تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : البحث عن الحلقة المفقودة من كتاب هارون يحي(الدارونية القديمة)


زينــــب101
2009-01-20, 19:45
البحث عن الحلقة المفقودة
تناولنا بالبحث في جزء سابق كيف أن مدونات الحفريات لم تقدم الدّعم الذي كان ينتظره مذهب التطور. أما الجزئية المهمة التى لم نتطرق إليها بالبحث بعد، فهي الحفريات الخاصة بالإنسان. فقد تناول داروين موضوع أصل الإنسان في كتابه الذي حمل عنوان "نشأة الانسان" (The Descent Of Man)، وليس في كتاب أصل الأنواع الذي سبق ذلك بـ 12 عاماً. و يرى داروين أن الإنسان يحتل المرتبة الأعلى بين مراتب التطور المزعومة، وأن الجدّ أو السلف الأول له هو من فصيلة الرئيسيات التي تشبه القرود في وقتنا الحاضر.
و لم يكن عند داروين أيضاً أي دليل يدعم به وجهة نظرة تلك. و كان الشيء الوحيد الذي فعله هو أنه تخيل وجود علاقة قرابة بين الانسان و القرود، تلك الكائنات الحية الأنسب في عالم الحيوان لأنها الأشبه بالإنسان من الناحية الفيزيائية. و زعم في كتابه أن بعض "الأجناس البدائية" التي تعيش على سطح الأرض قد شكلت دليلا على صحة نظرية التطور. (بيد أن الأبحاث الجينية التي جرت في يومنا الحاضر أوضحت جلياً للعيان أن النظرة العنصرية التى ذهب إليها داروين وغيره من أنصار نظرية التطور لم تكن صحيحة).
لقد فكّر داروين في أن يقوم بالبحث عن الحفريات التي تثبت للمؤيدين لنظريته هذه التطور المزعوم، و ذلك فقا لما زعمه من حيث أن الانسان و القرود قد انحدروا من جد واحد. و اعتباراً من الرّبع الأخير من القرن التاسع عشر توجه كل اهتمام علم الحفريات من أجل هذا الهدف. وبدأ أنصار مذهب التّطور من علماء الحفريات عمليات الحفر أملا في العصور على "الحلقة المفقودة" التي زعم داروين أنها موجودة بين القرد و الانسان.
وفي عام 1910 ظهر في أنجلترا الاكتشاف الكبير الذي طالما تمنوا ظهوره. وكان عبارة عن جمجمة " إنسان بلتداون" التى قدمت بعد ذلك وطوال 43 عاما إلى العالم على أنها دليل مهم للغاية على صحة نظرية التطور. وقد استخرجت الحفرية من قبل أحد علماء الحفريات غير المحترفين ويُدعى تشارلز داوسون، ولهذا السّبب أطلق عليها اسم Eoanthropus dawsoni. والحقّ يُقال فحفريّةEoanthropus dawsoni تلك هي بالفعل حفرية غريبة: ففي الوقت الذي نرى فيه أن الجزء العلوي من الجمجمة يشبه تماما مثيله عند الإنسان، نجد أن منطقة الذّقن لدى شبيهة بتلك الموجودة عند القرود. لهذا نال هذا الاكتشاف شهرة واسعة في فترة وجيزة. وفي الوقت نفسه ادعى الانجليز بكل فخر و اعتزاز كبيرين أن الحفرية التي تم الحصول عليها في انجلترا إنما تعود إلى الجدّ الأعلى لأجناسهم. وكان يُنظر إلى التكوين الكبير للجمجمة إلى أنه مؤشر على تطور "الذكاء الانجليزي" للسّابقين. وفي السّنوات التي تلت ذلك كُتبت مئات من الرّسائل العلمية كلها كانت بخصوص حفرية Eoanthropus dawsoni واقتنع مئات الآلاف من زوار المتحف البريطانى الذي كانت تعرض فيه الحفرية بموضوع "تطور الانسان".
غير أنه كان هناك شيء وحيد جهلوا به: هذا الشيء هو أن هذه الحفرية كانت نتاجا من الخيال و التزييف. فقد ظهر نتيجةً للأبحاث التي أجريت في عام 1953 على الجمجمة ذاتها أن حفرية إنسان بلتداون عبارة عن حفرية مزيفة تكونت نتيجة اتحاد عظام بشرية و عظام سِعْلاة. ووسط دهشة الرأي العام العارمة تم إخراج أكبر دلائل التطور المزعومة من المتحف البريطاني الذي عُرضت فيه بعناية شديدة لعشرات السنوات.
وفي العشرينات من القرن العشرين حدثت فضيحة أخرى وإن كانت أصغر من بلتداون. ففي عام 1922 تم تقييم الأسنان التي وجدت في ولاية نيبراسكا في الولايات المتحدة الأمريكية على أنها تخص حفرية تمثل شكلاً وسيطاً بين الإنسان والقرد، وتجاوز الأمر موضوع الأسنان ونسجت خيالات جديدة، وفي هذه المرّة عن "إنسان نيبراسكا"، إلاّ أنه ظهر فيما بعد أن هذه الأسنان لم تكن تخص أياّ من الإنسان ولا القرود، بل كانت بعض من أسنان خنزير بري. وعلى الرّغم من هذا الإخفاق الكبير فلم ييئس أنصار التّطور واستمروا في البحث عن الحفرية التي تثبت صحة آرائهم في موضوع أصل الإنسان. ومع الوقت انتشرت وجهة نظر أخرى مفادها أن القردة المنقرضة التي أطلق عليها اسم سعلاة الجنوب هي أقدم جدّ للإنسان. ورسخت في الأذهان صورة التطور على أنها عبارة عن تسلسل لنوع سعلاة الجنوب بدءاً من الإنسان اللَّقِن (Homo habilis) والإنسان رودولفانسيس (Homo rudolfensis) والانسان منتصب القامة (Homo erectus) وصولا إلى الإنسان الحالي أيّ الانسان الموجود الآن. فتبنت الكتب الدراسية و المجلات العلمية و المنشورات والصحف اليومية والأفلام و حتى الأفلام الدّعائية نفسها تبنت صورة "سلسلة القردة التي اختفت تدريجياً"، بل وتداولتها لعشرات السنوات دون أن يكون أي تساؤل أو غرابة يبديها أحد.
باختصار، لقد لقيت الفكرة التي فسرت أصل الإنسان وفقاً لنظرية التّطور قبولا وانتشاراً خلال فترة طويلة من القرن العشرين.
غير أن الحقائق كانت مغايرة لذلك تماماً، فلا يوجد ثمة حفرية واحدة تتوافق مع ما ذهبت إليه نظرية التطور. والأكثر من ذلك أنهم كلما اكتشفوا حفريات جديدة كلما تعقدت المسألة و تعذر ايجاد حل لها. وفي النهاية بدأت بعض الجهات من ذوي الصلاحيات الاعتراف بالحقيقة. وقد تحدث في هذا الموضوع العديد من علماء الحفريات ويأتي على رأس العلماء الأمريكان "نيلز ايلدريدج" Niles Eldredge من جامعة هارفارد و "لان تاترصال" Lan Tattersal من متحف تاريخ الشرق الأمريكي ولهما تصريحات مهمة في هذا الخصوص:
"لقد أصبحت الفكرة التي تقول بأن تاريخ تطور الكائنات الحياة عبارة عن مسألة أو قضية استكشافية أصبحت مجرد خرافة. فلو كان بهذا الشكل و وجدنا حفريات كثيرة لكائنات شبيهة بالإنسان لكان من الضروري أن تتحول حكاية التطور إلى شكل أكثر وضوحاً. غير أنّ الحقيقة هي أنه عندما كان يحدث شيء كان يحدث شيء آخر على النقيض تماما من الأول". 30 ****
وفي مقال له نُشر عام 1995 عبر ريتشارد ليونتِن Richard Lewontin البروفيسور في جامعة هارفارد وهو واحد من أهم الأسماء في نظرية التطور عبر عن حالة اليأس التي وقع فيها مذهب التطور و قال:
"عندما نفكر في الماضي السّحيق وصولا إلى ما قبل نوع الإنسان العاقل "الإنسان المُعاصر صاحب أكبر سعة عقلية ابتكارية" تقابلنا مدونات حفرية مشوشة غير كاملة. وعلى الرّغم من الادعاءات المتفائلة والمفعمة بالحماس من جانب بعض علماء الحفريات، إلا أننا لم نتمكن حتى الآن من إيجاد نوع شبيه بالإنسان على الإطلاق والتسليم بشكل مباشر بأن هذا النوع هو جدنا المباشر". 31 ***
وقد صرّح في السّنوات الأخيرة عدد كبير جدّا من أنصار نظرية التطور المتخصصين في الموضوع بأنه لم يعد لديهم سوى أفكار متشائمة لأبعد الحدود بخصوص النظرية التي دافعوا عنها في الأساس. مثال هؤلاء هنري جي Henery Gee المحرر العلمي في مجلة "الطبيعة" Nature الشهيرة الذي تحدث عن هذا الموضوع قائلاً:
"إنّ الرّسم البياني لتطور الإنسان و المعتمد على علاقات الجدّ بالحفيد أو السلف بالخلف هو في حقيقة الأمر مجرد اختراع و ابتكار إنساني بنى على آراء مسبقة صاغها الناس... إنّ عملية أخذ مجموعة من الحفريات والقول بأنها تعكس وجود سلسلة قرابة هي في الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها للاختبار، وكل ما في الامر انها مجرد حكاية أو حدوته من احاجي منتصف الليل المسلية التي قد تكون مُوَجِّهَةً أو مُرْشِدَةً للانسان في كثير من الأحيان إلا أنها ومع ذلك لا تستند لأيّ أساس علمي". 32 ****
وتجري في يومنا الحاضر التساؤلات ولكن بشكل جدي عن قالب "شجرة أصل الانسان" التقليدية. و نتيجة لذلك أعلن العلماء الذين قاموا ببحث القرائن والأدلة بمنأى عن أيّ أحكام مسبقة أن الخط الذي وضعه أنصار التطور ليصل بين سعلاة الجنوب والإنسان العاقل لم يكن سوى خط متكلَّف تماما. أما الأنواع المختلفة مثل الإنسان اللَّقِن والإنسان منتصب القامة فلم تتعد كونها مجرد نسج من الخيال. وفي مقالة لهما نشرت لهما في عام 1999 في مجلة العلم دافع كل من برنارد وود Bernard Wood، وهو من علماء الحفريّات التطوريين و مارك كولارد Mark Collard عن كون تصنيفات الإنسان اللَّقِن و Homo rudolfensis مجرد خيال وأنه لابدّ وأن تكون الحفريات التي اُدمجت في هذه التصنيفات قد انتقلت إلى نوع سعلاة الجنوب.33
أما ميلفورد ولبوف من جامعة ميتشجان و آلان ثورن من جامعة كانبيرا فيرون أن الإنسان منتصب القامة ليس إلا تصنيفا خياليا لا وجود له و أن الحفريات التي أدمجت في هذا التصنيف هي عبارة عن الإنسان العاقل. 34 ****
وهذا يعنى أنه لا يوجد "شبيه بالإنسان" غير نوع الإنسان العاقل فقط، أي الإنسان المعاصر الذي يضم الإنسان في يومنا الحاضر و الاختلافات العرقية فيه إلى جانب سعلاة الجنوب التي هي أحد أنواع القردة المنقرضة. أي أنه لا يوجد أصل تطوري للانسان. و يرى بعض من المتخصصين الذين أدركوا هذه الحقيقة أن حكاية "تطور الإنسان" ليست إلاّ عملا كتابيا اجتهد فيه أولئك الذين يعتقدون في الفلسفة المادية لكتابة تاريخ الطبيعة وفقاً لأهوائهم وآرائهم العقائدية. وفي هذا الموضوع أيضا تحدث جون دورانت المؤرخ في جامعة أكسفورد وذلك في إحدى الاجتماعات الخاصة بجمعية التطور العلمي الأنجليزية (( British Association for the Advancement of Science ) ، وكان تعليقه على النحو التتالي: " تُرى، هل من الممكن أن تعمل نظريات تطور الإنسان على تقوية الأنظمة القيميّة للّذين يخلقون أنفسهم وهو الأمر الذي يشبه تماما ما يحدث في الأساطير القديمة، وهي تقوم في الوقت ذاته بعكس معتقداتهم التي تتعلق بهم أنفسهم و بالمجتمع حول الماضي؟ " 35 ***
وفي كتابة أخرى له تحدث "دورانت" عن هذا الموضوع مرة أخرى على النّحو التالي: "إنّ الأفكار الخاصة بتطور الإنسان هي في واقع الأمر موضوع يدعو إلى التساؤل بشيء من الريبة و الشك عما اذا كانت هذه الأفكار قد اضطلعت بدور أو أدت وظيفة في المجتمعات قبل ظهور العلم أو في المجتمعات العلمية... و إذا بحثنا الموضوع عن كثب يتضح لنا في كل مرة أن الأفكار التي تتعلق بأصل الانسان هي انعكاس للحاضر أيضا تماما مثل الماضي، وأنها انعكاس لخبراتنا مثلما هي انعكاس لخبرة أجدادنا في الماضي... نحن في حاجة ماسة و عاجلة إلى عدم الدفع بالعلم إلى دائرة الخرافة". 36****
باختصار، إن نظريات التطور الخاصة بأصل الانسان و نشوئه، لا تؤدي أي وظيفة أخرى غير كونها انعكاساً لبعض الأحكام المسبقة و المعتقدات الفلسفية الخاصة بمن ابتدعوا هذه النظريات فقط. و"جيفري كلارك" Geoffrey Clark هو أحد علماء الأنثروبولوجيا في جامعة أريزونا ستيت ِArizona State، وهو من أنصار نظرية التطور المؤيدين لهذه الحقيقة. ويتحدث كلارك في إحدى كتاباته التي نشأت عام 1997 على هذا النحو: "نحن نختار واحدة من نتائج بحث جماعي موجود أمامنا وفق افتراضاتنا الخاصة وأحكامنا المسبقة – وهي عملية سياسية وذاتية أي غير موضوعية في الوقت ذاته - ... إنّ علم الباليوأنثروبولوجيا (العلم الذي يبحث في أصول الإنسان القديمة) له الصفة العلمية من النّاحية الشكلية فقط وليس من ناحية المضمون".37 ***