المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أعلام الجزائر..........................متجدد


التوحيد الخالص
2012-04-19, 19:58
نبذة عن حيـاة

الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس - رحمه الله -



هو الإمام المصلح المجدِّد الشيخ عبد الحميد بن محمَّد بن المصطفى بن المكِّي ابن باديس القسنطيني الجزائري، رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، ورائد النهضة الفكرية والإصلاحية والقدوة الروحية لحرب التحرير الجزائرية.
وُلد بقسنطينة سنة (1308ﻫ) وسط أسرة من أكبر الأسر القسنطينية، مشهورة بالعلم والفضل والثراء والجاه، عريقة في التاريخ، يمتدُّ نسبُها إلى المعزّ بن باديس الصنهاجي، فهو في مقابل اعتزازه بالعروبة والإسلام لم يُخْفِ أصله الأمازيغي، بل كان يُبدِيه ويُعلِنُه، ولعلَّ من دواعي الافتخار به قيام سلفه بما يحفظ الدين ويصون الشريعة، فقد كان جدُّه الأوَّل يناضل الإسماعيلية الباطنية، وبدع الشيعة في إفريقية، فصار خلفًا له في مقاومة التقليد والبدع والحوادث، ومحاربة الضلال والشركيّات.
وقد أتمَّ حفظ القرآن الكريم في أوَّل مراحل تعلُّمه بقسنطينة في السنة الثالثة عشر من عمره على يد الشيخ «محمَّد المَدَّاسي»، وقُدّم لصلاة التراويح بالناس على صغره، وأخذ مبادئ العربية ومبادئ الإسلام على يد شيخه «حَمدان لُونِيسي»، وقد أثَّر فيه القرآن الكريم وهزَّ كيانه، ليكرِّس فيه بعد ذلك ربع قرن من حياته في محاولة إرجاع الأمَّة الجزائريـة إلى هذا المصدر والنبع الربَّاني بما يحمله من حقيقة توحيدية وهداية أخلاقية، وهو طريق الإصلاح والنهوض الحضاري.
وفي سنة (1327ﻫ) التَحَق الشيخ عبد الحميد بجامع الزيتونة بتونس، فأخذ عن جماعة من كبار علمائها الأجلَّاء، وفي طليعتهم زعيم النهضة الفكرية والإصلاحية في الحاضرة التونسية العلاّمة «محمَّد النخلي القَيْرَوَانِي»، المتوفَّى سنة (1342ﻫ)، والشيخ «محمَّد الطاهر بن عاشور»، المتوفَّى سنة (1393ﻫ)، فضلًا عن مُربِّين آخَرين من المشايخ الذين كان لهم تأثير في نموِّ استعداده، وتعهَّدوه بالتوجيه والتكوين، كالبشير صفر، وسعد العياض السطايفي ومحمَّد بن القاضي وغيرهم، وقد سمحت له هذه الفترة بالاطِّلاع على العلوم الحديثة وعلى ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من التغيرات السياسية والتحولات الدينية، مثل حركة «جمال الدين الأفغاني» (١)، و«محمَّد عَبدُه»(٢)، و«محمَّد رشيد رضا»(٣) في مصر، و«شَكِيب أَرسَلان»(٤)، و«الكواكبي»(٥) في الشام وغيرهم، فكان لهذا المحيط العلمي والبيئة الاجتماعية، والملازمات المستمرَّة لرجال العلم والإصلاح الأثرُ البالغ في تكوين شخصيَّته ومنهاجه في الحياة.
وبعد تخرّجه وتأهيله بشهادة التطويع (سنة 1330ﻫ) عاد من تونس متأهِّبًا بطموح قويٍّ للتفرُّغ للتدريس المتمثِّل في بدايته في عقد حلقات دراسية بالجامع الكبير، غير أنَّ صعوبات واجهته في بداية نشاطه العلمي حالت دون تحقيق طموحه وآماله، وبعد طول تأمُّل رأى أنَّ من المفيد تزامنًا مع موسم الحجِّ أن يؤدِّي الفريضة مغتنمًا الفرصة في رحلته المشرقية للاتِّصال بجماعة العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الأمر الذي يسمح له بالاحتكاك المباشر وتبادل الرأي معهم، والتعرُّف على مواقع الإصلاح الديني، فضلًا عن الاطِّلاع على حقيقة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة في المشرق العربي. وفي أثناء وجوده بالحجاز حضر دروسَ العلماء من مختلف البلدان الوافدين إلى هذه البقاع المقدَّسة كالشيخ «حسين الهندي» الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر لاحتياجها إلى علمه وفكره، وقد قدَّمه بعض الشيوخ لإلقاء دروسٍ بالمسجد النبوي الذين كانوا يعرفون مستواه، وقد تعرَّف على كثيرٍ من شباب العائلات الجزائرية المهاجرة، مثل: «محمَّد البشير الإبراهيمي» (المتوفّى 1382ﻫ). وقد استفاد الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله تعالى ـ من مختلف مدارس الإصلاح الديني بالمشرق التي ظهرت في العالم الإسلامي على يد الشيخ «محمَّد بن عبد الوهَّاب» (٦) المتوفَّى سنة (1206ﻫ)، والذين تأثَّروا بدعوته كالأمير الصنعاني المتوفى سنة (1182ﻫ)، وتلميذه الإمام «محمَّد بن عليّ الشوكاني» المتوفَّى سنة (1250ﻫ)، و«محمَّد رشيد رضا»، المتوفّى سنة (1354ﻫ) وغيرهم، وليس التجديد والإصلاح الديني وليد العصر الحديث فحسب، وإنَّما يضرب بجذوره في أغوار الماضي الإسلامي العريق.
وبعد عودته إلى قسنطينة (سنة 1332ﻫ) أسهم في بلورة الإصلاح الديني ميدانيًّا وتطبيق مناهجه التربوية عمليًّا، وساعده زملاؤه الأفاضل من العلماء الذين شَدُّوا عَضُده وقَوَّوْا زناده، فكان تعاونهم معه في هذه المهمَّة الملقاة على عاتق الدعاة إلى الله تعالى منذ فجر النهضة دافعا قويًّا وعاملًا فعَّالًا في انتشار دعوته وسطوع نجمه، وذيوع صيته، ومن أمثال هؤلاء الذين آزروه وساندوه: الشيخ العربي التبَسِّي، والشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي، والشيخ العُقْبِي، والشيخ مبارك الميلي وغيرهم، كـما ساعده أيضًا الواقع الذي كانت تمرُّ به الجزائر بين الحربين العالميتين.
وقد شرع الإمام ابن باديس ـ رحمه الله تعالى ـ في العمل التربوي، وانتهج في دعوته منهجًا يوافق الإصلاح الديني في البُعد والغاية، وإن كان له طابع خاصٌّ في السلوك والعمل يقوم على ثلاثة محاور أساسية، يظهر أعلاها في إصلاح عقيدة الجزائريِّين بالدرجة الأولى، ببيان التوحيد الذي يمثِّل عمود الدعوة السلفية، وما يضادُّه من الشرك؛ ذلك لأنَّ التوحيد هو غايةُ إيجاد الخلق، وإرسالِ الرسل، ودعوةُ المجدِّدين في كلِّ العصور والأزمان، لذلك كانت دعوته قائمة على أخذ العقيدة من الوحيين وعلى فهم الأوَّلِين، والتحذير من الشرك ومظاهره، ومن بدعة التقليد الأعمى، ومن علم الكلام وجنايته على الأُمَّة؛ ذلك لأنَّ من أهمِّ أسباب ضياع التوحيد ابتعادَ الناس عن الوحي وفُشُوَّ علم الكلام والخوض فيه واتِّباع طرق أهله الضالَّة عن سواء السبيل، ومرض الجمود الفكري والركون إلى التقليد والزعم بأنَّ باب الاجتهاد قد أُغلق في نهاية القرن الرابع حيث قال رحمه الله: «كما أُدخِلَت على مذهب أهل العلم بدعة التقليد العامِّ الجامد التي أماتت الأفكار، وحالت بين طلَّاب العلم وبين السُّنَّة والكتاب، وصيَّرتهما ـ في زعم قوم ـ غير محتاج إليهما من نهاية القرن الرابع إلى قيام الساعة، لا في فقه ولا استنباط ولا تشريع، استغناءً عنهما ـ زعموا ـ بكتب الفروع من المتون والمختصرات، فأعرض الطلَّاب عن التفقُّه في الكتاب والسُّنَّة وكتب الأئمَّة، وصارت معانيها الظاهرة ـ بَلْهَ الخفية ـ مجهولة حتَّى عند كبار المتصدِّرين»(٧)، وقال في معرض ذكر منهاج الخارجين عن منهاج السلف من المتكلِّمين والمتصوِّفة وغيرهم: «قلوبنا معرَّضة لخطرات الوسواس، بل للأوهام والشكوك، فالذي يثبِّتـها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليـقين هو القرآن العظيم، ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم، ومُماحكات المتكلِّمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلَّا شكًّا، وما ازدادت قلوبهم إلَّا مرضًا، حتَّى رجع كثير منهم في أواخر أيَّامهم إلى عقائد القرآن وأدلَّة القرآن، فشُفُوا بعدما كادوا كإمام الحرمين والفخر الرازي»(٨)، وفي مقام آخر حال ترجمته للعلَّامة محمَّد رشيد رضا يقول ـ رحمه الله تعالى ـ: «دعاه شغفه بكتاب «الإحياء» إلى اقتناء شرحه الجليل للإمام المرتضى الحسيني، فلمَّا طالعه ورأى طريقته الأثرية في تخريج أحاديث «الإحياء» فُتِحَ له باب الاشتغال بعلوم الحديث وكتب السُّنّة، وتخلُّص مِمَّا في كتاب «الإحياء» من الخطإ الضارِّ ـ وهو قليل ـ، ولا سيما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية، والغلوّ في الزهد وبعض العبادات المبتدعة»(٩)، وقال أيضًا: «نحن معشر المسلمين قد كان مِنَّا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل، وإن كنَّا به مؤمنين، بَسَط القرآن عقائد الإيمان كلّها بأدلّتها العقلية القريبة القاطعة، فهجرناها وقلنا: تلك أدلَّة سمعية لا تحصِّل اليقين، فأخذْنا في الطرائق الكلامية المعقَّدة، وإشكالاتها المتعدِّدة، واصطلاحاتها المحدثة، مِمَّا يصعّب أمرها على الطلبة فضلًا عن العامّة»(١٠).
لذلك ظهرت عنايته الأكيدة بتربية الجيل على القرآن وتعليم أصول الدين وعقائده من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، إذ كان همُّه تكوين رجال قرآنيِّين يوجِّهون التاريخ ويُغيِّرون الأُمَّة، وقد تجلَّى ذلك في بعض مقالاته حيث يقول رحمه الله: «فإنَّنا والحمد لله نربِّي تلامذتنا على القرآن من أوَّل يوم، ونوجِّه نفوسهم إلى القرآن في كلّ يوم…».
أمَّا المحور الثاني فيتمثَّل في إصلاح عقلية الجزائريِّين، وذلك بإصلاح العقول بالتربية والتعليم، لتكوين أجيال قائدة في الجزائر، تعمل على بعث نهضة شاملة تخرج بها من حالة الجمود والركود إلى الحيوية والنشاط، وقد كان يرى أنَّ تحقيق هذه النهضة المنشودة يتوقَّف بالدرجة الأولى على إصلاح الفرد الجزائري وتكوينه من الناحية الفكرية والنفسية.
والمحور الثالث يظهر في إصلاح أخلاق الجزائريِّين، ذلك الميدان الذي تدهور كثيرًا نتيجة لفساد العقول وفساد العقيدة الدينية، وقد كانت عنايته به بالغة بتطهير باطن الفرد الذي هو أساس الظاهر، وتهذيب النفوس وتزكيتها وإنارة العقول وتقويم الأعمال، وإصلاح العقيدة حتَّى يعمل الفرد على تغيير ما بنفسه لكي يغيِّر اللهُ ما به من سوء وانحطاط، عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
هذا، وقد اعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس أنَّ سبيل النجاة والنهوض يكمن في الرجوع إلى فقه الكتاب والسُّنَّة وعلى فهم السلف الصالح، ذلك لأنَّ علماء السلف إن اتَّفقوا فاتِّفاقهم حُجَّة قاطعة، وإن اختلفوا فلا يجوز لأحد أن يخرج عن أقوالهم، وفي هذا المضمون يقول الشيخ ابن باديس رحمه الله: «لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه، والعذاب المنوَّع الذي نذوقه ونقاسيه، إلَّا بالرجوع إلى القرآن: إلى علمه وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقُّه فيه، وفي السُّنَّة النبوية شرحُه وبيانه، والاستعانةِ على ذلك بإخلاص القصد وصحَّة الفهم والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والاهتداء بهديهم في الفهم عن ربّ العالمين»(١١).
وفي نصيحة نافعة ووصيَّة جامعة يقول رحمه الله تعالى: «اعلموا جعلكم الله من وعاة العلم ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجمَّلكم بعزَّة الاتِّباع، وجنَّبكم ذِلَّة الابتداع أنَّ الواجب على كلِّ مسلم في كلِّ مكان وزمان أن يعتقد عقدًا يتشرَّبه قلبه، وتسكن له نفسه، وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله، أنَّ دين الله تعالى من عقائد الإيمان، وقواعد الإسلام، وطرائق الإحسان، إنَّما هو في القرآن والسنَّة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأنَّ كلَّ ما خرج عن هذه الأصول، ولم يحظ لديها بالقَبول قولًا كان أو عملًا أو عقدًا أو احتمالًا، فإنَّه باطل من أصله، مردود على صاحبه، كائنًا من كان في كلِّ زمان ومكان، فاحفظوها، واعملوا بها تهتدوا وترشدوا إن شاء الله تعالى»(١٢).
ولَـمَّا رأى رحمه الله تعالى أنَّ الحلقات العلمية في المؤسَّسات التربوية والدروس المسجدية لا تفي بنشر دعوته على نطاق واسع وشامل، ولا تحقِّق غاياتِها الساميةَ المسطَّرة لها، إلَّا بتعزيزها بالعمل الصَّحفيِّ مع توفير شروط نجاحه بتأمين مطبعة خاصَّة له على وجه الامتلاك، أقبل على تطبيق فكرته في سبيل الإصلاح وتجديد الدين بتأسيس أوَّل صحيفة جزائرية بالعربية وُسمت ﺑ «المنتقد» كمرحلة معضدة قصد الدخول في التطبيق العملي لمقاومة المناهج العقدية والسلوكية التي كان ينشرها رجال التصوُّف(١٣) وأرباب الطرقية من الزوايا وأماكن الأضرحة والقبور، وقد تغلغل كثير من تلك الضلالات والمعتقدات الفاسدة في صفوف الدهماء والعوامِّ وعند بعض الأوساط المثقَّفة، وتجسّد شعارها في عبارة «اعتقد ولا تنتقد»، وقد كان اختياره لعنوان صحيفته يهدف إلى القضاء على هذا الشعار أوَّلًا، وتحطيم فحواه كدعوة ثانيًا، أي تحذير الناس مِمَّا يحتويه الشعار من ضلالات ومفاسد مبنًى ومعنًى، وإرادة التغيير مع الالتزام بالنقد الهادف ببيان الحقيقة بنزاهة وصدق وإخلاص. غير أنَّ هذه الصحيفة لم تُعمَّر طويلًا وتوقَّفت بسبب المنع الصادر من قبل الحكومة الفرنسية بإيعاز من خصوم الدعوة والحقِّ.
لكن هذا التوقُّف لم يَثْنِ عزيمة الشيخ العلَّامة ابن باديس عن السعي إلى إصدار مجلّة «الشهاب» خلفًا «للمنتقد» تعمل على نفس المبدإ والغاية، وتؤدِّي رسالتها النبيلة بكلِّ صمود، مصدَّرة في الغالب بآيات مفسّرة وأحاديث مشروحة إلى غاية سنة (1358ﻫ).
وقد أخذ الشيخ العلَّامة رحمه الله يكثِّف عمله، ويوسِّع نشاطه، ويعمِّق فكرته، من منبر المسجد والدروس المسجدية إلى منبر المجلَّة إلى دعوة الأوساط السياسية المختلفة إلى الاتحاد والتغيير، مجسِّدًا طموحه بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين (سنة 1351ﻫ ـ 5 ماي 1932م) برئاسته، فظهر دورها الفعَّال في الإصلاح الديني والاجتماعي على نطاق واسع، وقد تبلور نهجه في الإصلاح بالقضاء على التخلُّف ومظاهره، وتحذير الأُمَّة من الشرك بمختلف أنواعه، وإزالة الجمود الفكري ومحاربة التقاليد والبدع المنكرة، والعادات الشركية المستحكمة، ومقاومة الأباطيل والخرافات المتمكِّنة من المتنكِّرين للتوحيد من الصوفيِّين والقبوريِّين والطرقية وغيرهم، وذلك بتعريف الأُمَّة بدينها الحقِّ، والعمل بتعاليمه وأحكامه، والتحلِّي بفضائله وآدابه، والدعـوة إلى النهضة والحضارة في إطار إصلاح الدين والمجتمع، وذلك بواسطة نشاطات مختلفة.
كان للنشاط الصحفي دور بارز بصفته وسيلة للسياسة والتهذيب بتكوين القادة وتوجيه الطاقات والجهود مسلَّحةً بالعلم والمعرفة، وبثّ الوعي بين الأوساط الشعبية، فأُسِّست:
ـ صحيفة أسبوعية «السنة المحمّدية» (8 ذي الحجّة 1351ﻫ)، ثمَّ خلفتها:
ـ جريدة «الشريعة المطهِّرة» (الصادرة بتاريخ 24 ربيع الأوَّل 1352ﻫ)، ثمَّ تلتها بعد منعها:
ـ صحيفة «الصراط السوي» (الصادرة بتاريخ 21 جمادى الأولى 1352ﻫ)، وهذه الأخيرة أيضًا منعتها الحكومة الفرنسية أسوة بأخواتها، ولكن جمعية العلماء لم تلبث أن أسَّست جريدة «البصائر» (الصادرة بتاريخ أوَّل شوَّال سنة 1354ﻫ)، حيث بقيت هذه الجريدة لسانَ حال الجمعية مستمرَّة في أداء رسالتها بالموازاة مع مجلَّة «الشهاب» التي ظلَّت ملكًا له ومستقلَّة عن الجمعية، حيث كان ينطق فيها باسمه الشخصي لا بوصفه رئيسًا للجمعية حفاظًا على مصير جمعية العلماء وجريدتها التي استمرَّت بعد وفاته إلى غاية (1376ﻫ)، وإن تخلَّل انقطاع في سلسلتها الأولى عند اقتراب الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه المرحلة اتّخذ الشيخ عبد الحميد بن باديس شعار «الحقّ، والعدل، والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات»، رجاء تحقيق مطالب الشعب الجزائري بطريق سلميّ، ولكنَّه بعد عودة وفد المؤتمر من باريس (1355ﻫ) اقتضت طبيعة المرحلة الجديـدة إزاحته واستبداله بشعار آخر وهو: «لنعتمد على أنفسنا، ولنَتَّكِل على الله»، تعبيرًا عن العزم على الكفاح وغلق القلوب على فرنسا إلى الأبد والاستعداد للدخول في معركة ضارية، كما عبَّر عن ذلك بقوله رحمه الله مخاطبًا الشعب الجزائري: «…وإن ضيَّعت فرنسا فرصتها هذه، فإنَّنا نقبض أيدينا ونغلق قلوبنا إلى الأبد… واعلم أنَّ عملك هذا على جلالته ما هو إلَّا خطوة ووثبة، وراءها خطوات ووثبات، وبعدها إمَّا الحياة وإمَّا الممات»، وهذه الحقيقة عبَّر عنها أيضًا في مقال آخر سنة (1356ﻫ) بلفظ «المغامرة والتضحية» وهي طريق الكفاح والحرب للخلاص من فرنسا، وظلَّ ابن بـاديس وفيًّا لهذا المسلك الشمولي في مواجهته للاستعمار خلال كلِّ سنوات نشاطه السياسي المندرج في نشاطه العامِّ، إلى أن توفِّي مساء الثلاثاء 8 ربيع الأوَّل 1359ﻫ الموافق 16 أفريل 1940م، ودفن بقسنطينة. تغمَّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه.
هذا، وقد عمل ابن باديس خلال فترات حياته على تقريب القرآن الكريم بين يدي الأُمَّة، مفسِّرًا له تفسيرًا سلفيًّا، سالكًا طريق رُوّاد التفسير بالمأثور، معتمِّدًا على بيان القرآن للقرآن، وبيان السُّنَّة له، آخذًا في الاعتبار أصول البيان العربي، كما كانت عنايته فائقة بالسُّنَّة المطهَّرة وبالعقيدة الصحيحة التي تخدم دعوته الإصلاحية، فوضع كتابه «العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية»، على نهج طريق القرآن في الاستدلال المتلائم مع الفطرة الإنسانية، بعيدًا عن مسلك الفلاسفة ومنهج المتكلِّمين، وحارب البدع والتقليد والشرك ومظاهره والتخلُّف ودعا إلى النهضة والحضارة في إطار إصلاح الدِّين والمجتمع، وقد سانده علماءُ أَفَاضِلُ في دعوته ومهمَّته النبيلة، كما ساعدته خبرته بعلوم العربية آدابِها وقواعدها، لذلك جاء أسلوبه في مختلف كتاباته سهلًا مُمتنعًا، بعيدًا عن التعقيد اللفظي، وكذا شعره الفيَّاض، هذا بغضِّ النظر عمَّا كان عليه من اطِّلاعٍ على المذاهب الفقهية المختلفة كما هو ملموس في فتاويـه المتعدِّدة، فضلًا عن مذهب مالك رحمه الله، ومِن علمٍ بالأصول متمرِّسًا بأسلوبه ومتزوِّدًا بقواعده مع الإدراك الصحيح والفهم التامِّ.
تلك هي بعض الجوانب من حياته وشخصيته وسيرته مختصرة، فرغم الفترة الزمنية القصيرة نسبيًّا التي عاشها ابن باديس رحمه الله إلَّا أنَّ ما خلَّفه من كتابات هامَّة في الصحف والمجلَّات وكتبٍ قيِّمة، كان له أثر بالغ، لا تزال هذه الكتابات والمقالات تُؤخذ منها دروس وعِظات للمتأمِّل، وهي حاليًّا مصدر اهتمام الباحثين داخل القطر الجزائري وخارجه. كلُّ هذه الآثار أحيت ذِكرَه، وخَلَّدت اسمه، وأكَّدت عظمة شخصيته الفكرية وريادته في النهضة والتجديد والإصلاح (١٤).

------------------------
١- هو جمال الدين محمَّد بن صفدر بن عليِّ بن محمَّد الحسينيُّ الشيعيُّ الأفغانيُّ، كان واسع الاطِّلاع في العلوم العقلية والنقلية، له رحلاتٌ طويلةٌ، نُصِّب عضوًا في مجلس المعارف، نفته الحكومة المصرية، ورُمي بالانحراف في الدين وتسخيره لخدمة أعداء الإسلام ومؤاخذاتٍ أخرى، حيث كان رئيسًا لمحفل «كوكب الشرق» الماسوني، وفي باريس أنشأ مع رفيقه محمَّد عبده المصري مجلَّة «العروة الوثقى»: اتَّسمت مقالاتها بتقريب الإسلام إلى الحضارة الغربية والتفكير الغربي الحديث ولم تعمِّر طويلاً، من آثاره «تاريخ الأفغان»، تُوفِّي سنة 1314ﻫ.
انظر ترجمته في: «مشاهير الشرق» لزيدان (2/ 52)، «أعيان الشيعة» للعاملي (16/ 336)، «أعلام الشيعة» لآغا بزرك (1/ 310)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (1/ 502، 3/ 360)، «الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» لمحمَّد حسين (1/ 153، 328).

٢- هو محمَّد عبده بن خير الله المصري من آل التركماني، فقيهٌ متكلِّمٌ كاتبٌ صحفيٌّ سياسيٌّ، له رحلاتٌ وأنشأ مجلَّة «العروة الوثقى» مع جمال الدين الأفغاني، عُيِّن قاضيًا ثمَّ مفتيًا للديار المصرية، وأُوخذ بانتهاجه -في نشاطه الدعوي- منهجَ التوفيق والتقارب بين الإسلام والحضارة الغربية وغيرها من المؤاخذات، من آثاره: رسالةٌ في وحدة الوجود، و«فلسلفة الاجتماع والتاريخ»، و«شرح نهج البلاغة»، و«شرح البصائر النصيرية»، تُوفِّي سنة 1323ﻫ.
انظر ترجمته في: «مشاهير الشرق» لزيدان (1/ 281)، «كنز الجوهر في تاريخ الأزهر» للزيَّاتي (164)، «الأعلام» للزركلي (7/ 131)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (3/ 474)، «الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» لمحمَّد حسين (328).

٣- هو محمَّد رشيد بن علي رضا بن محمَّد القلموني، البغدادي الأصل، جمع علومًا كثيرةً منها: التفسير والحديث والتاريخ والأدب وغيرها، لحق بمحمَّد عبده بمصر وأنشأ مجلَّة «المنار»، وجعل موضوعها الأوَّلي الإصلاحَ الديني، وقد انتشرت مجلَّته في العالم الإسلامي، كما أسَّس مدرسة الدعوة والإرشاد، له رحلاتٌ عديدةٌ استقر آخرها بمصر، وانتُخب عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، ورغم مكانته العلمية له -مع الأسف- جملةٌ من المؤاخذات منها: تشكيكه في أحاديث الدجال، وتشكيكه في رفع عيسى بروحه وجسده، وطعنُه في معجزة انشقاق القمر، وطعنه في كعب الأحبار، وتأييده لشيخه محمَّد عبده في جملة مخالفاته ومواقفه.
لمحمَّد رشيد رضا تصانيف منها: تفسير القرآن الكريم لم يكمله، «الوحي المحمَّدي»، «الخلافة والإمامة الكبرى»، توفِّي بالقاهرة فجأةً سنة 1354ﻫ.
انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (6/ 361)، «المجدِّدون في الإسلام» للصعيدي (539)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (3/ 293)، «خزائن الكتب العربية» للطرازي (1/ 346)، «الأدب العصري» لمحمَّد سليمان (126).

٤- هو الأمير شكيب بن حمُّود بن الحسن أرسلان اللبناني، كان أديبًا شاعرًا ومؤرِّخًا سياسيًا، أتقن عدَّة لغاتٍ أجنبيةً، وانتُخب عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، له رحلاتٌ كثيرةٌ تعرَّف خلالها على قياداتٍ سياسيةٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ ودينيةٍ، ألَّف عدَّة مصنَّفاتٍ منها: «لماذا تأخَّر المسلمون؟»، و«حاضر العالم الإسلامي»، و«الحلل السندسية في الرحلة الأندلسية» و«القول الفصل في ردِّ العامِّيِّ إلى الأصل» و«اتِّسامات اللطاف في خاطر الحاجِّ إلى أقدس مطاف» و«ديوان شعر»، توفِّي ببيروت سنة 1366ﻫ.
انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (3/ 251)، «نزهة الألباب» للعامري (215)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (1/ 818)، «روَّاد النهضة الحديثة» لعبُّود (110).

٥- هو عبد الرحمن بن أحمد البهائي بن مسعود بن عبد الرحمن آل الموقت، المشهور بالكواكبي، نسبةً إلى الكواكبية مدرسة أجداده، وهو من أبرز رجال الدين والسياسة في زمانه، كان يلقَّب بالسيِّد الفراتي، تولَّى في شبابه تحرير جريدة «الفرات»، فكان هو المحرِّر العربي والمترجم التركي، وفي خلال خمس سنوات من حياتها أصدر جريدة «الشهباء» ثمَّ جريدة «الاعتدال» مُنعتا حكوميًّا، تولَّى منصب القضاء كما أُسندت إليه وظائفُ حكوميةٌ وإداريةٌ مختلفةٌ، نشر في جريدة «المؤيّد» مقالاته في الاستبداد، له مصنَّفاتٌ منها: «أمُّ القرى»، «طبائع الاستبداد»، «صحائف قريش»، و«العظمة لله»، توفِّي بمصر سنة 1320ﻫ.
انظر ترجمته في: «معجم المؤلِّفين» لكحالة (2/ 72)، «مشاهير الشرق» لزيدان (1/ 322)، «روَّاد النهضة الحديثة» لعبُّود (201)، «الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» لمحمَّد حسين (250)، «إيضاح المكنون» للبغدادي (2/ 77).

٦- هو محمَّد بن عبد الوهَّاب بن سليمان بن عليٍّ التميمي النجدي، الإمام المصلح والعلاَّمة المجدِّد، رائد النهضة العقدية في العصر الحديث، نصر السنَّة وقمع البدعة ودعا إلى التوحيد وتركِ مظاهر الشرك والوثنية التي أصابت حياة المسلمين العقدية، له مصنَّفاتٌ منها: «كتاب التوحيد»، «أصول الإيمان»، «ثلاثة الأصول»، و«مختصر السيرة النبوية»، و«كشف الشبهات»، توفِّي -رحمه الله- سنة 1206ﻫ.
انظر ترجمته في: «المجد في تاريخ نجد» لابن بشر (1/ 89)، «علماء نجد» للبسَّام (1/ 25)، «عقيدة الشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب السلفية» للعبُّود (65)، «منهج الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب في مسألة التكفير» للعقل (14)، «تعريف الخلف بمنهج السلف» للبريكان (301).

٧- «الآثار» (5/ 38).

٨- «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» (257).

٩- «الآثار» (3/ 85).

١٠- «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» (250).

١١- المصدر السابق (252).

١٢- «الآثار» (3/ 222).

١٣- قد كان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسُّنة، غير أنَّ كثيرًا منهم حادوا عن الطريق السويّ وغلوا في البدع والمنكرات والانحرافات في الفكر والسلوك. [انظر: «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (211) وما بعدها، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/ 18)، «مدارج السالكين» لابن القيّم (1/ 138).

١٤- انظر ترجمته في: «مجلّة اللغة العربية» (21/ 140)، سنة (1966)، «مذكّرات توفيق المدني» (2/ 11)، «مجالس التذكير» و«آثار الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى»، «الشيخ عبد الحميد بن باديس والحركة الإصلاحية السلفية في الجزائر» للدكتور تركي رابح، «الشيخ عبد الحميد بن باديس شيخ المربِّين والمصلحين في الجزائر في العصر الحديث» للدكتور رابح تركي، «الأعلام» للزركلي (4/ 60)، «ابن باديس حيـاته وآثاره» للدكتور عمَّار طالبي (1/ 72)، «معجم أعلام الجزائر» (82)، «معجم المفسّرين» (1/ 259) كلاهما للنويهض، «ابن باديس وعروبة الجزائر» للميلي (9) وما بعدها.


http://m-noor.com/sh...ead.php?t=10860 (http://m-noor.com/showthread.php?t=10860)

التوحيد الخالص
2012-04-20, 00:24
....................................

الأمنيات
2012-04-26, 10:57
http://www6.0zz0.com/2012/03/08/22/253461765.gif

التوحيد الخالص
2012-04-26, 11:39
أمييييييييييييييين واياك

التوحيد الخالص
2012-05-02, 13:54
البشير الابراهيمي

التوحيد الخالص
2012-05-02, 13:55
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

مولوده ونشأته

منذ عشرات القرون والعالم العربي والإسلامي محط أطماع كثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيك أوصاله واستنزاف ثرواته، ونجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة المنظمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي في فترات متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل، ولكن إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة والمستعمرين مهما طال الزمان، وكان الله يقيض لهذه الأمة روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها وتستعيد حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها من جديد.

وكان "محمد البشير الإبراهيمي" واحدا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار البغيض.

لقد كان "البشير الإبراهيمي" حلقة من حلقات الجهاد الطويل في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد الذين شكلوا وعي ووجدان الأمة العربية والإسلامية على امتداد أقطارها؛ حيث كان أحد رواد الحركة الإصلاحية في "الجزائر"، وأحد مؤسسي "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وكان زميلا للشيخ "عبد الحميد بن باديس" في قيادة الحركة الإصلاحية، ونائبه في رئاسة جمعية العلماء، ورفيق نضاله لتحرير عقل المسلم من الخرافات والبدع.

ولد "محمد البشير الإبراهيمي" في قرية (أولاد إبراهيم) برأس الوادي قرب "سطيف" غربي مدينة قسنطينة مع بزوغ شمس (13من شوال 1306هـ= 14 من يوليو/جوان 1889م)، وهي السنة التي ولد فيها كل من الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي والدكتور طه حسين والأديب المفكر عباس محمود العقاد وغيرهم من العلماء والعباقرة الأفذاذ، ونشأ في بيت كريم من أعرق بيوتات الجزائر؛ حيث يعود بأصوله إلى الأدارسة العلويين من أمراء المغرب في أزهى عصوره.


حفظ "البشير" القرآن الكريم وهو ابن تسع سنوات، ودرس علوم العربية على يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر لوقته، انتهت إليه علوم النحو والصرف والفقه في الجزائر، وصار مرجع الناس وطلاب العلم، وقد عني بابن أخيه عنايةً فائقةً، وفتح له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متون اللغة، وعددًا من دواوين فحول الشعراء، ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول، لما مات عمه تصدَّر هو لتدريس ما تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشر عامًا.

ولما بلغ "البشير" الثاني والعشرين من عمره ولَّى وجهه نحو المدينة المنورة سنة (1330هـ= 1911م)؛ ليلحق بأبيه الذي سبقه بالهجرة إليها منذ أربع سنوات فرارًا من الاحتلال الفرنسي، ونزل في طريقه إلى القاهرة، ومكث بها ثلاثة أشهر، حضر فيها دروس بعض علماء الأزهر الكبار، من أمثال "سليم البشرى"، و"محمد نجيب المطيعي"، ويوسف الدجوي، وزار دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ "رشيد رضا"، والتقي بالشاعرين الكبيرين "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم".

وفي المدينة المنورة استكمل "البشير" العلم في حلقات الحرم النبوي، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أعظم الأثر في توجيهه وإرشاده، أما الأول فهو الشيخ "عبد العزيز" الوزير التونسي، وأخذ عنه (موطأ مالك)، ولزم دروسه في الفقه المالكي، وأما الثاني فهو الشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي"، وأخذ عنه شرح صحيح مسلم، واستثمر "البشير" وقته هناك، فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة، مثل: مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، والسلطان محمود، ومكتبة آل المدني، ووجد في محفوظاتها الكثيرة ما أشبع نهمه العلمي.

وفي أثناء إقامته بالمدينة التقى بالشيخ "عبد الحميد بن باديس"، الذي كان قد قدم لأداء فريضة الحج، وقد ربطت بينهما المودة ووحدة الهدف برباط وثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر، وانضم إليهما "الطيب العقبي"؛ وهو عالم جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة، والتقى الثلاثة في أيام متصلة ومناقشات جادة حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها، فوضعوا الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

حياته الفكرية والعلمية

• في دمشق الفيحاء:

عاد "ابن باديس" إلى الجزائر، وبدأ في برنامجه الإصلاحي، على حين أقام "البشير الإبراهيمي" في المدينة المنورة، وظل بها حتى سنة (1335هـ= 1916م)، ثم غادرها هو وأسرته إلى دمشق بعد أن أمرت الدولة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق؛ بسبب استفحال ثورة "الشريف حسين بن علي"، فخرج "البشير" مع والده إلى دمشق، وهناك تولى التدريس بالمدارس الأهلية، وألقى دروسًا في الجامع الأموي، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الذي كان من غاياته تعـريب الإدارات الـحـكـومـية، وهناك التقى بعلماء دمشق وأدبائها، ويـتـذكرهم بعد ثلاثين سنة من عودته إلى الجزائر فيكتب في (البصائر) العدد 64 عام 1949: "ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلاً ، فأشهد صادقاً أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة ، وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر، ولا أكذب الله ، فأنا قريـر العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن (الجزائر) ولكن ... مَن لي فيه بصدر رحب ، وصحب كأولئك الصحب ؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت ، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية...".

كما اتصل به الأمير "فيصل بن الشريف حسين"، وطلب منه أن يعود إلى المدينة لإدارة وزارة المعارف، لكنه اعتذر عن قبول هذه المهمة، وآثر العودة إلى وطنه.

• العودة إلى الوطن:

عاد "البشير الإبراهيمي" إلى الجزائر سنة (1338هـ= 1920م)، والتقى بصديقه "ابن باديس"، فرأى جهوده التعليمية قد أثمرت شبابًا ناهضًا، وأدرك أن ما قام به زميله هو حجر الأساس في إرساء نهضة الجزائر، فارتحل إلى (سطيف) ليصنع ما صنع رفيقه في قسطنطينة، بدأ في إلقاء الدروس العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، وتحرك بين القرى والمدن خطيبًا ومحاضرًا، فأيقظ العقول وبعث الحياة في النفوس التي أماتها الجهل والتخلف، ورأى الشيخ أن دروسه قد أثمرت، وأن الناس تتطلع إلى المزيد، فشجعه ذلك على إنشاء مدرسة يتدرب فيها الشباب على الخطابة والكتابة في الصحف، وقيادة الجماهير في الوقت الذي كان يتظاهر فيه المصلح اليقظ بالاشتغال بالتجارة؛ هربًا من ملاحقة الشرطة له ولزواره، وكان المحتل الفرنسي قد انتبه إلى خطورة ما يقوم به "البشير" ضد وجوده الغاصب، فعمل على تعويق حركته، وملاحقة أتباعه.

وكان المجاهدان "ابن باديس" و"الإبراهيمي" يتبادلان الزيارات؛ سواءً في قسطنطينة أو (سطيف)، ويتناقشان أمر الدعوة وخطط المستقبل، وتكوين جيل يؤمن بالعروبة والإسلام ويناهض الاستعمار عن طريق تربية إسلامية صحيحة.

وبارك الله في جهود المصلحين الكبيرين، فحين نادى "ابن باديس" بمقاطعة الاحتفال الذي ستقيمه فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على الاحتلال، استجاب الشعب الجزائري لنداء "ابن باديس" عن طريق دعاته الذين اندسوا وسط الشعب، وأثاروا نخوته، فقاطعوا هذا الاحتفال الذي يهين الأمة الجزائرية ويعبث بمشاعرها وذكرى شهدائها.

• البشير الإبراهيمي" وجمعية العلماء المسلمين:

أثار الاحتفال المئوي للاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1348هـ= 1930) حفيظة العلماء الجزائريين، فقام المصلحان الكبيران بإنشاء جمعية العلماء المسلمين، وعقد المؤتمر التأسيسي لهذه الجمعية في (17 من ذي الحجة 1349هـ= 5 من مايو 1931م) تحت شعار: "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"، وانتخبت الجمعية "ابن باديس" رئيسًا لها، و"البشير الإبراهيمي" وكيلاً، وتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية في المقاطعات الجزائرية الثلاث، وتولى "الإبراهيمي" مسئولية (تلمسان) العاصمة العلمية في الغرب الجزائري، واختص "ابن باديس" بالإشراف على مقاطعة قسطنطينة بما تضم من القرى والمدن، واختص الشيخ "الطيب العقبي" بالإشراف على مقاطعة الجزائر.

ونشط "الإبراهيمي" في (تلمسان)، وبث فيها روحًا جديدة، فكان يلقي عشرة دروس في اليوم الواحد، يبتدئها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد الصلاة الأخيرة إلى بعض النوادي الجامعة؛ ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وكانت له جولات في القرى أيام العطل الأسبوعية، وينشط العزائم ويبعث الهمم في النفوس، وقد نتج من ذلك كله بناء أربعمائة مدرسة إسلامية، تضم مئات الآلاف من البنات والبنين، وبناء أكثر من مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.

وقد أقلق هذا النشاط العارم المستعمرين، وأدركوا عاقبة ذلك إن سكتوا عليه، فأسرعوا باعتقال "البشير" ونفيه إلى صحراء (وهران) سنة (1359هـ= 1940م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي "ابن باديس"، واختاره العلماء رئيسًا لجمعيتهم، ولبث في منفاه ثلاث سنوات، ثم خُلي عنه عقيب انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1362هـ= 1943م).

• المنفى :

كان من الشجعان الحكماء الذين يحسب لهم ألف حساب، ومواقفه في ذلك لا تكاد تحصر، ومنها على سبيل المثال ما حدث له عام 1940 م إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر عند ما أصدر الوالي العام أمر اعتقال الإبراهيمي في ساعة مختارة طبقاً للإجراءات المقررة؛ حتى لا يقع تجمع في الشوارع.
وقبيل اعتقال الإمام الإبراهيمي جرب الفرنسيون وسيلة كانوا يستنْزلون بها الهمم، ويشترون الذمم، وهي وسيلة الترغيب التي تعودوا استعمالها مع الذين أخلدوا إلى الأرض، وأتبعهم الشيطان؛ فلم يعيشوا لمبدأ، وقضوا حياتهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام.

فبعثوا إليه القاضي ابن حورة يعرض عليه منصب شيخ الإسلام الذي سيحدث لأول مرة في الجزائر في مقابل تصريح يؤيد فيه فرنسا التي كانت طرفاً في الحرب العالمية الثانية، والمشاركة في تحرير صحف أنشأوها، وفي كتابة محاضرات تسجل للإذاعة مقابل مِنَحٍ مغرية، فخيب ظنهم، ورفض كل تعاون معهم.

وكرر الفرنسيون المحاولة، واستدعت إدارة تلمسان الشيخ، وحاولت إقناعه بسداد طلب الحكومة، فرفض، فقيل له : ارجع إلى أهلك، وودعهم، وأحضر حقيبتك - يعني أنك ذاهب إلى السجن -.

فقال لهم: قد ودعتهم، وهاهي حقيبتي جاهزة.

ولما علم الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بموقف أخيه الإمام الإبراهيمي ازداد إكباراً له، وإعجاباً به، وكتب إليه رسالة عام 1940 قبيل وفاته - أي ابن باديس - بثلاثة أيام، ما نصه:

(( الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي - سلمه الله –

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد

فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم :(( الآن يا عمر ))

فقد صنت العلم والدين، صانك الله وحفظك، وتَرِكَتـَك، وعظَّمتها عظَّم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيضت محُيَـَّاهما بيض الله محياك يوم لقائه، وثبتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان.

والسلام من أخيك عبد الحميد بن باديس ))

كما أنه قد زج به في السجن بعد أحداث مايو 1945، وبقي فيه عاماً كاملاً ذاق الأمرين في زنزانة تحت الأرض؛ حيث الظلمة، والرطوبة مما استدعى نقله إلى المستشفى العسكري بقسنطينة؛ فتحمَّل هذه المحنة بصبر المجاهد، ويقين المؤمن.

• رئاسة جمعية العلماء:

بعد خروجه من المنفى أعاد نشاط جمعية العلماء في بناء المساجد وتأسيس المدارس، وإصدار جريدة البصائر في سلسلتها الثانية بعد أن توقفت أثناء الحرب، وتولى رئاسة تحريرها، وكانت مقالاته الافتتاحية فيها نسيجًا فريدًا من نوعه في النبض العربي الإسلامي.

ولما تزايدت أعداد خريجي المدارس الابتدائية رأى "البشير الإبراهيمي" ضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانوية، فدعا هو وزملاؤه العلماء الأمة الجزائرية إلى الاكتتاب في إنشاء معهدٍ ثانويٍّ، فاستجابت الأمة للدعوة، وأنشئ هذا المعهد الذي أطلق عليه معهد "عبد الحميد بن باديس" تخليدًا لذكراه، واستقبل المعهد طلابه في سنة (1367هـ= 1948م)، وكانوا ثمانمائة طالب، ثم تزايدت أعداد الطلاب بعد ذلك، ومن بين تلاميذ هذا المعهد كان دعاة الحركة التحريرية بالجزائر، حين تقدمت الوفود المؤمنة إلى معركة الاستقلال بحمية مشتعلة، ومن خريجيه تشكلت أولى البعثات العلمية الجزائرية إلى مصر والعراق وسوريا؛ حيث اعترفت بشهادة هذا المعهد جامعات الشرق العربي، وأصبح في وسع خريجيه الالتحاق بكلية دار العلوم والجامع الأزهر بالقاهرة، وجامعة بغداد وجامعة دمشق.

• رحلة "البشير الإبراهيمي" إلى المشرق العربي:

غادر "الإبراهيمي" الجزائر العاصمة سنة (1371هـ= 1952م) متجهًا إلى المشرق العربي في رحلته الثانية التي دامت عشر سنوات حتى استقلال الجزائر سنة (1381هـ= 1962م)، وكانت جمعية العلماء قد كلفته القيام بهذه الرحلة لتحقيق ثلاثة أهداف :

· بذل المساعي لدى الحكومات العربية لقبول عدد من الطلاب الجزائريين الذين تخرجوا من معاهد جمعية العلماء في جامعاتها.

· طلب معونة مادية لجمعية العلماء لمساعدتها في النهوض برسالتها التعليمية.

· الدعاية لقضية الجزائر التي نجحت فرنسا في تضليل الرأي العام في المشرق بأوضاع المغرب عامةً والجزائر خاصةً.

واستقر بـ"الإبراهيمي" المقام في القاهرة، وشرع في الاتصال بمختلف الهيئات والمنظمات والشخصيات العربية الإسلامية في القاهرة وبغداد ودمشق والكويت، ونشط في التعريف بالجزائر من خلال المؤتمرات الصحفية، والمحاضرات العامة التي كان يلقي كثيرًا منها في المركز العام للإخوان المسلمين، وكان بيته في القاهرة ملتقى العلماء والأدباء وطلبة العلم.
وسبق وصول "البشير" إلى القاهرة بعثة جمعية العلماء التي ضمت 25 طالبًا وطالبةً، وكانت بعثات الجمعية تقتصر على مصر وحدها للدراسة في الأزهر والمدارس المصرية، غير أن "البشير" تمكن من الحصول على عدد آخر من المنح التعليمية للطلاب الجزائريين في البلاد العربية الأخرى، واتخذ من القاهرة مقرًّا يشرف منه على شئون هذه البعثات في بغداد ودمشق والكويت، وكان يقوم بين الحين والآخر بزيارة هذه البلاد؛ لتفقد أحوال الطلاب الجزائريين والسعي لدى حكوماتها من أجل الحصول على منح جديدة.

وكان "الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على هؤلاء الطلبة المبعوثين، فلم يألُ جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المستعمر، وبواجبهم نحو إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا وتحاول النيل منها، وقد أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من معظمهم في دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية الإسلامية التي كان يؤمن بها العلماء، وفي أثناء إقامته بالقاهرة اختير "الإبراهيمي" لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة (1380هـ= 1961م).

• الإبراهيمي وقضايا العالم الإسلامي:

لم يقتصر وجود "البشير" على قضايا الجزائر، بل امتدت لتشمل كثيرًا من قضايا العالم الإسلامي، فاهتم بالقضية الفلسطينية، ودعا الأمة الجزائرية لصوم أسبوع في الشهر والتبرع بنفقاته لصالح فلسطين، وحمل على فرنسا؛ لموافقتها على قرار تقسيم فلسطين، وأعلن تضامنه مع جهاد المصريين سنة (1370هـ= 1951م) ضد الاحتلال الإنجليزي، ودعا العرب والمسلمين إلى تأييد مصر في جهادها، ودافع عن استقلال ليبيا، وطالب أهلها باتفاق الكلمة، وتوحيد الرأي وقوة الإيمان بالحق، وحذرهم من مكائد الاستعمار.

• العودة بعد استقلال الجزائر:

ولما أعلن استقلال الجزائر عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول صلاة جمعة من مسجد (كتشاوة) بقلب العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد حوله الفرنسيون إلى كتدرائية بعد احتلالهم الجزائر.

وقد نقلت الإذاعة خطبتي الجمعة إلى الأمة، فأعادت كلماته للكثيرين من رفاقه وغيرهم أعذب الذكريات، ولزم "الإبراهيمي" بيته بعد أن أثقلته السنون، وأوهنه المرض، وأحزنه تنكر البعض لجهاده وأثره في إحياء الأمة، وكانت مقاليد البلاد تجري في أيدي من تنكروا للإسلام وأداروا ظهورهم له، رأى الشيخ المجاهد أن ثمرة ما زرعه هو ورفاقه من العلماء قد وقع في كف من لا يقدرون قدرها.

• وفاة "البشير الإبراهيمي":

بعد عودة الشيخ "البشير الإبراهيمي" لزم بيته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد أن كبر سنه وضعفت صحته، حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من المحرم 1385هـ= 19 من مايو 1965م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت الأمة تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن تقديرها لرجل من رجالات الإصلاح فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.

كما تحدث عن نفسه

لقد كُتِبَ العديد من الدراسات والأبحاث في سيرة الشيخ البشير الإبراهيمي الغراء. والأجزاء الخمسة التي جمعها وقدم لها نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وسماها ( آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ) حافلة بالمقالات التي رَقَمَتْهَا يراعة الشيخ، والتي تصور شخصيته، وأطوار حياته.

كما أن تلك الأجزاء - وخصوصاً مقدماتها - قد تضمنت عدداً من الكتابات التي تناولت سيرة الشيخ بالدراسة والتحليل. بل إنه - رحمه الله - كتب عن سيرته الذاتية؛ حيث جاء في الجزء الخامس من ( الآثار ) ترجمتين كتبهما الشيخ عن نفسه.

أما الترجمة الأولى فهي في 5 / 163 - 170 . وقد جاءت بعنوان ( من أنا ) وهي في أصلها جواب عن أسئلة مجلة المصور المصرية، ونشرت في 1955م.

وأما الثانية فهي في 5 / 262 - 291 من الآثار، وعنوانها: ( خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية ) وقد كتب هذه الترجمة بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1961م عندما عين عضو عاماً فيها.
كما تحدث بشيء من سيرته في مقابلة مع مجلة الشبان المسلمين 1962م وهذه المقابلة في الآثار 5 / 298 - 302.
وإليكم نبذة موجزة عن بعض ما جاء في تلك الكتابات حول تلك السيرة، وذلك من خلال الوقفات التالية :


يقول الشيخ محمد البشير - رحمه الله -:عن نشأته، وبداية طلبه للعلم، ومحفوظاته: (( نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت التعلم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتبع في بيتنا، الشائع في بلدنا. وكان الذي يعلمنا الكتابة، ويلقننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافاً كلياً عالم البيت، بل الوطن كله في ذلك الزمان عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي - رحمه الله -. وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع؛ من نحوها، وصرفها، واشتقاقها، ولغتها. أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا)) .

ويقول - رحمه الله -: (( فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلمي القرآن، وتولى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة، حتى في ساعات النوم؛ فكان هو الذي يأمرنِي بالنوم، وهو الذي يوقظني على نظام مطرد في النوم، والأكل، والدراسة.

وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه، وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن؛ فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه.

وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبدالله بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الاندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب.

ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدراً من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى المشرق، وصدراً من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيراً من رسائل سهل بن هارون، وبديع الزمان.

وفي عنفوان هذه الفترة حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابيه للهمذاني، وكتاب الفصيح لـ: ثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت.

وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في مَلَكتي اللغوية.

ولم يزل عمي - رحمه الله - يتدرج بي من كتاب إلى كتاب تلقيناً وحفظاً ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغتُ الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث، وتدقيق، وكان قبلها أقرأنِي كتب ابن هشام الصغيرة قراءةَ تفهُّمٍ وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت في الظلمة حتى يغلبني النوم.

ولم يكن شيء من ذلك يرهقني؛ لأن الله - تعالى - وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نَيِّرة، وذهناً صيوداً للمعاني ولو كانت بعيدة.

ولما بلغت أربع عشرة سنة مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت؛ بحيث إني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة ))
ويقول في موضع آخر:(( ولقد حفظت وأنا في تلك السن - الرابعة عشرة- أسماء الرجال الذين تَرجم لهم نفح الطيب، وأخبارهم، وكثيراً من أشعارهم؛ إذ كان كتاب نفح الطيب - طبعة بولاق - هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عيني على الكتب.

وما زلت أذكر إلى الآن مواقع الكلمات منذ الصفحات، وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة.

وكنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد، مما يحقق ما نقرؤه عن سلفنا من غرائب الحفظ.

وكان عمي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة، ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت، فيطرب لصحة فهمي.

فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه - وكان وسطاً - أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة، أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرنِي، وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بدنك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعانِي الشعرية، ثم يأمرنِي بالنوم - رحمه الله - )).

ثم يقول - رحمه الله - بصدق وصراحة: ((مات عمي سنة 1903م ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرنِي أن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصاً على نفعهم، ففعلت، ووفق الله، وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخاً في سن الصبا.
وما أشرفت على الشباب حتى أصبت بشرِّ آفة يصاب بها مثلي، وهي آفة الغرور والإعجاب بالنفس؛ فكنت لا أرى نفسي تَقْصُر عن غاية حفَّاظ اللغة وغريبها، وحفاظ الأنساب والشعر، وكدت أهلك بهذه الآفة لولا طبع أدبي كريم، ورحلة إلى الشرق كان فيها شفائي من تلك الآفة)) .

هذا وقد أشار - رحمه الله - في بعض المواضع إلى أنه كان يحفظ المعلقات، والمفضليات، وكثيراً من شعر الرضي، وابن الرومي، وأبي تمام، والبحتري.

وأشار إلى أنه يحفظ موطأ مالك وغيره من الكتب.

abdelhai45
2012-05-03, 20:11
http://www6.0zz0.com/2012/03/08/22/253461765.gif

التوحيد الخالص
2012-05-03, 20:22
بارك الله فيك