محمد أمين سهيلي
2012-05-09, 12:13
أزمة البلاد لا تُحل بـ"فـتوى" في الانتخاب، بل بالعودة إلى الكتاب
أ. محمد أمين سهيلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
أداءً لبعض ما أوجب الله تعالى من النصح والإرشاد، ومساهمةً في الجهود المبذولة لدرء ما يُحدق ببلدنا من مخاطر ومكايد:
أكتب هذه الكلمات، وأسأل الله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ناطقة بالحق، منزهة عن الزلل، وبالله وحده أستعين:
يكاد يُجمع المتابعون للأحداث التي يمر بها بلدنا على أننا مقبلون على مرحلة حرجة مصيرية، من أخطر المراحل التي عايشناها، وأننا نقف على مفترق طرق، ما ندري إلى أين يتجه بنا السبيل بعده.
وفي حين يسعى المخلصون من أبناء هذا البلد إلى اقتراح حلول عملية، ومبادرات واقعية، تنأى بالأمة عن الخطر، وتدرأ عنها الفتن، يُطل علينا بعض المنتسبين إلى العلم بفتاوى توجب المشاركة في الانتخابات المقبلة، وتتوعد المقاطعين بعقاب الخالق عز وجل.
وقد ساءني-كما ساء غيري- أن تلوى أعناق النصوص الشرعية ليّا، وأن يُحرف الكلم عن مواضعه، وأن يستدل بالقواعد الشرعية من لا يعي ضوابطها، وشروط إعمالها، ومواضع تزاحمها مع سائر القواعد والأصول.
وساءني أن يفتئت على الشرع من لا يُحسن التكييف الشرعي للوقائع، وأن يوازن من لا يستحضر معايير الموازنة.
وهالني أن يتجاسر على التوقيع عن رب العزة، من لا يجرأ على الصدع بكلمة الحق مع الحاكم، وأن يحتج بأخف الأضرار من يتردد في التصريح بما يتسبب فيه هذا النظام من مفاسد ومضار، وأقبحها تعطيل شريعة الخالق عز وجل، وصد من يسعى إلى تحكيمها.
ولن أدخل مع هذا البعض في مماحكات، فهمّنا أكبر، ومسؤولياتنا أثقل، وأكتفي بالإحالة على ما ألّفه علماؤنا في الفتوى وضوابطها، وقد لخّصت كثيرا منها في سلسلة مقالات نشرها موقع الفقه الإسلامي، بعنوان: "قواعد في الإفتاء"1إلى 7.
وأحيل على ما قرره أئمتنا من معايير للترجيح بين المصالح والمفاسد، وفيها مؤلفات كثيرة، وقد مهّدت بالحديث فيها في كتابي: قاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"-دراسة تحليلية-.
ولست أقصد في هذا المقام إلى البحث في حكم الانتخابات التشريعية، والرد التفصيلي على المتجاسرين على الإفتاء فيها؛ ذلك أن المجازفة بالقول بالوجوب لن تغير من واقع الأمر شيئا، ولن يجني منها من تجرّأ عليها إلا فقدان مصداقيته، وزعزعة مكانته.
أما شعبنا فإنه متطلع إلى حل أزماته جذريا وسلميا، وما عاد يرضى بالحلول الترقيعية، ولا يمكن أن تُقنعه بأن الحل بيد من تسبب في الأزمة، أو أضفى الشرعية على الباطل بقوله أو فعله أو إقراره، أو شارك ويشارك في كل مسرحية هزلية يؤلفها النظام، لإعادة إنتاج نفسه، وتنتهي في كل مرة بمآسي يندى لها الجبين.
والقصد في هذا المقال تذكير نفسي وإخواني بجملة من الأصول العقدية، والمعاني الشرعية، والقواعد الأصولية، لعلّنا إن أحسنّا تمثّلها وتنزيلها أن نتمكن من المساهمة-كما يساهم أهل العلوم الأخرى- في تجنيب بلدنا المزالق والمهالك، ونسعى من خلالها إلى إقامة حوار بنّاء يرقى بنا عن السفاسف، ونُبرئ به ذمتنا الشرعية والحضارية.
وقد حاولت الاختصار فيها دون إخلال، مع التدليل الشرعي والتنزيل الواقعي، ورتبتها بحيث تبنى كل واحدة فيها على سابقتها، والله المستعان:
1- أن الله تعالى وحده هو المدبّر لشؤوننا، وهو وحده من بيده النفع والضر:
قال جلّ ذكره: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾الأعراف/54
وقال: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾الفتح/11
وقال صلى الله عليه وسلم: «...وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ »رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ويترتب عن هذا الأصل أصل آخر، هو:
2- أننا لا نتوكل إلا على الله، ولا نطمع في سواه، ولا نخاف إلا إياه:
قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ الطلاق/3.
فاعتمادنا في تغيير أحوالنا لا يمكن أبدا أن يكون على أهل الغرب، أو أهل الشرق، فإننا لا نجني من الشوك العنب.
ولا يرهبنا تخويف البعض لنا بالتدخل الأجنبي، والمكر اليهودي، فثقتنا في الله أكبر، ورجاؤنا فيه لن يخيب، ما دمنا مستقيمين على منهجه، ساعين إلى إقامة شرعه.
والغريب أن يصدر هذا التخويف من علمانيين يجاهرون بالتنسيق الأمني مع قوى الطغيان العالمي، ويقابلون تمجيد الاستعمار الفرنسي لتاريخه الأسود وجرائمه النكراء في بلدنا، بالتهليل لتقدم العلاقات الثنائية، بعد خمسة أشهر فقط من صدور قانونه، ويعجزون حتى عن مقابلة قانونه الممجد بقانون يُجرّم.
3- أن ما أصابنا من مصائب فبسبب ذنوبنا وتقصيرنا، لا بسبب مكايد أعدائنا:
قال عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾الشورى/30.
ولا يعني هذا أن أعداءنا لا يخططون لنهب ثرواتنا، بتعميق وتوسيع تبعيتنا لهم، بل معناه أنهم لا يفلحون في كيدهم إلا إذا تعلقنا بحبلهم وقطعنا صلتنا بحبل الله تعالى، ولا يفلح الاستعمار إلا في غزو من كانت فيه القابلية للاستعمار.
4- أن السبب الأول لشقائنا هو بُعدنا عن منهج خالقنا جلّ ذكره، وتعطيلنا لشرعه:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾طه/124.
وقال جل ذكره: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)﴾ المائدة.
5- أن لا مخرج لنا من أزماتنا إلا بالعودة إلى منهج الله تعالى وإقامة العدل وأداء الحقوق:
قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾الذاريات/50
وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾النساء.
والفرار إلى الله تعالى لا يكون بمجرد التزيّن بالمظاهر والأشكال، بإقامة مسابقات حفظ القرآن وترتيله، وتكريم الفائزين، وبناء المساجد الضخمة وتزيينها، وإغداق الأموال على الزوايا.
ولكن الفرار إلى الله تعالى بالخضوع له وحده، وتحكيم شرعه، وإقامة حدود القرآن قبل حروفه.
الفرار إلى الله تعالى بحفظ دينه وسياسة الدنيا به، والعدل بين الناس، وإطلاق الحريات المباحة، وأداء الحقوق، وفتح أبواب الإصلاح، وسد ذرائع الفساد. فإذا التزم الحاكم بهذا، حق على الرعية أن تطيعه، قال علي رضي الله عنه:"حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا".
6- أن المسؤولية الأولى في الإصلاح يتحملها أهل العلم: ورثة الأنبياء
قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾هود.
فأهل العلم هم أولوا الأمر، والقادة الحقيقيون للأمة، الذين يحملون همومها، ويعبرون عن آمالها: قال أبو الأسود الدؤلي رضي الله عنه: "ليس شيء أعز من العلم ، الملوك حُكَّام على الناس، والعلماء حُكَّام على الملوك".
7- أن تخلي العلماء عن موقع القيادة يؤدي إلى الفوضى العامة واستشراء الفساد:
وإنما يكون هذا إذا ما فضّلوا الدنيا على الآخرة، وطمعوا أو خافوا من المخلوق، ونسوا الخالق عز وجل، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "...فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين، لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر والله المستعان على كل حال" الإحياء2/357.
8- أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة:
قال عز ذكره: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾آل عمران/187
وأمّتنا اليوم أحوج ما تكون إلى من يقرأ لها الواقع قراءة شرعية، ويبيّن لها سبيل النجاة، ويجنبها المآسي والفتن.
9- أن سكوتنا في وقت الحاجة إقرار للباطل:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار...وكفّ المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه...ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار "الموافقات: 5/258إلى 266.
10- أن من شرط البيان: الإخلاص والفهم والعدل والحكمة والرفق والتريّث:
-ومقتضى الإخلاص أن لا يريد بكلامه إلا إرضاء خالقه عز وجل، والطمع في جزائه، ثم يستوي عنده بعد ذلك مدح الناس وذمهم.
- والفهم معناه فقه الواقع، قال ابن القيم رحمه الله:" ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع".إعلام الموقعين2/65
وقال:"...فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تصوّر له الظالم بصوره المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصّدّيق والكاذب في صورة الصادق"السابق: 6/113.
وفهم الواقع لا يستقل به أهل اختصاص واحد، مهما علا كعبهم في العلم، بل يُستعان فيه بجميع المخلصين الصادقين من جميع الاختصاصات.
- والعدل مطلوب خصوصا مع المخالف، بل مع العدو، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) ﴾ المائدة.
ومقتضاه إحقاق الحق وإبطال الباطل، مهما كان مصدره، بل الاعتراف بالحق حتى لمن كان أصل قوله باطلا، وأصاب في جزئية واحدة.
ولهذا ما ينبغي شرعا أن يقال: إن هذا النظام لم يقدم شيئا للشعب الجزائري، ولم يقم بأي إنجاز يخدم الناس؛ لأن هذا ظلم وحيف نهانا عنه الشرع الحكيم.
هذا مع اعتقادنا أنه نظام فاقد للشرعية، آيل إلى السقوط؛ لأنه أوّلا معطل لشريعة الله، ولأن إنجازاته لا تعكس مقدرات هذا البلد، وتطلعات شعبه، ثانيا.
- أما الحكمة والرفق فقد قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ﴾النحل.
ومقتضاها أن نحسن صياغة كلامنا، ونختار الوقت المناسب لنشره، ونعتبر المآل، ونتجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العنف وإراقة الدماء، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد أثبتت التجربة الجزائرية أن النظام الفاسد هو الوحيد الذي يستفيد من المواجهة المسلحة، وأنه قد ترتب عليها ما لا يخفى من المفاسد، وسياسة النظام هي السبب الأول فيما حصل ويحصل، والله المستعان.
كما ينبغي أن نحذر الأطراف التي توظف كلام العالم في غير موضعه، لتخدم هواها، وتسوغ سياساتها الرعناء.
-أما الصبر والتـريث، فقال تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)﴾يونس
وقال تعالى:﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) ﴾الرعد
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"رواه البزار والبيهقي.
فالتغيير آت، وكل آت قريب، ولكننا لا نستعجله، ولا نتجاوز المراحل، وقد يتحقق ما نحلم به في حياتنا، وقد يكون من بعدنا.
11- التدرج والمرحلية مع الحفاظ على المبادئ الشرعية
قال تعالى: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)﴾الإسراء.
قال ابن تيمية رحمه الله:"...وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فانه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عمن عفا عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فانه نافع". مجموع الفتاوى 20/59-60.
ومقتضى هذا أنه لا بد لنا من مرحلة انتقالية، تتحاور فيها النخب الممثلة لجميع التيارات، وتطلق فيها الحريات المباحة، وترد فيها الكلمة للشعب لاختيار من يحكمه، لكن دون تراجع عن المبادئ الشرعية، أو تردد في وجوب تحكيم الشريعة الربانية.
12- لا أمن إلا بإيمان، ولا سلام إلا بإسلام، ولا استقرار إلا بتحكيم القرآن
قال جل ذكره: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾النور.
أما من يرى أن استقرار البلاد مرهون باستمرار النظام القائم، فلعله لا يعي معنى الاستقرار، ولا معنى الأمن، ولا معنى السلام.
أو إنه يقصد استقرار المسؤولين وعائلاتهم وحواشيهم، لا استقرار الشعب وأمن البلاد.
وقد كان كفار قريش يصدون الناس عن دعوة الإسلام بحجة أن الخضوع لله تعالى وتحكيم شرعه سيؤدي إلى الخوف واللاأمن،
قال جل ذكره: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾القصص.
13- أن سد الذرائع محكوم بأصل الموازنة
أي أن الوسائل التي قد تؤدي إلى المفاسد تمنع في بعض الأحيان لما تربو مفاسدها على مصالحها، لكنها تفتح في أحيان أخرى، حينما ترجح المصلحة على المفسدة.
فالشرع لا يحرم كل ما تضمن مفسدة، ولكنه يحرم ما يتضمن مفسدة راجحة، ويبيح أو يوجب ما رجحت مصلحته.
قال القرافي رحمه الله:"قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة..."الفروق 2/33
وقال أبو زهرة رحمه الله:"وبهذا ننتهي إلى أن المكلف عليه أن يتعرف في الأخذ بالذرائع مضار الأخذ ومضار الترك، ويراجح بينهما، وأيهما رجح أخذ به"أصول الفقه 276.
فالتغيير قد يؤدي إلى مفاسد، ولكن ما رتبتها؟ وما نوعها؟ وما مقدارها؟ وما هو امتدادها الزمني؟، وهل هي قطعية أو ظنية؟، وما هو الراجح إذا ما قورنت بالمفاسد القطعية التي أنتجتها تنحية الشريعة، وولّدتها السياسات الرعناء؟
وما هو الراجح إذا ما قوبلت بالمصالح المستجلبة، والمفاسد المستدفعة؟
14- أن القياس على ما يجري في البلدان العربية يحتاج إلى مراجعة
وأول ما يراجع هو النظرة السوداوية المحرفة لواقع البلدان العربية التي تخلصت من الأنظمة الاستبدادية، وهو الأصل المقيس عليه. هل واقعهم بالأمس أحسن؟ وهل هم نادمون على ثوراتهم؟
وهل هم اليوم أقرب إلى تحكيم شرع الله تعالى، أم هم بالأمس أقرب؟
وهل هم اليوم أقرب إلى الحياة الكريمة أو بالأمس كانوا أقرب؟
وهل التدخل الأجنبي بدأ مع الثورات، أو سينتهي بنجاحها؟
وهل هم المتحالفون مع الإمبريالية العالمية والكيان الصهيوني، أم من سبقهم؟
وهل سيدوم هذا الوضع عندهم، أو أنها مرحلة لا بد منها وسيعقبها ما هو خير وأبقى في الدنيا والآخرة؟
15- أننا بحاجة إلى الفقه الاستشرافي لا إلى الفقه التبريري
إننا في أمس الحاجة إلى أولي الألباب الذين يقرؤون الواقع، ويستشرفون المستقبل، ويضعون الاحتمالات ويجدون لها الحلول، ويحتاطون للمجهول، لأننا إن لم نخطط لبلدنا كنا بيادق في يد من يخططون.
ولسنا بحاجة إلى من يضفي الشرعية على وضع متعفن، يسوّغه ويدعو إلى استمراره، فإن هذا لم يعد من الممكن اليوم، فضلا عن كونه تلبيس وتدليس وتحريف وكذب وخداع وخيانة.
خاتمة:
أود أن أقول ختاما: إن هذه محاولة لتأصيل شرعي لمرحلة أراها آتية لا محالة، وهي أقرب إلى الخواطر منها إلى المخطط المحكم؛ ذلك أنها عمل فردي من باحث في العلوم الشرعية، ساءه هذا الصمت المطبق من عموم النخبة العلمية في الجزائر، وحاول أن يستنهض الهمم، ويستفز العزائم، لفتح نقاش علمي يقود البلاد إلى بر الأمان.
والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الأخيار.
قسنطينة في 16 جمادى الآخرة 1433ه
الموافق: 8 ماي 2012
أ. محمد أمين سهيلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
أداءً لبعض ما أوجب الله تعالى من النصح والإرشاد، ومساهمةً في الجهود المبذولة لدرء ما يُحدق ببلدنا من مخاطر ومكايد:
أكتب هذه الكلمات، وأسأل الله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ناطقة بالحق، منزهة عن الزلل، وبالله وحده أستعين:
يكاد يُجمع المتابعون للأحداث التي يمر بها بلدنا على أننا مقبلون على مرحلة حرجة مصيرية، من أخطر المراحل التي عايشناها، وأننا نقف على مفترق طرق، ما ندري إلى أين يتجه بنا السبيل بعده.
وفي حين يسعى المخلصون من أبناء هذا البلد إلى اقتراح حلول عملية، ومبادرات واقعية، تنأى بالأمة عن الخطر، وتدرأ عنها الفتن، يُطل علينا بعض المنتسبين إلى العلم بفتاوى توجب المشاركة في الانتخابات المقبلة، وتتوعد المقاطعين بعقاب الخالق عز وجل.
وقد ساءني-كما ساء غيري- أن تلوى أعناق النصوص الشرعية ليّا، وأن يُحرف الكلم عن مواضعه، وأن يستدل بالقواعد الشرعية من لا يعي ضوابطها، وشروط إعمالها، ومواضع تزاحمها مع سائر القواعد والأصول.
وساءني أن يفتئت على الشرع من لا يُحسن التكييف الشرعي للوقائع، وأن يوازن من لا يستحضر معايير الموازنة.
وهالني أن يتجاسر على التوقيع عن رب العزة، من لا يجرأ على الصدع بكلمة الحق مع الحاكم، وأن يحتج بأخف الأضرار من يتردد في التصريح بما يتسبب فيه هذا النظام من مفاسد ومضار، وأقبحها تعطيل شريعة الخالق عز وجل، وصد من يسعى إلى تحكيمها.
ولن أدخل مع هذا البعض في مماحكات، فهمّنا أكبر، ومسؤولياتنا أثقل، وأكتفي بالإحالة على ما ألّفه علماؤنا في الفتوى وضوابطها، وقد لخّصت كثيرا منها في سلسلة مقالات نشرها موقع الفقه الإسلامي، بعنوان: "قواعد في الإفتاء"1إلى 7.
وأحيل على ما قرره أئمتنا من معايير للترجيح بين المصالح والمفاسد، وفيها مؤلفات كثيرة، وقد مهّدت بالحديث فيها في كتابي: قاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"-دراسة تحليلية-.
ولست أقصد في هذا المقام إلى البحث في حكم الانتخابات التشريعية، والرد التفصيلي على المتجاسرين على الإفتاء فيها؛ ذلك أن المجازفة بالقول بالوجوب لن تغير من واقع الأمر شيئا، ولن يجني منها من تجرّأ عليها إلا فقدان مصداقيته، وزعزعة مكانته.
أما شعبنا فإنه متطلع إلى حل أزماته جذريا وسلميا، وما عاد يرضى بالحلول الترقيعية، ولا يمكن أن تُقنعه بأن الحل بيد من تسبب في الأزمة، أو أضفى الشرعية على الباطل بقوله أو فعله أو إقراره، أو شارك ويشارك في كل مسرحية هزلية يؤلفها النظام، لإعادة إنتاج نفسه، وتنتهي في كل مرة بمآسي يندى لها الجبين.
والقصد في هذا المقال تذكير نفسي وإخواني بجملة من الأصول العقدية، والمعاني الشرعية، والقواعد الأصولية، لعلّنا إن أحسنّا تمثّلها وتنزيلها أن نتمكن من المساهمة-كما يساهم أهل العلوم الأخرى- في تجنيب بلدنا المزالق والمهالك، ونسعى من خلالها إلى إقامة حوار بنّاء يرقى بنا عن السفاسف، ونُبرئ به ذمتنا الشرعية والحضارية.
وقد حاولت الاختصار فيها دون إخلال، مع التدليل الشرعي والتنزيل الواقعي، ورتبتها بحيث تبنى كل واحدة فيها على سابقتها، والله المستعان:
1- أن الله تعالى وحده هو المدبّر لشؤوننا، وهو وحده من بيده النفع والضر:
قال جلّ ذكره: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾الأعراف/54
وقال: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾الفتح/11
وقال صلى الله عليه وسلم: «...وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ »رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ويترتب عن هذا الأصل أصل آخر، هو:
2- أننا لا نتوكل إلا على الله، ولا نطمع في سواه، ولا نخاف إلا إياه:
قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ الطلاق/3.
فاعتمادنا في تغيير أحوالنا لا يمكن أبدا أن يكون على أهل الغرب، أو أهل الشرق، فإننا لا نجني من الشوك العنب.
ولا يرهبنا تخويف البعض لنا بالتدخل الأجنبي، والمكر اليهودي، فثقتنا في الله أكبر، ورجاؤنا فيه لن يخيب، ما دمنا مستقيمين على منهجه، ساعين إلى إقامة شرعه.
والغريب أن يصدر هذا التخويف من علمانيين يجاهرون بالتنسيق الأمني مع قوى الطغيان العالمي، ويقابلون تمجيد الاستعمار الفرنسي لتاريخه الأسود وجرائمه النكراء في بلدنا، بالتهليل لتقدم العلاقات الثنائية، بعد خمسة أشهر فقط من صدور قانونه، ويعجزون حتى عن مقابلة قانونه الممجد بقانون يُجرّم.
3- أن ما أصابنا من مصائب فبسبب ذنوبنا وتقصيرنا، لا بسبب مكايد أعدائنا:
قال عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾الشورى/30.
ولا يعني هذا أن أعداءنا لا يخططون لنهب ثرواتنا، بتعميق وتوسيع تبعيتنا لهم، بل معناه أنهم لا يفلحون في كيدهم إلا إذا تعلقنا بحبلهم وقطعنا صلتنا بحبل الله تعالى، ولا يفلح الاستعمار إلا في غزو من كانت فيه القابلية للاستعمار.
4- أن السبب الأول لشقائنا هو بُعدنا عن منهج خالقنا جلّ ذكره، وتعطيلنا لشرعه:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾طه/124.
وقال جل ذكره: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)﴾ المائدة.
5- أن لا مخرج لنا من أزماتنا إلا بالعودة إلى منهج الله تعالى وإقامة العدل وأداء الحقوق:
قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾الذاريات/50
وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾النساء.
والفرار إلى الله تعالى لا يكون بمجرد التزيّن بالمظاهر والأشكال، بإقامة مسابقات حفظ القرآن وترتيله، وتكريم الفائزين، وبناء المساجد الضخمة وتزيينها، وإغداق الأموال على الزوايا.
ولكن الفرار إلى الله تعالى بالخضوع له وحده، وتحكيم شرعه، وإقامة حدود القرآن قبل حروفه.
الفرار إلى الله تعالى بحفظ دينه وسياسة الدنيا به، والعدل بين الناس، وإطلاق الحريات المباحة، وأداء الحقوق، وفتح أبواب الإصلاح، وسد ذرائع الفساد. فإذا التزم الحاكم بهذا، حق على الرعية أن تطيعه، قال علي رضي الله عنه:"حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا".
6- أن المسؤولية الأولى في الإصلاح يتحملها أهل العلم: ورثة الأنبياء
قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾هود.
فأهل العلم هم أولوا الأمر، والقادة الحقيقيون للأمة، الذين يحملون همومها، ويعبرون عن آمالها: قال أبو الأسود الدؤلي رضي الله عنه: "ليس شيء أعز من العلم ، الملوك حُكَّام على الناس، والعلماء حُكَّام على الملوك".
7- أن تخلي العلماء عن موقع القيادة يؤدي إلى الفوضى العامة واستشراء الفساد:
وإنما يكون هذا إذا ما فضّلوا الدنيا على الآخرة، وطمعوا أو خافوا من المخلوق، ونسوا الخالق عز وجل، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "...فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين، لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر والله المستعان على كل حال" الإحياء2/357.
8- أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة:
قال عز ذكره: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾آل عمران/187
وأمّتنا اليوم أحوج ما تكون إلى من يقرأ لها الواقع قراءة شرعية، ويبيّن لها سبيل النجاة، ويجنبها المآسي والفتن.
9- أن سكوتنا في وقت الحاجة إقرار للباطل:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار...وكفّ المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه...ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار "الموافقات: 5/258إلى 266.
10- أن من شرط البيان: الإخلاص والفهم والعدل والحكمة والرفق والتريّث:
-ومقتضى الإخلاص أن لا يريد بكلامه إلا إرضاء خالقه عز وجل، والطمع في جزائه، ثم يستوي عنده بعد ذلك مدح الناس وذمهم.
- والفهم معناه فقه الواقع، قال ابن القيم رحمه الله:" ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع".إعلام الموقعين2/65
وقال:"...فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تصوّر له الظالم بصوره المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصّدّيق والكاذب في صورة الصادق"السابق: 6/113.
وفهم الواقع لا يستقل به أهل اختصاص واحد، مهما علا كعبهم في العلم، بل يُستعان فيه بجميع المخلصين الصادقين من جميع الاختصاصات.
- والعدل مطلوب خصوصا مع المخالف، بل مع العدو، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) ﴾ المائدة.
ومقتضاه إحقاق الحق وإبطال الباطل، مهما كان مصدره، بل الاعتراف بالحق حتى لمن كان أصل قوله باطلا، وأصاب في جزئية واحدة.
ولهذا ما ينبغي شرعا أن يقال: إن هذا النظام لم يقدم شيئا للشعب الجزائري، ولم يقم بأي إنجاز يخدم الناس؛ لأن هذا ظلم وحيف نهانا عنه الشرع الحكيم.
هذا مع اعتقادنا أنه نظام فاقد للشرعية، آيل إلى السقوط؛ لأنه أوّلا معطل لشريعة الله، ولأن إنجازاته لا تعكس مقدرات هذا البلد، وتطلعات شعبه، ثانيا.
- أما الحكمة والرفق فقد قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ﴾النحل.
ومقتضاها أن نحسن صياغة كلامنا، ونختار الوقت المناسب لنشره، ونعتبر المآل، ونتجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العنف وإراقة الدماء، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد أثبتت التجربة الجزائرية أن النظام الفاسد هو الوحيد الذي يستفيد من المواجهة المسلحة، وأنه قد ترتب عليها ما لا يخفى من المفاسد، وسياسة النظام هي السبب الأول فيما حصل ويحصل، والله المستعان.
كما ينبغي أن نحذر الأطراف التي توظف كلام العالم في غير موضعه، لتخدم هواها، وتسوغ سياساتها الرعناء.
-أما الصبر والتـريث، فقال تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)﴾يونس
وقال تعالى:﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) ﴾الرعد
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"رواه البزار والبيهقي.
فالتغيير آت، وكل آت قريب، ولكننا لا نستعجله، ولا نتجاوز المراحل، وقد يتحقق ما نحلم به في حياتنا، وقد يكون من بعدنا.
11- التدرج والمرحلية مع الحفاظ على المبادئ الشرعية
قال تعالى: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)﴾الإسراء.
قال ابن تيمية رحمه الله:"...وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فانه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عمن عفا عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فانه نافع". مجموع الفتاوى 20/59-60.
ومقتضى هذا أنه لا بد لنا من مرحلة انتقالية، تتحاور فيها النخب الممثلة لجميع التيارات، وتطلق فيها الحريات المباحة، وترد فيها الكلمة للشعب لاختيار من يحكمه، لكن دون تراجع عن المبادئ الشرعية، أو تردد في وجوب تحكيم الشريعة الربانية.
12- لا أمن إلا بإيمان، ولا سلام إلا بإسلام، ولا استقرار إلا بتحكيم القرآن
قال جل ذكره: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾النور.
أما من يرى أن استقرار البلاد مرهون باستمرار النظام القائم، فلعله لا يعي معنى الاستقرار، ولا معنى الأمن، ولا معنى السلام.
أو إنه يقصد استقرار المسؤولين وعائلاتهم وحواشيهم، لا استقرار الشعب وأمن البلاد.
وقد كان كفار قريش يصدون الناس عن دعوة الإسلام بحجة أن الخضوع لله تعالى وتحكيم شرعه سيؤدي إلى الخوف واللاأمن،
قال جل ذكره: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾القصص.
13- أن سد الذرائع محكوم بأصل الموازنة
أي أن الوسائل التي قد تؤدي إلى المفاسد تمنع في بعض الأحيان لما تربو مفاسدها على مصالحها، لكنها تفتح في أحيان أخرى، حينما ترجح المصلحة على المفسدة.
فالشرع لا يحرم كل ما تضمن مفسدة، ولكنه يحرم ما يتضمن مفسدة راجحة، ويبيح أو يوجب ما رجحت مصلحته.
قال القرافي رحمه الله:"قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة..."الفروق 2/33
وقال أبو زهرة رحمه الله:"وبهذا ننتهي إلى أن المكلف عليه أن يتعرف في الأخذ بالذرائع مضار الأخذ ومضار الترك، ويراجح بينهما، وأيهما رجح أخذ به"أصول الفقه 276.
فالتغيير قد يؤدي إلى مفاسد، ولكن ما رتبتها؟ وما نوعها؟ وما مقدارها؟ وما هو امتدادها الزمني؟، وهل هي قطعية أو ظنية؟، وما هو الراجح إذا ما قورنت بالمفاسد القطعية التي أنتجتها تنحية الشريعة، وولّدتها السياسات الرعناء؟
وما هو الراجح إذا ما قوبلت بالمصالح المستجلبة، والمفاسد المستدفعة؟
14- أن القياس على ما يجري في البلدان العربية يحتاج إلى مراجعة
وأول ما يراجع هو النظرة السوداوية المحرفة لواقع البلدان العربية التي تخلصت من الأنظمة الاستبدادية، وهو الأصل المقيس عليه. هل واقعهم بالأمس أحسن؟ وهل هم نادمون على ثوراتهم؟
وهل هم اليوم أقرب إلى تحكيم شرع الله تعالى، أم هم بالأمس أقرب؟
وهل هم اليوم أقرب إلى الحياة الكريمة أو بالأمس كانوا أقرب؟
وهل التدخل الأجنبي بدأ مع الثورات، أو سينتهي بنجاحها؟
وهل هم المتحالفون مع الإمبريالية العالمية والكيان الصهيوني، أم من سبقهم؟
وهل سيدوم هذا الوضع عندهم، أو أنها مرحلة لا بد منها وسيعقبها ما هو خير وأبقى في الدنيا والآخرة؟
15- أننا بحاجة إلى الفقه الاستشرافي لا إلى الفقه التبريري
إننا في أمس الحاجة إلى أولي الألباب الذين يقرؤون الواقع، ويستشرفون المستقبل، ويضعون الاحتمالات ويجدون لها الحلول، ويحتاطون للمجهول، لأننا إن لم نخطط لبلدنا كنا بيادق في يد من يخططون.
ولسنا بحاجة إلى من يضفي الشرعية على وضع متعفن، يسوّغه ويدعو إلى استمراره، فإن هذا لم يعد من الممكن اليوم، فضلا عن كونه تلبيس وتدليس وتحريف وكذب وخداع وخيانة.
خاتمة:
أود أن أقول ختاما: إن هذه محاولة لتأصيل شرعي لمرحلة أراها آتية لا محالة، وهي أقرب إلى الخواطر منها إلى المخطط المحكم؛ ذلك أنها عمل فردي من باحث في العلوم الشرعية، ساءه هذا الصمت المطبق من عموم النخبة العلمية في الجزائر، وحاول أن يستنهض الهمم، ويستفز العزائم، لفتح نقاش علمي يقود البلاد إلى بر الأمان.
والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الأخيار.
قسنطينة في 16 جمادى الآخرة 1433ه
الموافق: 8 ماي 2012