المبحث الرابع: المصالح المترتبة على الرق:
قد تخفى على الناس الحكم التي أودعها الله في بعض تشريعاته، فإن لله حكماً كثيرة في شرائعه كلها حتى في عقوباته، ومن ذلك ما ذكره ابن خلدون في "مقدمته" في بيان الحكمة في قوله تعالى: (إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) حيث قال:
(ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب.
ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم) أ.هـ باختصار يسير.
وإنما قدمنا كلام ابن خلدون ليكون مثالاً على أن كل شيء في الإسلام له حكمة، حتى طريقة العقوبة الإلهية فإنه يقصد بها إصلاح الفرد والمجتمع.
ومن ذلك نظام الرق في الإسلام فإنه نظام بديع في غايته ووسائله، يختلف عن سائر أنظمة الرق في الغايات والوسائل، وله ثمار كريمة ومصالح عظيمة ومحاسن كثيرة منها:
1- أنها نوع عقوبة من الله لهؤلاء الكفار لأنهم فروا من العبودية لله، فابتلاهم الله بالعبودية للمخلوق.
2- أن مخالطة الرقيق للمسلمين أدت إلى إسلام كثير منهم عن قناعة ومحبة للإسلام، فكان الرق أعظم نعم الله عليهم إذ هو السبب في هدايتهم، ومن تتبع سير علماء المسلمين وقادتهم وجد الكثير منهم ممن أسلم من الموالي ثم سادوا بعد إسلامهم، وهذا من المقاصد العظيمة والغايات الكريمة، ولو لم يكن للرق إلا هذه الثمرة لكانت كافية.
فتبين من هذا أن نظام الاسترقاق في الإسلام أفضل بكثير من نظام القتل الذي بعد انتهاء المعارك التي تسلكه الكثير من الأنظمة، لأن هذا فيه دعوة الكافر إلى الاختلاط بالمسلمين والتعرف على هذا الدين الذي يدعون إليه ويقاتلون من أجله، ولهذه العلة أيضاً قَبِل الإسلام من الكفار الجزية مقابل أن يعيشوا بين أوساط المسلمين، ليعرفوا حقيقة هذا الدين ويتأملوا في محاسنه عن قرب.
قال الشنقيطي في "أضواء البيان": (ولو فرضنا - ولله المثل الأعلى - أن حكومة من هذه الحكومات التي تنكر الملك بالرق، وتشنع في ذلك على دين الإسلام، قام عليها رجل من رعاياها كانت تغدق عليه النعم، وتسدي إليه جميع أنواع الإحسان، ودبر عليها ثورة شديدة يريد بها إسقاط حكمها، وعدم نفوذ كلمتها، والحيلولة بينها وبين ما تريده من تنفي أنظمتها، التي يظهر لها أن بهما صلاح المجتمع، ثم قدرت عليه بعد مقاومة شديدة فإنها تقتله شر قتلة، ولا شك أن ذلك القتل يسلبه جميع تصرفاته وجميع منافعه، فهو أشد سلباً لتصرفات الإنسان ومنافعه من الرق بمراحل) أ.هـ
فما أحلى هذه الشريعة وما أعظمها لو كان هؤلاء يفقهون أسرارها وحقائقها.
3- أنه تخفيف عظيم عن الدولة المسلمة وبيت مال المسلمين، فأسرى الحروب يحتاجون إلى سجون ونفقات، وحراسهم يحتاجون إلى أجور كبيرة، بخلاف الرقيق في الإسلام فإنه يقوم سادتهم بكفالتهم في جميع ما يحتاجون، بدون أي أعباء على الدولة.
4- التوسعة على الأسر المسلمة بتوفير خدم يعملون لهم بدون أي مقابل سوى إطعامهم من طعام البيت وإسكانهم معهم.
5- الرق من أسباب إبقاء الزوجة الحرة التي تزوجها زوجها للدين والخلق، فإنه إذا لم يعجبه جمالها أو كانت مريضة، فله أن يشتري أمة حسناء يقضي منها وطره، ويبقي على زوجته.
6- السراري سبب عظيم من أسباب إعفاف الرجل المسلم، ففيه وقاية المجتمعات من الزنا، لأنه يحل مشكلة الذين لا يجدون طول المحصنات من الشباب المسلم حيث أحل الله له ملك اليمين.
7- أنه نوع من أنواع تخويف أعداء الإسلام وإحاطة الإسلام بهيبة عظيمة فوق ما هو عليها، فإن الكفار إذا علموا أن من وقف لجيوش التوحيد كان جزاؤه أن يكون رقيقاً خافوا من الوقوف في وجهه، ولهذه العلة نجد الكفار يشنون اليوم حرباً ظروساً على الرق.