سمير زمال
2009-01-18, 22:55
مقدّمــــــــــــة
بسم الله الرّحمـــــــن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين و الصّلاة و السّلام على أشرف المرسلين أمّا بعد:
فكثيرا ما يوقفني بعض إخواني الغيورين على أعراض الدّعاة إلى الله جزاهم الله خيرا , على بعض الخرجات الفريدة التي لا زال غلاة الجرح و التّبديع من بعض شباب السنّة يخرجون علينا بها بين الفينة و الأخرى .
و لأنّني – بحمد الله – قد خبرت القوم و أدركت أغلب أساليبهم في تسويق بضاعتهم , فإنّني كنت أكتفي بالتّخفيف من هول الفجيعة على إخواني الغيورين هؤلاء , مع الإشارة إلى بعض دلائل التّلبيس و التّعصّب و التّطفيف في الميزان , و التي لا تخلو منها كتابات هؤلاء الإخوة هداهم الله , فكانت إشارتي إلى دلائل تلك الخصال الشّنيعة في تصرّفاتهم على سبيل دفع الشّبهة عن إخواني و تذكيرهم بنعمة الله عليهم إذ سلموا من رقّ تعظيم الخلق أكثر من الحقّ , كما هو حاصل لأولئك المساكين أصحاب التّعليقات الممجّدة للشّباب الجرّاحين و المشنّعة على الشّيوخ المجروحين بلا رحمة و لا شفقة , و الدّاعية للمضيّ في ذلك المسار الذي يزعمون فيه مقاومة أهل البدع و الحزبيّين , مع أنّهم في الحقيقة قد جسّدوا بدعة الحزبيّة المقيتة في أبشع صورها كما سيأتي في هذه العجالة .
و لقد كنت أدعو إخواني المنصفين ألّا ينشغلوا بتلك التّرهات التي تنبّه لها الحذّاق بما آتاهم الله من العلم و البصيرة , و سئم منها المبتدؤون بما منحهم الله من صفاء الفطرة و السّريرة , فلم تعد تتجاوز السّحابيّين و شبكتهم مع حوالي ثلاث منتديات كاسدة أخرى يحسن إهمال ذكرها لتزيد على إبهامها إبهاما, فصار شأنهم و الحال هذه مجموعة تتبادل الخداع و المجاملة على حساب الحق , و إن استدرجوا بعض من يكتب تعليقات التّمجيد و التّعظيم فإنّهم كما قلت لك قوم أصابتهم فتنة فعموا و صمّوا و هم بحمد الله قليل يزداد قلّة , و يكفيك نظرة فاحصة لحال من جرحوه سابقا , تتأمّل فيها إلى أين صار و صاروا ؟ , فستجد أغلب بل كلّ من جرحوه من أهل السنّة و دعاتها في علوّ مقابل نزولهم , و في اجتماع في مقابل تفرّقهم و في ستر و عافية في مقابل فضائحهم .
ففي الجزائر التي يصوّرون للنّاس أنّ شبابها قد دخلوا في منهج الغلوّ أفواجا , يكذّبهم الواقع و الحمد لله , و يكفي أن تسأل عن ضحاياهم لترى كيف أنّ ما ألحقوه بالشّيخ أبي سعيد الجزائري و الشّيخ بن حنفيّة العابدين و غيرهما لم يكن إلّا ابتلاء لهم من الله تعالى , ثمّ جاءتهم العاقبة الحسنة , فهاهي كتب الشّيخ أبي سعيد قد ملأت الآفاق , و هاهو شرح الرّسالة للشّيخ عابدين و غيره من كتبه يتخاطفه شباب السنّة , و هاهي مجالس إخوانهم في العاصمة تضيق بالشّباب و الطّلبة , و هاهم تلاميذ الشّيخ فركوس كالشّيخ حاج عيسى و الشّيخ رابح مختاري ... يسيرون على الدّرب لا مبالين بصراخ الصّارخين و لا بتشويش بقايا المشوّشين .
و هم مع ذلك في ودّ و صفاء و تعاون على البرّ و التـقوى لا يعكّره اختلاف في اجتهاد و لا شيء ممّا يعتري أعمال العباد , نعم ليس أحد منهم معصوما و لكن ليس أحدٌ منهم مبتدعا كما يزعم إخواننا الغلاة.
و في المقابل : فقد دبّ الافتراق في صفوف الغلاة المتعصّبين , فانشطر الحزب إلى أحزاب , و انقلب البناء إلى خراب و التّزكية إلى تبديع و سباب , فاعتبروا يا أولي الألباب .
ثمّ أمّا بعد :
فهذه وقفات مع خربشات بعض الإخوة المذكورين و نقولاتهم و حججهم و أحكامهم و تجريحاتهم التي أرهقوا بها الغيورين عن السنّة ممّن لا يزال يلتفت إليهم و هم قلّة و الحمد لله , و أقول لمن طلب منّي ذلك : أيّها الحبيب , هذا قليل يغني ذكره عن كثير, و من رأى من السّيف نصله فقد رآه كلّه, و إنّني إذ أجيبك عن صنيع هؤلاء فإنّما طمأنة لقلبك و جبرا لخاطرك و لأملك أن يهدي الله الضّال منّا و من باب عدم اليأس من الأمر بالمعروف مهما أنكره النّاس و عدم اليأس من إنكار المنكر مهما تعارف عليه النّاس , و إلّا فليس مع إخواننا هؤلاء ما يستحقّ الالتفات و لا هم – و لله الحمد - أغرقوا الأمّة بتلك الشّبهات بل هم –كما قلت لك – من قلّة إلى أقل و شذوذهم هذا من انكسار إلى اندثار و لا ترعبنّك القلّة التي تحزّبت على هذا الأمر المشين فإنّ
لكلّ ساقطة في الحيّ لاقــطة ° و كلّ كاسدة يوما لها ســوقُ
و ها أنا ذا أستعين الله تعالى في الوقوف مع بعض مواطن الخلل في ذلك الفكر المنحرف الذي تلبّس به بعض إخواننا , من خلال الصفحات التي سلّمتها لي , يكون ذكر ما فيها مغنيا على ما لم يذكر فإنّ الوقت نعمة مغبون فيها كثير من النّاس فلا يزيد المرء على ذلك بإنفاقها في هذه التّرهات .
و بين يدي هذه الوقفات أحبّ أن أقدّم بأمور لا بدّ من ذكرها :
أوّلا
أنّني لا أدّعي في هذه الورقات أنّني أفضل من إخواني الشّباب النّاقلين لتلك التّجريحات أو أكثر منهم علما ,كما لا أدّعي أنّني قد بلغت من العلم مبلغ الطّلبة المبتدئين فضلا عن المتقنين و ( رحم الله امرء عرف قدر نفسه) , و لكنّني في المقابل أزعم أنّني قد أحطت بجوانب هذه المسألة بكثير ممّا لم يحط به إخواني , فوجب البيان و النّصيحة فيما علمت من هذه الأمور الخطيرة و المتشعّبة , و قد علم أهل الحقّ أنّ الاجتهاد يتجزّأ و العلم يتجزّأ فمن أتقن مسألة فهو بها عالم , و لا يشترط أن ينتظر أن يصبح إماما لكي يتكلّم بما رآه من الحق كما هو ظاهر بيّن , و مثاله :
أنّ من رأى إخوانه يلحنون في الضّاد فينطقونها ظاء أو داء مفخّمة , فإنّه يجب عليه تقويم اعوجاجهم و إن لم يكن قد أحاط بباقي أبواب تجويد القرآن و أحكامه , لأنّه ( لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها ) و هذا أمر مطّرد في سائر الأبواب كمن قوّم أخا له في الوضوء أو الصّوم أو الزّكاة فلا يشترط فيه إذا أتقن تلك المسألة أن يكون فقيها كبيرا لكي يتكلّم فيها و هذا داخل في قوله عليه السّلام ( بلّغوا عنّي و لو آية ) .
ثانيا :
أنّني لا أزعم في هذه الوقفات أنّ إخواننا هؤلاء قد خرجوا من السنّة و السّلفيّة مع أنّني أوقن ببغيهم على طائفة من أهل السنّة بغير حقّ كما سيأتيك و أنّهم تعصّبوا تعصّبا مقيتا لطائفة أخرى في الوقت نفسه و توضيح ذلك أن يقال :
معلوم أنّ الفضل يتبعّض كما أنّ الإيمان يتبعّض , فيتفاضل النّاس بحسب قيامهم بما أمروا به وجوبا و استحبابا و تحريما و كراهة , و معلوم أنّ السنّة أبواب و أصول , و أنّ الرّجل أو الجماعة قد يكونون قائمين بالسّنّة على وجه مرضيّ في الجملة و في أغلب الجوانب و لكنّهم يكونون في الوقت نفسه مقصّرين أو متعدّين في جانب أو جانبين , فلا يقضي خطؤهم على صوابهم و لا يحول صوابهم عائقا في طريق بيان خطئهم , و هذا الذي أنا بصدده هو من ذلك الباب بالضّبط , فإنّ الرّدّ على هؤلاء الإخوة و تخطئتهم إنّما هو في باب لا في كلّ أبواب الدّين , هذا و إن أمعنوا في تبديع كلّ مخالف على أساس و معيار ظالم سيأتيك خبره , فإنّ المنصف لا يزيد مقابل معصيتهم ربّهم فيه على أن يطيعه فيهم فإنّ ما عند الله خير و أبقى و لا يردّ الباطل بباطل و الله المستعان .
ثالثا :
أنّ كلّ ذي بصيرة يدرك أنّ القوم ينطلقون من نقطة جوهريّة عندهم و إن أنكروها الا و هي : نصرة أقوال بعض المشايخ في الجماعات و الرّجال , و الدّفاع عن تلك الأقوال بأيّة وسيلة , و التّعلّق في إثباتها بأيّة قشّة , و هم في ذلك بين متعصّب معاند و بين مخدوع بالمتعصّب يسايره في ما يمليه عليه ظانّا أنّه الحقّ لأسباب يطول ذكرها و مدارها على الجهل و قلّة الاطّلاع و التّشبّع اللاإرادي بالقواعد الفاسدة حتّى أنّ أذهان القوم و قلوبهم أشربت منهجا عجيبا غريبا مبناه على أنّ المصيب لا يعتريه خطأ و المخطأ لا يقع في صواب , و مثله الفضل مع الذّم و مثله التّسنّن مع البدعة , فمن وافقهم نظروا في كلامه بعيون عمياء لا تفحص و لا تبحث , و من خالفهم أعرضوا عن كلامه إعراضا تامّا , أو نظروا فيه بالمجهر و جعلوا حسنه قبيحا فكيف بقبيحه فدخلوا – من هذا الوجه - في
قول شيخ الإسلام في بداية كتاب التّصوّف إهـ (جزء 11 ص 12): ( ... ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرّجل ما يحبه , أحب الرّجل مطلقًا ، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه؛ أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته،(...) وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة ، وأهل السنة والجماعة يقولون ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع و هو أنّ المؤمن يستحق وعد الله و فضله الثّواب على حسناته و يستحقّ العقاب على سيّئاته و إنّ الشّخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه و ما يعاقب عليه و ما يحمد عليـه و ما يذمّ عليه و ما يحبّ منه و ما يبغض منه فهذا هذا .
و له رحمه الله كلام كثير نفيس يقرّر فيه هذا الأصل الأصيل الذي عليه أهل السنّة و الجماعة و الذي غيّبه إخواننا هؤلاء بحجّة دفع (منهج الموازنات في النّقد ) و ليس بشيء فإنّ الموازنة بين المحاسن و المساوئ في الحكم على الرّجال و تقرير منزلتهم في الدّين منهج صحيح قويم و يخشى على من ردّه أن يكون باغيا مبتدعا و تفصيله ليس هذا موضعه الله المستعان.
رابعا
فصل في التّنبيه على الخلط بين الاتّفاق على القدر الأدنى و بين الإجماع على القدر الأعلى
و أنّ هذا من أبطل الباطل
وذلك أنّ إخواننا هؤلاء يصوّرون للشّباب أنّ كلّ (كل) علماء السنّة في هذا العصر بل و على مدار الدّهر متّفقون مع من يتعصّبون لهم في مسائل الاجتهاد المتعلّقة بباب التّبديع و الحكم على الجماعات و هذا باطل و توضيحه مهمّ جدّا يجفّ بسدّ ثغرته واد كبير من أودية الغلو , فتأمّله ترشد و تهتد :
و ذلك أنّ المعيّن محل النّزاع تكون له أخطاء أو بدع و ضلالات , فيتكلّم فيه لأجلها خلق كثير من الأفاضل و العلماء , فمنهم من يبدّعه و منهم من يشنّع عليه في بدعته و لا يحكم عليه بالبدعة , و منهم من يراه جاهلا و منهم من يبحث لفعله أو قوله عن محمل ما و منهم من قد يشدّد فيكفّره أو يكاد و منهم من يتساهل فيعدّه إماما و لا شيء عليه مع اعترافه بأنّه أخطأ في تلك المسألة و منهم من يقول تراجع و منهم من ينازع في كون مقالته دالّة على البدعة أو أنّها مجملة فيذمّه في إجماله و لا يحكم عليه بشيء .
فتصرّفُ هؤلاء المذكورين في هذا المثال , ليس على صورة واحدة كما ترى , فهم اختلفوا في أشياء و اتّفقوا في شيء و هو القدر الأدنى المشترك بينهم جميعا أو بين أكثرهم و هو مثلا :
- إثبات وقوع المحكوم عليه في البدعة أو الخطأ .
- أو إثبات ذمّه و إنزاله عن منزلة الإمامة في الدّين .
فيأتي متعصّب لمن كفّره , فيظنّ كلامهم إجماعا على قول متبوعه و يجعله ملزما لمن خالفه كإلزام الإجماع تماما , و يعامل من خالفه بمعاملة من خالف نصّا أو إجماعا متيقّنا , و الحقّ أنّ هؤلاء الأفاضل ما اتّفقوا في هذه الصّورة على الوجه الذي يفهمه المتعصّب وبيانه :
أنّهم إذا كانوا اتّفقوا على تخطئته فإنّ شيخك كفّره ( أو بدّعه ) و التّخطئة غير التّكفير و التّبديع
و إذا كانوا اتّفقوا على ذمّه فإنّ الذّمّ درجات فمنه تكفير و منه تبديع و منه تفسيق و منه تجهيل, فإن كنت تتعصّب لمن كفّره مثلا فهل من الصّدق أن تقول : أجمع هؤلاء العلماء على ما قال به شيخي ؟ و كذلك التّفسيق و غيره .
و ما قيل في الفرد المعيّن يقال في الجماعات .
و هذا مرجعه إلى مباحث الإجماع و دلالات الألفاظ و المعاني , حيث يتوهّم بعض النّاس إطباق المشايخ على قول و هم في الحقيقة مشتركون في قدر و مختلفين في ما زاد عن ذلك القدر الذي ينصره المتوهّــم , و التّنبّه لهذا الأمر مهمّ في ما نحن بصدده جدّا , و هو أنّ ما دلّ على القدر المشترك بين هؤلاء المختلفين , ليس فيه دليلا على ما اختصّ به كلّ واحد منهم زائدا به على غيره فكيف بزعم الإجماع و الله المستعان .
و من هذا الباب دخل التّعصّب و أدخل الباطل على كثير من الشّباب فإنّ العلماء قد يتّفقون على ذمّ شخص و لكنّهم يختلفون في وجه ذلك الذّمّ و درجته , فيأتي من يدّعي نسبته إلى الجهم بن صفوان بأقوال من ردّوا مقالة كفريّة جهميّة للمحكوم عليه و يضمّها إلى صوت من حكم عليه بالجهميّة الصّريحة على أنّها موافقة مطلقة !!! فيلتبس الأمر على المتلقّي الغارق في العاطفة و حسن الظنّ و يضيع الحق و معه حقوق كثيرة أوّلها حقّ العلماء في عدم تحريف أقوالهم و عدم التّقوّل عليهم و حقّ طلبة العلم في أن يعانوا و لا يهانوا و حقّ الأخوّة الإيمانيّة الثّابتة التي لا يحرّكها اختلاف في اجتهاد , و في واقع إخواننا و تعاملاتهم يظهر هذا المعلم المظلم جليّا لا يحتاج إلى مزيد توضيح و قد ذكرته ها هنا لأنّي قد أحيلك عليه في ما بقي من المناقشة و الله الموفّق لا إله إلّا هو .....
يتبــــــــــــــــــــــــــــع بإذن الله تعالى
المصدر منتديات تبسة الإسلامية (http://tebessa.forume.biz/montada-f9/topic-t1679.htm#3824)
بسم الله الرّحمـــــــن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين و الصّلاة و السّلام على أشرف المرسلين أمّا بعد:
فكثيرا ما يوقفني بعض إخواني الغيورين على أعراض الدّعاة إلى الله جزاهم الله خيرا , على بعض الخرجات الفريدة التي لا زال غلاة الجرح و التّبديع من بعض شباب السنّة يخرجون علينا بها بين الفينة و الأخرى .
و لأنّني – بحمد الله – قد خبرت القوم و أدركت أغلب أساليبهم في تسويق بضاعتهم , فإنّني كنت أكتفي بالتّخفيف من هول الفجيعة على إخواني الغيورين هؤلاء , مع الإشارة إلى بعض دلائل التّلبيس و التّعصّب و التّطفيف في الميزان , و التي لا تخلو منها كتابات هؤلاء الإخوة هداهم الله , فكانت إشارتي إلى دلائل تلك الخصال الشّنيعة في تصرّفاتهم على سبيل دفع الشّبهة عن إخواني و تذكيرهم بنعمة الله عليهم إذ سلموا من رقّ تعظيم الخلق أكثر من الحقّ , كما هو حاصل لأولئك المساكين أصحاب التّعليقات الممجّدة للشّباب الجرّاحين و المشنّعة على الشّيوخ المجروحين بلا رحمة و لا شفقة , و الدّاعية للمضيّ في ذلك المسار الذي يزعمون فيه مقاومة أهل البدع و الحزبيّين , مع أنّهم في الحقيقة قد جسّدوا بدعة الحزبيّة المقيتة في أبشع صورها كما سيأتي في هذه العجالة .
و لقد كنت أدعو إخواني المنصفين ألّا ينشغلوا بتلك التّرهات التي تنبّه لها الحذّاق بما آتاهم الله من العلم و البصيرة , و سئم منها المبتدؤون بما منحهم الله من صفاء الفطرة و السّريرة , فلم تعد تتجاوز السّحابيّين و شبكتهم مع حوالي ثلاث منتديات كاسدة أخرى يحسن إهمال ذكرها لتزيد على إبهامها إبهاما, فصار شأنهم و الحال هذه مجموعة تتبادل الخداع و المجاملة على حساب الحق , و إن استدرجوا بعض من يكتب تعليقات التّمجيد و التّعظيم فإنّهم كما قلت لك قوم أصابتهم فتنة فعموا و صمّوا و هم بحمد الله قليل يزداد قلّة , و يكفيك نظرة فاحصة لحال من جرحوه سابقا , تتأمّل فيها إلى أين صار و صاروا ؟ , فستجد أغلب بل كلّ من جرحوه من أهل السنّة و دعاتها في علوّ مقابل نزولهم , و في اجتماع في مقابل تفرّقهم و في ستر و عافية في مقابل فضائحهم .
ففي الجزائر التي يصوّرون للنّاس أنّ شبابها قد دخلوا في منهج الغلوّ أفواجا , يكذّبهم الواقع و الحمد لله , و يكفي أن تسأل عن ضحاياهم لترى كيف أنّ ما ألحقوه بالشّيخ أبي سعيد الجزائري و الشّيخ بن حنفيّة العابدين و غيرهما لم يكن إلّا ابتلاء لهم من الله تعالى , ثمّ جاءتهم العاقبة الحسنة , فهاهي كتب الشّيخ أبي سعيد قد ملأت الآفاق , و هاهو شرح الرّسالة للشّيخ عابدين و غيره من كتبه يتخاطفه شباب السنّة , و هاهي مجالس إخوانهم في العاصمة تضيق بالشّباب و الطّلبة , و هاهم تلاميذ الشّيخ فركوس كالشّيخ حاج عيسى و الشّيخ رابح مختاري ... يسيرون على الدّرب لا مبالين بصراخ الصّارخين و لا بتشويش بقايا المشوّشين .
و هم مع ذلك في ودّ و صفاء و تعاون على البرّ و التـقوى لا يعكّره اختلاف في اجتهاد و لا شيء ممّا يعتري أعمال العباد , نعم ليس أحد منهم معصوما و لكن ليس أحدٌ منهم مبتدعا كما يزعم إخواننا الغلاة.
و في المقابل : فقد دبّ الافتراق في صفوف الغلاة المتعصّبين , فانشطر الحزب إلى أحزاب , و انقلب البناء إلى خراب و التّزكية إلى تبديع و سباب , فاعتبروا يا أولي الألباب .
ثمّ أمّا بعد :
فهذه وقفات مع خربشات بعض الإخوة المذكورين و نقولاتهم و حججهم و أحكامهم و تجريحاتهم التي أرهقوا بها الغيورين عن السنّة ممّن لا يزال يلتفت إليهم و هم قلّة و الحمد لله , و أقول لمن طلب منّي ذلك : أيّها الحبيب , هذا قليل يغني ذكره عن كثير, و من رأى من السّيف نصله فقد رآه كلّه, و إنّني إذ أجيبك عن صنيع هؤلاء فإنّما طمأنة لقلبك و جبرا لخاطرك و لأملك أن يهدي الله الضّال منّا و من باب عدم اليأس من الأمر بالمعروف مهما أنكره النّاس و عدم اليأس من إنكار المنكر مهما تعارف عليه النّاس , و إلّا فليس مع إخواننا هؤلاء ما يستحقّ الالتفات و لا هم – و لله الحمد - أغرقوا الأمّة بتلك الشّبهات بل هم –كما قلت لك – من قلّة إلى أقل و شذوذهم هذا من انكسار إلى اندثار و لا ترعبنّك القلّة التي تحزّبت على هذا الأمر المشين فإنّ
لكلّ ساقطة في الحيّ لاقــطة ° و كلّ كاسدة يوما لها ســوقُ
و ها أنا ذا أستعين الله تعالى في الوقوف مع بعض مواطن الخلل في ذلك الفكر المنحرف الذي تلبّس به بعض إخواننا , من خلال الصفحات التي سلّمتها لي , يكون ذكر ما فيها مغنيا على ما لم يذكر فإنّ الوقت نعمة مغبون فيها كثير من النّاس فلا يزيد المرء على ذلك بإنفاقها في هذه التّرهات .
و بين يدي هذه الوقفات أحبّ أن أقدّم بأمور لا بدّ من ذكرها :
أوّلا
أنّني لا أدّعي في هذه الورقات أنّني أفضل من إخواني الشّباب النّاقلين لتلك التّجريحات أو أكثر منهم علما ,كما لا أدّعي أنّني قد بلغت من العلم مبلغ الطّلبة المبتدئين فضلا عن المتقنين و ( رحم الله امرء عرف قدر نفسه) , و لكنّني في المقابل أزعم أنّني قد أحطت بجوانب هذه المسألة بكثير ممّا لم يحط به إخواني , فوجب البيان و النّصيحة فيما علمت من هذه الأمور الخطيرة و المتشعّبة , و قد علم أهل الحقّ أنّ الاجتهاد يتجزّأ و العلم يتجزّأ فمن أتقن مسألة فهو بها عالم , و لا يشترط أن ينتظر أن يصبح إماما لكي يتكلّم بما رآه من الحق كما هو ظاهر بيّن , و مثاله :
أنّ من رأى إخوانه يلحنون في الضّاد فينطقونها ظاء أو داء مفخّمة , فإنّه يجب عليه تقويم اعوجاجهم و إن لم يكن قد أحاط بباقي أبواب تجويد القرآن و أحكامه , لأنّه ( لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها ) و هذا أمر مطّرد في سائر الأبواب كمن قوّم أخا له في الوضوء أو الصّوم أو الزّكاة فلا يشترط فيه إذا أتقن تلك المسألة أن يكون فقيها كبيرا لكي يتكلّم فيها و هذا داخل في قوله عليه السّلام ( بلّغوا عنّي و لو آية ) .
ثانيا :
أنّني لا أزعم في هذه الوقفات أنّ إخواننا هؤلاء قد خرجوا من السنّة و السّلفيّة مع أنّني أوقن ببغيهم على طائفة من أهل السنّة بغير حقّ كما سيأتيك و أنّهم تعصّبوا تعصّبا مقيتا لطائفة أخرى في الوقت نفسه و توضيح ذلك أن يقال :
معلوم أنّ الفضل يتبعّض كما أنّ الإيمان يتبعّض , فيتفاضل النّاس بحسب قيامهم بما أمروا به وجوبا و استحبابا و تحريما و كراهة , و معلوم أنّ السنّة أبواب و أصول , و أنّ الرّجل أو الجماعة قد يكونون قائمين بالسّنّة على وجه مرضيّ في الجملة و في أغلب الجوانب و لكنّهم يكونون في الوقت نفسه مقصّرين أو متعدّين في جانب أو جانبين , فلا يقضي خطؤهم على صوابهم و لا يحول صوابهم عائقا في طريق بيان خطئهم , و هذا الذي أنا بصدده هو من ذلك الباب بالضّبط , فإنّ الرّدّ على هؤلاء الإخوة و تخطئتهم إنّما هو في باب لا في كلّ أبواب الدّين , هذا و إن أمعنوا في تبديع كلّ مخالف على أساس و معيار ظالم سيأتيك خبره , فإنّ المنصف لا يزيد مقابل معصيتهم ربّهم فيه على أن يطيعه فيهم فإنّ ما عند الله خير و أبقى و لا يردّ الباطل بباطل و الله المستعان .
ثالثا :
أنّ كلّ ذي بصيرة يدرك أنّ القوم ينطلقون من نقطة جوهريّة عندهم و إن أنكروها الا و هي : نصرة أقوال بعض المشايخ في الجماعات و الرّجال , و الدّفاع عن تلك الأقوال بأيّة وسيلة , و التّعلّق في إثباتها بأيّة قشّة , و هم في ذلك بين متعصّب معاند و بين مخدوع بالمتعصّب يسايره في ما يمليه عليه ظانّا أنّه الحقّ لأسباب يطول ذكرها و مدارها على الجهل و قلّة الاطّلاع و التّشبّع اللاإرادي بالقواعد الفاسدة حتّى أنّ أذهان القوم و قلوبهم أشربت منهجا عجيبا غريبا مبناه على أنّ المصيب لا يعتريه خطأ و المخطأ لا يقع في صواب , و مثله الفضل مع الذّم و مثله التّسنّن مع البدعة , فمن وافقهم نظروا في كلامه بعيون عمياء لا تفحص و لا تبحث , و من خالفهم أعرضوا عن كلامه إعراضا تامّا , أو نظروا فيه بالمجهر و جعلوا حسنه قبيحا فكيف بقبيحه فدخلوا – من هذا الوجه - في
قول شيخ الإسلام في بداية كتاب التّصوّف إهـ (جزء 11 ص 12): ( ... ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرّجل ما يحبه , أحب الرّجل مطلقًا ، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه؛ أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته،(...) وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة ، وأهل السنة والجماعة يقولون ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع و هو أنّ المؤمن يستحق وعد الله و فضله الثّواب على حسناته و يستحقّ العقاب على سيّئاته و إنّ الشّخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه و ما يعاقب عليه و ما يحمد عليـه و ما يذمّ عليه و ما يحبّ منه و ما يبغض منه فهذا هذا .
و له رحمه الله كلام كثير نفيس يقرّر فيه هذا الأصل الأصيل الذي عليه أهل السنّة و الجماعة و الذي غيّبه إخواننا هؤلاء بحجّة دفع (منهج الموازنات في النّقد ) و ليس بشيء فإنّ الموازنة بين المحاسن و المساوئ في الحكم على الرّجال و تقرير منزلتهم في الدّين منهج صحيح قويم و يخشى على من ردّه أن يكون باغيا مبتدعا و تفصيله ليس هذا موضعه الله المستعان.
رابعا
فصل في التّنبيه على الخلط بين الاتّفاق على القدر الأدنى و بين الإجماع على القدر الأعلى
و أنّ هذا من أبطل الباطل
وذلك أنّ إخواننا هؤلاء يصوّرون للشّباب أنّ كلّ (كل) علماء السنّة في هذا العصر بل و على مدار الدّهر متّفقون مع من يتعصّبون لهم في مسائل الاجتهاد المتعلّقة بباب التّبديع و الحكم على الجماعات و هذا باطل و توضيحه مهمّ جدّا يجفّ بسدّ ثغرته واد كبير من أودية الغلو , فتأمّله ترشد و تهتد :
و ذلك أنّ المعيّن محل النّزاع تكون له أخطاء أو بدع و ضلالات , فيتكلّم فيه لأجلها خلق كثير من الأفاضل و العلماء , فمنهم من يبدّعه و منهم من يشنّع عليه في بدعته و لا يحكم عليه بالبدعة , و منهم من يراه جاهلا و منهم من يبحث لفعله أو قوله عن محمل ما و منهم من قد يشدّد فيكفّره أو يكاد و منهم من يتساهل فيعدّه إماما و لا شيء عليه مع اعترافه بأنّه أخطأ في تلك المسألة و منهم من يقول تراجع و منهم من ينازع في كون مقالته دالّة على البدعة أو أنّها مجملة فيذمّه في إجماله و لا يحكم عليه بشيء .
فتصرّفُ هؤلاء المذكورين في هذا المثال , ليس على صورة واحدة كما ترى , فهم اختلفوا في أشياء و اتّفقوا في شيء و هو القدر الأدنى المشترك بينهم جميعا أو بين أكثرهم و هو مثلا :
- إثبات وقوع المحكوم عليه في البدعة أو الخطأ .
- أو إثبات ذمّه و إنزاله عن منزلة الإمامة في الدّين .
فيأتي متعصّب لمن كفّره , فيظنّ كلامهم إجماعا على قول متبوعه و يجعله ملزما لمن خالفه كإلزام الإجماع تماما , و يعامل من خالفه بمعاملة من خالف نصّا أو إجماعا متيقّنا , و الحقّ أنّ هؤلاء الأفاضل ما اتّفقوا في هذه الصّورة على الوجه الذي يفهمه المتعصّب وبيانه :
أنّهم إذا كانوا اتّفقوا على تخطئته فإنّ شيخك كفّره ( أو بدّعه ) و التّخطئة غير التّكفير و التّبديع
و إذا كانوا اتّفقوا على ذمّه فإنّ الذّمّ درجات فمنه تكفير و منه تبديع و منه تفسيق و منه تجهيل, فإن كنت تتعصّب لمن كفّره مثلا فهل من الصّدق أن تقول : أجمع هؤلاء العلماء على ما قال به شيخي ؟ و كذلك التّفسيق و غيره .
و ما قيل في الفرد المعيّن يقال في الجماعات .
و هذا مرجعه إلى مباحث الإجماع و دلالات الألفاظ و المعاني , حيث يتوهّم بعض النّاس إطباق المشايخ على قول و هم في الحقيقة مشتركون في قدر و مختلفين في ما زاد عن ذلك القدر الذي ينصره المتوهّــم , و التّنبّه لهذا الأمر مهمّ في ما نحن بصدده جدّا , و هو أنّ ما دلّ على القدر المشترك بين هؤلاء المختلفين , ليس فيه دليلا على ما اختصّ به كلّ واحد منهم زائدا به على غيره فكيف بزعم الإجماع و الله المستعان .
و من هذا الباب دخل التّعصّب و أدخل الباطل على كثير من الشّباب فإنّ العلماء قد يتّفقون على ذمّ شخص و لكنّهم يختلفون في وجه ذلك الذّمّ و درجته , فيأتي من يدّعي نسبته إلى الجهم بن صفوان بأقوال من ردّوا مقالة كفريّة جهميّة للمحكوم عليه و يضمّها إلى صوت من حكم عليه بالجهميّة الصّريحة على أنّها موافقة مطلقة !!! فيلتبس الأمر على المتلقّي الغارق في العاطفة و حسن الظنّ و يضيع الحق و معه حقوق كثيرة أوّلها حقّ العلماء في عدم تحريف أقوالهم و عدم التّقوّل عليهم و حقّ طلبة العلم في أن يعانوا و لا يهانوا و حقّ الأخوّة الإيمانيّة الثّابتة التي لا يحرّكها اختلاف في اجتهاد , و في واقع إخواننا و تعاملاتهم يظهر هذا المعلم المظلم جليّا لا يحتاج إلى مزيد توضيح و قد ذكرته ها هنا لأنّي قد أحيلك عليه في ما بقي من المناقشة و الله الموفّق لا إله إلّا هو .....
يتبــــــــــــــــــــــــــــع بإذن الله تعالى
المصدر منتديات تبسة الإسلامية (http://tebessa.forume.biz/montada-f9/topic-t1679.htm#3824)