ابو اكرام
2009-01-20, 12:43
هل حِفظُ البصرِ محصورٌ بِغَضِّهِ عن البَشَرِ ؟
______________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
نحمده سبحانه، المعبود بحق، وكل ما قاله صدق، لكمال صفاته؛ كان له علينا حق العبودية بالقلب والبدن، الرأس مع اليدين، واللسان مع العينين، لا إله غيره، مَن سواه له هذا؟! لا إله إلا هو.
وإنّ مِن عبادة جارحة العين ما هو مشهور عِلمًا، وهو علامةُ الصالحين والصالحات عملاً، وأعني بهذا عبادة غض البصر، فمِن أهميتِها؛ خُصّ الأمرُ بها الرجالُ والنساء كلٌّ على حدة، مع أن كثيرًا مِن الأوامر تدخل فيها المرأةُ بالتَّبَع، فقال تعالى في آية: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...} (النور: 30)، ثم أتبعها بآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...} (النور: 31)
وبيّن لنا سبحانه أننا مسؤولون عن البصر فقال:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (الإسراء: 36)
قال العلامة السعدي رحمه الله :
"أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، فحقيق بالعبد الذي يَعرف أنه مسئول عمّا قاله وفعله وعمّا استعمل به جوارحَه التي خلقها اللهُ لعبادته؛ أن يُعِدّ للسؤال جوابًا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله، وإخلاص الدين له، وكفِّها عما يكرهه اللهُ تعالى". ا. هـ
ويذكّرنا سبحانه بأنه ليس كمثله شيء؛ فالبشر قد يُغافَلون ويخادَعون، أما هو سبحانه وتعالى فـ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19)
قال العلامة السعدي رحمه الله:
"{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ} وهو النظر الذي يُخفيه العبدُ مِن جليسه ومُقارِنه، وهو نَظَرُ المسارَقة، {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} مما لم يبيّنه العبدُ لغيره، فالله تعالى يَعلم ذلك الخفيّ، فغيره مِن الأمور الظاهرة مِن باب أَولى وأَحرى". ا.هـ
هذا؛ ومِن دقيق عبودية العين: ما أَمَرَ اللهُ عز وجل به في موضعين مِن كتابه العظيم:
الأول : في أواخر سورة الحِجر:
{وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}
والثاني: في أواخر سورة طه:
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}
والجامع بينهما: { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ }
قال العلامة السعدي رحمه الله في الموضع الأول:
"يقول تعالى ممتنًّا على رسوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } وهن -على الصحيح- السور السبع الطوال: " البقرة " و " آل عمران " و " النساء " و " المائدة " و " الأنعام " و " الأعراف " و " الأنفال " مع " التوبة " أو أنها فاتحة الكتاب؛ لأنها سبع آيات، فيكون عطف " القرآن العظيم " على ذلك مِن باب عطف العام على الخاص؛ لكثرة ما في المثاني مِن التوحيد، وعلوم الغيب، والأحكام الجليلة، وتثنيتها فيها.
وعلى القول بأن " الفاتحة " هي السبع المثاني؛ معناها: أنها سبع آيات، تثنى في كل ركعة.
وإذا كان الله قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني؛ كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأعظم ما فرح به المؤمنون، { قُلْ بفضْلِ اللهِ وبرحمته فبذلك فلْيَفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}، ولذلك؛ قال بعده: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } أي: لا تُعْجَبْ إعجابًا يَحملك على إشغالِ فِكْرِكَ بشهواتِ الدنيا التي تَمَتَّع بها المتْرَفون، واغترَّ بها الجاهلون، واستغنِ بما آتاك الله مِن المثاني والقرآن العظيم". ا.هـ
وقال رحمه الله في الموضع الثاني، والذي فيه تبيان لأمثلةٍ مما يُحظَر مدّ العين إليه:
"أي: لا تمد عينيك مُعْجَبًا، ولا تُكرِّرِ النَّظَرَ مُسْتَحْسِنًا إلى أحوالِ الدنيا والممَتَّعين بها، مِن:
· المآكل والمشارب اللذيذة،
· والملابس الفاخرة،
· والبيوت المزخرفة،
· والنساء المجملة؛
فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوسُ المغترّين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعْرِضين، ويتمتع بها - بقطع النظرِ عن الآخرة - القومُ الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل مُحبِّيها وعُشَّاقها، فيَندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قَدِموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا؛ لِيَعْلم مَن يقف عندها ويغترّ بها، ومَن هو أحسن عملاً كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}.
{وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل مِن:
· العلم
· والإيمان
· وحقائق الأعمال الصالحة
والآجل مِن:
· النعيم المقيم
· والعيش السليم في جوار الرب الرحيم
{خَيرٌ} مما متعنا به أزواجًا، في ذاته وصفاته، {وَأَبْقَى}؛ لكونه لا ينقطع، أُكلها دائم وظلها كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى مِن نفسه طموحًا إلى زينة الدنيا وإقبالاً عليها؛ أن يذكِّرها ما أمامها مِن رزق ربه، وأن يوازن بين هذا وهذا". ا.هـ
لعل الجواب عن السؤال - الذي هو العنوان – قد بدأ يتجلى الآن؟
نزيد:
نصوصٌ مِن كلامِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تؤكد هذا المعنى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
رواه مسلم (أول كتاب الزهد والرقائق).
قال الإمام النووي رحمه الله :
" مَعْنَى ( أَجْدَر ) أَحَقّ ، وَ ( تَزْدَرُوا ) تُحَقِّرُوا . قَالَ اِبْن جَرِير وَغَيْره : هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؛ طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى ، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ . هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس . وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا؛ ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ، فَشَكَرَهَا ، وَتَوَاضَعَ ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر ". ا.هـ
وقال الشيخ المباركفوري - رحمه الله - في "تحفة الأحوذي":
قَوْلُهُ : ( اُنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكُمْ ) أَيْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا
( وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ) فِيهَا
( فَإِنَّهُ ) أَيْ فَالنَّظَرُ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ لا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقُ
( أَجْدَرُ ) أَيْ أَحْرَى
( أَنْ لا تَزْدَرُوا ) أَيْ بِأَنْ لا تَحْتَقِرُوا. وَالازْدِرَاءُ: الاحْتِقَارُ فَكَانَ أَصْلُهُ: الازْتِرَاءَ، فَأُبْدِلَتْ التَّاءُ بِالدَّالِ.
( نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا اِسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَكَانَ سَبَبًا لِمَقْتِهِ ، وَإِذَا نَظَرَ لِلدُّونِ شَكَرَ النِّعْمَةَ وَتَوَاضَعَ وَحَمِدَ . فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لا يَنْظُرَ إِلَى تَجَمُّلِ أَهْلِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ الرَّغْبَةِ فِيهَا. وَمِصْدَاقُهُ : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ". ا.هـ
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)
رواه الترمذي وغيره، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (2881)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذا الحديث:
"فهذا يعمّ التركَ لِما لا يعني: مِن الكلام والنـظر والاستماع والبطش والمشي والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة".
"مدارج السالكين" (2/ 21) دار الكتاب العربي، ط 2، 1393هـ
وفي "تحفة الأحوذي":
" قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِ "جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحَكَمُ" فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ :
مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ ، وَاقْتِصَارُهُ عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ
وَمَعْنَى (يَعْنِيهِ) أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ
وَالْعِنَايَةُ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ ، يُقَالُ: عَنَاهُ يَعْنِيهِ : إِذَا اِهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ.
وَإِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ؛ اِقْتَضَى تَرْكَ مَا لا يَعْنِيهِ كُلَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِيهِ الْمُسْلِمُ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ. اِنْتَهَى مُخْتَصَرًا .
قَالَ الْقَارِي فِي مَعْنَى (تَرْكه مَا لا يَعْنِيهِ) : أَيْ مَا لَا يُهِمُّهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَنَظَرًا وَفِكْرًا .
وَقَالَ : وَحَقِيقَةُ (مَا لَا يَعْنِيهِ) : مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ضَرُورَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ بِدُونِهِ مُمْكِنًا، وَهُوَ فِي اِسْتِقَامَةِ حَالِهِ بِغَيْرِهِ مُتَمَكِّنًا ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْأَفْعَالَ الزَّائِدَةَ، وَالْأَقْوَالَ الْفَاضِلَةَ . قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَحَدُّ مَا يَعْنِيك أَنْ تَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا لَوْ سَكَتّ عَنْهُ لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ فِي حَالٍ وَلَا مَالٍ .
وَمِثَالُهُ: أَنْ تَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ فَتَحْكِيَ مَعَهُمْ أَسْفَارَك، وَمَا رَأَيْت فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ ، وَمَا وَقَعَ لَك مِنْ الْوَقَائِعِ ، وَمَا اِسْتَحْسَنْته مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ ، وَمَا تَعَجَّبْت مِنْهُ مِنْ مَشَايِخِ الْبِلَادِ وَوَقَائِعِهِمْ ، فَهَذِهِ أُمُورٌ لَوْ سَكَتّ عَنْهَا؛ لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ ، وَإِذَا بَالَغْت فِي الِاجْتِهَادِ حَتَّى لَمْ يَمْتَزِجْ بِحِكَايَتِك زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا تَزْكِيَةُ نَفْسٍ مِنْ حَيْثُ التَّفَاخُرُ بِمُشَاهَدَةِ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ ، وَلَا اِغْتِيَابٍ لِشَخْصٍ ، وَلَا مَذَمَّةٍ لِشَيْءٍ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَيِّعٌ زَمَانَك ، وَمُحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِك؛ إِذْ تَسْتَبْدِلُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ؛ لِأَنَّك لَوْ صَرَفْت زَمَانَ الْكَلَامِ فِي الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ؛ رُبَّمَا يَنْفَتِحُ لَك مِنْ نَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ ، وَلَوْ سَبَّحْت اللَّهَ؛ بَنَى لَك بِهَا قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ . وَهَذَا عَلَى فَرْضِ السَّلَامَةِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي كَلَامِ الْمَعْصِيَةِ ، وَأَنْ لَا تَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. اِنْتَهَى ". ا.هـ
واستنبط شيخ الإسلام رحمه الله من قوله تعالى: { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } فوائد عظيمة، ذكر منها:
"أَن لا يَرْكَنَ إلَيْهِمْ وَلا يَمُدَّ عَيْنَهُ إلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ السُّلْطَانِ، وَالْمَالِ، وَالشَّهَوَاتِ كَقَوْلِهِ : {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ...".
"مجموع الفتاوى" (14/ 480- 482 )
وقال رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (15/ 397 – 399):
"وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}يَتَنَاوَلُ النَّظَرَ إلَى:
· الأَمْوَالِ
· وَاللِّبَاسِ
· وَالصُّوَرِ
· وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا
أَمَّا اللِّبَاسُ وَالصُّوَرُ؛ فَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمَا، كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا }
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُمَتِّعُ بِالصُّوَرِ كَمَا يُمَتِّعُ بِالْأَمْوَالِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَكِلَاهُمَا يَفْتِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَرُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى .
وَالْهَلْكَى رَجُلَانِ:
فَمُسْتَطِيعٌ وَعَاجِزٌ
· فَالْعَاجِزُ : مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ وَمَـدِّ الْعَيْنِ إلَيْهِ
· وَالْمُسْتَطِيعُ : مَفْتُونٌ فِيمَا أُوتِيَ مِنْهُ، غَارِقٌ، قَدْ أَحَاطَ بِهِ مَا لا يَسْتَطِيعُ إنْقَاذَ نَفْسِهِ مِنْهُ .
وَهَذَا الْمَنْظُورُ قَدْ يُعْجِبُ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا كَمَا يُعْجِبُهُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَاسْتِمَاعِ قَوْلِهِمْ، فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِمْ، وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يُعْجِبُ السَّامِعِينَ" انتهى المراد.
يتبع
إن شاء المولى تعالى
______________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
نحمده سبحانه، المعبود بحق، وكل ما قاله صدق، لكمال صفاته؛ كان له علينا حق العبودية بالقلب والبدن، الرأس مع اليدين، واللسان مع العينين، لا إله غيره، مَن سواه له هذا؟! لا إله إلا هو.
وإنّ مِن عبادة جارحة العين ما هو مشهور عِلمًا، وهو علامةُ الصالحين والصالحات عملاً، وأعني بهذا عبادة غض البصر، فمِن أهميتِها؛ خُصّ الأمرُ بها الرجالُ والنساء كلٌّ على حدة، مع أن كثيرًا مِن الأوامر تدخل فيها المرأةُ بالتَّبَع، فقال تعالى في آية: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...} (النور: 30)، ثم أتبعها بآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...} (النور: 31)
وبيّن لنا سبحانه أننا مسؤولون عن البصر فقال:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (الإسراء: 36)
قال العلامة السعدي رحمه الله :
"أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، فحقيق بالعبد الذي يَعرف أنه مسئول عمّا قاله وفعله وعمّا استعمل به جوارحَه التي خلقها اللهُ لعبادته؛ أن يُعِدّ للسؤال جوابًا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله، وإخلاص الدين له، وكفِّها عما يكرهه اللهُ تعالى". ا. هـ
ويذكّرنا سبحانه بأنه ليس كمثله شيء؛ فالبشر قد يُغافَلون ويخادَعون، أما هو سبحانه وتعالى فـ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19)
قال العلامة السعدي رحمه الله:
"{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ} وهو النظر الذي يُخفيه العبدُ مِن جليسه ومُقارِنه، وهو نَظَرُ المسارَقة، {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} مما لم يبيّنه العبدُ لغيره، فالله تعالى يَعلم ذلك الخفيّ، فغيره مِن الأمور الظاهرة مِن باب أَولى وأَحرى". ا.هـ
هذا؛ ومِن دقيق عبودية العين: ما أَمَرَ اللهُ عز وجل به في موضعين مِن كتابه العظيم:
الأول : في أواخر سورة الحِجر:
{وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}
والثاني: في أواخر سورة طه:
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}
والجامع بينهما: { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ }
قال العلامة السعدي رحمه الله في الموضع الأول:
"يقول تعالى ممتنًّا على رسوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } وهن -على الصحيح- السور السبع الطوال: " البقرة " و " آل عمران " و " النساء " و " المائدة " و " الأنعام " و " الأعراف " و " الأنفال " مع " التوبة " أو أنها فاتحة الكتاب؛ لأنها سبع آيات، فيكون عطف " القرآن العظيم " على ذلك مِن باب عطف العام على الخاص؛ لكثرة ما في المثاني مِن التوحيد، وعلوم الغيب، والأحكام الجليلة، وتثنيتها فيها.
وعلى القول بأن " الفاتحة " هي السبع المثاني؛ معناها: أنها سبع آيات، تثنى في كل ركعة.
وإذا كان الله قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني؛ كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأعظم ما فرح به المؤمنون، { قُلْ بفضْلِ اللهِ وبرحمته فبذلك فلْيَفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}، ولذلك؛ قال بعده: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } أي: لا تُعْجَبْ إعجابًا يَحملك على إشغالِ فِكْرِكَ بشهواتِ الدنيا التي تَمَتَّع بها المتْرَفون، واغترَّ بها الجاهلون، واستغنِ بما آتاك الله مِن المثاني والقرآن العظيم". ا.هـ
وقال رحمه الله في الموضع الثاني، والذي فيه تبيان لأمثلةٍ مما يُحظَر مدّ العين إليه:
"أي: لا تمد عينيك مُعْجَبًا، ولا تُكرِّرِ النَّظَرَ مُسْتَحْسِنًا إلى أحوالِ الدنيا والممَتَّعين بها، مِن:
· المآكل والمشارب اللذيذة،
· والملابس الفاخرة،
· والبيوت المزخرفة،
· والنساء المجملة؛
فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوسُ المغترّين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعْرِضين، ويتمتع بها - بقطع النظرِ عن الآخرة - القومُ الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل مُحبِّيها وعُشَّاقها، فيَندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قَدِموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا؛ لِيَعْلم مَن يقف عندها ويغترّ بها، ومَن هو أحسن عملاً كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}.
{وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل مِن:
· العلم
· والإيمان
· وحقائق الأعمال الصالحة
والآجل مِن:
· النعيم المقيم
· والعيش السليم في جوار الرب الرحيم
{خَيرٌ} مما متعنا به أزواجًا، في ذاته وصفاته، {وَأَبْقَى}؛ لكونه لا ينقطع، أُكلها دائم وظلها كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى مِن نفسه طموحًا إلى زينة الدنيا وإقبالاً عليها؛ أن يذكِّرها ما أمامها مِن رزق ربه، وأن يوازن بين هذا وهذا". ا.هـ
لعل الجواب عن السؤال - الذي هو العنوان – قد بدأ يتجلى الآن؟
نزيد:
نصوصٌ مِن كلامِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تؤكد هذا المعنى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
رواه مسلم (أول كتاب الزهد والرقائق).
قال الإمام النووي رحمه الله :
" مَعْنَى ( أَجْدَر ) أَحَقّ ، وَ ( تَزْدَرُوا ) تُحَقِّرُوا . قَالَ اِبْن جَرِير وَغَيْره : هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؛ طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى ، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ . هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس . وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا؛ ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ، فَشَكَرَهَا ، وَتَوَاضَعَ ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر ". ا.هـ
وقال الشيخ المباركفوري - رحمه الله - في "تحفة الأحوذي":
قَوْلُهُ : ( اُنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكُمْ ) أَيْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا
( وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ) فِيهَا
( فَإِنَّهُ ) أَيْ فَالنَّظَرُ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ لا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقُ
( أَجْدَرُ ) أَيْ أَحْرَى
( أَنْ لا تَزْدَرُوا ) أَيْ بِأَنْ لا تَحْتَقِرُوا. وَالازْدِرَاءُ: الاحْتِقَارُ فَكَانَ أَصْلُهُ: الازْتِرَاءَ، فَأُبْدِلَتْ التَّاءُ بِالدَّالِ.
( نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا اِسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَكَانَ سَبَبًا لِمَقْتِهِ ، وَإِذَا نَظَرَ لِلدُّونِ شَكَرَ النِّعْمَةَ وَتَوَاضَعَ وَحَمِدَ . فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لا يَنْظُرَ إِلَى تَجَمُّلِ أَهْلِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ الرَّغْبَةِ فِيهَا. وَمِصْدَاقُهُ : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ". ا.هـ
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)
رواه الترمذي وغيره، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (2881)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذا الحديث:
"فهذا يعمّ التركَ لِما لا يعني: مِن الكلام والنـظر والاستماع والبطش والمشي والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة".
"مدارج السالكين" (2/ 21) دار الكتاب العربي، ط 2، 1393هـ
وفي "تحفة الأحوذي":
" قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِ "جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحَكَمُ" فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ :
مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ ، وَاقْتِصَارُهُ عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ
وَمَعْنَى (يَعْنِيهِ) أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ
وَالْعِنَايَةُ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ ، يُقَالُ: عَنَاهُ يَعْنِيهِ : إِذَا اِهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ.
وَإِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ؛ اِقْتَضَى تَرْكَ مَا لا يَعْنِيهِ كُلَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِيهِ الْمُسْلِمُ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ. اِنْتَهَى مُخْتَصَرًا .
قَالَ الْقَارِي فِي مَعْنَى (تَرْكه مَا لا يَعْنِيهِ) : أَيْ مَا لَا يُهِمُّهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَنَظَرًا وَفِكْرًا .
وَقَالَ : وَحَقِيقَةُ (مَا لَا يَعْنِيهِ) : مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ضَرُورَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ بِدُونِهِ مُمْكِنًا، وَهُوَ فِي اِسْتِقَامَةِ حَالِهِ بِغَيْرِهِ مُتَمَكِّنًا ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْأَفْعَالَ الزَّائِدَةَ، وَالْأَقْوَالَ الْفَاضِلَةَ . قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَحَدُّ مَا يَعْنِيك أَنْ تَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا لَوْ سَكَتّ عَنْهُ لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ فِي حَالٍ وَلَا مَالٍ .
وَمِثَالُهُ: أَنْ تَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ فَتَحْكِيَ مَعَهُمْ أَسْفَارَك، وَمَا رَأَيْت فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ ، وَمَا وَقَعَ لَك مِنْ الْوَقَائِعِ ، وَمَا اِسْتَحْسَنْته مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ ، وَمَا تَعَجَّبْت مِنْهُ مِنْ مَشَايِخِ الْبِلَادِ وَوَقَائِعِهِمْ ، فَهَذِهِ أُمُورٌ لَوْ سَكَتّ عَنْهَا؛ لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ ، وَإِذَا بَالَغْت فِي الِاجْتِهَادِ حَتَّى لَمْ يَمْتَزِجْ بِحِكَايَتِك زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا تَزْكِيَةُ نَفْسٍ مِنْ حَيْثُ التَّفَاخُرُ بِمُشَاهَدَةِ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ ، وَلَا اِغْتِيَابٍ لِشَخْصٍ ، وَلَا مَذَمَّةٍ لِشَيْءٍ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَيِّعٌ زَمَانَك ، وَمُحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِك؛ إِذْ تَسْتَبْدِلُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ؛ لِأَنَّك لَوْ صَرَفْت زَمَانَ الْكَلَامِ فِي الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ؛ رُبَّمَا يَنْفَتِحُ لَك مِنْ نَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ ، وَلَوْ سَبَّحْت اللَّهَ؛ بَنَى لَك بِهَا قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ . وَهَذَا عَلَى فَرْضِ السَّلَامَةِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي كَلَامِ الْمَعْصِيَةِ ، وَأَنْ لَا تَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. اِنْتَهَى ". ا.هـ
واستنبط شيخ الإسلام رحمه الله من قوله تعالى: { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } فوائد عظيمة، ذكر منها:
"أَن لا يَرْكَنَ إلَيْهِمْ وَلا يَمُدَّ عَيْنَهُ إلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ السُّلْطَانِ، وَالْمَالِ، وَالشَّهَوَاتِ كَقَوْلِهِ : {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ...".
"مجموع الفتاوى" (14/ 480- 482 )
وقال رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (15/ 397 – 399):
"وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}يَتَنَاوَلُ النَّظَرَ إلَى:
· الأَمْوَالِ
· وَاللِّبَاسِ
· وَالصُّوَرِ
· وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا
أَمَّا اللِّبَاسُ وَالصُّوَرُ؛ فَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمَا، كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا }
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُمَتِّعُ بِالصُّوَرِ كَمَا يُمَتِّعُ بِالْأَمْوَالِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَكِلَاهُمَا يَفْتِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَرُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى .
وَالْهَلْكَى رَجُلَانِ:
فَمُسْتَطِيعٌ وَعَاجِزٌ
· فَالْعَاجِزُ : مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ وَمَـدِّ الْعَيْنِ إلَيْهِ
· وَالْمُسْتَطِيعُ : مَفْتُونٌ فِيمَا أُوتِيَ مِنْهُ، غَارِقٌ، قَدْ أَحَاطَ بِهِ مَا لا يَسْتَطِيعُ إنْقَاذَ نَفْسِهِ مِنْهُ .
وَهَذَا الْمَنْظُورُ قَدْ يُعْجِبُ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا كَمَا يُعْجِبُهُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَاسْتِمَاعِ قَوْلِهِمْ، فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِمْ، وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يُعْجِبُ السَّامِعِينَ" انتهى المراد.
يتبع
إن شاء المولى تعالى