي جعله الشارع كالحامي والسور لها خطأ أيضاً ، لأننا نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو العقيدة السمحاء وما أشبه ذلك من هذه العبارات وفي الحقيقة أن هذا يخشى أن يكون باباً يلج منه من يلج في استحلال بعض المحرمات بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لا بد من ملاحظة الأمرين جميعاً ليستقيم الجواب على "لم" وعلى "كيف" .
وخلاصة الجواب : أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة ؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده – جل وعلا – على بصيرة في أسماء الله وصفاته ، وأفعاله ، على بصيرة في أحكامه الكونية ، والشرعية ، على بصيرة في حكمته ، وأسرار شرعه وخلقه ، حتى لا يضل بنفسه أو يضل غيره . وعلم التوحيد هو أشرف العلوم لشرف متعلقه ولهذا سماه أهل العلم (الفقه الأكبر) وقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة ، لكن يجب على المرء أيضاً أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ومن أي مصدر يتلقاه ، فليأخذ من هذا العلم أولاً ما صفا منه وسلم من الشبهات ثم ينتقل ثانياً إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها وبيانها مما أخذه من قبل من العقيدة الصافية ، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم كلام الصحابة –رضي الله عنهم- ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم ، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ؛ خصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
(191) وسئل فضيلة الشيخ : ما الفرق بين القضاء والقدر؟
فأجاب بقوله :اختلف العلماء في الفرق بينهما فمنهم من قال : إن القدر "تقدير الله في الأزل" والقضاء "حكم الله بالشيء عند وقوعه" فإذا قدر الله –تعالى – أن يكون الشيء المعين في وقته فهذا قدر ، فإذا جاء الوقت الذي يكون فيه هذا الشيء فإنه يكون قضاء ، وهذا كثير في القرآن الكريم مثل قوله-تعالى-:}قضي الأمر{(1) وقوله : }والله يقضي بالحق{(2) وما أشبه ذلك . فالقدر تقدير الله –تعالى- الشيء في الأزل ، والقضاء قضاؤه به عند وقوعه.
ومنهم من قال : إنهما بمعنى واحد.
والراجح أنهما إن قرنا جميعاً فبينهما فرق كما سبق ، وإن أفرد أحدهما عن الآخر فهما بمعنى واحد والله أعلم .
(191) وسئل فضيلة الشيخ : هل بين القضاء والقدر عموم وخصوص؟
فأجاب بقوله :القضاء إذا أطلق شمل القدر، والقدر إذا أطلق شمل القضاء ، ولكن إذا قيل : القضاء والقدر صار بينهما فرق وهذا كثير في اللغة العربية تكون الكلمة لها معنى شامل عند الانفراد و معنى خاص عند الاجتماع ويقال في مثل ذلك: "إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا" فالقضاء والقدر الصحيح أنهما من هذا النوع يعني أن القضاء إذا أفرد شمل القدر . والقدر إذا أفرد شمل القضاء ، لكن إذا اجتمعا فالقضاء " ما يقضيه الله في خلقه من إيجاد ، أو إعدام ، أو تغيير" والقدر "ما قدره الله-تعالى- في الأزل" هذا هو الفرق بينهما فيكون القدر سابقاً والقضاء لاحقاً .
(193) سئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته في المهديين-: عن الإيمان بالقضاء والقدر؟
فأجاب قائلا : الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، لجبريل حين سأله عن الإيمان . والإيمان بالقدر أمر هام جداً ، وقد تنازع الناس في القدر من زمن بعيد حتى في عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كان الناس يتنازعون فيه ويتمارون فيه ، وإلى يومنا هذا والناس يتنازعون فيه ، ولكن الحق فيه –ولله الحمد –واضح بين لا يحتاج إلى نزاع ومراء ، فالإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى – قد قدر كل شيء كما قال- تعالى -: } وخلق كل شيء فقدره تقديراً{(1) وهذا التقدير الذي قدره الله- عز وجل – تابع لحكمته وما تقتضيه تلك الحكمة من غايات حميدة ، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم . ويدور الإيمان بالقدر علي الايمان بأربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم ، وذلك أن تؤمن إيماناً كاملاً بأن الله ـ سبحانه وتعالى – قد أحاط بكل شيء علماً ، أحاط بكل شيء مما مضى ، ومما هو حاضر ، ومما هو مستقبل ، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله –عز وجل – أو بأفعال عباده فهو محيط بها جملة وتفصيلاً بعلمه الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً ، وأدلة هذه المرتبة كثيرة في القرآن والسنة قال الله تعالى-: }إن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء{(1) . وقال –تعالى- : }وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين{(2) . وقال عز وجل : } ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه{(3) وقال – سبحانه وتعالى-: }والله بما تعملون عليم{(4) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علم الله – سبحانه وتعالى – بكل شيء جملة وتفصيلاً ، وهذه المرتبة من الإيمان بالقدر من أنكرها فهو كافر ؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وإجماع المسلمين ، وطاعن في كمال الله عز وجل لأن ضد العلم إما الجهل ، وإما النسيان ، وكلاهما عيب ، وقد قال الله تعالى – عن موسى ، عليه السلام ، حينما سأله فرعون: }فما بال القرون الأولى . قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى{(5) فهو }لا يضل{ أي لا يجهل شيئاً مستقبلاً ، }ولا ينسى{ شيئاً ماضياً –سبحانه وتعالى-.
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله – سبحانه وتعالى- كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة فإنه –عز وجل – حينما خلق القلم قال له: "اكتب قال: ربي وماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" . فكتب الله –عز وجل- في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء ، وقد دل على هذه المرتبة قوله –تعالى ـ : }ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير{(1) . قال : }إن ذلك في كتاب{ أي مكتوب في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ }إن ذلك على الله يسير{ ثم هذه الكتابة تكون مفصلة أحياناً ، فإن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر يبعث إليه ملك فيأمره بأربع كلمات بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ويكتب أيضاً في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة كما قال الله-تعالى -: }إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين{(2) .
المرتبة الثالثة: الإيمان بأن كل ما في الكون فإنه بمشيئة الله ، فكل ما في الكون فهو حادث بمشيئة الله –عز وجل- سواء كان ذلك مما يفعله هو ـ عز وجل ـ أو فيما يفعله المخلوق قال الله –تعالى- : }ويفعل الله ما يشاء{(3) وقال –تعالى-: }ولو شاء لهداكم أجمعين{(4) وقال: }ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة{(1) وقال- عز وجل- : }إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد{(2) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن فعله واقع بمشيئته ، وكذلك أفعال الخلق واقعة بمشيئته كما قال-تعالى-: }ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد{(3) وهذا نص صريح في أن أفعال العبيد قد شاءها الله-عز وجل- ولو شاء الله أن لا يفعلوا لم يفعلوا .
المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله –تعالى-خالق كل شيء فالله عز وجل هو الخالق ، وما سواه مخلوق ، فكل شيء فالله خالقه ، فالمخلوقات مخلوقة لله-عز وجل – وما يصدر منها من أفعال وأقوال مخلوقة لله-عز وجل – أيضاً لأن أفعال الإنسان وأقواله من صفاته ، فإذا كان الإنسان مخلوقاً كانت صفاته أيضاً مخلوقة لله – عز وجل- ويدل لذلك قوله تعالى: }ولله خلقكم وما تعملون{(4) وقد اختلف الناس في }ما{ هنا هل هي مصدرية أو موصولة؟ وعلى كل تقدير فإنها تدل على أن عمل الإنسان مخلوق لله –عز وجل- هذه أربع مراتب لا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها.
ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب ، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر ؛ لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها ، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه- إلى الشام علم في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة ـ رضي الله عنهم – هل يستمر ويمضي في سيره أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه ، ثم استقر رأيهم على أن يرجع إلى المدينة ، ولما عزم على ذلك جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –يجله ويقدره فقال : يا أمير المؤمنين "كيف ترجع إلى المدينة أفراراً من قدر الله" ؟ فقال عمر –رضي الله عنه-: "نفر من قدر الله إلى قدر الله" وبعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف" ـ رضي الله عنه-وكان غائباً في حاجة له فحدثهم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال عن الطاعون : "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها" . والحاصل أن في قول عمر –رضي الله عنه- : " نفر من قدر الله إلى قدر الله" دليلاً على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله-عز وجل-ونحن نعلم أن الرجل لو قال : أنا مؤمن بقدر الله وسيرزقني الله ولداً بدون زوجة لو قال هذا لعد من المجانين ، كما أنه لو قال : أنا أومن بقدر الله ولن أسعى في طلب الرزق ولم يتخذ أي سبب للرزق لعد ذلك من السفه، فالإيمان بالقدر إذاً لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة ، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها.
ثم اعلم أنه يرد على الإيمان بالقدر إشكال –وليس بإشكال في الواقع –وهو أن يقول قائل : إذا كان فعلي من قدر الله –عز وجل-فكيف أعاقب على المعصية وهي من تقدير الله-عزوجل-؟
والجواب على ذلك أن يقال: لا حجة لك على المعصية بقدر الله؛ لأن الله-عز وجل – لم يجبرك على المعصية، وأنت حين أقدمت عليها لم يكن لديك العلم بأنها مقدرة عليك ؛ لأن الإنسان لا يعلم بالمقدر إلا بعد وقوع الشيء ، فلماذا لم تقدر قبل أن تفعل المعصية أن الله قدر لك الطاعة فتقوم بطاعته؟! وكما أنك في أمورك الدنيوية تسعى لما ترى أن فيه خيراً وتهرب مما ترى فيه شراً ، فلماذا لا تعامل نفسك هذه المعاملة في عمل الآخرة ؟! ولا أعتقد أن أحداً يسلك الطريق الصعب ،ويقول : إن هذا قد قدر لي ،بل سوف يسلك الطريق المأمون الميسر ، ولا فرق بين هذا وبين أن يقال : لك للجنة طريق وللنار طريق فإنك إذا سلكت طريق النار فأنت كالذي سلك الطريق المخوف الوعر ، فلماذا ترضى لنفسك أن تسلك طريق الجحيم وتدع طريق النعيم؟! ولو كان للإِنسان حجة بالقدر على فعل المعصية لم تنتف هذه الحجة بإرسال الرسل وقد قال الله-تعالى-: }رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون الناس على الله حجة بعد الرسل{.(1)
واعلم أن للإيمان بالقدر ثمرات جليلة على سير الإنسان وعلى قلبه لأنك إذا آمنت بأن كل شيء بقضاء الله وقدره فإنك عند السراء تشكر الله ـ عز وجل- ولا تعجب بنفسك ولا ترى أن هذا الأمر حصل منك بحولك وقوتك ، ولكنك تؤمن بأن هذا سبب إذا كنت قد فعلت السبب الذي نلت به ما يسرك وأن الفضل بيد الله – عز وجل- فتزداد بذلك شكراً لنعم الله ـ سبحانه وتعالى –ويحملك هذا على أن تقوم بطاعة الله على حسب ما أمرك الله به، وأن لا ترى لنفسك فضلاً على ربك ، بل ترى المنة لله – سبحانه وتعالى –عليك قال الله- تعالى-: }يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين{.(2)
كما أنك إذا أصابتك الضراء فإنك تؤمن بالله – عز وجل –وتستسلم ولا تندم على ذلك ، ولا تلحقك الحسرة ، ألم تر إلى قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ،واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" . فالإيمان بالقدر فيه راحة النفس والقلب، وعدم الحزن على مافات ، وعدم الغم والهم لما يستقبل قال الله-تعالى-: }ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم{(1) والذي لا يؤمن بالقدر لا شك أنه سوف يتضجر عند المصائب ويندم ، ويفتح الشيطان له كل باب ، وأنه سوف يفرح ويبطر ويغتر إذا أصابته السراء لكن الإيمان بالقدر يمنع هذا كله.
194- سئل فضيلة الشيخ: عن مسألة القدر ؟ وهل أصل الفعل مقدر والكيفية يخير فيها الإنسان؟ مثال ذلك إذا قدر الله –تعالى –للعبد أن يبني مسجداً فإنه سيبني لا محالة لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، وكذلك المعصية إذا قدرها الله فأن، الإنسان سيفعلها لا محالة، لكن ترك لعقله كيفية تنفيذها ، وخلاصة هذا الرأي أن الإنسان مخير في الكيفية التي ينفذ بها ما قدر عليه فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذه المسألة –أي مسألة القدر– محل جدل بين البشر من قديم الزمان ، ولذلك انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام طرفين ووسط. أما الطرفان :
فأحدهما : نظر إلى عموم قدر الله فعمي عن اختيار العبد . وقال: إنه مجبر على أفعاله ، وليس له فيها أي اختيار، فسقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها كنزوله منه مختاراً من الدرج.
وأما الطرف الثاني: فنظر إلى أن العبد فاعل تارك باختياره ، فعمي عن قدر الله وقال: إن العبد مستقل بأفعاله ، ولا تعلق لقدر الله تعالى فيها.
وأما الوسط فأبصروا السببين ، فنظروا إلى عموم قدر الله-تعالى-وإلى اختيار العبد، فقالوا : إن فعل العبد كائن بقدر الله –تعالى –وباختيار العبد، وإنه يعلم بالضرورة الفرق بين سقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها، ونزوله منه مختاراً من الدرج، فالأول من فعله بغير اختياره ،والثاني باختياره، والكل منهما واقع بقضاء الله وقدره لا يقع في ملكه مالا يريد، لكن ما وقع باختيار العبد فهو مناط التكليف، ولا حجة له بالقدر في مخالفة ما كلف به من أوامر أو نواه ، وذلك لأنه يقدم على المخالفة حين يقدم عليها وهو لا يعلم ما قدر الله عليه ، فيكون إقدامه الاختياري على المخالفة هو سبب العقوبة سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة ، ولذلك لو أجبره مجبر على المخالفة،لم يثبت عليه حكم المخالفة ولا يعاقب عليها لثبوت عذره حينئذ. وإذا كان الإنسان يدرك أن هروبه من النار إلى موضع يأمن فيه منها يكون باختياره ، وأن تقدمه إلى بيت جميل واسع طيب المسكن ليسكنه يكون باختياره أيضاً ، مع إيمانه أن هروبه وتقدمه المذكورين واقعان بقضاء الله وقدره، وأن بقاءه لتدركه النار، وتأخره عن سكنى البيت يعد تفريطاً منه وإضاعة للفرصة يستحق اللوم عليه؛ فلماذا لا يدرك هذا بالنسبة لتفريطه بترك الأسباب المنجية له من نار الآخرة الموجبة لدخوله الجنة ؟ !
وأما التمثيل بأن الله إذا قدر للعبد أن يبني مسجداً فإنه سيبني هذا المسجد لا محالة ، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء ، فهذا تمثيل غير صحيح ، لأنه يوحي بأن كيفية البناء يستقل بها العقل ولا تدخل في قدر الله –تعالى- ، وأن اصل فكرة البناء يستقل بها القدر ولا مدخل للاختيار فيها . والحقيقة أن أصل فكرة البناء تدخل في اختيار العبد لأنه لم يجبر عليها ، كما لا يجبر على فكرة إعادة بناء بيته الخاص أو ترميمه مثلاً ، ولكن هذه الفكرة قد قدرها الله-تعالى-للعبد من حيث لا يشعر ، لأنه لا يعلم بأن الله قدر شيئاً ما حتى يقع ذلك الشيء ، إذ القدر سر مكتوم لا يعلم إلا بإطلاع الله- تعالى- عليه بالوحي أو بالوقوع الحسي . وكذلك كيفية البناء هي بقدرـ ، فإن الله – تعالى - قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلاً ، ولا يمكن أن يختار العبد ما لم يُرِدْه أو يقدره بل إذا اختار العبد شيئاً وفعله علم يقيناً أن الله – تعالى – قد قضاه وقدره . فالعبد مختار بحسب الأسباب الحسية الظاهرة التي قدرها الله تعالى ، أسباباً لوقوع فعله ، ولا يشعر العبد حين يفعل الفعل بأن أحداً أجبره عليه ، لكنه إذا فعل ذلك بحسب الأسباب التي جعلها الله – تعالى – أسباباً علمنا يقيناً بأن الله تعالى، قد قدرها جملة وتفصيلاً .
وهكذا نقول في التمثيل بفعل الإنسان المعصية حيث قلتم : إن الله قدر عليه فعل المعصية فهو سيفعلها لا محالة ، ولكن ترك لعقله كيفية تنفيذها والسعي إليها.
فنقول فيه ما قلناه في بناء المسجد: إن تقدير الله –تعالى – عليه فعل المعصية لا ينافي اختياره لها ، لأنه حين اختياره لها لا يعلم بما قدر الله تعالى عليه ، فهو يقدم عليها مختاراً لا يشعر بأن أحداً يجبره ، لكنه إذا أقدم وفعل علمنا أن الله قد قدر فعله لها ، وكذلك كيفية تنفيذ المعصية والسعي إليها الواقعة باختيار العبد ، لا تنافي قدر الله – تعالى – فالله – تعالى –قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلاً وقدر أسبابها الموصلة إليها ، ولا يشذ عن ذلك شيء من أفعاله ، ولا من أفعال العباد الاختيارية منها والاضطرارية ، كما قال الله –تعالى - : }ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير{(1) . وقال – تعالى- : }وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإِنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون{ .(2) وقال: }وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون{(3) . وقال: }ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا{(4) وبعد فإن الجدير بالمرء ألا يبحث في نفسه ولا مع غيره في مثل هذه الأمور التي توجب له التشوش ، وتوهم معارضة الشرع بالقدر،فإن ذلك ليس من دأب الصحابة –رضي الله عنهم – وهم أحرص الناس على معرفة الحقائق وأقربهم من معين إرواء الغلة ، وكشف الغمة ، وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" . فقلنا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ (وفي رواية أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) قال: "لا اعملوا فكل ميسر " . وفي رواية "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة . وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة" . ثم قرأ : }فأما من أعطى واتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . فسنيسره للعسرى { . (5) فنهى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن الاتكال على الكتاب وترك العمل ، لأنه لا سبيل إلى العلم به ، وأمر بما يستطيعه العبد ويمكنه ، وهو العمل واستدل بالآية التي تدل على أن من عمل صالحاً وآمن فسييسر لليسرى ، وهذا هو الدواء الناجع المثمر ، الذي يجد فيه العبد بلوغ عافيته وسعادته ، حيث يشمر للعمل الصالح المبني على الإيمان ، ويستبشر بذلك حين يقارنه التوفيق لليسرى في الدنيا والآخرة . أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً للعمل الصالح، وأن ييسرنا لليسرى ويجنبنا العسرى ، ويغفر لنا في الآخرة والأولى، إنه جواد كريم.
(195) وسئل فضيلة الشيخ : هل الإنسان مخير أو مسير؟ .
فأجاب بقوله : على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير .
ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره؟
هل يصيبه المرض باختياره؟
هل يموت باختياره؟
إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير . والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع إلى قول الله تعالى-: }فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبًا{(1) وإلى قوله: }منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة{(2) وإلى قوله : }ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً{(3) وإلى قوله : }ففدية من صيام أو صدقة أو نسك{(4) حيث خير الفادي فيما يفدي به.
ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله –تعالى –قد أراده –لقوله –تعالى-: }لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين{(5) فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى .
وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة. والله الموفق.