تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : النافذة


sollo44
2012-06-02, 13:13
اكتظت قاعة الانتظار بالمرضى ، و ارتفعت أصوات الأهات و الألام كأنه جو مأتم ،القاعة نوعا ما ضيقة تتوسطها طاولة خشبية بنية فوقها كومة كبيرة من المجلات و الجرائد ، و لكن عجبا : من بمقدوره المطالعة و هو يكابد ألام الرأس و الظهر أو أوجاع المعدة ؟؟ ....على طول أركان القاعة تراصفت الكراسي الخشبية القديمة و على الكراسي تهالكت أجساد المرضى في مشهد تراجيدي يوحي بالأخرة ، و هذا شاب تصدرمن فمه أصوات تمطق جراء علكة يلوكها ، و ذاك كهل يمسك أسفل ظهره بكلتا يديه و هو مقطوع الأنفاس ، بينما راح طفل صغير يعبث بجريدة مدلاة من الطاولة حيث لاح منها عنوان كبير : " قاتل الأطفال في السجن " ......
في القاعة نافذة صغيرة تطل على الشارع ، أضلافها خشبية مدهونة بلون أزرق مثل لون البحر أو لون السماء ، و من أعلى النافذة تدلت الستائر البيضاء كخيوط الفجر الساحرة ، و لكن من بعيد تبدت على الستائر البيضاء بقع صفراء جراء مسح المرضى أنوفهم عليها ، و فجأة هبت نسمة من الريح فاقتحمت القاعة و عبثت بالستائر و الأضلاف الخشبية حتى طارت أوراق الجرائد و لامست السقف ، جاء الممرض مسرعا و أغلق النافذة في لهوجة و خرج مسرعا كما دخل .
صاح أحد المرضى :
- أكاد أختنق .... أريد من أحدكم أن يفتح النافذة حتى نفوز بدفق من الهواء منعش .
فرد عليه أخر :
- مجنون من يفتح النافذة في هذا الجو البارد .... نحن هنا من أجل الشفاء أصلا .
و ارتفع صوت جهوري ينادي في حكمة :
- فلتخزوا الشيطان يا جماعة .... ما جاء بنا هنا غير المرض .
..... سادت لحظة من الصمت المكان حتى لم يكد يسمع شيئ و لكن أحد المرضى قال متندرا :
- من النافذة كانت أسراب الذباب و الناموس تغزو بيتي ، فتحرمني غصبا من ساعات نوم كنت إليها في حاجة مسيسة ،و ذلك جراء العمل و ساعاته المضنية و لم أتمكن من القضاء عليها حتى برش المبيدات ، كنت أمسك قارورة المبيد و أرشها في الأجواء حتى تدمع عيوني ، أواصل الرش بضراوة حبا في انهاء هذه المأساة ،و لكن أسراب الناموس سرعان ما تعاود هجومها فتحكم علي بقضاء ليلتي مسهدا معذبا كأن غرفتي هي واحدة من غرف جهنم ....و في الأخير اقتنيت من السوق شبكا بلاستيكيا أخضر اللون و ثبته على النافذة من الجهة الخارجية و هكذا ارتحت من وجع الدماغ .
ضحك الجميع من حكاية الرجل ، فتناسوا آلامهم أو هكذا بدا ،و بدأت حالة من النشوة و الهذر تسيطر على القاعة فقال شيخ كبير في انتشاء :
- من النافذة كنت أطل على حديقتي الخلفية في امتنان ، أفنيت عمرا و أنا أكافح من أجل جعلها جنة خضراء وارفة الظلال ، ذكرياتي فيها هي الماء و التراب و ضرب المعاول ، فقد كانت لي رسالة كنت أود أن أتركها للأجيال و هي بأن يحرص كل واحد على تأدية مهامه في الحياة على أكمل وجه حتى يموت و هو راض على نفسه ، و من خلال هذا المعتقد حرثت الأرض و زرعت الزرع حتى وهنت قوايا و إذا بمجهوداتي تولد على الأرض جنة مفعمة بالحياة و السحر و الجمال ، و هاك أنا كلما نظرت إلى حديقتي من النافذة شعرت بانطباع مغمور بالرضا عن نفسي.
فسأله أحد المرضى :
- و هل الرضا يجلب السعادة للنفوس ؟
فقال باسما :
- نعم يا ولدي ، سعادة كبيرة تقهر حتى أعتى الأمراض .
و قال في الحين الشاب الذي كان يمضغ العلكة :
- أما أنا فمع النافذة لي حكاية ، فقد أحببت فتاة طيبة تسكن في بيت بديع من طوابق ثلاثة ، و لم يكن لي و أنا الشاب الضائع المتعثر من حيلة لرؤيتها سوى عبر النافذة ، طفت حول بيتها ليوم كامل و هي من أعلى البيت تطل علي بنظرتها الساحرة و ترمي إلي بالرسائل و الهدايا ، كان حبي شريفا و نزيها لذلك و على الرغم من البعاد فقد جادت النافذة علي بلحظات من الحب و الأنس و الوداعة ، و قررت بعد زواجي منها أن نعيش في بيت تكثر فيه النوافذ على الأبواب .
هتف أحد الحاضرين فجأة :
- لم يأت الطبيب بعد و قد قارب اليوم على الإنتصاف .
فأجابه صديقه مازحا :
- أسكت يا رأس التيس، ما حاجتنا لطبيب و مجلسنا هذا يطفح بالذكريات الصادقة ؟
فقال الشيخ في هدوء :
- الذكريات هي الماضي ، و من ليس له ماض فهو بلا مستقبل .. ما في ذلك من شك .
فمضى الرجل الأخر يعدل من جلسته و هو يقول :
- كم أشعر بتحسن كبير ..... لشد ما ارتفعت المعنويات .
و في الحين عربد رجل ظل صامتا الوقت كله :
- أولاد الحرام ..... لعنة الله عليهم ، لقد استغلوا انشغالي بعرس صهري ، و انتهزوا فرصة غيابي عن البيت فطبقوا خطة محكمة وذلك بدخولهم عبر النافذة ، يا للصوص هذا الزمن، حتى مع فقدان المروءة فقدوا حسن الأخلاق و الشهامة ، لقد هجموا على البيت ليلا ،و سرقوا في جملة ما سرقوا منه : التلفاز و الثلاجة و الأفرشة و أحذية الصبيان ، و لم يكتفوا بذلك بل تبولوا على الحيطان قبل هروبهم نكاية في أهلي جميعا فكيف لا يمرض الإنسان في هذا الزمان بأغرب الأمراض ؟؟
و من توه قال الطفل الصغير :
- أنا لا أستطيع النوم و النافذة مفتوحة ، أخاف أن يتربص بي الجني فيقفز علي أثناء نومي و يخنقني بقبضته الفاجرة ،عندما تتراقص الستائر و الشراشف أمامي يخيل إلي أن أرواحا شريرة تحاول العبث معي ، و أنا طفل صغير بلا حول و لا قوة ، أحاول الصراخ و لكن خوفي من " صفعات " أمي يحول بيني و بين الصراخ ، كانت تصرخ بكل حزم : كفاك من الترهات و ارقد كما يرقد الرجال أيها الرجل الصغير .
............. و بينما احتدم حوار المرضى و احتوتهم نشوة الخطاب اللذيذة العارمة جاء الممرض و بدأ ينادي على المرضى واحدا واحدا و كأنه سيقودهم إلى النطع ، أعطى كل واحد منهم رقما مكتوبا على كرتونة و قال بلهجة الآمر :
- احفظوا أرقامكم فالطبيب لم يأت بعد ..... و لكل دوره حين يأتي الطبيب .
انصرف الجميع دون مبالاة لكلام الممرض فقد شعروا بأن جو المزاح الذي عاشوه خفف عنهم وطأة المرض و السقم ، فابتسموا من القلوب و راحوا يقطعون الأرقام و يرمونها بعيدا ، بينما فتح الممرض النافذة و راح ينادي على بياع الجرائد لاقتناء و احدة .

حـبـيـبو عـبـدو السوفي
2012-06-05, 07:33
باااااااااارك الله فيك أخي الكريم وجزيت عنا كل الخير