تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أصحاب الكهف


جميل
2009-01-10, 13:22
القصة:
في زمان ومكان غير معروفين لنا الآن، كانت توجد قرية مشركة. ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم. عبدوهم من غير أي دليل على ألوهيتهم. ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء. ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها.
في هذه المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العقلاء. ثلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء. فتية، آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم. وألهمهم طريق الرشاد.
لم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقواهم. إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله. ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه. فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون.
عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذا لهم. خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسة، للكهف الضيق. تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفا موحشا. زهدوا في الأسرّية الوثيرة، والحجر الفسيحة، واختاروا كهفا ضيقا مظلما.
إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه. فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه. ويرى الكهف قصرا، إن اختار الله له الكهف. وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعا في رضى الله. وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرا من قريتهم التي خرجوا منها.
استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه. وهنا حدثت معجزة إلاهية. لقد نام الفتية ثلاثمئة وتسع سنوات. وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها في أول ولا آخر النهار. وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، حتى لا تهترئ أجاسدهم. فكان الناظر إليهم يحس بالرعب. يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم.
بعد هذه المئين الثلاث، بعثهم الله مرة أخرى. استيقضوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم. وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم. فتساءلوا: كم لبثنا؟! فأجاب بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم. لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة. المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم.
فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعاما طيبا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد. فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم. قد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت.
خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها. لقد تغيرت الأماكن والوجوه. تغيّرت البضائع والنقود. استغرب كيف يحدث كل هذا في يوم وليلة. وبالطبع، لم يكن عسيرا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل. ولم يكن صبعا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها.
لقد آمن المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح. لقد فرح الناس بهؤلاء الفتية المؤمنين. لقد كانوا أول من يؤمن من هذه القرية. لقد هاجروا من قريتهم لكيلا يفتنوا في دينهم. وها هم قد عادوا. فمن حق أهل القرية الفرح. وذهبوا لرؤيتهم.
وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات. وبعدما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقي ملموس أمامهم. أخذ الله أرواح الفتية. فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت. فاختلف أهل القرية. فمن من دعى لإقامة بنيان على كهفهم، ومنهم من طالب ببناء مسجد، وغلبت الفئة الثانية.
لا نزال نجهل كثيرا من الأمور المتعلقة بهم. فهل كانوا قبل زمن عيسى عليه السلام، أم كانوا بعده. هل آمنوا بربهم من من تلقاء نفسهم، أم أن أحد الحواريين دعاهم للإيمان. هل كانوا في بلدة من بلاد الروم، أم في فلسطين. هل كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، أم خمسة سادسهم كلبهم، أم سبعة وثامنهم كلبهم. كل هذه أمور مجهولة. إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله. فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر. فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل.

أم الخير2
2009-01-10, 22:13
:dj_17::dj_17:شكرا لك أخي على القصة
وجزاك الله خير:19::19:

المهذب
2009-01-10, 23:28
القصة:
في زمان ومكان غير معروفين لنا الآن، كانت توجد قرية مشركة. ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم. عبدوهم من غير أي دليل على ألوهيتهم. ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء. ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها.
في هذه المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العقلاء. ثلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء. فتية، آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم. وألهمهم طريق الرشاد.
لم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقواهم. إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله. ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه. فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون.
عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذا لهم. خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسة، للكهف الضيق. تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفا موحشا. زهدوا في الأسرّية الوثيرة، والحجر الفسيحة، واختاروا كهفا ضيقا مظلما.
إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه. فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه. ويرى الكهف قصرا، إن اختار الله له الكهف. وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعا في رضى الله. وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرا من قريتهم التي خرجوا منها.
استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه. وهنا حدثت معجزة إلاهية. لقد نام الفتية ثلاثمئة وتسع سنوات. وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها في أول ولا آخر النهار. وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، حتى لا تهترئ أجاسدهم. فكان الناظر إليهم يحس بالرعب. يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم.
بعد هذه المئين الثلاث، بعثهم الله مرة أخرى. استيقضوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم. وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم. فتساءلوا: كم لبثنا؟! فأجاب بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم. لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة. المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم.
فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعاما طيبا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد. فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم. قد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت.
خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها. لقد تغيرت الأماكن والوجوه. تغيّرت البضائع والنقود. استغرب كيف يحدث كل هذا في يوم وليلة. وبالطبع، لم يكن عسيرا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل. ولم يكن صبعا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها.
لقد آمن المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح. لقد فرح الناس بهؤلاء الفتية المؤمنين. لقد كانوا أول من يؤمن من هذه القرية. لقد هاجروا من قريتهم لكيلا يفتنوا في دينهم. وها هم قد عادوا. فمن حق أهل القرية الفرح. وذهبوا لرؤيتهم.
وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات. وبعدما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقي ملموس أمامهم. أخذ الله أرواح الفتية. فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت. فاختلف أهل القرية. فمن من دعى لإقامة بنيان على كهفهم، ومنهم من طالب ببناء مسجد، وغلبت الفئة الثانية.
لا نزال نجهل كثيرا من الأمور المتعلقة بهم. فهل كانوا قبل زمن عيسى عليه السلام، أم كانوا بعده. هل آمنوا بربهم من من تلقاء نفسهم، أم أن أحد الحواريين دعاهم للإيمان. هل كانوا في بلدة من بلاد الروم، أم في فلسطين. هل كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، أم خمسة سادسهم كلبهم، أم سبعة وثامنهم كلبهم. كل هذه أمور مجهولة. إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله. فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر. فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل.


السلام عليكم ورحمة الله
مشكو ر أخي الفاضل على سرد القصة لاهل الكهف مع اختصارك الشديد ولكي تعطيها حقها سأضيف
على ما كتبت بالتفسير لبعض الايات من سورة الكهف والتي تبين هذه القصة وهو تفسير للقرطبي واليكم اخوتي ذلك بعد بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
التفسير وهي مكية في قول جميع المفسرين . وروي عن فرقة أن أول السورة نزلت بالمدينة إلى قوله : " جرزا " والأول أصح . وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال : من قرأ بها أعطي نوراً بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر . وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك . قالوا : بلى يا رسول الله ؟ قال : سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نوراً يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال " ذكره الثعلبي ، و المهدوي أيضاً بمعناه . وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة اضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق . وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال " وفي رواية ( من آخر الكهف ) . وفي مسلم أيشاً من حديث النواس بن سمعان : " فمن أردكه _ يعني الدجال _ فلقرأ عليه فواتح سورة الكهف " . وذكره الثعلبي قال : سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظاً لم تضره فتنة الدجال ، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة " .
قوله تعالى : " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا" .
قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
التفسير قوله تعالى : " قيما " ذكره ابن إسحاق : أن قريشاً يعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لها : سلاهم عن محمد وصفاً لهم صفته وأخراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوارة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، وما كان أمرهم ، فإنه قد كان لهم حديث عجب . وسله عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وما كان نبؤه . وسله عن الروج ، وما هي ، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإني نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضير بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد _ صلى الله عليه وسلم ( وقد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم . فحاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتنة ذهبوا في الدهر الأول ، قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروج ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخبركم بما سألتم عنه غداً " ولم يستثن . فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعموت خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غداً ، واليوم خمس عشرة ليلة ، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سالناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاببته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروج قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : " لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا " فقال له جبريل : " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا" [ مريم : 64] . فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده ، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال : " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب " يعني محمداً ، إنك رسول مني ، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك " ولم يجعل له عوجا * قيما" أي معتدلاً لا اختلاف فيه . " لينذر بأسا شديدا من لدنه " أي عاجل عقوبته في الدنيا ، وعذاباً أليماً في الآخرة ، أي من عند ربك الذي بعثك رسولاً . " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا " .
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا
التفسير قوله تعالى : " ماكثين فيه أبدا " أي دار الخلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال . " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " يعني قريشاً في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله . " ما لهم به من علم ولا لآبائهم " الذين أعظموا فراهم وعيب دينهم . " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " أي لقولهم إن الملائكة بنات الله . " إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " لحزنه عليه حين فاته ما كان يرجوه منهم ، أي لا تفعل . قال ابن هشام : ( باخع نفسك ) مهلك نفسك ، فيما حدثني أبو عبيدة . قال ذو الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون بخعة . وهذا البيت في قصيدة له . وتقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له . " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" قال ابن إسحاق : أي أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي . " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلى فأجزي كلا بعلمه ، فلا تأسى ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها . وقال ابن هشام : الصعيد وجه الأرض ، وجمعه صعد . قال ذو الرمة يصف ظبياً صغيراً .
كأنه بالضحا ترممي الصعيد به دبابة عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له . والصعيد أيضاً : الطريق، وقد جاء في الحديث" إياكم والقعود على الصعدات " يريد الطرق . والجزر : الأرض التي لا تنبت شيئاً ، وجمعها أجراز . ويقال : سنة جرز وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر . وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة . قال ذو الرمة يصف إبلاً :
طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال : " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا" أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك . قال ابن هشام : والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم ، وجمعه رقم . قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم وهذا البيت في أرجوزة له قال ابن إسحاق : ثم قال " إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " .ثم قال : " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " أي بصدق الخبر " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " أي لم يشركوا بي أشركتم بي ما ليس لكم به علم . قال ابن هشام : والشطط الغلو وجاوزة الحق . قال أعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين " قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة . " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا * وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه " قال ابن هشام : تزاور تميل ، وهو من الزور . وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلداً :
جدب المندى عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسة العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له . و( تقرضهم ذات الشمال ) تجاوزهم وتتركهم عن شمالها . قال ذو الرمة :
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالاً وعن أيمانهن الفوارس
وهذا لبيت في قصيدة له . والفجوة : السعة ، وجمعها الفجاء . قال الشاعر :
ألبس قومك محزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
" ذلك من آيات الله " أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم . " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " قال ابن هشام : الوصيد الباب . قال العبسي واسمه عبد بن وهب :
بأرض فلاة لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منك
وهذا البيت في أبيات له . والوصيد أيضاً الفناء وجمعه وصائد ووصد ووصدان . " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا" إلى قوله : " قال الذين غلبوا على أمرهم " أهل السلطان والملك منهم " لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون " يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم . " ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم " أي لا تكابرهم " إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " فإنهم لا علم لهم بهم . " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " أي لا تقولن لشيء سالوك عنه كما قلت في هذا إني مخركم غدا واستثن مشيئة الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " أي سيقولون ذلك " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا " أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه .
قلت : هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه . ويأتي خبر ذي الرنين ، ثم نعود غلى أول السورة فنقول : قد تقدم معنى الحمد لله . وزعم الأخفش و الكسائي و الفراء و أبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديماً وتأخيراً ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً . و(قيماً) نصب على الحال . وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير ، ومعناه : ولم يجعل له عوجاً ولكن جعلناه قيماً . وقول الضحاك فيه حسن ، وأن المعنى : مستقيم ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض .وقيل : ( قيماً ) على الكتب السابقة يصدقها . وقيل : ( قيماً) بالحجج أبداً . ( عوجاً ) مفعول به ، والعوج ( بكسر العين ) في الدين والرأي والأمر والطريق . وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار ، وقد تقدم . وليس في القرآن عوج ، أي عيب ، أي ليس متناقضاً مختلفاً ، كما قال تعالى : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " [ النساء : 82] وقيل : أي لم يجعله مخلوقا ً ، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : " قرآنا عربيا غير ذي عوج " [ الزمر : 28] قال : غير مخلوق . وقال مقاتل : ( عوجاً ) اختلافاً . قال الشاعر :
أدوم بودي للصديق تكرماً ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
" لينذر بأسا شديدا " أي لينذر محمد أو القرآن . وفيه إضمار ، أي لينذر الكافرين عقاب الله . وهذا أبو بكر عن عاصم ( من لدنه ) بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، والهاء موضولة بياء . الباقون ( لدنه ) بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء . قال الجوهري : وفي ( لدن ) ثلاث لغات : لدن ، ولدى ، ولد . وقال :
من لد لحييه إلى منحوره المنحور لغة في المنحر .
قوله تعالى : " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم " أي بأن لهم " أجرا حسنا " وهي الجنة : " ماكثين " دائمين . " فيه أبدا " لاإلى غاية وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في ( بأن ) والأجر الحسن : الثواب العظيم الذي يؤدي إلتى الجنة .
وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا
التفسير قوله تعالى : " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " وهم اليهود قالوا عزير ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، وقريش قالت الملائكة بنات الله . فالإنذار في أول السورة عام ، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .
مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا
التفسير قوله تعالى : " ما لهم به من علم " (من) صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم ، لأنهم مقلدة قالوه بغيردليل . " ولا لآبائهم " أي أسلافهم " كبرت كلمة " ( كلمة ) نصب على البيان ، أي كبرت تلك الكلمة كلمة . وقرأ الحسن و مجاهد و ميحيى بن يعمر و ابن أبي إسحاق ( كلمة ) بالرفع ، أي عظمت كلمة ، يعني قولهم اتخذ الله ولداً . وعلى هذه القرآءة فلا حاجة إلى إضمار . يقال : كبر الشيء إذا عظم ، وكبر الرجل إذا أسن . " تخرج من أفواههم " في موضع الصفة . " إن يقولون إلا كذبا" أي ما يقولون إلا كذباً .
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
التفسير قوله تعالى : " فلعلك باخع نفسك على آثارهم " ( باخع ) أي مهلك وقاتل، وقد تقدم . ( آثارهم ) جمع أثر ، ويقال إثر . والمعنى على أثر توليهم وإراضهم عنك " إن لم يؤمنوا بهذا الحديث " أي القرآتن " أسفا " أي حزناً وغضباً على كفرهم ، وانتصب على التفسير .
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
التفسير قوله تعالى : " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " (ما ) و( زينة ) مفعولان كل ما على وجه الأرض ، فهو عموم لأنه دال على بارئه . وقال ابن جبير عن ابن عباس : أراد بالزينة الرجال ، قال مجاهد . وروى عكرمة عن ابن عباس : أن الزينة الخلفاء والأمراء . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى : " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " قال : العلماء زينة الأرض . وقالت فرقة : أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والماءه ، ونحو هذا مما فيه زينة ، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما زينة فيه كالحيات والعقارب . والقوم بالعموم أولى ، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه . والآية بسط في التسلية ، أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها ، فمنهم من يتدبر ويؤمن ، ومنهم من يكفر ، ثم يوم القيامة بين أيدهم ، فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم .
الثانية : معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا خضرة وحلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون " وقوله صلى الله عليه وسلم " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : بركات الأرض " خرجهما مسلم من حديث أبي سعيد الخدري . والمعنى : أن الدنيا مستطابة في ذوقها تمعجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى ، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً . أي من أزهد فيها وأترك لها ، ولا سبيل للعاد إلى معصية ما زينه الله إلا أن يعينه على ذلك . ولهذا كان عمر يقول فيها ذكر البخاري : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا ، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه . فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه . وقهذا معنى قوله عليه السلام : " فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع " وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها ، وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله، فإن الفتنة معها حاصلة وعدم لاسلامة غالبة ، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقتقه الله بما آتاه . وقال ابن عطية : كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله : ( أحسن عملاً ) أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان ، وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه . قلت : هذا قول حسن ، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه ، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك في رواية : غيرك : قال : " قل آمنت بالله ثم استقم " خرجه مسلم وقال سفيان الثوري : ( أحسن عملاً ) أزهدهم فيها . وكذلك قال أبو عصام العسقلاني (أحسن عملاً) أترك لها وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد ، فقال قوم : قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء ، قاله سفيان الثوري . وقال علماؤنا : وصدق رضي الله عنه ! فإن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات ، وأخذ من الدنيا ما تيسر ، واجتزأ منها بما يبلغ . وقال قوم : بغض المحمدة وحب الثناء . وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه . وقال قوم : ترك الدنيا كلها هو الزهد ،أحب تركها أم كره . وهو قول فضيل . وعن بشر بن الحارث قال : حب الدنيا حب لقاء الناس ، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس . وعن الفضل أيضاً : علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس . وقال قوم : لا يكون الزاهد زاهداً حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها ، قاله إبراهيم بن أدهم . وقال قوم : الزهد أن يزهد في الدنيا بقلبك ، قاله ابن مبارك . وقالت فرقة : الزهد حب الموت . والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى .
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا
التفسير قوله تعالى : " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا "
تقدم بيانه . وقال أبو سهل : تراباً لا نبات به ، كأنه قطع نباته . والجرز : القطع ، ومنه سنة جرز . وقال الراجز :
قد جرفتهن السنون الأجراز
والأرض الجرز التي لا تبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها ، كأنه قطع وأزيل يعني يوم القيامة ، فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها . النحاس : والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها . قال الكسائي : يقال جرزت الأرض تجرز ، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز .
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
التفسير قوله تعالى : " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " مذهب سيبيه أن ( أم ) إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام . وهي المنقطيعة . وقيل : (أم ) عطف على معنى الستفهام في لعلك ، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار . قال الطبري :وهو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجباً ، بمعنى إنكار ذلك عليه ، أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع ، هذا قول ابن عباس و مجاهد و قتادة و ابن إسحاق . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا ، وعن ذي القرنين وعن الروح . وأبطأ الوحي على ماتقدم . فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام : أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف من خبرهم الكلبي : خلق السوموات والأرض أعجب من خبرهم . الضحاك : ما أطلعتك عليه من الغيب أعجب . الجنيد : شأنك في الإسراء أعجب . الماوردي : معنى الكلام النفي ، أي ما حسبت لولا إخبارنا أبو سهل : استفهام تقرير ، أي أحسبت ذلك فإنهم عجب . والكهف : النقب المتسع في الجبل ، وما لم يتسع فهو غر . وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال : الكهف الجبل ، وهذا غير شهير في اللغة .
واختلف اناس في الرقيم ، فقال ابن عباس : كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين وحنان والأواه والرقيم . سئل مرة عن الرقيم فقال :زعم كعب أنما قرية خرجوا منها . وقال مجاهد : الرقيم واد . وقال السدي : الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف . وقال ابن زيد : الرقيم كتاب غم الله علينا أمره ، ولم يشرح لنا قصته . وقالت فرقة : الرقيم كتا في لوح من نحاس . وقال ابن عباس : في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذين فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخاً لهم ، ذكروا وقت فقدهم ، وكم كانوا ، وبين من كانوا .و كذا قال الفراء قال : الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا . قال بان عطية : ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوماً مؤرخين للحوادث ، وذلك من نبل المملكة ، وهو أمر مفيد . وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ، ونمه كتاب مرقوم . ومنه الأرقم لتخطيطه . ومنه رقمة الوادي ، أي مكان جري الماء وانعطافه وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض ، لأن القول الأول إنما سمعه من كعب . والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده ، وروى عنه سعيد بن جبير قال : ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال : إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال ليكون لهم نبأ ، وأخضر لوحاً من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في حزانته . فذلك اللوح هو الرقيم وقيل : إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان ، فالله أعلم . وعن بان عباس ايضاً : الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دبن عيس عليه السلام . وقال النقاش عن قتادة : الرقيم دراهمهم . وقال أنس بن مالك و الشعبي : الرقيم كلبهم . وقال عكرمة ك الرقيم الدواة . وقيل : الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر . وقيل : الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم ، فذكر كل واحد منهم أصلح عمله .
قلت : وفي هذا خبر معروف أخرجه الصحيحان ، وإليه نحا البخاري . وقال قوم : أخبر الله عن أصحاب الكهف ، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء . وقال الضحاك : الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف ، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرة لأصحاب الكهف . الله أعلم . وقيل : الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف ، مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء ، يقال : عليك بالرقمة ودع الضفة ، ذكره الغزنوي . قال ابن عطية : وابالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة . ويزعم أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة ، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها .
قلت : ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم ، لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف : " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا" [ الكهف : 18] وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك وسيأتي في آخر القصة . وقال مجاهد في قوله : " كانوا من آياتنا عجبا" قال : هم عجب . كذا روى ابن جريج عنه ، يذهب إلى أنه ليس بإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده .
أنهم عجب . وروى أن [ أبي ] نجيح عنه قال : يقول ليس بأعجب آياتنا .
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
التفسير قوله تعالى : " إذ أوى الفتية إلى الكهف " روي أنهم قوم من أنباء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعو دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ان عباس : إن ملكا من الموك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سراً ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلاً ، ومروا براع ممع كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئاً ، فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضاً أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين _ حسبما ذكر النقاش أو من مؤؤمني الأمم قبلهم ( فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ، فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ،فاستضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ، فقالوا له فيا روي : " ربنا رب السماوات والأرض " إلى قوله : " وإذ اعتزلتموهم " وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شابان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى من ازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلاً ، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفاً في جبل كذا ، كان أبي يدخل فيه غنمه لنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالجولجان حتى خلصوا بذلك .وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف . يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت نخلطتهم به ، فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فناه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فناه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعاً ، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا . وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وهجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكب معهم ، قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير . وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى لمدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتينة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فاراً بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة ( النحل ) وقد نص الله تعالى على ذلك في (براءة ) وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتكروا أرضهم وديارهم وأهليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء . ويد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال : " فأووا إلى الكهف "[ الكهف : 15] . قال العلماء . الاعزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، مرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ، وقد جاء في الخبر : ( إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ) ولم يخص موضعاً من موضع . وقد تجعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزل الشر وأهله بقلبك وعملك ، وإن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهن ولا يصبر على أذاهم " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعن صوامع المؤمنين بيوتهم " من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول اللله صلى الله عليه وسلم : ما النجاة يا رسول الله فقال : " يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعاك بيتك وابتك على خطيئتك " وقال صلى الله عليه وسلم " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القصر يفر بدينه من الفتن " خرجه البخاري . وذكره علي بن سعيد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا انت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال " . وذكر أيضاً علي بن سعد عن عبد بن مبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا تمن فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة " قالوات : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟قال : " إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها "
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، قرب رجل تكون هل قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبراً عن الفتية ، فقال : " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف " ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ، وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما فيه وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم تحوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعاً ، أعمى بصيراً ، سكوتاً نطوقاً ، وقد قيل : إن كل موضع بيعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ، مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ن ولزوم البيوت فراراً عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم _ والله أعلم _ لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ، فكل موضع بيعد عن النسا فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول : " يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجأوا إلى الله تعالى فقالوا : " ربنا آتنا من لدنك رحمة " أي مغفرة ورزقاً " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " توفيقاً للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجاً من الغار في سلامة وقيل صواباً . ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
التفسير قوله تعالى : " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا " عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم . وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله . وقال الزجاج : أي منعناهم عن أن يسمعوا ، لأن النائم إذا سمع انتبه . وقال ابن عباس : ضربنا على آذانهم بالنوم ، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها . وقيل : المعنى ( فضربنا على آذانهم ) أي فاستجبنا دعاءهم ، وضرفنا عنهم شر قوهم ، وأنمناهم ، والمعنى كله متقارب . وقال قطرب : هذا كقوله العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد ، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف . قال الأسود بن يعفر وكان ضريراً :
‌ ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد
وأما تخصيص ألآذان بالذكر فلانها الجارحة التي منها عظم فساد النوم ، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه ، ولا يستحكم نوم من تعطل السمع . ومن ذكر الأذن فيث النوم قوله صلى الله عليه وسلم : " ذاك رجل بال الشيطان في أذنه " خرجه الصحيح . أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم ، لا يقوم الليل ، و(عدداً )نعت للسنين ، أي معدودة ، والقصد به العبارة عن التكثير ، لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف . والعد المصدر ، والعدد أسم المعدود كالنقض ولاخبط . وقال أبو عبيدة : ( عدداً ) نصب على المصدر . ثم قال قوم : بين الله تعالى عدد تلك السنينمن بعد فقال : " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " [ الكهف : 25] .
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
التفسير قوله تعالى : " ثم بعثناهم "أي من بعد نومهم . ويقال لمن أحيي أو أقيمن من نومه مبعوث ،لأنه كان ممنوعاً من الانبعاث والتصرف .
قوله تعالى : " لنعلم أي الحزبين أحصى " ( لنعلم ) عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته ، وهذا على نحو كلام العرب أي لنعلم ذلك موجوداً ، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد وقرأ الزهر ي (ليعلم ) بالياء والحزبان الفريقان . والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفيتة إذا ظنوا ليثبهم قليلاً . والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم ، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية . وهذا قول الجمهور من المفسرين . وقالت فرقة : هما حزبان من الكافرين ، اختلفا في مدة أصحاب الكهف . وقيل : هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يربتط بألفاظ الآية . و( أحصى ) فعل ماض . و(أمد ) نصب على المفعول به ، قاله أبو علي . وقال الفراء : نصب على التمييز وقال الزجاج : نصب على الظرف ، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد ، والأمد الغاية . وقال مجاهد : ( أمدا ) معناه عددا ، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب . وقال الطبري : (أمد ) منصوب بـ(لبثوا ) ابن عطية : وهذا غير متجه ، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لايكون من فعل رباعي إلا في الشاذ ، و( أحصى ) فعل رباعي . وقد يحتج له بأن يقال : إن أفعل في الرباعي قد كثر ، كقولك : ما أعطاه للمال وآتاه للخير . وقال في صفة حوضه صلى الله عليه وسلم : ( ماؤه أبيض من اللبن ) وقال عمر بن الخطاب : فهو لما سواها أضيع .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
التفسير قوله تعالى : " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " لما اقتضى قوله تعالى : " لنعلم أي الحزبين أحصى " اختلافاً وقع في أمد الفتية ، عقب بالخير عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع . و قوله تعالى : " إنهم فتية " أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة ، كذلك قال أهل اللسان : رأس الفتوة الإينمان . وقال الجنيد : الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى . وقيل : الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم . وقيل غير هذا . وهذا القول حسن جداً لأأنه يعم بالمعنى جيمع ما قيل في الفتوة .
قوله تعالى : " وزدناهم هدى " أي يسرناهم للعمل الصالح ، من الانقطاع إلى الله تعالى ومباعدة الناس والزهد في الدنيا . وهذه زيادة على الإيمان .وقال السدي : زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم ، فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله ، فقال : يا قوم لم تطردونني ، لم ترجمونني لم تضربونني فوالله لقد عرفت الله قبل أنعرفوه بأربعين سنة ، فزادهم الله بذلك هدى .
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا
التفسير قوله تعالى : " وربطنا على قلوبهم " عبارة عن شدة عزم قوة صبر ، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار : " ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا" ولما كان الفزع وخور النفس بشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ، ومنه يقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا تفرق نفسه عن الفرزع والحرب وغيرها . ومنه الربط على قلب أم موسى .و قوله تعالى : " وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام " [ الأنفال : 11] . قوله تعالى : " إذ قاموا فقالوا " فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " إذ قاموا فقالوا " يحتمل ثلاثة معان :
أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر _ كما تقدم ن وهو مقدم يحتاح إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا في ذات الله هيبته .
والمعنى الثاني فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة ، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد ، فقال أسنهم : إني أجد نفسي أن ربي رب السموات والأرض ، فقالوا ونحن كذلك نحد في أنفسنا . فقاموا جيمعاً فقالوا : ( ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا شططا ) أي لئن ددعونا إلهاً غيره فقد قلنا إذا جوراً ومحالاً
والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا إذاعزم عليه بغاية الجد .
الثانية : قال ابن عطية : تعلقت الصوفية في القيام والقول بقوله : ( إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض ) قلت : وهذا تعلق غير صحيح ! هؤلاء هاموا فذكروا الله على هدايته ، وشكروا لما أولاهم من نعمة ونعمته ، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفسين من قومهم ، وهذه سنة الله في الرسل والآنبياء والفضلاء الأولياء . أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام ! وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والسنوان ، هيهات ! بينهما والله ما بين الأرض والسماء . وثم هذا حرام عند جماعة العلماء ، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى . وقد تقدم في ( سبحان) عنه قوله " ولا تمش في الأرض مرحا " [ الإسراء : 73] ما فيه كفاية . وقال الإمام ابو بكر الطرسوسيي وسئل عن مذهب الصوفية فقال : وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ، فهو دين الكفار وعباد العجل ، على ما يأتي .
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
التفسير قوله تعالى : " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة " أي قال بعضهم لبعض : هؤلا ء قومنا ، أي أهل عصرنا وبلدنا ، عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة . " لولا " أي هلا . " يأتون عليهم بسلطان بين " أي بحجة على عبادتهم الصنم . وقيل : (عليهم ) راجع إلى الآلهة ، أي هلا اقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة ، فقولهم (لولا ) تخضيض بمعنى التعجيز ، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم .
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا
التفسير قوله تعالى : " وإذ اعتزلتموهم " قيل : هو من قول الله لهم . أي وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف . وقيل : هو من قول رئيسهم يمليخا ، فيما ذكر ابن عطية . وقال الغزنوي : زئيسهم مكسلمينا ، قال لهم ذلك ، أي إذا اعتزلمتوهم واعتزلتم ما يعبدون . ثم استثنى وقال (إلا الله ) أي إنكم لم تتركوا عبادته ، فهون استثناء منقطع . قال ابن عطية : وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفونه الله . ولا علم لهم به ، وإ'نما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط . وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ، لأن الا عتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله . وفي مصحف عبد الله بن مسعود ( وما يعبدون من دون الله ) قال قتادة هذا تفسيرها .
قلت : وبدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخرساني في قوله تعالى : " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله " قال : كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله .
ابن عطية : فعلى ما قال قتادة تكون (الآ) بمنزلة غير و(ما ) من قوله ( وما يعبدون إلا الله ) في موضع نصب ، عطفا على الضمير في قوله ( اعتزلتمموهم ) وضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض : إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأولى ونتكل على الله ، فإنه سيبسط لنا رحمته ، وينشرها علينا ، ويهي لنا من أمرنا مرفقاً . وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخراتهم . وقلا أبو جعفر محمد بن الحسين رضي الله عنه كان أصحاب الكهف صياقلة ، واسم الكهف حيوم . " مرفقا " قرئ بكسر الميم وفتحها ، وهو مايرتفق به . وكذلك مرفق الإنسان مرفقه ، ومنهم من يجعل ( المرفق ) بفتح الميم الموضع كالمسجد ، وهما الغتان .
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا
التفسير قوله تعالى : " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين " أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم . والمعنى : إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا ، لا أن المخاطب رآهم على التحقيق . و(تزاور ) تتنحى وتميل ، من الأزوار . والزور الميل . والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية ، ويستعمل في غير العين ، كما قال ابن أبي ربيعة :
وجنبي خ0يفة القوم أزور
ومن اللفظة قول عنترة :
فازور من وقع القفا بلبانه
وفي حديث عزورة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة أزوراراً عن سسرير جعفرر وزي
بن حارثة . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو ( تزاور ) بإدغام التاء في الزاء ، والأصل (تتزاور ) ، وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي (تزاور ) مخففة الزاء . وقرأ ابن عامر (تزور ) مثل تحمر . وحكى الفراء (تزوار ) مثل تحمار ، كلها بمعنى واحد . " وإذا غربت تقرضهم " قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم ، قاله مجاهد وقال قتادة : تدعهم النحاس : وهذا معروف في اللغة ، هحكى البصريون أنهن يقال: قرضه يقرضه إذا تركه الشمسس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين ، أي يمين الكهف ، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال ، أي شمال الكهف ، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار . وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الرروم ، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة ولا تبلغهم لتؤذيهم بحرها ، وتغير ألوانها وتبلي ثيابهم . وقد قيل : إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته . وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله ، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك وقرأت فرقة ( يقرضهم ) بالياء من القرض وهو القطع ، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس . وقيل : ( وإذا غربت تقرضهم ) أي يصيبهم يسير منها ، مأخوذ نم قراضة الذهب والفضة ، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها . وقالوا : كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم . وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار . على هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر . والمقصود بيان نحفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم ، والتأذي بحر أو برد . " وهم في فجوة منه " أي من الكهف . والفجوة المتسع ، وجمعها فجوات وفجاء ، مثل ركوة وركاء وركوات . وقال الشاعر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجلاً وخيلاً غير ميل ولا عزل
أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء . " ذلك من آيات الله " لطف بهم ، وهذا يقوي قول الزجاج . وقال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ، فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظاً . وقيل : تحسبهم أيقاظاً لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه . و (أيقاظاً ) جمع يقظ ويقظان ، وهو المنتبه .
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
التفسير قوله تعالى : " وهم رقود " كقولهم : وهم قوم ركوع وسجود وقعود ، فوصف الجمع بالمصدر . " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " قال ابن عباس : لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقال أبو هريرة :أن لهم في كل عام تقليبتان . وقيل : في كل سنة مرة .وقال مجاهد : في كل سبع سنين مرة . وقالت فرقة : إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلثمائة فلا . وظاهر كلام المفسرين أن التقلب كان من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فيضاف إلى الله تعالى .
قوله تعالى : " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " وكلبهم " قال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحداً قال في ليله : صلى الله على نوح . وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [ إذا قال ] : وكلهم باسط ذراعيه بالوصيد . أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه ، على ما قال مقاتل . واختلف في لونه اختلافاً كثيراً ، ذكره الثعلبي . وتحصيله . أي لون ذكرت أصبت ، حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء . واختلف أيضاً في اسمه ، فعن علي : ريان .ابن عباس : قطمير. الأوزاعي : مشير . عبد الله بن سلام : بسيط . كعب : صهيباً . عندنا اليوم جائز في شرعنا . قال ابن عباس : هربوا ليلاً ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم . وقال كعب : مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطروه مراراً ، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي ، فنطق فقال : لا تخافوا مني ! أنا أحب أبحاء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم .
الثاني : ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان " وروى الصحيح أيضاً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط " قال الزهري : وذكر لابن عمر قال أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة !كان صاحب زرع . فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية . وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ، إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ، أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو ليجاسته ، على ما يراه الشافعي ، أو لا قتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ، والله أعتلم . وقال في إحدى الروايتين ( قيراطان) وفي الأخرى ( قيراط ) . وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، وكالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر ، أخرجه الصحيح وقال (عليكم بالأسود البهيم ذي النقتين فإنه شيطان ) ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلاً أو بمكة ينقص قيراطان ويغيرها قيراط وأما المباح اتخاذه فلا ينقص ، كالفرس والهرة . والله أعلم .
الثالثة : وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها ، لا الذي حفظها في الدار من السراق . وكل الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق . وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع . وقد تقدم في ( المائدة ) من أحكام الكلاب ما فيه كفاية ، والحمد لله .
الرابعة : قال ابن عطية : وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله . قلت : إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحديث المخالطين المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل . روى الصحيح "عن أنس بن مالك قال : بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارحان من المسجد فلقينا رجل عن سدة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أعددت لها قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ت، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله . قال : ( فأنت مع من أحببت ) في رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأنت مع من أحببت ) قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجوا أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم .
قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ، كلب أحب قوماً فذكره الله معهم ! فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام ، وحب النبي صلى الله عليه وسلم " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " [ الإسلاء : 70] .وقالت فرقة : لم يكن كلباً حقيقة ، وإنما كان أحدهم ، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم ، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً ، لأنه منها كالكلب من الإنسان ، ويقال له : كلب الجبار : قال ابن عطية : فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعبن فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " وقد حكى أبو عمر بن المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روى ، إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسسه . ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب . وقرأ جعفر بن محمد الصادق ( وكلبهم ) يعني صاحب الكلب .
قوله تعالى : " باسط ذراعيه " أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضء ، لأنها حكاية حال ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب . والذراع من طرف المرفق إلى ضرف الأصبع الوسطى . ثم قيل : بسط ذراعيه لطول المدة . وقيل :نام الكلب ، وكان ذلك من الآيات . وقيل : نام مفتوح العين . والوصيد : الفناء ، قاله ابن عباس و مجاهد و ابن جبير ، وأي فناء الكهف ،والجمع وصائد ووصد . وقيل الباب . وقاله ابن عباس أيضاً . وأنشد :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم . وقال عطاء : عتبة الباب ، والباب الموصد هو المغلق . وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته . والوصيد : النبات المتقارب الأصول ، فهو مشترك ، والله أعلم .
قوله تعالى : " لو اطلعت عليهم " قرأ الجمهور بكسر الواو . و الأعشى و يحيى بن وثاب بضمها . " لوليت منهم فرارا" أي لو أشرفت عليهم لهربت منه . " ولملئت منهم رعبا " أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة . وقيل : لوحشة مكانهم ، وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لبنفر الناسس عنهم . وقيل : كان الناس محجوبين عنهم بالرعب ، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم . وقيل : الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم ، ذكره المهدوي و النحاس و الزجاج و القشيري . وهذا بعيد ، لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض : لبثنا يوما أو بعض يوم . ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها ، إلا أن يقال : إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظافرهم وشعورهم . قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم يتغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم . وقرأ نافع و ابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة ( لملئت منهم ) بتشديد اللام على تضعيف أشهر في اللغة . وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي :
وإذ فتك النعمان بالناس محرماً فملئ من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور ( رعباً) بإسكان العين . وقرأ بضمها أبو جعفر .قال أبو حاتم : ههما لغتان . و(فرار ) نصب على الحال و(رعباً ) مفعو ثان أو تمييز .
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
التفسير قوله تعالى : " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم " البعث : التحريك عن سكون . والمعنى : كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضاً ، أي أيقيظناهم من نومهم على ما كانوا نعليه من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم . قال الشاعر :
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقالوا جميعاً بين عاث ونشوان
أي أيضت . واللام في قوله : ( ليتساءلوا ) لام الصيرورة وهي لام العاقبة ، كقوله : " ليكون لهم عدوا وحزنا" [ القصص : 8] فبعثهم لم يكن لأجل تساؤلهم .
قوله تعالى : " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " وذلك أنهم دخلوه غذوة وبعثهم الله في آخر النهار ، فقال رئيسهم تمليخا أو مكسلمينا : الله أعلم بالمدة .
قوله تعالى : " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة " فيه سبع مسائل :
الأولى : قال ابن عباس : كانت ورقهم كأخفاف الربع ، ذكره النحاس . وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و الكسائي و حفص عن عاصم ( بورقكم ) بكسر الراء . وقرأ أبو عمرو و حمزة و أبو بكر عن عاصم ( بورقكم ) بسكون الراء ، فحذفوا الكسرة لثقلها ، وهما لغتان . وقرأ الزجاج (بورقكم ) بكسر الواو وسكون الراء . ويروى أنهم انتبهوا جياعاً ، وأن المبعوث هو تمليخا ، كان أصغرهم ، فيما ذكر الغزنوي . والمدينة : أفسوس ويقال هي طرسوس ، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس ، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس . وقال ابن عباس : كان معهم دراهم عليهاصورة الملك الذي كان في زمانهم .
الثانية : قوله تعالى : " فلينظر أيها أزكى طعاما " قال ابن عباس : أحل ذبيحة ، لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم ، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . قال عباس : كان عامتهم مجوساً . وقيل : ( أزكى طعاماً ) أي أكثرهم بركة . وقيل : إنهم أمروه أن يشتري ما يظهن أنه طعاما اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليه أي أكثر بركة . قيل ت: إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم ، ثم إذا طبخ كفى جماعة ، ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز . وقيل كان ربيباً . وقيل تمراً ، فالله أعلم . وقيل : (أزكى ) أطيب . وقيل أرخص . " فليأتكم برزق منه " أي بقوت . " وليتلطف " أي في دخول المدينة وشراء الطعام . " ولا يشعرن بكم أحدا " أي لا يخبرن . وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه .
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
التفسير قوله تعالى : " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم " قال الزجاج : معناه بالحجارة ، وهو أخبث القتل . وقيل : يرموكم بالسب والشتم ، والأول أصح ، لأن كان عازماً على قتلهم كما تقدم في قصصهم . والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله عقوبة مخالفة ين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها .
الثالثة : في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها . وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلاً عن عثمان رضي الله عنه ، ولا خلاف فيها في الجملة . والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام ، ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة ، أي يحفظهم ، وأمية مشرك ، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه . روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال : كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة ، فلما ذكرت الرحمن ، قال :لا أعرف الرحمن ! كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته عبد عمرو وذكرالحديث . قال الأصمعي : صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه ، وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال ، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى ، من كتاب الأفعال .
الرابعة : الوكالة عقد نيابة ، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك ، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو بترفه فيستنيب من يريحه .
وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب ، منها هذه الآية ، قوله تعالى : " والعاملين عليها " [ التوبة : 60] وقوله : " اذهبوا بقميصي هذا " [ يوسف : 93] . وأما من السنة فأحاديث كثيرة ، منها حديث عروة البارقي ، وقد تقدم في آخر الأنعام . روى جابر بن عبد الله قال : " أردت الخروج إلى خيبر فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني أردت الخروج إلى خيبر ، فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته " خرجه أبو داود . الأحاديث كثيرة في هذه المعنى ، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية .
الخامسة : الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه ، فلو ولك الغاصب لم يجز ، وكان هو الوكيل ، لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه .
السادسة : في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم . وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه ، فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها . وقال أبو حنيفة و سحنون : لا تجوز . قال ابن العربي : وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت ، إنصافاً منهم وإذلالالهم ، وهو الحق ، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل . قلت : هذا حسن ، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين . أصحاء . والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال : ( أعطوه ) فطلبوا له سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها ، فقال : ( أعطوه ) فقال : أوفيتني أوفى الله لك . قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن خيركم أحسنكم قضاء " لفظ البخاري . فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه ، وذلك توكيل منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً ولا مسافراً وهذا يرد قول أبي حنيفة و سحنون في قولهما : إنه لا يجوز توكيل الصاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه ، وهذا الحديث خلاف قولهما .
السابعة : قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية الشركة لأن الورق كان لجمعيهم . وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا ، وإن كان بعضهم أكثر أكلاً من الآخر ،ومثله قوله تعالى : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " [ البقرة : 220] حسبما تقدم بيانه في (البقرة ) . ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه : إن ذلك جائر . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية . قال ابن العربي : ليس في الآية دليل على ذلك ، لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفرداً فلا يكون فيه اشتراك . ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين :
أحدهما : أن ابن عمر مر بقول يأكلون تمراً فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه .
الثاني : حديث أبي عبيدة في جيش الخبط . هذا دون الأول في الظهور ، لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافاً من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه .
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا
التفسير قوله تعالى : " وكذلك أعثرنا عليهم " أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم . و(أعثر ) تعدية عثر بالهمزة ، وأصل العثار في القدم . " ليعلموا أن وعد الله حق " يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم . وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح ، فاختلف أهل البلده في الحشر وبعث الأجساد من
القبور ، فشلت في ذلك بعض الناس واسبعدوه وقالوا : إنما تجشر الأرواح والجسد تأكله الأرض . وقال بعضهم : تبعث الروح والجسد جميعاً ، فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ، فيقال : إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى الدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد ، فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن وآمن من معه ،فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك ، ، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى فأخبره ، فسر الملك بذلك وقال : لعل الله قد بعث لكم آية ، فلنسر إلى الكهف معه ، فركب مع أهل المدينة إليهم ، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا : أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وغظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم . وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق ، على ما يأتي . ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين . فهذا معنى ( أعثرنا عليهم ) (ليعلموا أن وعد الله حق ) أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق ( إذا يتنازعون بينهم أمرهم ) .وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم فقال الملك : ابنوا عليهم بنيانا ، فقال الذين هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجداً . وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين . وروي عن عبد الله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم ، فذلك دعا إلى ابناء البنيان لكون معلماً لهم . وقيل : إن الملك أراد أن يدفهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل، فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود ، فدعنا . وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة ، فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها ، وإلى غير ذلك ممما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز ، لما روي أبو داود و الترمذي عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج . قال الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن .
وروى الصحيحان عن عائشة : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة " لفظ مسلم قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أنيتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد .ورى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تصلوا إلى القبرو ولا تجلسوا عليها " لفظ مسلم . أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى ، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام . فخذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ، وسد الذرائع المؤية إلى ذلك فقال : ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبرو أنبيائهم وصالحيهم مساجد ) وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا :
لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا . وروى مسلم عن جابر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه " . وخرجه أبو داود و الترمذي أيضاً عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : الآ تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته _ في رواية _ ولا صورة إ لا طمستها وأخرجه أو داود و الترمذي . قال علماؤنا : ظاهرة منع تسنيم القبرو ورفعها وأن تكون لاطئة . وقد قال به بعض أهل العلم . وذهب الجمهور إلى أن هذا الاربفاع المرأمور بإزالته هو مازاد على التسيم ، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم ، وذلك صفة قبر نبينا مححمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما _ على ذكر مالك في الموطأ _ وقبر أبينا آدم صلى الله عليه وسلم ، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس . وأما تعلية البناء الكثيبر زينة الدنيا في أول منازل الآخرة ، وتشبهاً بمن كان يعظم القبور ويعبدها . وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال : هو حرام . والتسنيم في القبر : ارتفاعه قدر شبر ، مأخوذ من سنام البعير . ويرش عليه بالماء لئلا ينتشر بالريح . وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر . وقال أبو حنيفة : لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط . ولا بأس برضع الأحجار لتكون علامة ، لما رواه أبو بكر الأثرم قال : حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة ، ذكره أبوعمر .وأما الجائزة : فالدفن في التابوت ، وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة . وروي أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر ، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقي في ركية مخافة أن يعبد ، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين ، فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام . وفي صحيح عن سعيد بن أبي وقاص : أنه قال في مرضه الذي هلك فيه : اتخذوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً ، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم . اللحد : هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن . وهو أفضل عندنا من الشق ،لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم . وبه قال أبو حنيفة قال : السنة اللحد . وقال الشافعي : الشق . ويكره الآجر في اللحد . وقال الشافعي : لا بأس به لأنه نوع من الحجر . وكرهه ابو حنيفة وأصحابه ، لأن الآجر لإحكام البناء ، والقبر وما في للبلى ، فلا يليق به بالإحكام . وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر . وقيل : إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلاً ، فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر . قالوا : ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حزمة من قصب وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلا دهم لرخاوة الأرض . وقال : لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به ، لكن بنبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلى الميت ، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد قلت : ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن المدينة سبخة ، قال شقران : أنا والله رحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر : قال أبو عيسى الترمذي : حديث شقران حديث حين غريب .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا
التفسير قوله تعالى : " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم " الضمير في ( سيقولون ) يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم . وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف امنصوص . وقيل : المراد به النصارلاى ، فإن قوماً منهم حضروا النبي صلى الله عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وقالت النسطورية : كانوا خمسة سسادسهم كلبهم . وقال . وقال المسلزون : كانوا سبعة ثمانهم كلبهم . وقيل : هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف . والواو في قوله "وثامنهم كلبهم " طريق النحويين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبارعن عددهم ، لتفصل أمرهم ، وتدل على أن هذا غاية ما قيل ولو سقطت لصح الكلام . وقالت فرقة منها ابن خالويه : هي واو الثمانية . وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشاً كانت تقول في عددها ستة سبعة و ثمانية ، فتدخل الواو في الثمانية . وحكى نحوه القفال ، فقال : إن قوما قاوا العدد ينتهي عن العرب إلى سبعة ، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو ، كقوله : " التائبون العابدون " ثم قال : " والناهون عن المنكر والحافظون " [ التوبة : 112] يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم " حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها " بلا واو ، ولما ذكر الجنة قال : " فتحت أبوابها " بالواو . وقال " خيرا منكن مسلمات " ثم قال : " وأبكارا " فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا . قال القشيري أبو نصر : ومثل هذا الكلام تحكم ، ومن العدد السبعة نهاية عندهم ! ثم هو منقوض بقوله تعالى : " هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " ولم يذكر الاسم الثامن بالواو . وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة : إنما ذكر الواو في قوله : " سبعة وثامنهم " لينبه على أن هذا العددهو الحق ، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب ، ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين ( رجماً بالغيب ) ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشء ، فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم . والرجم : القول بالظن ، يقال لكل ما يخص : رجم فيه ومرجوم ومرجم ، كما قال :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
قلت : قد ذكر الماوردي و الغزنوي : وقال ابن جريرج و محمد بن إسحاق كانوا ثمانية ، وجعلا قوله تعالى : " وثامنهم كلبهم " أي صاحب كلبهم .وهذا مما يقوي طريق النحويين في الواو ، وأنها كما قالوا . وقال القشيري : لم يذكر الواو تكلف بعيد ، وهو كقوله في موضع آخر " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم "[ الحجر : 4] وفي موضع آخر : " إلا لها منذرون * ذكرى " [ الشعراء : 208_209]
قوله تعالى : " قل ربي أعلم بعدتهم " أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل . وثم أخبر أن علام ذلك من البشر قليل . والمراد به قوم به أهل الكتاب ، في قول عطاء . وكان ابن عباس يقول : أنا من ذلك القيل ، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، ثم ذكر السبعة بأسمائهم ، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر ، فوق القلطي ودون الكردي . وقال محمد بن سعيد بن المسيب هو كلب صيني والصحيح أنه زبيري . وقال : ما بقي بنيسابور محدث إلى كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له .قال وكتبه أبو عمرو الحيري عني .
قوله تعالى : " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك ، وهو رد علم عدتهم إلى اله تعالى .وقيل :معنى المراد الظاهر أن تقول : ليس كما تقولون ، ونحو هذا ، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك . وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم فلهذا قال " إلا مراء ظاهرا" [الكهف : 22] أي ذاهباً ، كما قال :
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ولم يبح له في هذه الآية أن يماري ، ولكن قوله : " إلا مراء " باستعارة من حيث يمازيه أهل الكتاب . سمعت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر ، ففارق الماء الحقيقي المذموم . والضمير في قوله : " فيهم " عاءد على أهل الكهف . وفي قوله ( منهم ) عائد على أهل الكتاب المعارضين . وقوله : " فلا تمار فيهم " يعني فثي عدتهم ، فحذف العدة لدلالة ظاهر القول عليها .
قوله تعالى : " ولا تستفت فيهم منهم أحدا " روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال . وفي هذا دليلعلى منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم .
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
التفسير قوله تعالى : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " .
إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا
التفسير قوله تعالى : " إلا أن يشاء الله " في مسألتان :
الأولى : قال العلماء : عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروج والفتية وذي القرنين : غذاً أخبركم بجواب أسئلتكم ، ولم يسثن في ذلك فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك عليهوأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة . وأمر في هذا الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غذاً كذا وكذا ، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لايكون محققاً لحكم الخبر ، فإنه إذا قال : لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذباً ، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن يكون محققاً للمخبر عنه . اللام في قوله (لشيء) بمنزلة في ، أو كأنه قال لأجل شيء .
الثانية : قال ابن عطية : وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين . وقوله : " إلا أن يشاء الله " في الكلام حذف يقتيه الظاهر ويحسنه الإيجاز، تقديره : إلا أن تقول إلا أن يشاء الله ، أو إلا أن تقول إن شاء الله . فالمعنى : إلا أن تذكر مشيئة الله ، فليس( إلا أن يشاء الله ) من القول الذي نهي عنه .
قلت : ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي و الفراء و الأخفش . وقال البصريون : المعنى إلا بالمشيئة الله . فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله . قال ابن عطية : وقالت فرقة ( إلا أن يشاء الله ) استثناء من قوله : ( ولا تقولن ) قال : وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه ، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى ، وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في ( المائدة) .
قوله تعالى : " واذكر ربك إذا نسيت " فيه مسألة ، وهو الأمر بالذكر بعد النسيان _واختلف في الذكر المأمور به ، فقيل : هو قوله : " وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " قال محمد الكوفي المفسر : إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن ، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء وقال الجمهور : هو دعاء مأزور به دون هذا التخصيص .و قيل : هو قوله ( إن شاء الله ) الذي كان نسيه عند يمينه . حكي عن ابن عباس . أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفاً . وهو قول مجاهد . وحكي إسماعيل ابن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله تعالى : "واذكر ربك إذا نسيت " قال : يستثني إذا ذكره . الحسن : ما دام في مجلس الذكر . ابن عباس : سنتيهن ، ذكره الغزوي قال : فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم . فأما الاستثناء المفيد حكماً فلا يصح إلا متصلاً . السدي : أي كل صلاة نسيت شيئاً فاذكره يذكركه . وقيل : اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك ، فذلك حقيقة الذكر . وهذه الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي استفتاح كلام على الأصح ، وليست من الاستثناء في اليمين بشيء ، وهي بعد تعم جميع أمته ، لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه . والله الموفق .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
التفسير قوله تعالى : " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " هذا خير من الله تعالى عن مدة لبثهم .وفي قراءة ابن مسعود ( وقالوا لبثوا ) قال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : إنهم لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياماً ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر . وفأمر الله تعالى أن يرد علم ذلك إليه . قال ابن عطية : فقوله على هذا ( لبثوا ) الأول يريد في نوم الكهف ، و(لبثوا ) الثاني يريد بعد الإعثار إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأو إلى وقت عدمهم بالبلاء . مجاهد : إلى وقت نزول القرآن . الضحاك : إلى أن ماتوا . وقال بعضهم : إنه لما قال : " وازدادوا تسعا" لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أن أعوام . واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في التسع ، فهي على هذا مبهمة . وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية . وقيل غير هذا على ما يأتي . قال القشيري : لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين ، كما تقول : عندي مائة درهم وخمسة ، والمفهوم منه خمسة دراهم . وقال أبو علي (وازدادوا تسعا ) أي ازدادوا لبث تسع ، فحذف . وقال الضحاك ، لما نزلت " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " قالوا سنين أن شهور أم جمع أم أيام ، فأنزل الله عز وجل : " سنين " وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلثمائة سنة شمسية بحساب الأيام ، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين . ونحوه ذكر الغزنوي . أي باختلاف سني الشمس والقمر ، لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين . وقرأ الجمهور ( ثلثمائة سنين ) بتنوين مائة ونحب سنين ، على هذا بدلاً أو عطف بيان . وقيل : على التفسير والتمييز . و(سنين ) في موضع سنة . وقرأ حمزة و الكسائي بإضافة مائة إلى سنين ، وترك التنوين ، كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذا المعننى بهما واحد . قال أبو علي : هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الأحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع. وفي مصحف عبد الله(ثلمائة سنة ) وقرأ الضحاك ( ثلثماءة سنون )بالواو .وقرأ أبو عمرو بخلاف (تسعاً) بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها .وقال الفراء و الكسائي و أبو عبيدة : التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلثمائة .
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
التفسير قوله تعالى : " قل الله أعلم بما لبثوا " قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم ، على قول مجاهد . أو إلى أن ماتوا ، على قول الضحاك أو إلى وقت تغيرهم بالبلى ، على ما تقدم . وقيل : بما لبثوا في الكهف ، وهي المدة التي ذكرها الله تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصاناً . أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك " له غيب السماوات والأرض "
قوله تعالى : " أبصر به وأسمع " أي ما أبصره وأسمعه . قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ولا أسمع . وهذه عبارات عن الإدراك . ويحتمل أن يكون المعنى ( أبصر به ) أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور ، وأسمع به العالم ، فيكونان أمرين لا على وجه التعجب . وقيل :المعنى أبصرهم وأسعهم ما قال الله فيهم . "ما لهم من دونه من ولي " أي لم يكن لأصحاب الكهف ولي يتولى حفظهم دون الله . ويحتمل أن يعود الضمير في ( لهم ) على معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار . والمعنى : ما لهؤلا ء المختلفين في مدة لبثهم ولي دون الله يتولى تدبير أمرهم ، فكيف يكونون أعلم منه ، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم .
قوله تعالى : " ولا يشرك في حكمه أحدا " قرئ بالياء ورفع الكاف ،على معنى الخبر عن الله تعالى . وقرأ ابن عامر و الحسن و أبو رجاء و قتادة و الجحدري ( ولا تشرك ) بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون قوله ( ولا تشرك ) عطفا على قوله ( وأبصر به وأسمع ) . وقرأ مجاهد (يشررك ) بالياء من تحت والجزم . قال يعقوب : لا أعرف وجهه .
مسالة : اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا ، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة ، فروي عن ابن عباس أنه مر بالشأم في بعض عزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله ، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاماً فقالوا : هذه عظام أهل الكهف .فقال لهم ابن عباس : أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مة طويلة ، فسمعه راهب فقال : ما كنت أحسب أن أحداً من العرب يعرف هذا ، فقيل له : هذا ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فهم لم يحجوا بعد " ذكره ابن عطية
قلت : ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله ، وأنه يمر بالروجاء حاجا أو معتمراً أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم ، فيمرون حجاجاً فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا . وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب التذكرة . فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة ، بل يموتوت قبيل الساعة .
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا
التفسير قوله تعالى : " واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته " قيل : هو من تمام قصة أصحاب الكهف ، أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف . وقال الطبري : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه . " ولن تجد " أنت " من دونه " إن لم تتبع القرآن وخالفته " ملتحدا " أي ملجأ .وقيل موئلاً . وأصله الميل ، ومن لجأت إليه فقد ملت إليه .قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم : وهذا آخر قصة أصحاب الكهف . ولما غعزا معاوية عزوة المضيق نحو الرروح وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظر إليهم ن، فقال ابن عباس : قد منع الله من هو خيرمنك عن ذلك ، فقال : " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا" فقال : لا انتهي حتى أعلم علمهم وبعث قوماً لذلك ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم ، ذكره الثعلبي أيضاً . وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم ، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام : كيف أبعثهم ؟ فقال : ابسط كساءك وأجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلي الرابع علي بن أبي طالب ، ثم أدع الريح الرخاء المسخرة لسلمان فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك ، ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف ، فقلعو منه حجراً ، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجحعهم وقالوا : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، فقالوا لهم : معشر الفيتة ، إن النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقرأعليكم السلام ، فقالوا : وعلى محمد رسول الله السلام مادامت السموات والأرض ، وعلكم بما أبلغتم ، وقبلوا دينه وأسلموا ، ثم قالوا ،: أقرئوا محمداً رسول الله منا السلام ، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدوي . فيقال : إن المهدوي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يررجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهم ، ثم ردتهم الريح فقال الني صلى الله عليه وسلم : " كيف وجدتموهم ؟ فأخبروه الخبر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابيب وأصهاري واغفر لمن أحبني وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي " . وقيل : إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح ، فأخبر الله تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة ، ولهذا سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : دخلوا الكهف بعد المسيح ، فالله أعلم أي ذلك كان .
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
التفسير قوله تعالى : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " هذا مثل وقوله " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " [ الأنعام : 52] في سورة (الأنعام ) وقد مضى الكلام فيه وقال سليمان الفارسي رضي الله عنه : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا : يا رسول الله ، إنك لو جلست في صدر المجلس ونحت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم _ يعنون سلمان و أبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها _ جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله تعالى " واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا * واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " حتى بلغ _" إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها " يتهددهم بالنار ." فقال النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات" . " يريدون وجهه " أي طاعته . وقررأ نصر بن مالك و مالك بن دينار و أبو عبد الرحمن (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي ) وحجتهم أنها في السواد بالواو . وقال أبو جعفر النحاس : وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة . وروي عن الحسن (ولا تعد عينيك عنهم ) أي تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أنبياء الدنيا طلباً لزينتها ، حكاه اليزيدي وقيل : لا تحقرهم عيناك ، كما يقال فلان تنبو عنه العين ، أي مستحقراً .
" تريد زينة الحياة الدنيا " أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك ، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، ولكن الله نهاه عن أن يفعله ، وليس هذا بأكثر من قوله : " لئن أشركت ليحبطن عملك " [ الزمر : 65] وإن كان الله أعاذه من الشرك . و(تريد ) فعل مضارع في موضع الحال ، أي لا تعد عيناك مريداً ، كقول امرئ القيس :
فقلت له لاتبك عينك إنما تحاول ملكا أو تموت فنعذراً
وزعم بعضهم أن حق الكلام : لا تعد عينيك عنهم ، لأ، ( تعد ) متعد بنفسه . قيل له : والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم ، فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : " فلا تعجبك أموالهم " [التوبة : 55] فأسند الإعجاب إلى الأموال ، والمعنى : لا تعجبك يامحمد أموالهم . ويزيدك وضوحاً قول الزجاج : إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة .
قوله تعالى : " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " روى جويبر عن الضحاك عن ابن عابس في قوله تعالى : " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " قال : نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تطعه من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد . " واتبع هواه " يعني الشرك . " وكان أمره فرطا " قيل هو من التفريط الذي هوالتقصير وتقديم العجز بترك الإيمان . وقيل : من الإفراط ومجوزة الحد ، وكان القوم قالوا : نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس ، وكان هذا من التكبر والإفراط في القول . وقيل : ( فرطاً ) أي قدماً في الشر ، من قولهم : فرط منه أمر أي سبق . وقيل : معنى (أغفلنا قلبه ) وجدناه غافلاً ، كما تقول : لقيت فلاناً فأحمدته ، أي وجدته محموداً . وقال عمرر بن معد يكرب لبني الحارث بن كعب : والله لقد سألناكم فما أبخلناكم فما أبخلناكم وقاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمانكم ، أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين . وقيل : نزلت " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " في عيينة بن حصن الفزاري ، ذكره عبد الرازق ، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري . والله أعلم .
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا
التفسير قوله تعالى : " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ( الحق ) رفع على خبر الابتداء المضمر . وأي قل هو الحق . وقيل : هو رفع على الابتداء ، وخبره في قوله (من ربكم ) . ومن ربكم ) . ومعنى الآية : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس ! من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلا ن ، وبيده الهدى والضلال ، ويهدي من يشاء فيؤمن ، ويضل من يشاء فيكفر ، ليس إلى من ذلك شيء ، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفاً ، ويحرمه من يشاء وإن كان قوياً غنياً ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا . وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر وأنا هو وعيد وتهديد . أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار ، وإن آمنتم فلكم الجنة .
قوله تعالى : " إنا أعتدنا " أي أعددنا . " للظالمين " أي للكافرين الجاحدين . " نارا أحاط بهم سرادقها " قال الجوهري : السراق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار . وكل بيت من كرسف فهو سرادق . قال رؤية :
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
يقال : بيت مسردق . وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة :
هوالمدخل النعمان بيتاً سماؤه حدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال ابن العربي : (سرادقها ) سورها . وعن ابن عباس : حائط من نار . الكلبي عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة . و القتبي : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط . وقاله ابن عزيز ت. وقيل : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة ( والمرسلات ) حين يقول : " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " [ المرسلات : 30] وقوله : " وظل من يحموم " [الواقعة : 43] قاله قتادة . وقيل : إنه البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البحر هو جهنم _ ثم تلا_ ناراً أحاط بهم سرادقها _ ثم قال : والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة " ذكره الماوردي وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربيعن سنة " وخرجه فيه : حديث حسن صحيح غريب .
قلت : وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار ، وجدره ما وصف .
قوله تعالى : " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " قال ابن عباس : المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت . مجاهد : القيح والدم . الضحاك : ماء أسود ، وإن جهنم لسوداء ، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود . وقال أبو عبيدة : هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقزدير ، فتموج بالغليان ، فذلك المهل . ونحوه عن ابن مسعود . قال سعيد بن جبير : هو الذي قد انتهى حره . وقال : المهل ضرب من القطران ، يقال : مهلت البغير فهو ممهول وقيل : هو السم . والمعنى في هذه الأقوال متقارب . وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( كالمهل ) قال : "كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه فروة وجهه " قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه . وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " [ إبراهم : 16_17] قال : ( يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى : " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " [ محمد : 15] يقول " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " قال : حديث غريب . عليهما أهل اللغة . في الصحاح : ( المهل ) النحاس المذاب . ابنالأعرابي : المهل المذاب من الرصاص . وقال أبو عمرو . المهل دردي الزيت . والمهل أيضاً القيح والصديد وفي حديث ابي بكر : ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب . و" مرتفقا " قال مجاهد : معناه مجتمعاً ، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة . ابن عباس : منزلا ً . عطاء : مقرا . وقيل مهادا . وقال القتبي : مجلسا . والمعنى متقارب ، وأصله من المتكأ ، يقال منه : ارتفقت أب اتكأت على المرفق . قال الشاعر :
قالت له وارتفقت ألا فتى يسيوق بالقوم عزالات الضحا
ويقال : ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم . قال أبو ذؤيب الهذلي :
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عني فيها الصاب مدبوح الحاب : عصارة شجر مر .

أرجو اخوتي أن يكون التفسير لهذه الايات اجابة شافية وافية عن كل الاسئلة حتى لا يخوض أي منا في الامور الغيبية فربنا ذكر كل ذلك بسورة الكهف التي تم بعون الله نقل لكم منها تفسير هذه الايات للشيخ القرطبي.
أخوكم المهذب يقرأكم السلام

homida ahmed
2009-01-11, 15:31
مشكور اخي كل الشكر على هه الافادة لكن في الحقيقة نحن نبحث عن اجتهادات شخصية مستعينين بمعلوماتنا من المشائخ والعلماء
لا ان نجد موضوعا ثم ننقله بارك الله في الاخ على طرح موضوعه الذي نحسبه اجتهادا منه
اما مانقل عن التفسير للشيخ القرطبي فنحن نستطيع قرائته من الانترنات او الكتب
اوضح نريد ابداعات من انفسنا ولا نتكل على غيرنا على الاقل نغير في طرح الموضوع بصيغة جديدة فيها اجتهاد للانسان

المهذب
2009-01-11, 19:53
مشكور اخي كل الشكر على هه الافادة لكن في الحقيقة نحن نبحث عن اجتهادات شخصية مستعينين بمعلوماتنا من المشائخ والعلماء
لا ان نجد موضوعا ثم ننقله بارك الله في الاخ على طرح موضوعه الذي نحسبه اجتهادا منه
اما مانقل عن التفسير للشيخ القرطبي فنحن نستطيع قرائته من الانترنات او الكتب
اوضح نريد ابداعات من انفسنا ولا نتكل على غيرنا على الاقل نغير في طرح الموضوع بصيغة جديدة فيها اجتهاد للانسان
السلام عليكم ورحمة الله
ايها الاخ الكريم يبدو أنك لا تفرق بين القصص والروايات المذكورة في الكتب والعبر والمعانية الجلية بقراننا الكريم
اذا لم تتعلم من القران ومن تفسيرات الاخرين المشاييخ الدارسين والجامعين للحديث فكيف سيتاتى لك معرفة دينك والعبرة من القصة في القران خاصة , والا اعتبرت كغيرها من القصص, أخي قبل أن تجتهد وتعطي أفكارك لبدا لك ان
ترجع اللاى القران الكريم وتكون مطلعا على تفسيرات ائمة الامة , أما عن سرد للتفسير للايات الاوائل من سورة الكهف
ليس الا من باب التعريف بالمواعض والاهداف الموجودة في هذه القصة أما عن عن قرائتك للتفسير من الانترانت
فمن يمنعك من ذلك وأهلا بالمزيد من عندك وما أدراك أن نني أنقل التفسير وليس تجميعا له بعد جهد جهيد , وهذا لا يعني أنني أمن ذلك وانما لكل مقام مقال .
أخي أهلا باجتهادك ولكن في حدود الدين و لا تتفلسف حتى تخرج عن المعقول فرب كلمة يقول المرأ لا يلقي لها بال تهوي به فى نار جهنم 70 خريفا .
وأصلا الموضوع لايمكن النقاش فيه الا بسرد الحقائق المذكورة في القران والا كان الموضوع باطلا ولا معنى له
خاصة وانه يتعلق بأهل الكهف ورسالتهم في نشر المسيحية التى خافوا من نهايتها على ايدى ملك الروم انذاك الملحد
أخي لا تكن مستعجلا , ومن خول لك الاجتهاد هل عندك شهادة تبرئة من الائئمة والمشاييخ ؟
اخي الامر ليس بالصورة التى تظن والقصة ليس قصة نخوة ورجولة وفروسية وانما هي قصة مصير أمة أنذاك هي أمة الرسول موسى عليه السلام.
اننى على شغف لاجتهادك .
أخى لا تنزعج فهذه هي الحقيقة وشكرا لصاحب الموضوع أخوكم المهذب.

أريج_1
2009-01-26, 09:01
جزاك الله خيراا

الأميرة أميرة
2009-07-17, 19:01
بارك الله فيك على تقديمك الرائع اخي الكريم
تحياتي الطيبة...

جميل
2009-09-07, 13:48
شكرااااااااااااا لكم

ايمن بوشريط
2009-09-30, 22:13
موضوع رائع ومثقف

نورالعلم
2009-10-03, 16:37
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/3/76868.gif