amine 2012
2012-04-25, 09:51
شروط الإبداع : النفسية و الإجتماعية
ــ يتفوق الانسان عن بقية الكائنات الأخرى بفضل وظائفه العقلية العليا،كالإدراك و الذاكرة و اللغة و التخيل ،هذا الأخير ينقسم الى نوعين : تخيل تمثيلي يسترجع فيه الانسان الصور و يمثلها في عقله بعد غياب الأشياء المحسوسة التي أحدثتها،و تخيل إبداعي يبتكر فيه صورا جديدة غير مألوفة تتجاوز الواقع و هذا ما يجعل الانسان كائنا مبدعا ، و الإبداع يعرف : بأنه تركيب شيء على غير مثال سابق و القدرة على إيجاد حلول جديدة للمشكلات التي نعيشها. لكن تحديد طبيعة الإبداع و الشروط المتحكمة فيه اختلف حوله المفكرون و الفلاسفة فمنهم من يرجع عملية الإبداع الى شروط نفسية و ذاتية خاصة بالمبدع ، و منهم من يرجعها الى شروط اجتماعية و الى الحاجات التي يطلبها المجتمع، من هنا يمكننا التساؤل :
هل الإبداع يتولد نتيجة صفات خاصة و ذاتية أم أنه يعود الى البيئة الاجتماعية ؟
ــ يذهب الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون و العالم النفساني فرويد إلى أن الابداع ظاهرة خاصة بالفرد المبدع . ذلك ان هذه الاخيرة توجد لدى بعض الافراد دون غيرهم ، لأن الاحوال النفسية و العقلية من ميول ورغبات و ذكاء و تخيل .. و هي التي تدفع بالفرد إلى الإبداع . فقد حلل هذا فرويد ظاهرة الابداع بردها الى الاعمال اللاشعورية ، ذلك أن العمل المبدع في ظره تعبير عن الرغبات المكبوتة التي تتحقق عن طريق الخيال الذي يعتبر شكل من أشكال الرضاء البديل و امتداد للعب الاطفال و أحلام اليقظة عند الراشد .
في حين يربط برغسون الابداع بالحالة الانفعالية للفرد ، فهو لا يغير من الواقع و لا يتجاوز المشاكل الطارئة التي تصادفه إلا في جو حماسي يسوده التوتر و الانفعال فيصل الفرد إلى إعطاء الجديد الذي قد لا يصل إليه في حالة ركود أو هدوء لهذا يقول برغسون : * إن كبار العلماء و الفنانين يبدعون وهم في حالة إنفعال *. فبرغسون هنا يؤكد أن للإنفعال له دور إيجابي ، فهو يقوم بتنشيط مختلف القدرات العقلية التي تمكن الفرد من خلق و توليد أفكار تتناسب وموضوع بحثه ، فالعلماء يتخيلون الفروض العلمية في حالة انفعال قوي لأنهم امام ظاهرة تثير فيهم نوع من الدهشة التي تتطلب الحل السريع ، والشعراء قديما و حديثا كانوا يبدعون قصائدهم في جو حماسي يسوده التوتر الفكري أو التوتر النفسي نتيجة إحتلال او ما شابه . كما هو الشأن بالنسبة للمتنبي قديما من خلال مناظرته لشعراء عصره ، أو مفدي زكريا الملقب بشاعر الثورة و هذه الأخيرة لا تتضمن الهدوء .
ومن جهة أخرى نجد أن الابداع ميزة لا تتوفر عند جميع الناس ، ذلك أن هذا الاخير لا يكون بالصدفة لأن المبدع إذا لم يكن مستعد و لا توجد لديه رغبة في ذلـك فلن يستطيع لقيام بذلك ، لأن هذه العوامل تزيد من إرادة المبدع و تكون حافزا مساعدا للبحث عن الحقيقة للوصول إلى نتائج شاملة للتجربة أو الدراسة التي يقوم بها . وهنا نجد بوانكاري يقول :* إن الحظ يحالف النفس المهيئة * و على هذا لابد من الاستعداد الجيد عند القيام بأي عمل ، فالتلميذ إذا لم يكن مستعدا لإجتياز الإمتحان نتيجة عدم رغبته في الدراسة و بالتالي عدم مراجعة الدروس فإنه سوف يجد صعوبة في إجتياز ذلك الإمتحان .
إضافة إلى ذلك نجد ان عملية البحث قد تستغرق من المبدع مدة طويلة قد تدوم لسنوات ، لذا على المخترع ان يتحلى بالصبر و إنتظار ساعة الحسم وهذا ما يؤكده نيوتن في قوله : * إنني لأضع بحثي نصب عيني دائما و انتظر حتى يلمع الاشراق الاول شيئا فشيء لينقلب الى نور جلي * . وهذا تأكيدا على دور العامل النفسي في عملية الابداع التي لن تكون سهلة المنال ، و التاريخ يثبت أن ما من مخترع أو مكتشف توصل إلى إثبات إفتراضاته بعد فترة زمنية قصيرة و إنما دامت لسنوات ، فنيوتن مثلا إستغرق سنوات عديدة حتى توصل إلى إكتشاف قانون الجاذبية وما كان له ذلك إلا لأنه آمن بفكرة معينة و تحلى بالصبر. ومن هذا المنطلق تصبح العوامل الداتية هي الدافع الاساسي للمبدعين حتى يتمكنوا من تقديم إختراعات .
ــ صحيح أن العوامل الذاتية لا غنى عنها في الإبداع لكنها لا تكفي وحدها في غياب محيط اجتماعي مناسب لأن بعض المجتمعات تقتل روح الإبداع و تحول دون ظهورالمواهب . و ما يثبت ذلك ظاهرة هجرة الأدمغة من الدول الفقيرة التي لا توفر لمبدعيها ما يحتاجونه الى الدول الغنية المتطورة التي تقدر المبدع و تعطيه الأولوية مقارنة بالأفراد العاديين و خير مثال على ذلك الرسام الهولندي الشهير فان غوغ الذي مات منتحرا و الحسرة تملئ قلبه لأنه لم يستطع أن يكسب رضا النقاد و لم يبع أي لوحة و هو حي حتى أن إحدى السيدات اشترت لوحة له بعد وفاته بفترة قصيرة لكي تسد بها فجوة كانت في سقف بيتها ثم بعدما بدأ الناس يقدرون أعماله الفنية- بعد فوات الأوان- نزعتها من السقف و باعتها بثرة طائلة تجاوزت الملايين. و المبدع أيضا مهما كان يملك من صفات ذاتية تدل على عبقريته فانه يخضع رغما عنه لثقافة المجتمع الذي يعيش فيه و ما يحمله من قيم و مبادئ أخلاقية تحدد نوع الإبداع و مجاله كما هو الحال مع فني الرسم والنحت الذين دار حولهما جدال كبير بين علماء الإسلام بين محرم و مبيح جعل من وتيرة تطور هذين الفنيين متحفظة في المجتمعات الإسلامية مقارنة بما وصل إليه فن الرسم في أوروبا .
ــ في مقابل ذلك يرى علماء الإجتماع و على رأسهم جاك بيكارد الذين يرون أن الإبداع يعود بالدرجة الأولى للشروط الموضوعية و لما يوفره المجتمع من مناخ يسمح بحصول الابداع . لأن المبدع لا يستمد مادة إبداعه إلا من المجتمع . كما أن نشاطه يعتبر ظاهرة إجتماعية مرتبطة بما تمليه عليه الحياة الخارجية و يستدلون على هذا بحجج منها :
إن المسائل التي يريد المخترع معالجتها لا تتولد إلا في وسط إجتماعي بلغ درجة معينة من التطور الإجتماعي و الإقتصادي و الفني و العلمي و حتى الفلسفي ، سواء كان الإختراع آلة ميكانيكية أو صورة فنية أو نظرية فلسفية ، فإن المخترع لا يبلغ غايته إلا إذا أحاط بما في زمنه من شروط الصناعة أو صور الفن أو مذاهب فلسفية و خاصة المجال العلمي الذي يعد أنسب مجال للإبداع و هنا نجد بيكار يقول : * لا يمكن حصول كشف علمي أو إختراع إلا إذا كانت حالة العلم تسمح بذلك * . فكثيرا ما يتوصل العلماء إلى إختراعات واحدة في زمان واحد و مثال ذلك ان ليبنتز و نيوتن في إختراع حساب اللانهائيات ، في زمان واحد من غير أن يكون لأحدهما صلة بالآخر ، والسبب في ذلك أن المسائل العلمية تبلغ من النمو درجة تتهيأ معها أسباب الإختراع ، وقد تؤدي هذه الأسباب إلى تحقيق الإختراع في زمان دون زمان و في بلد دون آخر .
ثم إن للهيئة الإجتماعية تأثير في عقل المخترع نفسه ، فالإستعدادات النفسية الأولية غامضة جدا إلا أنها لا تتكيف بحسب الشروط الإجتماعية ، فإذا ورث الطفل من أبويه ميلا إلى الجمع و الإدخار تكيف مع هذا الميل بحسب البيئة ، و إذا ما ورث تخيلا شديدا هيأه للتجارة أو الأعمال المالية لذا فإن صورة عبقريته تختلف بإختلاف شروط بيئته . ومن جهة أخرى نجد أن المبدع يتأثر بالمستوى المعيشي داخل أسرته و مجتمعه من فقر و حرمان وغنى ، فالفقير لا يبدع كالغني سواء من الناحية الأسرية أو الإجتماعية و الواقع يثبت ذلك ، لذا فحتى يتمكن الفرد من الإبداع فلا بد من توفير المجتمع لمختلف الشروط الضرورية لذلك ، خاصة فيما يتعلق بالوسائل و المعدات لكي يستطيع المبدع أن يجرب و يواصل بحثهو يطوره . فأمريكا مثلا تسخر ملايير من الدولارات في بناء المخابر و تجهيزها بمختلف الوسائل الحديثة التي تمكن علماءها من الإكتشاف و بالتالي الرقي و الإزدهار للمجتمع الأمريكي و ما المستوى و المكانة التي تحتلها إلا دليل على ذلك ، على غرار الدول الفقيرة التي لا تستطيع توفير ما يأكله أفرادها . فكيف لها أن توفر التجهيزات العلمية ؟ و هل بإمكانها أن توفر الجو المساعد على التعلم ؟
كما أن البيئة الإجتماعية لا تكتفي بحمل العلماء على الإختراع فقط بل تهيئ لهم الحلول التي يجب أن يتبعوها و الأنماط التي يجب أن ينسجوا على منوالها أبحاثهم ، فهي إذن تنظم الخيال لذا قال لاكومب ما خلاصته : * إن الإختراع تنظيم إجتماعي للتخيل التلقائي * .
ومن جهة أخرى نجد أن الفرد لايبدع لنفسه و إنما نتيجة حاجة المجتمع و ما يسمح به ، لهذا قيل : * الحاجة أم الإختراع * . لأن هذه الأخيرة هي التي تدفع الفرد إلى العمل لتحقيقها ، فالعصر الحديث مثلا هو عصر التكنولوجيا و التطور العلمي و الصراعات من أجل السيطرة و القاء ، هذه المميزات جعلت الدول التي لا تمتلك صناعة حربية في حاجة ماسة لغيرها لذا فلا بد من الإكتشافات العلمية و تطوير الصنعة في جميع المجالات حتى تتمكن الدولة من إثبات وجودها والسيطرة على العلم ، وهذا ما تسعى الولايات المتحدة الامريكية للقيام به .
ــ صحيح أن للبيئة الاجتماعية أهمية كبيرة في توفير شروط الإبداع، لكن الاختراع الجديد كثيرا ما كان ثورة على الأوضاع القديمة و أن المجتمع كثيرا ما يكون عائقا أمام المبدع لأن المجتمع نتيجة تأثير العادات و التقاليد يكره كل تجديد و تبديل و المبدع بطبعه يحاول تجاوز الواقع حيث يقول العالم الفرنسي لوروي : * كل تركيب جديد يتولد من تحليل نقدي سابق ، فالناس لا يرتاحون للجديد لأنهم ألفوا القديم * . و مما يلفت النظر أن مخترعي نظريات ما بعد الطبيعة يحشرون مع المجانين و أن المبدعين الاجتماعيين و الأخلاقيين يعدون فوضويين، و أن المبدعين في الفن يعتبرون غير متزنين حتى أن العلماء أنفسهم لا يفهم كلامهم أحد عند إتيانهم بالأفكار الجديدة فيتهمون بمخالفة نظرياتهم للحس السليم و عدم معقوليتها و ما حدث لسقراط الذي قتل بسبب أفكاره لخير مثال على ذلك .
و لو كان الإبداع راجعا لعوامل اجتماعية فقط لكان كل الأفراد الذين يعيشون في بيئة واحدة و متشابهة مبدعين و الواقع يكذب ذلك، ﺇذ كثيرا ما يظهر مبدعون في بيئات اجتماعية متخلفة و غير مناسبة و العكس قد يحصل أحيانا فقد تتوفر الظروف الاجتماعية المناسبة و لا يوجد مبدعون مثلما هو حاصل في المنتخب الفرنسي لكرة القدم فمعظم لاعبيه ليسوا من أصل فرنسي بل اغلبهم عرب و أفارقة.
ــ الإبداع ظاهرة معقدة تتداخل في ظهوره عوامل بعضها ذاتي يتعلق بالذات المبدعة، و بعضها الاخر موضوعي متعلق بالبيئة الاجتماعية و الثقافية فالأطروحتان متكاملتان و ليستا متعارضتين، فالإبداع لا يكون ﺇلا بتوفر الشروط النفسية و الاجتماعية معا. ـ لكن حسب اعتقادي فان الشروط النفسية و الذاتية في عملية الإبداع أكثر أهمية من الشروط الاجتماعية ذلك أن المجتمع كثيرا ما يظلم المبدع و يقاوم جرأته و في تاريخ العلوم أمثلة كثيرة تدل على المقاومة التي لقيها المخترعون في زمانهم مثال ذلك قول نيوتن بالجاذبية العامة اعتبر غير معقول و قول العالم الفلكي الايطالي غاليلي بدوران الأرض حول الشمس و بأنها كروية اعتبر مخالفا لمبادئ الكنيسة حتى أنه دفع حياته ثمنا لأفكاره . كما اعترض العديد من علماء النفس على نظرية اللاشعور، وما أكثر العلماء الذين صعب عليهم قبول نظرية النسبية التي جاء بها العالم الفيزيائي آينشتاين رفض العديد من النقاد العرب الشعر الحر و هاجموا من يكتبه.
ــ نستنتج في الأخير أن الإبداع ما هو ﺇلا ثمرة تكامل العوامل النفسية و الاجتماعية فهو ظاهرة فردية تضرب بأعماق جذورها في الحياة الاجتماعية وفق حاجة المجتمع لذلك، فالمبدع يتميز بخصائص نفسية و عقلية خارقة و متطورة كقوة الذاكرة و سعة الخيال و الذكاء الخارق مع الميول القوية و الاهتمام و العواطف الجياشة إضافة إلى الجو الذي يوفره المجتمع من شروط و إمكانات مادية ومعنوية تساعد المبدع و تشجعه و تقدر مواهبه، وهذا ما حدث مع إديسون الذي تميز بالعبقرية و الإرادة القوية وقد لقي التقدير و الدعم من المجتمع الأمريكي فعندما توفي أطفئت جميع أنوار ومصابيح أمريكا في تلك الليلة، بحيث قبله كانت هكذا. و في ذلك يقول عالم النفس الفرنسي ريبو : * مهما كان الإبداع فرديا فانه يحتوي على نصيب اجتماعي * .
إستفيدوا منها و قيموهانا و شكرااا
ــ يتفوق الانسان عن بقية الكائنات الأخرى بفضل وظائفه العقلية العليا،كالإدراك و الذاكرة و اللغة و التخيل ،هذا الأخير ينقسم الى نوعين : تخيل تمثيلي يسترجع فيه الانسان الصور و يمثلها في عقله بعد غياب الأشياء المحسوسة التي أحدثتها،و تخيل إبداعي يبتكر فيه صورا جديدة غير مألوفة تتجاوز الواقع و هذا ما يجعل الانسان كائنا مبدعا ، و الإبداع يعرف : بأنه تركيب شيء على غير مثال سابق و القدرة على إيجاد حلول جديدة للمشكلات التي نعيشها. لكن تحديد طبيعة الإبداع و الشروط المتحكمة فيه اختلف حوله المفكرون و الفلاسفة فمنهم من يرجع عملية الإبداع الى شروط نفسية و ذاتية خاصة بالمبدع ، و منهم من يرجعها الى شروط اجتماعية و الى الحاجات التي يطلبها المجتمع، من هنا يمكننا التساؤل :
هل الإبداع يتولد نتيجة صفات خاصة و ذاتية أم أنه يعود الى البيئة الاجتماعية ؟
ــ يذهب الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون و العالم النفساني فرويد إلى أن الابداع ظاهرة خاصة بالفرد المبدع . ذلك ان هذه الاخيرة توجد لدى بعض الافراد دون غيرهم ، لأن الاحوال النفسية و العقلية من ميول ورغبات و ذكاء و تخيل .. و هي التي تدفع بالفرد إلى الإبداع . فقد حلل هذا فرويد ظاهرة الابداع بردها الى الاعمال اللاشعورية ، ذلك أن العمل المبدع في ظره تعبير عن الرغبات المكبوتة التي تتحقق عن طريق الخيال الذي يعتبر شكل من أشكال الرضاء البديل و امتداد للعب الاطفال و أحلام اليقظة عند الراشد .
في حين يربط برغسون الابداع بالحالة الانفعالية للفرد ، فهو لا يغير من الواقع و لا يتجاوز المشاكل الطارئة التي تصادفه إلا في جو حماسي يسوده التوتر و الانفعال فيصل الفرد إلى إعطاء الجديد الذي قد لا يصل إليه في حالة ركود أو هدوء لهذا يقول برغسون : * إن كبار العلماء و الفنانين يبدعون وهم في حالة إنفعال *. فبرغسون هنا يؤكد أن للإنفعال له دور إيجابي ، فهو يقوم بتنشيط مختلف القدرات العقلية التي تمكن الفرد من خلق و توليد أفكار تتناسب وموضوع بحثه ، فالعلماء يتخيلون الفروض العلمية في حالة انفعال قوي لأنهم امام ظاهرة تثير فيهم نوع من الدهشة التي تتطلب الحل السريع ، والشعراء قديما و حديثا كانوا يبدعون قصائدهم في جو حماسي يسوده التوتر الفكري أو التوتر النفسي نتيجة إحتلال او ما شابه . كما هو الشأن بالنسبة للمتنبي قديما من خلال مناظرته لشعراء عصره ، أو مفدي زكريا الملقب بشاعر الثورة و هذه الأخيرة لا تتضمن الهدوء .
ومن جهة أخرى نجد أن الابداع ميزة لا تتوفر عند جميع الناس ، ذلك أن هذا الاخير لا يكون بالصدفة لأن المبدع إذا لم يكن مستعد و لا توجد لديه رغبة في ذلـك فلن يستطيع لقيام بذلك ، لأن هذه العوامل تزيد من إرادة المبدع و تكون حافزا مساعدا للبحث عن الحقيقة للوصول إلى نتائج شاملة للتجربة أو الدراسة التي يقوم بها . وهنا نجد بوانكاري يقول :* إن الحظ يحالف النفس المهيئة * و على هذا لابد من الاستعداد الجيد عند القيام بأي عمل ، فالتلميذ إذا لم يكن مستعدا لإجتياز الإمتحان نتيجة عدم رغبته في الدراسة و بالتالي عدم مراجعة الدروس فإنه سوف يجد صعوبة في إجتياز ذلك الإمتحان .
إضافة إلى ذلك نجد ان عملية البحث قد تستغرق من المبدع مدة طويلة قد تدوم لسنوات ، لذا على المخترع ان يتحلى بالصبر و إنتظار ساعة الحسم وهذا ما يؤكده نيوتن في قوله : * إنني لأضع بحثي نصب عيني دائما و انتظر حتى يلمع الاشراق الاول شيئا فشيء لينقلب الى نور جلي * . وهذا تأكيدا على دور العامل النفسي في عملية الابداع التي لن تكون سهلة المنال ، و التاريخ يثبت أن ما من مخترع أو مكتشف توصل إلى إثبات إفتراضاته بعد فترة زمنية قصيرة و إنما دامت لسنوات ، فنيوتن مثلا إستغرق سنوات عديدة حتى توصل إلى إكتشاف قانون الجاذبية وما كان له ذلك إلا لأنه آمن بفكرة معينة و تحلى بالصبر. ومن هذا المنطلق تصبح العوامل الداتية هي الدافع الاساسي للمبدعين حتى يتمكنوا من تقديم إختراعات .
ــ صحيح أن العوامل الذاتية لا غنى عنها في الإبداع لكنها لا تكفي وحدها في غياب محيط اجتماعي مناسب لأن بعض المجتمعات تقتل روح الإبداع و تحول دون ظهورالمواهب . و ما يثبت ذلك ظاهرة هجرة الأدمغة من الدول الفقيرة التي لا توفر لمبدعيها ما يحتاجونه الى الدول الغنية المتطورة التي تقدر المبدع و تعطيه الأولوية مقارنة بالأفراد العاديين و خير مثال على ذلك الرسام الهولندي الشهير فان غوغ الذي مات منتحرا و الحسرة تملئ قلبه لأنه لم يستطع أن يكسب رضا النقاد و لم يبع أي لوحة و هو حي حتى أن إحدى السيدات اشترت لوحة له بعد وفاته بفترة قصيرة لكي تسد بها فجوة كانت في سقف بيتها ثم بعدما بدأ الناس يقدرون أعماله الفنية- بعد فوات الأوان- نزعتها من السقف و باعتها بثرة طائلة تجاوزت الملايين. و المبدع أيضا مهما كان يملك من صفات ذاتية تدل على عبقريته فانه يخضع رغما عنه لثقافة المجتمع الذي يعيش فيه و ما يحمله من قيم و مبادئ أخلاقية تحدد نوع الإبداع و مجاله كما هو الحال مع فني الرسم والنحت الذين دار حولهما جدال كبير بين علماء الإسلام بين محرم و مبيح جعل من وتيرة تطور هذين الفنيين متحفظة في المجتمعات الإسلامية مقارنة بما وصل إليه فن الرسم في أوروبا .
ــ في مقابل ذلك يرى علماء الإجتماع و على رأسهم جاك بيكارد الذين يرون أن الإبداع يعود بالدرجة الأولى للشروط الموضوعية و لما يوفره المجتمع من مناخ يسمح بحصول الابداع . لأن المبدع لا يستمد مادة إبداعه إلا من المجتمع . كما أن نشاطه يعتبر ظاهرة إجتماعية مرتبطة بما تمليه عليه الحياة الخارجية و يستدلون على هذا بحجج منها :
إن المسائل التي يريد المخترع معالجتها لا تتولد إلا في وسط إجتماعي بلغ درجة معينة من التطور الإجتماعي و الإقتصادي و الفني و العلمي و حتى الفلسفي ، سواء كان الإختراع آلة ميكانيكية أو صورة فنية أو نظرية فلسفية ، فإن المخترع لا يبلغ غايته إلا إذا أحاط بما في زمنه من شروط الصناعة أو صور الفن أو مذاهب فلسفية و خاصة المجال العلمي الذي يعد أنسب مجال للإبداع و هنا نجد بيكار يقول : * لا يمكن حصول كشف علمي أو إختراع إلا إذا كانت حالة العلم تسمح بذلك * . فكثيرا ما يتوصل العلماء إلى إختراعات واحدة في زمان واحد و مثال ذلك ان ليبنتز و نيوتن في إختراع حساب اللانهائيات ، في زمان واحد من غير أن يكون لأحدهما صلة بالآخر ، والسبب في ذلك أن المسائل العلمية تبلغ من النمو درجة تتهيأ معها أسباب الإختراع ، وقد تؤدي هذه الأسباب إلى تحقيق الإختراع في زمان دون زمان و في بلد دون آخر .
ثم إن للهيئة الإجتماعية تأثير في عقل المخترع نفسه ، فالإستعدادات النفسية الأولية غامضة جدا إلا أنها لا تتكيف بحسب الشروط الإجتماعية ، فإذا ورث الطفل من أبويه ميلا إلى الجمع و الإدخار تكيف مع هذا الميل بحسب البيئة ، و إذا ما ورث تخيلا شديدا هيأه للتجارة أو الأعمال المالية لذا فإن صورة عبقريته تختلف بإختلاف شروط بيئته . ومن جهة أخرى نجد أن المبدع يتأثر بالمستوى المعيشي داخل أسرته و مجتمعه من فقر و حرمان وغنى ، فالفقير لا يبدع كالغني سواء من الناحية الأسرية أو الإجتماعية و الواقع يثبت ذلك ، لذا فحتى يتمكن الفرد من الإبداع فلا بد من توفير المجتمع لمختلف الشروط الضرورية لذلك ، خاصة فيما يتعلق بالوسائل و المعدات لكي يستطيع المبدع أن يجرب و يواصل بحثهو يطوره . فأمريكا مثلا تسخر ملايير من الدولارات في بناء المخابر و تجهيزها بمختلف الوسائل الحديثة التي تمكن علماءها من الإكتشاف و بالتالي الرقي و الإزدهار للمجتمع الأمريكي و ما المستوى و المكانة التي تحتلها إلا دليل على ذلك ، على غرار الدول الفقيرة التي لا تستطيع توفير ما يأكله أفرادها . فكيف لها أن توفر التجهيزات العلمية ؟ و هل بإمكانها أن توفر الجو المساعد على التعلم ؟
كما أن البيئة الإجتماعية لا تكتفي بحمل العلماء على الإختراع فقط بل تهيئ لهم الحلول التي يجب أن يتبعوها و الأنماط التي يجب أن ينسجوا على منوالها أبحاثهم ، فهي إذن تنظم الخيال لذا قال لاكومب ما خلاصته : * إن الإختراع تنظيم إجتماعي للتخيل التلقائي * .
ومن جهة أخرى نجد أن الفرد لايبدع لنفسه و إنما نتيجة حاجة المجتمع و ما يسمح به ، لهذا قيل : * الحاجة أم الإختراع * . لأن هذه الأخيرة هي التي تدفع الفرد إلى العمل لتحقيقها ، فالعصر الحديث مثلا هو عصر التكنولوجيا و التطور العلمي و الصراعات من أجل السيطرة و القاء ، هذه المميزات جعلت الدول التي لا تمتلك صناعة حربية في حاجة ماسة لغيرها لذا فلا بد من الإكتشافات العلمية و تطوير الصنعة في جميع المجالات حتى تتمكن الدولة من إثبات وجودها والسيطرة على العلم ، وهذا ما تسعى الولايات المتحدة الامريكية للقيام به .
ــ صحيح أن للبيئة الاجتماعية أهمية كبيرة في توفير شروط الإبداع، لكن الاختراع الجديد كثيرا ما كان ثورة على الأوضاع القديمة و أن المجتمع كثيرا ما يكون عائقا أمام المبدع لأن المجتمع نتيجة تأثير العادات و التقاليد يكره كل تجديد و تبديل و المبدع بطبعه يحاول تجاوز الواقع حيث يقول العالم الفرنسي لوروي : * كل تركيب جديد يتولد من تحليل نقدي سابق ، فالناس لا يرتاحون للجديد لأنهم ألفوا القديم * . و مما يلفت النظر أن مخترعي نظريات ما بعد الطبيعة يحشرون مع المجانين و أن المبدعين الاجتماعيين و الأخلاقيين يعدون فوضويين، و أن المبدعين في الفن يعتبرون غير متزنين حتى أن العلماء أنفسهم لا يفهم كلامهم أحد عند إتيانهم بالأفكار الجديدة فيتهمون بمخالفة نظرياتهم للحس السليم و عدم معقوليتها و ما حدث لسقراط الذي قتل بسبب أفكاره لخير مثال على ذلك .
و لو كان الإبداع راجعا لعوامل اجتماعية فقط لكان كل الأفراد الذين يعيشون في بيئة واحدة و متشابهة مبدعين و الواقع يكذب ذلك، ﺇذ كثيرا ما يظهر مبدعون في بيئات اجتماعية متخلفة و غير مناسبة و العكس قد يحصل أحيانا فقد تتوفر الظروف الاجتماعية المناسبة و لا يوجد مبدعون مثلما هو حاصل في المنتخب الفرنسي لكرة القدم فمعظم لاعبيه ليسوا من أصل فرنسي بل اغلبهم عرب و أفارقة.
ــ الإبداع ظاهرة معقدة تتداخل في ظهوره عوامل بعضها ذاتي يتعلق بالذات المبدعة، و بعضها الاخر موضوعي متعلق بالبيئة الاجتماعية و الثقافية فالأطروحتان متكاملتان و ليستا متعارضتين، فالإبداع لا يكون ﺇلا بتوفر الشروط النفسية و الاجتماعية معا. ـ لكن حسب اعتقادي فان الشروط النفسية و الذاتية في عملية الإبداع أكثر أهمية من الشروط الاجتماعية ذلك أن المجتمع كثيرا ما يظلم المبدع و يقاوم جرأته و في تاريخ العلوم أمثلة كثيرة تدل على المقاومة التي لقيها المخترعون في زمانهم مثال ذلك قول نيوتن بالجاذبية العامة اعتبر غير معقول و قول العالم الفلكي الايطالي غاليلي بدوران الأرض حول الشمس و بأنها كروية اعتبر مخالفا لمبادئ الكنيسة حتى أنه دفع حياته ثمنا لأفكاره . كما اعترض العديد من علماء النفس على نظرية اللاشعور، وما أكثر العلماء الذين صعب عليهم قبول نظرية النسبية التي جاء بها العالم الفيزيائي آينشتاين رفض العديد من النقاد العرب الشعر الحر و هاجموا من يكتبه.
ــ نستنتج في الأخير أن الإبداع ما هو ﺇلا ثمرة تكامل العوامل النفسية و الاجتماعية فهو ظاهرة فردية تضرب بأعماق جذورها في الحياة الاجتماعية وفق حاجة المجتمع لذلك، فالمبدع يتميز بخصائص نفسية و عقلية خارقة و متطورة كقوة الذاكرة و سعة الخيال و الذكاء الخارق مع الميول القوية و الاهتمام و العواطف الجياشة إضافة إلى الجو الذي يوفره المجتمع من شروط و إمكانات مادية ومعنوية تساعد المبدع و تشجعه و تقدر مواهبه، وهذا ما حدث مع إديسون الذي تميز بالعبقرية و الإرادة القوية وقد لقي التقدير و الدعم من المجتمع الأمريكي فعندما توفي أطفئت جميع أنوار ومصابيح أمريكا في تلك الليلة، بحيث قبله كانت هكذا. و في ذلك يقول عالم النفس الفرنسي ريبو : * مهما كان الإبداع فرديا فانه يحتوي على نصيب اجتماعي * .
إستفيدوا منها و قيموهانا و شكرااا