كان لإقليم الزاب بشرق المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) عبر العصور دور هام في صناعة تاريخ بلاد المغرب العربي، وكانت ربوعه مسرحا للكثير من الأحداث السيّاسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، كما شهدت مدنه وقراه وقائع حاسمة ومعارك فاصلة ومحطات بارزة في سيّاق هذا التاريخ، ويكفيه أنّ بعض أقطاره كانت منطلقا للكثير من الدّول التي تعاقبت على حكم بلاد المغرب، على غرار الدّولة الأغلبيّة التي انطلق مؤسسها الأوّل إبراهيم بن الأغلب من الزاب، وبني مرين الذين كانت بلاد الزاب مرتعهم الأوّل، وبني زيّان كذلك، كما أضحت في العصر الحديث الخلافة (الولاية) الثامنة في دولة الأمير عبد القادر.
إلا أنّ الباحث الحصيف وبعد رصد دقيق وتتبع مرحلي ومتأن لـ (الزاب) يدرك ملامح التغيير المستمرّ لحدود هذا الإقليم؛ توسّعه تارة وتقلصه تارة أخرى، مما حدا بأستاذنا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى التأكيد بأنّ هذا " الإقليم يضيّقه الاستعمال العرفي ويوسّعه" إلى جانب تغيير عواصمه ومدنه حسب المستجدّات الإقليميّة والرّهانات الدوليّة، هذه المدن ساد الكثير منها ثمّ باد، على غرار: زابي، طبنة، ملشون، حياس... وأخرى بقيت صامدة تؤدّي دورها الطلائعي إلى اليوم كقسنطينة، المسيلة، بسكرة، ميلة... دون إغفال تداول هذا المصطلح في بلاد المشرق العربي والمغرب الأقصى والأندلس، وتفرّع دلالاته وعلاماته.
إقليم الزاب في بداية الفتح الإسلامي
خلال الحملة الثانية للفاتح عقبة بن نافع الفهري ما بين 62 و63 هـ كانت عاصمة بلاد الزاب وأعظم مدنه مدينة (أذنه) أو (أدنه) في بعض المصادر وكما أوردها البكريّ، وقد ذكر صاحب (تاريخ إفريقية والمغرب) أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق المتوفى بعد عام 417 هـ أنّ عقبة بن نافع لما وصل إلى بلاد الزاب " سأل عن أعظم مدائنهم قدرا فقالوا : مدينة يقال لـها أذنة، ومنها الملك (وهي مجمع ملوك) الزاب. وكان حولـها ثلاثمائة قرية (وستون قرية) وكلـها عامرة" .
وقيل أنّ اسمها أربة لكنّها حرّفت إلى أذنة أو أدنة، وقد أرشدنا البكريّ إلى أنّ أدنة تقع على بعد مرحلتين من طبنة، وبعد مرحلة من المسيلة.
بعد تمام عملية الفتح الإسلامي ألحقت بلاد الزاب كاملة بمدنها وقراها بإفريقية (تونس)، مما حدا بمؤرخ الجزائر الشيخ عبد الرحمن الجيلالي إلى التأكيد " أنّ أرض الزاب أو الجنوب الجزائريّ فإنه كان ملحقا في الغالب بولاية تونس " .
وفي هذه الفترة كان الزاب في عمومه ينقسم إلى قسمين " الزاب الأعلى وهو يمتدّ من جنوب قسنطينة إلى ساحل البحر إلى الغرب، وهو تابع إداريّا لولاية إفريقية أي تونس الحالية، والزاب الأسفل ويمتدّ من جنوب قسنطينة إلى سفوح جبال أوراس، وهو معدود في مدن المغرب الأوسط أي الجزائر " .
الزاب في عهد الأغالبة
بعد تأسيس الدّولة الأغلبيّة عام 184 هـ – 800 م التي شـملت تونس وطرابلس وجزءا من شرق الجزائر، كانت بلاد الزاب بطبيعة الحال ضمن حدودها، لاسيما أنّ مؤسس الدّولة إبراهيم بن الأغلب كان قبل ذلك واليا على الزاب وعاصمته حينذاك مدينة طبنة، بمحاذاة بريكة بإقليم ولاية باتنة اليوم ، حيث خلف الفضل بن روح بداية من عام 174 هـ 791م "وقد أجمع الرواة دون استثناء على أنّ الزاب كان منطلقا لـه" .
وقد نقل الدكتور محمد الطالبي عن البلاذريّ الذي توفي عام 892 انه قال " وكان إبراهيم بن الأغلب من وجوه جند مصر، فوثب اثنا عشر رجلا معه فأخذوا من بيت المال مقدار أرزاقهم لم يزدادوا على ذلك شيئا، وهربوا فلحقوا بموضع يقال لـه الزاب"، وهنا نتوقف برهة ونضع أسطرا تحت كلمة (يقال) فلو كان الإقليم شهيرا بهذا الاسم في ذلك الحين، فلما احتاج البلاذري أن يقول "يقال لـه الزاب" ثمّ يضيف " وهو من القيروان على مسيرة أكثر من عشرة أيّام".
ولـهذا يكون أحمد البلاذريّ صاحب (فتوح البلدان) و(أنساب الأشراف) من أوائل المؤرخين العرب الذين ورد مصطلح (الزاب) ضمن كتبهم.
وخلال هذا العهد الأغلبي كانت منطقة الزاب كذلك تشـمل الشرق الجزائريّ كاملا، حيث شـملت بلاد الأوراس والنمامشة، إلى غاية الشواطئ الشرقيّة كعنابة (هيبون) وسكيكـدة (روسيكادا) وبجاية (صلداي) والقلّ (شولو) وتمتدّ إلى الجنوب حيث تشـمل بسكرة وتهودة وبادس...
وقد زار الرّحالة الجغرافي أحمد اليعقوبي (ت بعد عام 905 م) أي قبل سقوط الدّولة الأغلبيّة، زار بلاد الزاب في عهد الأغالبة، فذكر طبنة بأنّها " مدينة الزاب العظمى. وهي التي ينزلـها الولاة وبها أخلاط من قريش والعرب والجند والعجم والأفارقة والروم والبربر. إلى أن يقول: والزاب بلد واسع " .
لكن بعد انتقال عاصمة الزاب من طبنة إلى المسيلة، ذكرها الرحالة العرب على اعتبارها من مدن الزاب فقط، على غرار بن حوقل (ت 981 م) الذي وصفها في قولـه: "طبنة مدينة قديمة ولكنّه يستدرك بأنها " كانت عظيمة " أمّا الإدريسي (ت 1165 م) ورغم تراجع دورها الا انه يقر بأنّ "طبنة مدينة الزاب وهي مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين والزروع والقطن والحنطة والشعير وعليها سور من تراب وأهلـها أخلاط وبها صنائع وتجارات وأموال لأهلـها متصرّفة في ضروب من التجارات والتمر بها كثير وكذلك سائر الفواكه" . فلم تفقد بريقها وإشعاعها رغم انتقال السلطة منها.
ويؤكد الكثير من المؤرخين أنّ بلاد الزاب خلال حكم الأغالبة كانت تنعم بالاستقرار والدّعة والسلام، مما أسهم في نموّ اقتصاديّ، فأضحت هذه الرّبوع منطقة رخاء وفضاء للعبور من الغرب إلى الشرق ومن الشـمال إلى الجنوب، ورقيّ ثقافيّ وعلمي متميّز. كما نبغ فيها الكثير من الأعلام.
وقد ظلت (طبنة) عاصمة للزاب إلى غاية ظهور الفاطميين على مسرح الأحداث ببلاد المغرب في بداية القرن 10 م وبالتحديد بنواحي سطيف، الذين قضوا على الدّولة الأغلبيّة عام 296 هـ 909 م لينهوا أوج مدينة (طبنة) ويختاروا مدينة أخرى لتكون عاصمة لـهذا الإقليم.
بلاد الزاب في العهد الفاطمي
بعد إخضاع بلاد الزاب إلى حكم الفاطميين، وعودة أبي القاسم محمّد بن عبيد الله الفاطمي (القائم بأمر اللـه) من المغرب الأقصى عقب ضمه لـه، ارتأى أن يؤسس عاصمة أخرى لبلاد الزاب، تكون خلفا لـ (طبنة) فأسس (المسيلة ) على أطلال مدينة (زابي) التي أشرنا إليها آنفا، واشتق اسمها من اسمه (المحمّديّة).
ويذكر الأستاذ عثمان الكعاك أنّ القاسم كان راكبا على فرسه وهو يخط المدينة برمحه، ثمّ عهد إلى علي بن حمدون الأندلسي ببنائها، وذلك في صفر 315 هـ 15 أفريل 927 م، وبعد إتمام البناء سمّى ابن حمدون واليا عليها، وانتقلت مباشرة عاصمة الزاب بصفة رسميّة من (طبنة) إلى (المسيلة).
وقد بلغت (المسيلة) درجة متقدّمة في الجانب العمرانيّ فضمّت الكثير من القصور والحمّامات والمتنزهات والمساجد، كما كانت مقصدا للعلماء والرّحالة والجغرافيين، ومن بينهم الرّحالة أبو عبيد عبد الله البكريّ في القرن 11 م الذي قال عنها " وهي: مدينة جليلة على نهر يسمّى بنهر سهر، أسسها أبو القاسم إسماعيل بن عبيد الله سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ... وهي مدينة في بساط من الأرض، عليها سوران، بينهما جدول ماء جار يستدير بالمدينة، ولـه منافذ يسقى منها عند الحاجة " وقد أورد البكريّ بعد وصفه لـ(المسيلة) عاصمة الزاب أبياتا قا لـها أحمد بن محمّد المروذي، يذكر نزول إسماعيل بالمسيلة التي يطلق عليها الشيعة (المحمّديّة):
ثمّ إلــى مدينـــة مرضيـّـــه
أسّت على التقوى محمّديّـه أقبل حـتى حــلـها ضحيّـــه
بالنــور من طلعتـه المضيّـه فحلّ فـي عسكـر المسيلـه
في هـيئــة كاملـــة جميلــه للنصر في أرجـائه مخيلـه
بنعمـة من ذي العلى جليلــه
بلاد الزاب في العهد الزّيريّ الصنهاجيّ
بعد أن همّ الفاطميون بالانتقال من بلاد المغرب إلى مصر قام المعز بن منصور العبيدي بدعوة جعفر بن علي بن حمدون أمير ولاية المسيلة والزاب عموما ليعهد إليه بأمر إفريقيّة، لكنّه أوجس منه خيفة، فرفض المثول بين يديه، وخرج على طاعته واعتصم بقبيلة مغراوة التي أجارته، لِما يعلمه من حنق زيري الصنهاجي عليه، وقام مع الخيّر بن محمّد الزناتي بالدّعوة الأمويّة، فنشبت الحرب بين زناتة وصنهاجة والتي قتل زيري في إحدى معاركها في رمضان 360 هـ - جوان 970 م، كما يؤكد ذلك الشيخ عبد الرحمن الجيلالي ، بعد ذلك عزم ابنه بلكين (بولوغين) على الثأر لوالده، وبعد حروب عديدة تمكن من إخضاع كامل المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) بما في ذلك بلاد الزاب، كما قضى على حركة محمّد بن الحسن بن خزر المغراوي في ثورته ضدّ الشيعة، والذي سبق لـه أن انتزع بلاد الزاب من الفاطميين، وقد أدت به سلسلة ا لـهزائم التي مني بها إلى الانتحار.
بلاد الزاب في العهد الحمادي
يشير الكثير من المؤرخين أنّه بعد المفاوضات التي جرت بين المعز وحمّاد استقلّ هذا الأخير بأجزاء واسعة من المغرب الأوسط وبالكثير من مدنها، كالمسيلة، طبنة، مقرة، أشير، تيهرت، بسكرة... ليؤسس الدّولة الحمّاديّة (1007 م – 1152 م) ثاني دولة مستقلّة بالمغرب الأوسط (الجزائر) بعد الرستميّة (776 م 909 م)، متخذا من القلعة (قلعة بني حمّاد) عاصمة لـه، ومن هنا انتقلت عاصمة بلاد الزاب من المسيلة إلى القلعة التي بناها حمّاد بن بلكين بن زيري بن منّاد الصنهاجيّ في حدود 370 هـ.
وقد كانت بسكرة في ذلك الحين ضمن نفوذ الدّولة الحمّاديّة، ولم تصبح بعدُ عاصمة لبلاد الزاب، وكانت آنذاك تتوارث الحكم عليها أسرة بني رمّان، ولما قتل بلكين بن محمّد خرجت هذه الأسرة ببسكرة على الناصر بن علناس، وأعلنت عصيانها رفقة بعض قرى بسكرة، فجهز لـهم وزيره خلف بن أبي حيدرة في حملة عسكريّة فأحبط عصيانهم، وقضى على تمرّدهم في مهده، وأخمد الثورة بشكل نهائيّ عام 450 هـ 1050 م وأخذ معه رؤساء بني رمّان وشيوخهم فقام بصلبهم بالقلعة، ثمّ انتقلت رياسة بسكرة وما جاورها إلى أسرة جديدة هي أسرة عروس من بني سندي.