تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : القبور الواعظة


djally
2007-07-25, 16:26
الـقـبـور الـواعـظـة



الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد



عَجَائِبُ الوَقْتِ لاَ نُحْصِي لَهَا عَدَدًا *** وَإِنَّمَا بَعْضَهَا نَذْكُرْهُ لِلْعَجَبِ
قُبوُرُنَا حَوْلَنَا وَالْمَيْتُ مُنْجَدِلٌ *** وَضِحْكُنَا حَاضِرٌ فِي البَالِ لَمْ يَغِبِ
أَمَحْفَلُ العُرْسِ أَمْ مَيْتاً نُشَيِّعُهُ *** تَشَابَهَ الْحَالُ .. وَاغَوْثَاهُ مِنْ كُرَبِ
وَصَفْقةُ البَيْعِ عِنْدَ القَبْرِ نَعْقِدُهَا *** وَصَعْقةُ الْمَوْتِ تُدْنِينَا مِنَ العَطَبِ
تَبِيعُ ، تَشْرِي ؛ وَلاَ تَدْرِي أَمُنْقَلِبٌ *** لِأَهْلِكَ اليَوْمَ أمْ لِلْمَيْتِ مُصْطَحِبِ
كَأنَّنَا بَعْدَ هَذَا الْمَيْتِ فِي أَمَدٍ *** مِنَ الْحَيَاةِ بِدَارِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
قَسَـاوَةُ القَلْبِ دَاءٌ لاَ دَوَاءَ لَهُ *** إِلاَّ الرُّجُوُعُ إِلَى دَرْبٍ لَنَا رَحِبِ
هَذِي القُبُورُ بِهَا الذِّكْرَى لِمُتَّعِظٍ *** صَوَامِتٌ .. إِنَّمَا نَادَتْكَ بِالطَّلَبِ
رَكْبُ الْجَنَائِزِ لاَ يُوحِي بِتَذْكِرَةٍ *** وَعِبْرَةٍ أَنَّنَا فِي دَارِ مُغْتَرِبِ
كَمْ فِي القُبُورِ نَعِيماً لَسْتَ تُدْرِكُهُ *** وَكَمْ بِهَا حُفَرٌ لِلنَّارِ وَاللَّهَبِ
مَا مُؤمِنٌ يَنْظُرُ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِراً *** إلاَّ تَغَيَّرَ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ نَصَبِ
وَمَيِّتُ القَلْبِ عِنْدَ القَبْرِ فِي عَمَهٍ *** وَليْسَ يَنْفُذُ خَلْفَ السِّتْرِ وَالْحُجُبِ
وَغَافِلُ القَلْبِ عِنْدَ القَبْرِ فِي مَرَحٍ *** سِيمَاهُ تُخْبِرُ .. لاَ تَسْأَلْ عَنِ السَّبَبِ
وَكَيْفَ يَغْفُلُ وَالأَيَّامُ تَنْقُلُهُ *** إِلَى الْمَقَابِرِ لَوْ قَدْ جَدَّ فِي الْهَرَبِ
إنَّ القُبُورَ مزَارٌ سَوفَ تَسْكُنُهُ *** عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا الأَعْمَارُ كَالْحُقُبِ
فَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْخُلْدِ مُشْرِقَةٌ *** أَوِ الجَحيمُ .. وَيَا بُؤساً لمنْقَلِبِ
هَذَا النَّعِيمُ إِذَا تَطْلُبْ لَهُ شَبَهاً *** كَذَا العَذَابُ ، فَأَمْرٌ غَايَةُ العَجَبِ
كَنَائِمٍ سُرَّ فِي أَحْلاَمِ نَوْمَتِهِ *** وَآخَرٌ كَمْ رَأَى فِي النَّومِ مِنْ كُرَبِ
هَذَا يُشَابِهُ بِالتَّقْرِيبِ بَرْزَخَنَا *** وَمَا الْمُشَبَّهُ كَالْمَرْئيِّ عَنْ كَثَبِ
إِذَا رَأَيْتَ أُنَاساً عِنْدَ مَقْبَرَةٍ *** فِي شُغْلِ دُنْيَاهُمُو فَالدِّينُ فِي عَطَبِ
مَرَاكِبُ القَوْمِ جَالَتْ فِي مَقَابِرِهِمْ *** مُعَبِّدِينَ لَهَا خَوْفاً مِنَ التَّعَبِ
جَوَّالُهُمْ جَالَ فِي هَذْرٍ يَلِيقُ بِهُِمْ *** وَسَامِعُ الْهَذْرِ ظَنَّ القَوْمَ فِي طَرَبِ
أَسْلاَفُنَا كُلُّهُمْ بِالغَمِّ مُشْتَمِلٌ *** عِنْدَ القُبُورِ لِأََمْرٍ لَيْسَ بِاللَّعِبِ
تَذكَّرُوا الْمَوْتَ إِذْ يَأْتِي فَيَفْجَؤُهُمْ *** لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنَى كَانُوا كَمُغْتَرِبِ
إنْ مَاتَ ميْتٌ تَرَى الأحْزَانَ شَامِلَةً *** أينَ الْمُعَزَّى ، فَكُلُّ القَوْمِ فِي رَهَبِ !
فِي دَاخِلِ القَبْرِ أَهْوَالٌ مُهَوِّلَةٌ *** مَنْ عَايَنَ القَبْرَ لَمْ يَرْغَبْ بِمُنْقَلَبِ
إِلاَّ لِيَعْمَلَ أَعْمَالاً تَكُونُ لَهُ *** ذُخْراًَ إذَا جَاءَ وَعْدٌ لَيْسَ بِالكَذِبِ
مَنْ لَمْ تَعِظْهُ قُبُورٌ سَوْفَ يَسْكُنُهَا *** فَعَقْـلُـهُ تَائِهٌ لاَهٍ بِمُسْتَلَبِ
مَوْتُ القُلُوبِ عُقُوبَاتٌ مُعَجَّلَةٌ *** وَمَيِّتُ القَلْبِ لاَ يَدْرِي عَنِ السَّبَبِ
حَالُ الجَنَائِزِ - يَا مَنْ غُرَّ - قَائِلَةٌ *** إِحّذَرْ ! .. فَإنَّكَ يَا مَغْرُوُرُ بِالطَّلَبِ
لاَ تُلْهِيَنَّكَ دُنْياً سَوْفَ تَتْرُكُهَا *** وَآخِرُ الأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَشَبِ
مِنْ حِينِ جِئْتَ إِلَى الدُّنْيا فَمُتَّجِهٌ *** نَحْوَ القَبُورِ وَلَوْ أَمْعَنْتَ فِي الْهَرَبِ
هَذِي الْحَقِيقَةُ يَا مَنْ غَرَّهُ أَمَلٌ *** قَدْ جَاوَزَ الأجَلَ الْمَخْطُوطَ بِالكُتُبِ
أَنفَاسُنَا وَالْخُطَى عَدًّا بِلاَ خَطَإٍ *** مَعَاوِلٌ هَادِمَاتٌ عُمْرَنَا الْخَرِبِ
مَنْ كَانْ يَضْحَكُ وَالأجْـدَاثُ تَرْقُبُـهُ . . *** فَأَمْرُهُ عَجَبٌ يَدْعُو إِلَى العَجَبِ ! .

أما النبي صلى الله عليه وسلم فحاله عند القبر كما وَصَفَ البراء بن عازب رضي الله عنه حيث قال : (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ .. ) (1) ، تأمَّل : (كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ ) تَتَبين لكَ رَهبةُ الْمَقَام ! ؛ وقد حَلَف ابنُ مسعود رضي الله عنه ألاَّ يُكلِّم رجُلاً رآه يضحك مع جنازة حيث قال له : ( أتضْحَك وأنتَ تَتَّبِعُ جنَازة ! ، واللهِ لا أكَلِّمُكَ أبَداً ! ) (2) ؛ كيف لو رأى السلفُ الْمُشيِّعين للجنائز اليومَ ومَا هُمْ لاَهُون لاَغُون فيه مِنْ ضَحِكٍ وكلامٍ في أمورِ الدنيا وجوَّالاَتٍ مُصاحِبة لهم ومراكب جائلة في المقابر ! ، وهذا لا يدل على شيء إلاَّ على قوله تعالى : } لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ { ! ، أمَّا لو تذكَّر الإنسانُ أنَّ هذا مصيره وقد أُخفي عليه حِينُه وتذكَّر ما وَرَدَ في شأن القبر وكَوْنه رَوضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَر النار وسؤال « مُنكَر ونكير » لصارَتْ له حالٌ غير هذه الحالة الإستكبارية الجفائية الْمُعلنة أن صاحبها في شأنٍ غير الشأن الذي خُلِق له وأمِر به ، وأن العقل عازبٌ ، وفي أودية طول الأمَل ذاهبٌ ! ؛ قال إبراهيم النخعي ~ : ( كَانَتْ تَكُونُ فِيهِمْ الْجِنَازَةُ فَيَظلُّون الأيَّام مَحْزُونِينَ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِيهِمْ ! ) (3) ، وقال أيضاً : ( كُنَّا إذَا حَضَرْنا جِنَازَةً أوْ سَمِعْنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذلك فِينَا أيَّامًا ؛ لأنَّا قَدْ عَرَفْنَا أنه قَد نَزَل به أمْرٌ صَيَّرَه إِلَى الْجَنَّةِ أوْ إلى النَّارِ ) ثم قال : ( فَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ تَحَدَّثونَ بِأحَادِيثَ دُنيَاكُمْ ! ) (4) ؛ وعن الأعمَشِ ~ أنه قال : ( إنْ كنَّا لَنشهَد الْجِنَـازَة فلاَ نَدْرِي مَنْ نُعَزِّي مِنْ حُزْنِ القَوْمِ ! ) (5) ؛ فتأمَّل ذلك وما نَحنُ فيه اليوم ! .
والله المستعان ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


------------------------------------
(1) جزء من حديثٍ طويل صحيح مشهور أخرجه أبو داود برقم ( 4753 ) وغيره ، وأخرجه ابن جرير في « مسند عمر » ( 2 / 494 ) وصحَّح إسناده .
(2) أخرجه البيهقي في « شُعب الإيمان » برقم ( 9271 ) ، وابن عبد البَرِّ في « التمهيد » ( 4 / 87 ) ، وغيرهم .
(3) « الزهد » لوكيع ص ( 232 ) ، و « حلية الأولياء » لأبي نعيم ( 4 / 227 ) .
(4) « الزهد » للإمام أحمد ص ( 365 ) ، و « البداية والنهاية » لأبن كثير ( 9 / 160 ) .
(5) « مصنف ابن أبي شيبة » ( 8 / 318 ) ورقم ( 169 ) .

djally
2008-08-04, 11:55
الـقـبـور الـواعـظـة



الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد