. خامساً: ذكر فضيلتكم في ص ... عدد ... أن الأشاعرة ذكروا هذا الكلام لأنه ظهر في عصرهم ناس ضلوا بسبب العقيدة فأولوا هذه الصفات دفعاً لأولئك منهم على نية حسنة. فالأشاعرة إنما أرادوا تنزيه الله جل وعلا لئلا يضل بعض الناس بتشبيه الخالق بعباده.
وهذا الذي ذكرتموه قد يكون هو الواقع من بعضهم، وقد يكون الواقع للآخرين أن هذا هو عقيدتهم، وأنهم يعتقدون أن إثبات الحقيقة يستلزم التشبيه.
وعلى كل حال فهذا مسلك فاسد إذ لا يمكن معالجة الداء بداء، ولا تفنيد البدعة ببدعة، وإنما يعالج الداء بالدواء الناجع، وتفند البدعة بالسنة،
ولهذا لم يأت الأشاعرة بطائل في الرد على أهل التأويل الكلي في الصفات، فإن من المعروف أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعضها، أما ماعدا هذه الصفات فإنهم ينكرون حقيقتها بتأويلها إلى ما زعموا أن العقل يجيزه دون الحقيقة.
فإن أهل التأويل الكلي استطالوا على الأشاعرة فقالوا: إذا كنتم تبيحون لأنفسكم التأويل فيما أولتموه بدون دليل سمعي بل بمقتضى عقولكم، فلماذا تنكرون علينا ما أولناه بمقتضى عقولنا مما لا تؤولونه، فإن كانت عقولنا خاطئة فأين الصواب في عقولكم؟ وإن كانت عقولكم صائبة فأين الخطأ في عقولنا؟ وليس لكم علينا حجة في الإنكار سوى مجرد التحكم. وهذا الإيراد من أهل التأويل الكلي على الأشاعرة وارد لا محيص للأشاعرة عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف، وتنزيهاً بلا تعطيل، ولا تحريف.
ولا يكفي في قبول القول وإقراره حسن قصد قائله بل لابد من موافقته لشريعة الله تعالى، فإن كان مخالفاً وجب رده وإنكاره مهما كان قائله لكن إن كان قائله ممن عرف بحسن القصد والنصيحة لدين الله وعباد الله اعتذر عنه في هذه المخالفة، وإلا أعطي ما يستحقه لسوء قصده ومخالفته.
. سادساً: ذكر فضيلتكم ص ... ص ... أن الأسلم في موضوع الصفات أن نفوض الأمر إلى علام الغيوب الذي لا تخفي عليه خافية وفي ص ... عدد ... قلتم: وضمن هذا الإطار الذي فيه تنزيه الله جل وعلا عن مشابهته الخلق، أو مشابهة الخلق له يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات، ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى ... وقد اشتهر هذا المذهب بأنه مذهب أهل التفويض. وفي ص ... عدد ... ذكرتم أنه اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان هما:
أ. مذهب أهل التفويض.
ب. مذهب أهل التأويل.
ثم ذكرتم ص .و. عدد ... أن مذهبهم ليس التفويض المطلق كما قد يتوهم البعض من الناس وإنما هو مسلك آخر، ثم ذكرتم أنه يتلخص في شيئين:
- أحدهما: تأويل ما لابد من تأويله من آيات الصفات وأحاديثها.
- والثاني: إثبات ما أثبته القرآن أو السنة والإيمان بها على مراد الله بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه، أو تعطيل، أو تجسيم، أو تمثيل. على ضوء هذا يؤمن السلف الصالح في نفي المثلية ونفي التجسيم.
والتفويض الذي ذكرتموه هنا لم تبينوا بياناً ظاهراً ما المراد به؟ هل هو تفويض المعنى، أو تفويض الكيفية؟ فإن كان الأول فليس هذا مذهب السلف لأنهم يثبتون المعنى على حقيقته ويعرفونه تمام المعرفة لكن على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ: (العقل والنقل) الذي طبع على هامش كتابه (منهاج السنة) في ص 116 ج 1:
"وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله". إلى أن قال: "فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة"، وقال في ص 118 بعد كلام سبق: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن وفي الأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته.. لا يعلم معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد، وكل مبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، ومالا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا، لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد".أ.هـ كلام الشيخ.
وعلى هذا فيجب الإفصاح عن المراد بالتفويض في كلامكم وبيان أنه تفويض الكيفية لا المعنى الحقيقي لئلا يعتقد القارئ أنكم تريدون تفويض المعنى الذي هو من شر أقوال أهل البدع والإلحاد لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة التي ذكر بعضها شيخ الإسلام في كلامه هذا.
ولا يكفي في الإفصاح عن ذلك قولكم: "والإيمان به على مراد الله"، فإن مراد الله على رأي المفوضين للمعنى غير معلوم لهم، وإن كان هو معلوماً لغيرهم حيث يؤمنون بأن الله تعالى أراد بها المعنى الحقيقي الذي يدل عليه اللسان العربي الذي نزل به القرآن لكنه على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل.
وقولكم: "إن مذهب السلف يتلخص في شيئين: أحدهما: تأويل ما لابد من تأويله" إلخ قول غير صحيح، فإن السلف بحمد الله لم يكونوا يؤولون شيئاً من نصوص الصفات عن ظاهره كما يفعله أهل التأويل، وإنما كانوا يجرونها على حقيقتها وظاهرها على ما أراده الله ورسوله. وقد تقدم ما نقلناه عن ابن عبد البر، والقاضي أبي يعلى من حملها كلها على الحقيقة وأنه لا يجوز التشاغل بتأويلها.
وقد ذكر فضيلتكم في ص ... وما بعدها من العدد ... أمثلة ذكرتم أنه لابد من تأويلها وسوف نذكرها ونبين بحول الله وهدايته أنه ليس فيها من تأويل أهل التعطيل شيء حتى يمكن أن تكون حجة لهم على أهل الإثبات بالموافقة أو المداهنة كما قلت أنت في ص ... عدد ... بالحرف الواحد: "فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل".
ونحن نجيب عن الأمثلة التي ذكرتم بجوابين مجمل ومفصل:
* أما المجمل: فإن التأويل الذي سلكه النفاة صرف اللفظ عن ظاهره لصارف من عند أنفسهم لا يدل عليه سياق الكلام، والتأويل الذي سلكه أهل الإثبات في بعض ما ذكرتموه ليس صرفاً للكلام عن ظاهره لأن في سياقه ما يدل على المعنى المراد، ولا ريب أن ظاهر الكلام ما دل عليه سياقه بحسب الوضع اللغوي أو حال المتكلم عنه.
* وأما المفصل: فالمثال الأول قوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء}، ذكر فضيلتكم أنها مؤولة إلى معنى القصد والإرادة، ولا ريب أن هذا المعنى قال به طائفة من أهل السنة وذلك من أجل تعدية الفعل بـ: (إلى) الدالة على الغاية والانتهاء، والفعل قد يضمن معنى يخالف المعنى المشتق منه من أجل الحرف المعدى به، ألا ترى قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله}، حيث كان الفعل {يشرب} بمعنى (يروى) من أجل تعديه بـ (الباء)، وعلى هذا فليس في الكلام صرف عن ظاهره لوجود دليل في السياق يقتضي هذا المعنى.
والقول الثاني لأهل السنة أن {استوى} بمعنى ارتفع كما نقله البغوي في تفسيره عن ابن عباس، وأكثر المفسرين تمسكاً بظاهر معنى الفعل وتفويضاً لكيفية هذا الارتفاع إلى الله تعالى والله أعلم.
- المثال الثاني والثالث: قوله تعالى في سورة الحديد: {وهو معكم أينما كنتم}، وقوله في سورة المجادلة: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}، ذكر فضيلتكم أن السلف أولوا المعية إلى معنى العلم، ثم ذكرتم تعليل ذلك في آية سورة الحديد بأنه كيف يكون الله تعالى على عرشه وهو مع كل إنسان في كل مكان، وذكرتم في آية المجادلة أن السلف لم يفسروها بمعية الذات لئلا تتعدد الذات الإلهية.
ولا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه، وهم بذلك لم يؤولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى ذكرها في سورة المجادلة بين علمين فقال في أول الآية: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض}، وقال في آخرها: {إن الله بكل شيء عليم}، فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفي عليه شيء من أحوالهم.
الثاني: أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات فقال: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}، إلى قوله: {وهو معكم أينما كنتم}، فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم علماً وبصراً، لا أنه معهم بذاته في كل مكان وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضاً.
الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ولهذا يمكن أن نقول: هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته كما قال تعالى لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى}، وقال هنا في سورة الحديد: {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}، فإذا كان العلم من لوازم المعية صح أن نفسرها به وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال ولا يعد ذلك خروجاً بالكلام عن ظاهره.
على أن من المحققين من علماء أهل السنة من فسر المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى وقال: لا يمتنع أن يكون الله تعالى معنا حقيقية وهو على عرشه حقيقة كما جمع الله تعالى بينهما في آية سورة الحديد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 142 من المجلد الثالث من مجموع الفتاوى لابن قاسم: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة"، وقال قبيل ذلك: "وليس معنى قوله: { وهو معكم} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته هو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وقال في الفصل الذي يليه ص 143:"وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه".أ.هـ.
وقال في الفتوى الحموية ص 102 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن القاسم: "ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك (يعني مما جاء في الكتاب والسنة) يناقض بعضه بعضاً البتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وهو معكم أينما كنتم}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه"، ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع بينهما في قوله: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}، فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: "والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه"، وذلك أن كلمة: "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك بالمعنى، فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا، ويقال: "هذا المتاع معي لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة".أ.هـ.
وليس تفسير المعية بمعناها الحقيقي اللائق بالله تعالى بمناف لما فسرها به السلف من العلم، فإن العلم من لوازم معناها، ولازم المعنى منه فلا يناقض حقيقته.
وتفسير المعية بمعناها الحقيقي لا يقتضي أن الله تعالى حال مع خلقه في أمكنتهم، ولا يدل على ذلك بأي وجه من وجوه الدلالة، ولا يفهم ذلك منه إلا من غلظ طبعه عن معرفة اللغة، وحجب قلبه عن تعظيم الله تعالى ومعرفة ما يجب له من الكمال والجلال، ولم يفهم أحد من السلف عن معية الله لخلقه هذا الفهم الخاطئ الضال، وإنما فهمه الحلولية الذين لم يقدروا الله حق قدره من قدماء الجهمية وغيرهم، ولا ريب أن من اعتقد ذلك في الله تعالى فهو كافر أو ضال، ومن نقله عن غيره من السلف أو الأئمة فهو كاذب.