gatboulerbah
2009-01-13, 11:29
رحل صمويل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات قبل ثلاثة أيام فقط علي بدء عدوان إسرائيلي همجي يمثل وقودا جديدا لهذا الصدام. لم يمهله القدر ليسمع وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني وهي تؤكد مرة أخري صحة هذه النظرية. فقد اعتبرت العدوان المفرط في وحشيته ضد مدنيين عزل محاصرين انتصارا لقيم العالم الحر.
وليست هذه هي المرة الأولي التي يثبت فيها صواب نظرية هنتنجتون. وقليلا ما أتيح لمفكر صاحب نظرية أن يشهد في حياته ما يؤكد سلامة هذه النظرية, عبر تتابع الأحداث في الاتجاه الذي توقعه. فلم يمض خمس سنوات علي إصدار كتابه الذي تضمنها حتي وقعت هجمات11 سبتمبر2001 تحت شعار الصدام بين( فسطاطي الإيمان والكفر). وتبعتها الحرب علي الإرهاب تحت شعار( من ليس معنا فهو علينا).
وليس هذان' الفسطاطان' إلا تجسيدا لجوهر نظرية' هنتنجتون, وهو أن الصراع الأعظم في إطار صدام الحضارات سيكون بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ففي هذين العالمين توجد الحضارتان اللتان اعتبرهما الأكثر تضادا في العصر الراهن من بين الكتل الحضارية الكبري الثماني في هذا العصر.
وتقوم نظرية صدام الحضارات علي أن العالم دخل عصرا جديدا ينقسم فيه الناس وفقا لانتماءاتهم الحضارية الثقافية الدينية, وأن هذا الانقسام سيزداد عمقا وحدة. وقصد هنتنجتون بذلك أن هذا الانقسام سيكون هو المؤثر الرئيسي علي العلاقات الدولية للمرة الأولي منذ نشأة الدولة القومية.
وهذا هو ما يحدث الآن علي صعيد الاتجاهات الرئيسية في التفاعلات العالمية, التي أسقطت نظرية' نهاية التاريخ' بعد أن بدا لوهلة أنها قد تكون هي الأكثر صحة. ولكن هنتنجتون كان واثقا منذ اللحظة الأولي في أن نظريته ليست فقط أكثر عمقا من نظرية فرنسيس فوكوياما السطحية, ولكنها أيضا الأقرب إلي الواقع الذي كان يتشكل في مطلع العقد الماضي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
ولذلك, سيسجل التاريخ مقالة هنتنجتون وكتابه باعتبارهما علامة كبري من علاماته, بخلاف كتاب فوكوياما( نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الذي سيقل ذكره مع الوقت. فقد دخل العالم فعلا عصر صدام الحضارات. وهذا عصر سيمتد لفترة غير قصيرة بعد هنتنجتون الذي غادر عالمنا بعد أن نبه إلي ما ينتظر الناس فيه من ويلات صدام يحدث تعبئة أقوي وأوسع من تلك التي ارتبطت بالصراع الأيديولوجي حين كان هو المحرك الأول للعلاقات الدولية.
فلن ترحل نظرية هنتنجتون معه, بخلاف ما تمناه بعض العرب الذين علقوا علي وفاته بهذا المعني وقالوا إنهم يرجون أن تموت أفكاره معه. وقد أخطأ هؤلاء فهم هذه الأفكار, مثلما أخفق غيرهم في إدراك مغزاها منذ أن طرح هنتنجتون نظريته. فهو لم يدع إلي صدام بين الحضارات, ولا تمني ذلك, وإنما تنبأ به من واقع تحليله لحالة العالم عقب انتهاء الصدام الأيديولوجي. فلم يكن هنتنجتون داعية صدام, وإنما كان عالما عرف بأطروحاته العميقة والمثيرة للجدل منذ أن أصدر كتابه الأول عن العلاقات العسكرية المدنية في عام1957, وحتي كتابه الأخير عن الهوية الأمريكية في عام2004.
ولذلك فهو يختلف, مثلا, عن كارل ماركس عندما طرح نظرية صراع الطبقات داعيا إليها ومحرضا علي العمل من أجل تفجير هذا الصراع, ومفسرا التاريخ علي أساسها بكثير من التعسف, وراسما سيناريو لمستقبل العالم في ظلها بقليل من الأدلة والأسانيد. وبينما لم يعد في نظرية صراع الطبقات ما يساعد في فهم ما حدث من نيويورك2001 إلي غزة2008, يمكن أن نجد في نظرية صدام الحضارات ما يعين في ذلك. ولكن الفرق بينهما لا يقتصر علي ذلك. فقد طرح هنتنجتون نظريته في لحظة لم تكن فيها مؤشرات قوية علي أن صدام الحضارات سيحل بهذه السرعة محل صراع الأيديولوجيات. ولذلك فله الفضل في لفت الانتباه إلي خطر الصدام الذي رآه قادما, حين لم يره الآخرون. أما ماركس فقد قدم نظريته في وقت كانت الثورة الصناعية الأولي قد أنتجت صراعا طبقيا بدا واضحا للجميع في الدول الأوروبية الأكثر تقدما. وقد أغري ذلك ماركس بأن يجزم بانتصار الاشتراكية_ الشيوعية, لأنه قدم نظريته من موقع الانحياز الكامل, بل الانخراط في هذا الصراع عبر دعوة عمال العالم لأن يتحدوا, بخلاف هنتنجتون الذي طرح نظريته من موقع الموضوعية الناقصة بطابعها.
فلم يكن صاحب نظرية صدام الحضارات محايدا, ولا وجود أصلا للحياد في مثل هذا النوع من الأطروحات ولا ربما في غيره. ولذلك فإذا كان من الخطأ التام تحميل هنتنجتون المسئولية عن صدام حضاري توقع أن يحتدم دون أن يبشر به ولا أن يدعو إليه, فقد يكون من الصواب القول إنه ساهم بدرجة ما في تهيئة الأجواء في داخل الولايات المتحدة, وربما في خارجها أيضا لتصاعد هذا الصدام.
فبدلا من أن يدعو ساسة بلاده إلي تبني سياسات أكثر إنصافا تجاه قضايا العالم الإسلامي, سعيا إلي تقليل حدة الصدام الحضاري الذي توقعه, أوصي بالاتجاه إلي تدعيم التحالف الغربي. ولكن هذا لا يعني بأي حال أنه مسئول بأي مقدار عن سياسة' المحافظين الجدد' التي أججت صدام الحضارات خلال السنوات الثماني الأخيرة. فقد نشأ هذا الاتجاه في منتصف سبعينيات القرن الماضي, وتنامي بمعزل عن نظرية هنتنجتون, مثله في ذلك مثل التطرف الأصولي في العالم الإسلامي. ولاعلاقة لهذه النظرية, بطبيعة الحال, بفشل الإصلاحيين العقلانيين المسلمين وانغلاقهم علي أنفسهم في' أبراج عاجية' وعجزهم عن التواصل مع الجمهور, ومنافسة الاتجاهات السلفية الضيقة والأصولية المتطرفة.
وكان هنتنجتون أول عالم غربي توقع تنامي هذه الاتجاهات, ضمن نبوءة مبكرة بفشل التحديث الاقتصادي والاجتماعي في العالم الثالث. فقد تحدي, في كتابه' النظام السياسي في مجتمعات متغيرة' الصادر في عام1968 نظرية التحديث التي كانت رائجة في ذلك الوقت, وتوقع أن تؤدي إلي نتائج عكسية لأنها أغفلت مدي قوة وعمق المكونات الثقافية والاجتماعية التقليدية في عوالم تختلف كثيرا عن الغرب.
ولكن عدم معرفة الكثيرين بهذه الخلفية أدي إلي إساءة فهم نظرية صدام الحضارات, التي تقدم منهجا لا يمكن بدونه فهم ما حدث في العالم منذ الهجوم علي نيويورك في سبتمبر2001 إلي العدوان علي غزة في ديسمبر.2008
وليست هذه هي المرة الأولي التي يثبت فيها صواب نظرية هنتنجتون. وقليلا ما أتيح لمفكر صاحب نظرية أن يشهد في حياته ما يؤكد سلامة هذه النظرية, عبر تتابع الأحداث في الاتجاه الذي توقعه. فلم يمض خمس سنوات علي إصدار كتابه الذي تضمنها حتي وقعت هجمات11 سبتمبر2001 تحت شعار الصدام بين( فسطاطي الإيمان والكفر). وتبعتها الحرب علي الإرهاب تحت شعار( من ليس معنا فهو علينا).
وليس هذان' الفسطاطان' إلا تجسيدا لجوهر نظرية' هنتنجتون, وهو أن الصراع الأعظم في إطار صدام الحضارات سيكون بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ففي هذين العالمين توجد الحضارتان اللتان اعتبرهما الأكثر تضادا في العصر الراهن من بين الكتل الحضارية الكبري الثماني في هذا العصر.
وتقوم نظرية صدام الحضارات علي أن العالم دخل عصرا جديدا ينقسم فيه الناس وفقا لانتماءاتهم الحضارية الثقافية الدينية, وأن هذا الانقسام سيزداد عمقا وحدة. وقصد هنتنجتون بذلك أن هذا الانقسام سيكون هو المؤثر الرئيسي علي العلاقات الدولية للمرة الأولي منذ نشأة الدولة القومية.
وهذا هو ما يحدث الآن علي صعيد الاتجاهات الرئيسية في التفاعلات العالمية, التي أسقطت نظرية' نهاية التاريخ' بعد أن بدا لوهلة أنها قد تكون هي الأكثر صحة. ولكن هنتنجتون كان واثقا منذ اللحظة الأولي في أن نظريته ليست فقط أكثر عمقا من نظرية فرنسيس فوكوياما السطحية, ولكنها أيضا الأقرب إلي الواقع الذي كان يتشكل في مطلع العقد الماضي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
ولذلك, سيسجل التاريخ مقالة هنتنجتون وكتابه باعتبارهما علامة كبري من علاماته, بخلاف كتاب فوكوياما( نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الذي سيقل ذكره مع الوقت. فقد دخل العالم فعلا عصر صدام الحضارات. وهذا عصر سيمتد لفترة غير قصيرة بعد هنتنجتون الذي غادر عالمنا بعد أن نبه إلي ما ينتظر الناس فيه من ويلات صدام يحدث تعبئة أقوي وأوسع من تلك التي ارتبطت بالصراع الأيديولوجي حين كان هو المحرك الأول للعلاقات الدولية.
فلن ترحل نظرية هنتنجتون معه, بخلاف ما تمناه بعض العرب الذين علقوا علي وفاته بهذا المعني وقالوا إنهم يرجون أن تموت أفكاره معه. وقد أخطأ هؤلاء فهم هذه الأفكار, مثلما أخفق غيرهم في إدراك مغزاها منذ أن طرح هنتنجتون نظريته. فهو لم يدع إلي صدام بين الحضارات, ولا تمني ذلك, وإنما تنبأ به من واقع تحليله لحالة العالم عقب انتهاء الصدام الأيديولوجي. فلم يكن هنتنجتون داعية صدام, وإنما كان عالما عرف بأطروحاته العميقة والمثيرة للجدل منذ أن أصدر كتابه الأول عن العلاقات العسكرية المدنية في عام1957, وحتي كتابه الأخير عن الهوية الأمريكية في عام2004.
ولذلك فهو يختلف, مثلا, عن كارل ماركس عندما طرح نظرية صراع الطبقات داعيا إليها ومحرضا علي العمل من أجل تفجير هذا الصراع, ومفسرا التاريخ علي أساسها بكثير من التعسف, وراسما سيناريو لمستقبل العالم في ظلها بقليل من الأدلة والأسانيد. وبينما لم يعد في نظرية صراع الطبقات ما يساعد في فهم ما حدث من نيويورك2001 إلي غزة2008, يمكن أن نجد في نظرية صدام الحضارات ما يعين في ذلك. ولكن الفرق بينهما لا يقتصر علي ذلك. فقد طرح هنتنجتون نظريته في لحظة لم تكن فيها مؤشرات قوية علي أن صدام الحضارات سيحل بهذه السرعة محل صراع الأيديولوجيات. ولذلك فله الفضل في لفت الانتباه إلي خطر الصدام الذي رآه قادما, حين لم يره الآخرون. أما ماركس فقد قدم نظريته في وقت كانت الثورة الصناعية الأولي قد أنتجت صراعا طبقيا بدا واضحا للجميع في الدول الأوروبية الأكثر تقدما. وقد أغري ذلك ماركس بأن يجزم بانتصار الاشتراكية_ الشيوعية, لأنه قدم نظريته من موقع الانحياز الكامل, بل الانخراط في هذا الصراع عبر دعوة عمال العالم لأن يتحدوا, بخلاف هنتنجتون الذي طرح نظريته من موقع الموضوعية الناقصة بطابعها.
فلم يكن صاحب نظرية صدام الحضارات محايدا, ولا وجود أصلا للحياد في مثل هذا النوع من الأطروحات ولا ربما في غيره. ولذلك فإذا كان من الخطأ التام تحميل هنتنجتون المسئولية عن صدام حضاري توقع أن يحتدم دون أن يبشر به ولا أن يدعو إليه, فقد يكون من الصواب القول إنه ساهم بدرجة ما في تهيئة الأجواء في داخل الولايات المتحدة, وربما في خارجها أيضا لتصاعد هذا الصدام.
فبدلا من أن يدعو ساسة بلاده إلي تبني سياسات أكثر إنصافا تجاه قضايا العالم الإسلامي, سعيا إلي تقليل حدة الصدام الحضاري الذي توقعه, أوصي بالاتجاه إلي تدعيم التحالف الغربي. ولكن هذا لا يعني بأي حال أنه مسئول بأي مقدار عن سياسة' المحافظين الجدد' التي أججت صدام الحضارات خلال السنوات الثماني الأخيرة. فقد نشأ هذا الاتجاه في منتصف سبعينيات القرن الماضي, وتنامي بمعزل عن نظرية هنتنجتون, مثله في ذلك مثل التطرف الأصولي في العالم الإسلامي. ولاعلاقة لهذه النظرية, بطبيعة الحال, بفشل الإصلاحيين العقلانيين المسلمين وانغلاقهم علي أنفسهم في' أبراج عاجية' وعجزهم عن التواصل مع الجمهور, ومنافسة الاتجاهات السلفية الضيقة والأصولية المتطرفة.
وكان هنتنجتون أول عالم غربي توقع تنامي هذه الاتجاهات, ضمن نبوءة مبكرة بفشل التحديث الاقتصادي والاجتماعي في العالم الثالث. فقد تحدي, في كتابه' النظام السياسي في مجتمعات متغيرة' الصادر في عام1968 نظرية التحديث التي كانت رائجة في ذلك الوقت, وتوقع أن تؤدي إلي نتائج عكسية لأنها أغفلت مدي قوة وعمق المكونات الثقافية والاجتماعية التقليدية في عوالم تختلف كثيرا عن الغرب.
ولكن عدم معرفة الكثيرين بهذه الخلفية أدي إلي إساءة فهم نظرية صدام الحضارات, التي تقدم منهجا لا يمكن بدونه فهم ما حدث في العالم منذ الهجوم علي نيويورك في سبتمبر2001 إلي العدوان علي غزة في ديسمبر.2008