تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا لم يدم رد ابن رشد على الغزالي بشأن "تهافت الفلاسفة"؟


gatboulerbah
2009-01-27, 00:06
http://www.alarabonline.org/data/2009/01/01-26/430p.jpg




لماذا لم يدم رد ابن رشد على الغزالي بشأن "تهافت الفلاسفة"؟

العرب أونلاين- د. عماد الدين الجبوري*: بعد أن طالع الفلسفة لسنتين في بغداد كتب الإمام أبو حامد الغزالي "1059-1111" مؤلفه "مقاصد الفلاسفة" يُظهر به إلمامه بفلسفة أفلاطون وأرسطو وأتباعهم الفارابي وابن سينا.

وكان هدفه ينحصر في تبيان أخطائهم وضلال مذاهبهم التي تبحث في ما وراء الطبيعة. ثم أعقبه كتاب "تهافت الفلاسفة" الذي حدد فيه عشرين مسألة يشكك فيها في براهين الفلاسفة.

ولقد نقدهم بقساوة لا تخلو من الشتم واللعن وصلت إلى حد تكفير الفارابي وابن سينا في ثلاث مسائل هي: القول بقِدم العالم، وإن الله لا يعلم الجزئيات، وفي تأويل المعاد الجسماني. وبهذا العمل وجه الغزالي ضربة عنيفة للفلسفة استمرت لأكثر من ثمانية عقود من الزمن "1095-1180".

وطيلة هذه الفترة الزمنية لم يتمكن أحد من مفكري وفلاسفة الإسلام أن يرد على كتاب الغزالي، بل أخذت فيها الفلسفة بالانكماش التدريجي، وتراجع الاحترام الاجتماعي للمشتغلين فيها، حتى جاء القاضي أبو الوليد ابن رشد "1126-1198" فرد بكتابه "تهافت التهافت" على المسائل العشرين، حيث دحض حجج الغزالي وأبطل التكفير بحق الفارابي وابن سينا وأعاد للفلسفة اعتبارها.

ورغم أنه في حالات قليلة يؤيد موقف الغزالي، إلا أن مهاجمته له كانت شديدة وحادة حيث يصفه بضعف البرهان وركاكة الحجة، ويتهمه في تغير وتبديل أقوال الفلاسفة ويأخذ ما يلائمه ويهمل ما لا يعجبه. بل إن ابن رشد قد نعت الغزالي بالشرير الجاهل وبالخبث والسفسطة وأخرجه من نطاق الفلسفة، وهي ألفاظ لا تليق به ولا يستحقها الغزالي، وربما أراد بها أن يرد حتى على نابية الغزالي المحدودة.

يقول ابن رشد في مطلع كتابه: إن "الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان". "ص، 55".

وهنا سنتناول المسائل الثلاث: قِدم العالم والسببية والنفس، التي ركز عليها الغزالي في هجومه على الفلاسفة. وكذلك نعرج على مسألة التأويل والمعاد الجسماني، لأن رد ابن رشد لم يقتصر في "تهافت التهافت" بل أيضاً في كتابه الصغير بحجمه والكبير بعلمه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" الذي سبق التهافت بوقت قصير، وكذلك في كتابه "مناهج الأدلة في عقائد الملة".

مسألة التأويل
رغم أن التأويل يعود إلى أفلوطين الذي استخدمه في قضية التوفيق بين الدين والفلسفة، وسار على منواله معظم فلاسفة الإسلام، إلا أن ابن رشد يعد الأكفأ في هذا المجال، ففي كتابه "فصل المقال" وضع للتأويل شروطاً مبدئية وأقيسة منطقية قسم مراتب الناس على ضوئها: الخطابيون وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأقاويل الخطابية، الجدليون وهم علماء الكلام الذين يرتفعون قليلاً عن العامة. البرهانيون وهم الطبقة الخاصة حيث يطبعهم البرهان والحكمة.

ويرى ابن رشد أن تكفير الغزالي للفارابي وابن سينا ليس بالأمر القطعي، إذ أن: في الشرع أشياء أجمعَ المسلمون على حملها على ظواهرها، وأشياء على تأويلها، وأشياء اختلفوا فيها: فهل يجوز أن يؤدّي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره، أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟

أمّا لو ثبت الإجماع بطريق يقيني، فلا يصح، وأما إن كان الإجماع ظنياً، فقد يصحّ، وحسب رأي ابن رشد أن الغزالي وبقية علماء الكلام قالوا: إنه لا يُقطَع بكفر من خرق الإجماع في التأويل إذ لا يُتصوَّر في ذلك إجماع مستفيض. وإذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل، فإن تكفير الفارابي وابن سينا ليس صحيحاً.

بينما "أبو حامد قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافت". في حين أن الغزالي قد: صرّح في كتاب "التفرقة" أن التكفير في خرق الإجماع فيه احتمال، فالظاهر من قوله في ذلك أن تكفيره إياهما ليس قطعاً.

ويشير ابن رشد إلى أن الغزالي قد أخطأ بحق الفلاسفة في ما نسب إليهم من أنهم يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات، فهم يرون أنه يعلمها بعلم غير متجانس لعلمنا بها، علمنا بها معلول للمعلوم به، فهو محدَث ومتغيَّر بتغيّره، وعلم الله على مقابل هذا، فإنه علّة للمعلوم الذي هو الموجود.

فمن شبّه العلِمين أحدهما بالآخر، فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصّها واحداً، وذلك غاية الجهل. فأسم العلِم، إذا قيل على العلم المحدَث والقديم، فهو مّقول باشتراك الأسم المحض، ولهذا ليس ههنا حدّ يشمل العلِمين جميعاً، كما توهّمه المتكلمون من أهل زماننا.

كيف يتوهّم الغزالي على الفلاسفة أنهم يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات بالعلم القديم، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمّن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبّر للكل والمستولي عليه؟

وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن، بل ولا الكليات: إن الكليات المعلومة عندنا معلولة أيضاً عن طبيعة الموجود، والأمر في ذلك العلم بالعكس. فما قد أدّى إليه البرهان للاختلاف في هذه المسألة أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم.

مسألة قِدم العالم
ينص ابن رشد على أن "تقدم الله على العالم إنما هو تقدم الوجود والذي ليس بمتغير ولا زمان، على الوجود المتغير الذي في الزمان، وهو نوع آخر من التقدم". "تهافت التهافت ص، 140".

بمعنى أن الله ليس من شأنه أن يكون في زمان، فهو الخالق لكل شيء موجود، فلا ينطبق على أفعاله تعالى شيء مما يخلقه. بينما العالم شأنه أن يكون في زمان، وبالتالي ينطبق عليه الزمن، لأنه مادي متحرك. فإن: لم توجد الحركة لم يوجد الزمن، إذ الزمن هو مقياس الحركة، والحركة تابعة للعالم.

وهكذا يكون هناك نوعان من الوجود حسب تصور ابن رشد، أحدهما مادي تكون "في طبيعته الحركة" ولا ينفك عن الزمان، والآخر لا مادي حيث "ليس في طبيعته الحركة" ويكون أزليا ولا يتصف بالزمان، ولذلك فإن تقدم أحد الوجودين على الآخر ليس تقدماً زمنياً.

وإذا قال الغزالي: "إن تقدم الباري سبحانه على العلم ليس تقدماً زمانياً" فإنه قول صحيح. ولكن تأخر العالم عنه لا يُفهم في هذه الحالة إلا تأخر المعلول عن العلة، فإذا كان التقدم ليس زمانياً، فالتأخر ليس زمانياً أيضاً. "ص، 141".

فعندما ينص الغزالي على أن الله خلق العالم في زمن بإرادة قديمة، يرد عليه ابن رشد قائلاً: إن جاز فصل للإرادة عن العمل، فإنه لا يجوز فصل العلّة عن المعلول لعلته، فالله أزليّ بوجوده، وفعله لا ينفصل عن وجوده، ففعله بالتالي أزلي مثله، ومعلولات فعله أزلية كفعله.

يشير ابن رشد قائلاً: إذا سلّمنا مع الغزالي أن الزمان لم يكن قبل العالم، فذلك يعني أن الله كان قبل العالم خارج الزمان وسيظل بعد العالم خارج الزمان، فلن يكون الله إذن أبدياً أبداً في الزمان وهذا محال.

وبما أن العامة من الناس يستسيغون أكثر إلى الوصف المادي، لذا فإن: الشرع قد سلك بالجمهور طريق التمثيل بالشاهد، وإن لم يكن لذلك مثال في الشاهد، إذ لا يمكن للجمهور أن يتصوروا على كنهه ما ليس له مثال في الشاهد، فأخبر تعالى أن خلقه للعالم وقع في زمان وإنه خلقه من شيء، لأنه لا يُعرف في الشاهد موجود إلا بهذه الصفة، فقال سبحانه مخبراً عن حاله قبل وجود العالم: "وكان عرشه على الماء"، وقال تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام". وقال أيضاً: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" الخ. فيجب ألاَّ يُتأول شيء من هذا للجمهور وإلا بطلت الحكمة الشرعية. "مناهج الأدلة، ص 205".

ومن أجل حصر الاختلاف في هذه المسألة بين المتكلمين والفلاسفة، يجعله ابن رشد اختلافاً في التسمية ليس إلا. وذلك أنهم اتفقوا على أن ههنا ثلاثة من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.

الطرف الأول هو موجود وُجد من شيء غيره، أي عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يُدرّك تكونها بالحس، كتكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. وقد اتفق الجميع على تسمية هذا الصنف من الموجودات بالموجودات المُحدثة، "فصل المقال، ص 40".

والطرف المقابل لهذا هو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدّمه زمان. وهذا أيضاً اتّفق الجميع على تسميته قديماً. وهذا الموجود إنما يدرك بالبرهان، وهو الله فاعل وموجده والحافظ له.

أما الصنف الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه، لكنه موجود على شيء، أي عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متّفق على وجود هذه الصفات الثلاث له. فإن المتكلمين يسلّمون بأن الزمان غير متقدّم على العالم، أو يلزمهم ذلك إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضاً متّفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناهٍ، وكذلك الوجود المستقبل.

وإنما يختلفون في الزمن الماضي والوجود الماضي: المتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته، أما أرسطو وفرقته فيرون أنه غير متناهٍ كالحال في المستقبل.

وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً لأن المحدث الحقيقّي فاسدٌ ضرورةً، ولا قديماً حقيقياً لأن القديم الحقيقي ليس له علّة، وهذا ما حمل أفلاطون وشيعته على تسميته "محدثاً أزلياً" لكون الزمان متناهياً عندهم من الماضي.

وهكذا فالمذاهب في العالم ليست متباعدة حتى يُكفّر بعضها بعضاً، فلا ينبغي للمسلمين إذن أن يتخذوا من هذا الخلاف اللفظي سبباً لإلقاء التهم جزافاً بلا مبرر، ويشبه أن يكون المختلفين في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين. "ص 41".

إن ابن رشد يحاول في مسألة قِدم العالم أن يجعل الاختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين الأشعرية وعلى رأسهم الغزالي مجرد اختلاف باللفظ ليس إلا، وهذه محاولة تهدف إلى التبرير لا التحليل، حيث يبغي ابن رشد من ورائها أن يجمع بين الشرع والحكمة ضمن مسار واحد، علاوة على أنه قد أخذ بنظرية أرسطو في أزلية المادة.

أي أن الخلق الإلهي حسب المفهوم الرشدي يكون بتحريك تلك المادة لإخراجها من القوة إلى الفعل، فإن الله "مخترع" يخلق الأشياء من المادة الموجودة، وهذا انتقاص تجاه الحقيقة الإلهية في القدرة المطلقة على الخلق من العدم.

مسألة السببية
في هذه المسألة يقف كل من ابن رشد والغزالي على طرفي نقيض، فبالنسبة إلى الغزالي: أن الاقتران بين ما يُعرف بالسبب وما يُعرف بالمسبَّب إنما هو اقتران عرّضي جائز، مرده إلى حكم العادة، لا إلى الضرورة العقلية.

إن الفلاسفة الذين يقولون بالسببية لا دليل لهم عليها إلا ما يشاهدون من اقتران بين الأسباب والمسبَّبات، لكن هذه المشاهدة لا تدل على حصول الشيء بالشيء المقترّن به، بل على حصوله عنده، وشتان بين الاثنين، فما نرى من تلازم بين السبب والمسبَّب ليس ضرورياً إذن وإنما هو وليد العادة فقط لأن الله قادر على خرق العادة متى شاء، وعندئذ يرتفع الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً وبين ما يُعتقد مسبَّباً، وهو ما يحدث في المعجزات.

يرد عليه ابن رشد قائلاً: إن "للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قِبَلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم تكن له طبيعة تخصه، ولو لم تكن له طبيعة تخصه لِما كان له اسم يخصه ولا حدّ، وكانت الأشياء كلها شيئاً واحداً ولا شيئاً واحداً.

لأن ذلك الواحد يسأل عنه: هل له فعل واحد يخصه، أو ليس له ذلك، فإن كان له فعل يخصه فهنا أفعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة، وإن لم يكن له فعل يخصه واحد، فالواحد ليس بواحد، وإذا ارتفعت طبيعة الواحد، ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود، لزم العدم". "تهافت التهافت، ص 782-783".

ويضرب ابن رشد مثلاً على طبيعة الأشياء المادية، حيث أن: الماء له طبيعة تخصه وهو كونه مادة سائلة بها يكون الرّي والرطوبة، والنار لها طبيعة أخرى تخصها وهو كونها جسم شفاف به يكون الإحراق والضوء. فلو لم يكن لكل من النار والماء طبيعة تخصه لِما كان فعل يخصه، ولكان الماء والنار شيئاً واحداً.

وهكذا فإن السببية تقوم على المشاهدة وليس على الضرورة العقلية، لأن الفعل والانفعال بين الأشياء إنّما يقعان بإضافة من الإضافات التي لا تتناهى، كإضافة الجسم الحسّاس إلى النار للاحتراق، لكن هذا لا يمنع من أن يكون هنالك موجود يعوق تلك الإضافة كحجر الطلق في عدم الاحتراق.

إن السببية هي تعبير أساسي لطبائع الأشياء المادية وللعقل وللمنطق أيضاً، ولذلك يقول ابن رشد: أن "العقل ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها. وبه يفترق عن سائر القوى المدركة. فمّنْ رفعَ الأسباب فقد رفع العقل.

وصناعة المنطق تضع وضعاً أنّ ههنا أسباباً ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسبّبات لا تكون على التمام إلاّ بمعرفة أسبابها، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له، فإنه يلزم أن لا يكون ههنا شيء معلوم أصلاً علماً حقيقياً؛، بل إن كان فمظنون، ولا يكون ههنا برهان ولا حدّ أصلاً. وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التي منها تأتلف البراهين. ومن يضع أنه ولا علم واحد ضروري، يلزمه أن لا يكون قوله هذا ضرورياً". "ص،785".

ليس هذا فحسب، بل يرى ابن رشد أن: مَن جحد الأسباب فقد جحد الصانع الحكيم "الله"، وجعل وجود المسبَّبات عن الأسباب بالاتفاق وبغير مقصد، فلا تكون هناك حكمة أصلاً ولا تدل على صانع بل إنما تدل على الاتفاق.

فقول الغزالي أن الله أجرى العادة بهذه الأسباب قول بعيد جداُ عن مقتضى الحكمة، بل هو مبطل لها لأن المسببات إن كان لها يمكن أن توجد من غير هذه الأسباب فأي حكمة في وجودها عن هذه الأسباب؟ وأي دلالة فيها على الصانع؟

فلو لم يكن شكل يد الإنسان وعدد أصابعها ومقدارها ضرورياً في الإمساك الذي هو فعلها وفي احتوائها على جميع الأشياء المختلفة الشكل وموافقتها لإمساك آلات جميع الصنائع، لكان وجود أفعال اليد عن شكلها وعدد أجزائها ومقدارها هو بالاتفاق، ولكان لا فرق بين أن يُخص الإنسان باليد أو الحافر، وبالجملة متى رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن هناك شيء يُردُّ به على القائلين بالاتفاق، أعني الذين يقولون لا صانع هنا. "مناهج الأدلة، ص 199-200".

وحسب رأي ابن رشد أن إنكار الأسباب من قِبل زعيم الأشعرية الغزالي وكذلك بقية المتكلمين من المذهب الأشعري، إنما هو الهروب من القول بفعل القوى الطبيعية في الموجودات، ولئلا يدخل عليهم القول بأن ههنا أساباً فاعلة غير الله.

وهيهات! فلا فاعل ههنا إلا الله، وأن ما سواه من الأسباب التي سخرها ليست تسمى فاعلة إلا مجازاً، إذ كان وجودها إما هو به وهو الذي صيرها أسباباً، بل هو الذي يحفظ وجودها في كونها فاعلة، ويحفظ مفعولاتها بعد فعلها، وهو المخترع لجواهر جميع الأشياء التي تقترن بها أسبابها لأنه يعلمها، وعلمه بها هو العلة في وجودها وفي وجود جميع ما يلزم عنها وفي حفظ وجودها في نفسها.

إلا أن إثبات السببية عند ابن رشد قادته إلى إنكار المعجزات والخوارق. فالطبيعة ثابتة "لا يمكن أن تتغير" أبداً. ولكي لا ينقض معجزات الأنبياء في فلق البحر وأحياء الموتى وغيرها، فإنه قسم المعجز إلى نوعين: الأول برّاني يخص الجمهور، الثاني مشترك بين العلماء والجمهور على حد سواء. وهذا الموقف يعتبر تسويق لفكرة وليس غوص في المعرفة.

روحانية النفس
من جملة اعتراضات الغزالي على الفلاسفة هو تأكيدهم على قدرة العقل على إثبات روحانية النفس، حيث أورد لهم عشرة أدلة، دحضها كلها مبيناً عجزهم "عن إقامة البرهان العقلي على أن النفس الإنسانية جوهر روحاني قائم بنفسه، غير متحيز، وليس بجسم". وفند ابن رشد جميع الأدلة التي أوردها الغزالي، وسنذكر منها ثلاثة فقط هي: الأول والخامس والتاسع.

في الدليل الأول يذهب ابن رشد إلى القول إن: كل ما هو في جسم فهو يقبل الانقسام. وإذا صح هذا، فعكس نقيضه صادق، وهو أن ما لا يقبل الانقسام فليس يحل في جسم. وهذا بيّن في أمر المعقولات الكلية، فهي ليست تقبل الانقسام أصلاً، إذ كانت ليست صوراً شخصية، فبين أنه يلزم عنه أن المعقولات ليس محلها جسماً من الأجسام، ولا القوة عليها قوة في جسم، فلزم أن يكون محلها قوة روحانية، تدرك ذاتها وغيرها. "تهافت التهافت، ص 826".

أما الغزالي فقد: أخذ النوع الواحد من نوعي الانقسام، ونفاه عن المعقولات الكلية، عاند بالقسم الثاني الموجود في قوة البصر، وقوة التخيل فاستعمل في ذلك قولاً سفسطائياً، حسب تشخيص ابن رشد.

وفي الدليل الخامس الذي يشير فيه الغزالي إلى: " إنه يجوز أن تخرق العادة، فيبصر البصر ذاته، فقول في غاية السفسطة والشعوذة" حسب رأي ابن رشد. إذ لا يمكن أن تنخرق العادة فيبصر البصر ذاته، فقول الغزالي إنه لا يبعد أن يكون إدراك جسماني يدرك نفسه، ولكن إذا عرف الوجه الذي حركهم إلى هذا، علم امتناع هذا.

ذلك أن الإدراك شيء يوجد بين فاعل ومنفعل، وهو المدرّك والمدرِك. ويستحيل أن يكون الحس فاعلاً ومنفعلاً في آن واحد. فإذا وجد فاعلاً ومنفعلاً فمن جهتين: أعني أن الفعل يوجد له حينئذ من جهة الصورة، والانفعال من قِبل الهيولي. فالمركَّب لا يعقل ذاته، لأن ذاته تكون غير الذي به يعقل، فهو يعقل بجزء من ذاته، فلو عقل المركَّب ذاته، لعاد المركَّب بسيطاً، وعاد الكل جزءً. "ص 841".

في الدليل التاسع يعترف أبن رشد قائلاً: أن "اعتراض أبي حامد على هذا الدليل صحيح"، حيث أن هذا الدليل لم يستعمله أحد من القدماء في إثبات بقاء النفس، وإنما استعملوه ليبرهنوا على أن في الأشخاص جوهراً باقياً من الولادة إلى الموت، وأن الأشياء ليست في سيلان دائم، كما اعتقد الكثير من القدماء فنفوا المعرفة الضرورية.

المعاد الجسماني
يتفق ابن رشد مع الغزالي في الردّ على الذين ينكرون خلود النفس، إلا أنه ينفي عن الفلاسفة إنكارهم لمسألة حشر الأجساد. وإذا ما وجد لواحد منهم هذا الأمر ففيه نظر يقوم على فكرة: أن أجسام الموتى تستحيل إلى تراب ونبات وأناس آخرين، فالمادة الواحدة بعينها توجد لأشخاص كثيرة في أوقات مختلفة.

ومثل "هذه الأجسام ليس ممكن أن توجد كلها بالفعل لأن مادتها هي واحدة"، فالأجسام التي تعود هي مثل الأجسام التي كانت في هذه الدار، لا بعينها، لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الموجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم، ذلك أن ما عدم عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع، لا واحد بالعدد بل اثنان بالعدد. وقضية عودة الأجسام بعينها ليست من أصل الشرع ليكّفر من لا يعتقد بها، والغزالي نفسه جوّز عودتها من مادّتها الأولى أو غيرها.

ويوضح ابن رشد على أن مسالة المعاد التي اتفقت على وجوده الشرائع الدينية وقامت علية البراهين الفلسفية يكون بغير ما نص عليه الغزالي، حيث اختلفت الشرائع في صيغة وجوده: فمنها من جعله روحانياً فقط، ومنها من جعله للأجساد والنفوس معاً.

والشرائع كلها متفقة على أنّ للنفوس بعد الموت أحوالاً من السعادة أو الشقاء، لكنها تختلف في تمثيل هذه الأحوال وتفهيم وجودها للناس، ويشبه أن يكون تمثيل المعاد لجمهور الناس بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، لأن ذلك أتم إفهاماً للجمهور وأكثر تحريكاً للنفوس.

صفوة القول عند ابن رشد أنه يميل أكثر تجاه المعاد الجسماني عن المعاد الروحاني لأنه يؤمن في وحدة النفس البشرية التي تخلد فيها النفوس الجزئية أو الفردية. ورغم إنه هنا لا يرضي الشرع الإسلامي، إلا أنه يرضي فكره الفلسفي في النفس الإنسانية وغيرها من القضايا والمسائل الفكرية. وكان الأجدر به وهو القاضي الفقيه أن لا يُسَير الفلسفة على حساب الدين، كما سَير الإمام الغزالي الدين على حساب الفلسفة.

لماذا لم يدم رد أبن رشد؟
إن الجهد الفكري الهائل الذي أنفقه ابن رشد في المجالين الفلسفي والديني لكي يعيد اللحمة فيما بينهما وينهي حالة الجفاء والقطيعة التي أحدثها الغزالي، لم يكن بالأمر الصعب بالنسبة لرجل كان إمام عصره في العلم والفلسفة.

وهكذا كان ابن رشد ناجحاً ومتمكناً في إعادة قيمة الفلسفة للعقل العربي، وأبطل شرعاً قضية تكفير الغزالي للفارابي وابن سينا. وتمكن بكل جدارة أن يتوسط في فكره ويجمع بتوافقية مذهلة بين المادية والمثالية، ولكن عمله هذا لم يحقق تلك الاستمرارية الواجبة لها داخل المجتمع العربي.

ولم تنتشر أفكاره بحرية مستمرة حتى في المغرب العربي، بدليل تعرضه لنكبة في أواخر حياته، حيث رموه بالمروق والخروج على الدين. وانتهى الأمر بنفيه من قرطبة واعتقاله في بلدة اليسانة، وتم إحراق كتبه التي تبحث في الفلسفة.

وهذا الوضع له أسبابه ومن أهمها حسب تصورنا هي:
أولاً: إن الرد الذي جاء به ابن رشد يعتبر متأخراً جداً لاسيما في المشرق العربي، حيث التقهقر الحضاري صار واضحاً وبدأت شمس العلوم تغرب عن العرب. وهذه العملية طبيعية حيث تخضع إلى حركة التاريخ السائرة في جميع الشعوب والأمم. وبالتالي لم يؤثر فيهم رد ابن رشد ولا فلسفته ذلك التأثير الملحوظ.

أما قول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل عن "الفلاسفة العرب" بشكل عام إنه: "كان ينظر إليهم العامة من الناس بتعصب وتزمت، وكانت سلامتهم "عندما يكونوا في أمان" وفق حماية نسبية من الأمراء المفكرين الحرين". "تاريخ الفلسفة الغربية، طبيعة إنكليزية، ص 417". فهذا قول قاصر عن فهم حقيقة المرحلة التاريخية في الفكر الفلسفي الإسلامي.

ثانياً: لقد نال ابن رشد حظوة ومكانة مميزة في دولة الموحدين، فهو طبيب الخليفة الخاص، وتولى منصب القضاء بقرطبة، وينتقل دائماً مع بلاط الخليفة سواء بمراكش أو الأندلس. وهذا المقام يساعده أكثر في نشر أفكاره وآرائه. ومع ذلك فإن ابن رشد تاريخياً بقي القطب الثالث بعد القطبين ابن باجة وابن طفيل.

وهذا يعني أن رده وأفكاره لم تستثمر تماماً في المغرب العربي. والسبب لأن صراعه الفكري الحاد كان مع علماء وفقهاء المتكلمين من الأشاعرة الذين يمثلون مذهب الدولة الرسمي، فلا عجب أن اتهموه بالإلحاد والبُدع والخروج عن الملة. ولا غرابة أيضاً أن يحرقوا مؤلفاته الفلسفية فقط؛ ويتركون كتبه في الطب والحساب وعلم النجوم.

ثالثاً: إن النقطة الأخيرة توضح لنا أكثر عن السبب الآخر في خنق الرد الرشدي على الأشعري الغزالي، إذ في الوقت الذي استمرت فيه في مؤلفاته الطبية والعلمية بالتداول والدراسة، كانت نتاجاته الفلسفية رماداً منثورا.

لا تعصباً لدين بقدر ما كانت نقمة وحسدا وغيضا تجاه ابن رشد الذي ملك ناصية العلم والفلسفة بكفاءة قل نظيرها، وإلا ما معنى أن يتهمونه بالإلحاد ويحافظون على كتبه الطبية والعلمية.


ـــــــــــــــــــ
* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في لندن

hamadiphilo
2009-01-27, 19:04
بارك الله فيك اخي و جازاك الله :19:خيرااااااااااااا:19:

gatboulerbah
2009-01-27, 19:08
بارك الله فيك اخي و جازاك الله :19:خيرااااااااااااا:19:


الشكر لك ..

دمت...

nebrase
2009-02-05, 18:53
شكرا وننتظر المزيد

gatboulerbah
2009-02-05, 19:30
شكرا وننتظر المزيد

الشكرلك على التفاعل

دمت...