( 151) وسئل فضيلة الشيخ : هل عذاب القبر على البدن أو على الروح؟
فأجاب بقوله: الأصل أنه على الروح لأن الحكم بعد الموت للروح ، والبدن جثة هامدة ، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه ، فلا يأكل ولا يشرب ، بل تأكله الهوام ، فالأصل أنه على الروح لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الروح قد تتصل بالبدن فيعذب أو ينعم معها، وأن لأهل السنة قولاً آخر بأن العذاب أو النعيم يكون للبدن دون الروح واعتمدوا في ذلك على أن هذا قد رئي حسّاً في القبر فقد فتحت بعض القبور ورئي أثر العذاب على الجسم ، وفتحت بعض القبور ورئي أثر النعيم على الجسم. وقد حدثني بعض الناس أنهم في هذا البلد هنا في عنيزة كانوا يحفرون لسور البلد الخارجي، فمروا على قبر فانفتح اللحد فوجد فيه ميت أكلت كفنه الأرض وبقي جسمه يابساً لكن لم تأكل منه شيئاً حتى إنهم قالوا : إنهم رأوا لحيته وفيها الحنا وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك،فتوقفوا وذهبوا إلى الشيخ وسألوه فقال : دعوه على ما هو عليه واجنبوا عنه ، احفروا من يمين أو من يسار.
فبناء على ذلك قال العلماء : إن الروح قد تتصل في البدن فيكون العذاب على هذا وهذا ، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "إن القبرليطبق على الكافر حتى تختلف أضلاعه" فهذا يدل على أن العذاب يكون على الجسم لأن الأضلاع في الجسم والله أعلم.
( 152) وسئل فضيلة الشيخ : ما المراد بالقبر هل هو مدفن الميت أو البرزخ؟
فأجاب: أصل القبر مدفن الميت قال الله –تعالى -: } ثم أماته فأقبره { (1) قال ابن عباس : أي أكرمه بدفنه . وقد يراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة وإن لم يدفن كما قال – تعالى -: } ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون { (2) يعني من وراء الذين ماتوا لأن أول الآية يدل على هذا } حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون . لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون{ (1) .
ولكن هل الداعي إذا دعا "أعوذ بالله من عذاب القبر" يريد عذاب مدفن الموتى ، أو من عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام الساعة؟
الجواب: يريد الثاني لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويدفن أو يموت وتأكله السباع ، أو يحترق ويكون رماداً ما يدري } وما تدري نفس بأي أرض تموت{ (2) فاستحضر أنك إذا قلت : من عذاب القبر أي من العذاب الذي يكون للإنسان بعد موته إلى قيام الساعة.
( 153) وسئل فضيلته : هل عذاب القبر ثابت؟
فأجاب بقوله : عذاب القبر ثابت بصريح السنة وظاهر القرآن وإجماع المسلمين هذه ثلاثة أدلة:
أما صريح السنة فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر،تعوذوا بالله من عذاب القبر" .
وأما إجماع المسلمين فلأن جميع المسلمين يقول :ون في صلاتهم : "أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر" حتى العامة الذين ليسوا من أهل الإجماع ولا من العلماء. وأما ظاهر القرآن فمثل قوله-تعالى-في آل فرعون : } النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب{ (1) ولا شك أن عرضهم على النار ليس من أجل أن يتفرجوا عليها، بل من أجل أن يصيبهم من عذابها ، وقال – تعالى - : }ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم{ . الله أكبر إنهم لشحيحون بأنفسهم ما يريدون أن تخرج } اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون{ (2). فقال : }اليوم{ و "ال" هنا للعهد الحضوري اليوم يعني اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم } تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون{ .
إذاً فعذاب القبر ثابت بصريح السنة ، وظاهر القرآن ، وإجماع المسلمين ، وهذا الظاهر من القرآن يكاد يكون كالصريح لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصريح في ذلك.
( 154) وسئل فضيلته : هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار؟
فأجاب فضيلته: عذاب القبر المستمر يكون للمنافق والكافر . وأما المؤمن العاصي فإنه قد يعذب في قبره لأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" . وهذا معروف أنهما كانا مسلمين.
( 155) وسئل الشيخ: إذا لم يدفن الميت فأكلته السباع أو ذرته الرياح فهل يعذب عذاب القبر؟
فأجاب قائلاً: نعم ويكون العذاب على الروح ، لأن الجسد قد زال وتلف وفني ، وإن كان هذا أمراً غيبياً لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله من هذا العذاب ولو كان قد فني واحترق لأن الأمر الأخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدنيا.
( 156) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجيب من ينكر عذاب القبر ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجد لم يتغير ولم يضق ولم يتسع؟
فأجاب – حفظه الله –بقوله : يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها:
أولاً: أن عذاب القبر ثابت بالشرع قال الله تعالى في آل فرعون : } النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب{ (1) وقوله ، صلى الله عليه وسلم : "فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار ، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر" . وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن : "يفسح له في قبره مد بصره" إلى غير ذلك من النصوص فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول بل الواجب التصديق والإذعان.
ثانياً: أن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمراً محسوساً على البدن فلو كان أمراً محسوساً على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب ولم يكن للإيمان به فائدة لكنه من أمور الغيب، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا.
ثالثاً : أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه ، إنما يدركه الميت دون غيره والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم وذاهب وراجع، وضارب ومضروب ، ويرى أنه في مكان ضيق موحش ، أو في مكان واسع بهيج ، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به.
والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول : سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.
( 157) وسئل فضيلته: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟
فأجاب بقوله: أما إن كان الإنسان كافراً والعياذ بالله فإنه لا طريق إلى وصول النعيم إليه أبداً ويكون عذابه مستمراً.
وأما إن كان عاصياً وهو مؤمن ، فإنه إذا عذب في قبره يعذب بقدر ذنوبه وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة وحينئذٍ يكون منقطعاً.
( 158) وسئل فضيلة الشيخ: هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي؟
فأجاب قائلاً : نعم قد يخفف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستبرىء" أو قال : "لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذبين؟
1- قيل: لأنهما أي الجريدتين تسبحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفف من العذاب على الميت ، وقد فرعوا على هذه العلة المستنبطة – التي قد تكون مستبعدة –أنه يسن للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبح عندها من أجل أن يخفف عنها.
2- وقال بعض العلماء : هذا التعليل ضعيف لأن الجريدتين تسبحان سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقوله تعالى- : } تسبح لهالسمواتالسبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم{ (1) .وقد سمع تسبيح الحصى بين يدي الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحصى يابس ، إذاً ما العلة؟
العلة : أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ترجى من الله عز وجل أن يخفف عنهما من العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين ، يعني أن المدة ليست طويلة وذلك من أجل التحذير عن فعلهما، لأن فعلهما كبير كما جاء في الرواية "بلى إنه كبير" أحدهما لا يستبرئ من البول، وإذا لم يستبرئ من البول صلى بغير طهارة ، والآخر يمشي بالنميمة يفسد بين عباد الله والعياذ بالله ويلقي بينهم العداوة ، والبغضاء ، فالأمر كبير ، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقتة تحذيراً للأمة لا بخلاً من الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بالشفاعة الدائمة.
ونقول استطراداً : إن بعض العلماء –عفا الله عنهم – قالوا : يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة ، أو شجرة ، أو نحوها على القبر ليخفف عنه ، لكن هذا الاستنباط بعيد جداً ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولاً: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت ، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه ، وحينئذ لا يستحق عذاباً.
ثالثاً: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – فما بالنا نحن نفعله.
رابعاً: أن الله تعالى قد فتح لنا ماهو خير منه فكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" .
( 159) وسئل فضيلته : هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة؟