طاهر القلب
2012-04-18, 13:45
بسم الله الرحمان الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين, حمدًا طيّبًا مباركًا فيه, وأفضل الصلاة وأتمّ السلام على سيّدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
كنت أقلب وريقات مستنيرة في أحد الكتب الطيبة وقد ذُكر فيها فضل العلم ومكانة العالم والذي بلا شك لا يضاهيه فضل, ولا يعادله في الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة أي جزاء أو عمل, وهي حقيقة قبسات نورانية حميدة حول فضل العلم وأهله. فكثير منا يعلم ما للعلم من فضل ومكانة في الأمم ورقيها وازدهارها, وما كان له من فضل بناء تلك الحضارات السابقة وحتما سيكون له ذلك الدور الجليل في بناء الأمم اللاحقة, فبه استنارت أصقاع الأرض, أُخْمِدت نيران الظُلمة والظِلال وأُسدل ستار الجهل والأمية وبرزت شامخة منارات الهداية والإصلاح والصلاح وتوّضح مشرقًا ذلك الطريق المستقيم القويم, والذي لا يأتيه الباطل ولا يأتي هو بالباطل بين جنبيه ولا من خلفه, وما الثورة العلمية التقنية الحديثة والتطور الباهر لمجلات عدّة لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالإنسان وحياته إلا دليل على ذلك, وكذا إدراكه لأسرار الكون وتفسير الطبيعة وجلو أنوار البناء الحاصل, إلا نتاج للعلم وأهله المعتنين به أتم العناية وأفضلها, والعلم ليس محصورا في مجال معين كما نعرف, فبالنسبة لنا كمسلمين قد عرفنا ذلك الفضل للعلم في تاريخينا المجيد الفريد, الذي نبغ وبرز نجمه كالشمس المنيرة في عزّ النهار, وقد رُفعت راية العلم شامخة خفاقة لا تواربها علوًا وجاهًا راية, وقد عُني به أصحاب القرار منهم وبادره ولاة الأمور أيما عناية ومبادرة فقربوا مجالس العلماء وتحلقوا حلقات العلم وتناقلوا الدروس واهتم به الناس كلهم لا فرق بين الفقير فيهم والغني, والصغير أو الكبير والرجل أو المرأة, فالكل في العلم سواء وهم أقران وأقرباء فيه, وما تلك الجحافل لجيوش العلماء المسلمين والمسطرة أسمائهم من زلال الذهب الخالص في كتب التاريخ إلا دلالة على ذلك, وقد برعوا عبر العديد من العصور وعلى مرّ الدهور في شتى مجالاته وأصوله وتفرعاته ...
وقد أعجبت كثيرا بما قيل عن العلم في تلك الوريقات البسيطة, ومن شغفي أنني أتممت قراءتها دون إدراك للوقت, فمرّت الساعة والساعتان والثلاث وصاحبكم يقلب وريقاته, يحثو فيها منافع له, ويجّلي النَظر ويُمعن الإدراك ويُحاول تحضير واستحضار العقل الباطن لعله يقع على ما يفيده أو ما يريده, ثم وإذا بي أُقلّب صفحات الكتيب انتبهت إلى كلمة وردت هكذا في خاطري فألزمتها الركون إلى التفكير والنظر واستحثثتها البوح والفصح بالمكامن, وهاته الكلمة هي ((الأخلاق)) أو ((الآداب)), وببداهة ومن غير تفكير ربطت بينها وبين ما كنت أقرأ قبلا, فكتبت عنوان موضوعي هذا اليوم وعلى عجل وتساءلت بنفس البداهة, يا ترى ما فضل العلم دون وجود أخلاق تضبطه وما فضل الأخلاق دون وجود العلم يزينها؟ وأيهما له الفضل والسبق عن الآخر؟
هو سؤال نزل مفاجئا وطبعا قد تتراء خلفه كثير من الردود وكثير من البُرود والشرود وهذا لتصورنا لعدّة تأويلات وأشكال لخلفية الطرح ومعانيه, ثم قد جَرَتْ لُعبة الفِكر ودارت الدورة العقلية حولهما, فهل ينفع العالم أو طالب العلم عِلْمه عندما تَفْسُدُ أخلاقه وتبرز سوءاته ومساوئه للناس ثانيا وربّ الناس أولاً وثانيًا, وهي كارثة حقيقية عندما يكون أولئك النخبة من القوم بهذه الشاكلة وهذه الحالة, فتره تارةً يسيء الأدب مع أقرانه أو مع طلابه أو سائليه أو جيرانه أو أهله أو غيرهم ممن يليه أو يتولاه غوصًا في تلك العلوم وطلبا لها, ولا يليق لهذا الوصف تبيانا إلا قول الشاعر:
إِنَّ الغُصـونَ إِذا قَوَّمتَها اِعتَدَلَت *** وَلا يَليـنُ قَوَّمتَــهُ الخَشَـبُ
قَد يَنفَعُ الأَدَبُ الصَغيـر في مَهلٍ *** وَلَيسَ يَنفَعُ في ذِى الشَيبَةِ الأَدَبُ
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم", وفي هذا تلويح باهر ومبهر لدور ((الأخلاق)) البارز عند العالم أو المتعلم ولا حاجة لنا لتفنيد وتظهير دورها بين الناس العاديين ككل, ولكن الأهم بين أولئك النخبة من العلماء وطلاب العلم فلهم معها شأن آخر وشكل آخر وطعم آخر وإلزام آخر وتغليظ آخر في العقوبة, وبشكل عام إن تحدثنا عن دور ((الأخلاق)) في أمتنا نجد أن كثير من شباب وشيوخ وصغار وكبار ونساء وعجائز أمتنا الإسلامية الغراء, قد تلون وتَزَوَّقَ وتَطَبَعَ بِطَبائع غَرْبِيَةٍ غريبة عجيبة, خاصة لدى النشء منهم والشباب بخاصة, وقد صقل الفهم على مقاس ذلك اللباس الحضاري المزيف, فلا تراه يُقيم وزنًا للأخلاق وسمو دورها لدى الفرد العادي في تعامله واحتكاكه بالناس, فما بالك بالعالم المجاهد المجتهد أو المتعلم الـمُجِّد الساعي, وما بالك إن كان الأمر بينهم هُمْ وهُمْ العالمون العاملون, وهم القدوة الحسنة التي تنشأ حولها تلك الهالة الربانية والسكنية الإلهية التي تحيط العالم أو طالب العلم, ولو تفحصنا بشكل أدق أسباب هذا الفساد في الفهم الأخلاقي لدى شبابنا لاستخلصنا أن مَرَدَ ذلك كله كلمة لها علاقة قوية بالأخلاق وهي ((التربية)) أو ((التنشئة)) العليلة المبنية على العُجْب الحضاري اللاأخلاقي الأوربي في شكله المدني الحديث, قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: "لو أنني سُئلتُ أن أُجمل فلسفةَ الدينِ الإسلامي كلَّها في لفظين، لقلُت: إنها ثباتُ الأخلاق، ولو سُئلَ أكبرُ فلاسفةِ الدنيا أن يُوجزَ علاجَ الإنسانية كلَّه في حرفين، لما زاد على القول: إنه ثبات الأخلاق، ولو اجتمع كلُّ علماء أوربا ليدرسوا المدنية الأوربية ويحصُرُوا ما يُعْوِزُها في كلمتين لقالوا: ثباتُ الأخلاق", هنا الرافعي رحمه الله ربط دور ((الأخلاق)) وثباتها في الفرد بالحضارة والرقي لكل أمة أو أنه وصف لها علاجًا وترياقًا باهرًا لمشاكل هاته الإنسانية جمعاء, طبعا هنا نحن نتكلم بشكل عام وإن حصرنا ودققنا في ترادف كلمتي ((الأخلاق)) و((العلم)), نجد أنه لم ولن يفيد ذلك العلم وذلك التطور والتقدم في إيجاد حلول للإنسانية من مشاكلها, وبالتالي وكأنها رغم تقدمها ورقي حضارتها لم تتصل بمصدر القوة الحقيقي في نفوس أفرادها سواء العاديين أو أكثر وأكبر من ذلك في نفوس نخبتها من العلماء وطلاب العلم والمثقفين, إلى هنا نرى جيدا أن العلم لا يغني عن الأخلاق شيئا ولن تقوم قائمة لأحد مهما بلغ بعلمه وثقافته وفصاحته كل مَبْلَغْ, طبعا إن تجرد من الأخلاق التي تضبطه وتقوّم سلوكه سواء في طبعه أو معاملته لغيره, لعلي قرأت كثيرا مآثر العرب في جاهليتهم وقبل بزوغ فجر الإسلام في دولتهم, فرغم ما كانوا فيه من تشرذم وجهل وعصبيات قبلية عشائرية وغيرها, إلا أنهم كانوا أصحاب أخلاق عالية يضرب بها المثل في معاملاتهم وتعاملاتهم مع بعضهم البعض ومع جيرانهم, وبالعملية العكسية نلاحظ كذلك أنه ربما يمكن الاستغناء عن العلم مع الحفاظ على الأخلاق, نعم ندرك أن للجهل ضرر كبير ودهماء عظمى على أية أمة ولكنها أقل ضررًا من الأولى, وهناك من علماء الغرب المنصفين من توّصل لهاته الجزئية المهمة فقد قال العالم الأخلاقي صمويل سميلز: "إن العلم يجب اقترانه بالخير فرُبَّ عالم أقل من جاهل أمانةً، وفضيلةً، وأخلاقاً، وعملاً بالواجب"...
بعد كل هاته التقريبات والوصلات البيانية بين الكلمتين ومدلولهما وكذا تداخلهما مع بعضهما البعض في كثير من المرات ونَفْرَتِهما من بعضهما في حالات أخرى كثيرة, وكل هذا نزر قليل ومادة ثقيلة لمن أراد الغوص والتعمق كثيرا في ذلك العمق البياني والمعنوي للكلمتين, ومنه يتبين لنا بعد كل هذا أن ((الأخلاق)) قبل كل شيء, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتم مكارم الأخلاق", وقد اختصر بعض العلماء الدين كله في كلمة واحدة هي ((الأخلاق)) وكم هي جميلة وقفات الشاعر العبقري حافظ إبراهيم في نظمه البديع هذا :
إنـي لتطربني الخلال الكريمة *** طرب الغريب بأوبة وتلاقي
وتهزني ذكرى المروءة والندى *** بين الشمائل هـزة المشتاق
فإذا رزقت خليقة محمـودة *** فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فـالناس هذا حظه مال وذا *** علم وذاك مكـارم الأخلاق
والمـال إن لم تدخره محصناً *** بالعلم كان نهـاية الإمـلاق
والعلم إن لـم تكتنفه شمائل *** تعليـه كـان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفـع وحده *** ملـم يتـوج ربـه بخلاق
وجميلة كذلك مقولة لأحد علمائنا الأشاوس عندما قال: نعم الغرب حديثا تقدم وتطور كثير علينا في مجالات عدّة وتخصصات كثيرة ونحن تخلفنا فيما تقدم هو فيه لكننا كمسلمين متقدمون على هذا الغرب بأخلاقنا وقيمنا الرفيعة, فإن ضيعنا ما نحن متقدمون فيه عليه, فقد فقدنا أي سبق لنا أو كل ما نمتاز به عن هذا الغرب المادي, ولا شيء لنا لنقايضهم به, فهي في نهاية المطاف مصالح متبادلة, وحُقَّ علينا تِبْيَانُ ما نحمله من رسالة حضارية أخلاقية لهذا الغرب دون مقابل أو دون وجود تلك المصالح, لذا نحن قد نأخذ منهم تقدمهم التقني والتكنولوجي وهم يأخذوا عنا تقدمنا الأخلاقي, وحتى وإن كنا في غير الحاجة لتقدمهم عنا, فالواجب أن نريهم ونبين لهم تقدمنا الأخلاقي, والذي وَرَثَّهُ لنا ديننا الحنيف وتحلى به أسلافنا قديما في حروبهم وعلمهم وعملهم وجلساتهم وحلقاتهم ونقاشاتهم وفي كل أمورهم, نعم العلم مطلوب ومحبوب وهو زينة لصاحبه وخير معين له, ولكن دون أن يكون صاحبه متجردا عاريا من أخلاق تحدد له ضوابطه المتينة المبنية على القيّم الدينية القويمة, لا أن يَتَزَوَّقَ دعوة العلم وطلب العلم في الظاهر والباطن هواء وخواء ... وخير ما أختم به, الصلاة السلام على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم يقوم الأشهاد ...
يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً *** فإن كَفِّـــيَ في النيران تلتهبُ
فَكَمْ يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمَـًا *** طارتْ إلى المجد والعُرْبانَ قد رَسَبُوا
ونحنُ كنا بهذا الكــون أَلْوِيَةً *** ونحن كنـا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَى الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني *** أنَّ النهـارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ
(بمناسبة يوم العلم)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين, حمدًا طيّبًا مباركًا فيه, وأفضل الصلاة وأتمّ السلام على سيّدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
كنت أقلب وريقات مستنيرة في أحد الكتب الطيبة وقد ذُكر فيها فضل العلم ومكانة العالم والذي بلا شك لا يضاهيه فضل, ولا يعادله في الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة أي جزاء أو عمل, وهي حقيقة قبسات نورانية حميدة حول فضل العلم وأهله. فكثير منا يعلم ما للعلم من فضل ومكانة في الأمم ورقيها وازدهارها, وما كان له من فضل بناء تلك الحضارات السابقة وحتما سيكون له ذلك الدور الجليل في بناء الأمم اللاحقة, فبه استنارت أصقاع الأرض, أُخْمِدت نيران الظُلمة والظِلال وأُسدل ستار الجهل والأمية وبرزت شامخة منارات الهداية والإصلاح والصلاح وتوّضح مشرقًا ذلك الطريق المستقيم القويم, والذي لا يأتيه الباطل ولا يأتي هو بالباطل بين جنبيه ولا من خلفه, وما الثورة العلمية التقنية الحديثة والتطور الباهر لمجلات عدّة لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالإنسان وحياته إلا دليل على ذلك, وكذا إدراكه لأسرار الكون وتفسير الطبيعة وجلو أنوار البناء الحاصل, إلا نتاج للعلم وأهله المعتنين به أتم العناية وأفضلها, والعلم ليس محصورا في مجال معين كما نعرف, فبالنسبة لنا كمسلمين قد عرفنا ذلك الفضل للعلم في تاريخينا المجيد الفريد, الذي نبغ وبرز نجمه كالشمس المنيرة في عزّ النهار, وقد رُفعت راية العلم شامخة خفاقة لا تواربها علوًا وجاهًا راية, وقد عُني به أصحاب القرار منهم وبادره ولاة الأمور أيما عناية ومبادرة فقربوا مجالس العلماء وتحلقوا حلقات العلم وتناقلوا الدروس واهتم به الناس كلهم لا فرق بين الفقير فيهم والغني, والصغير أو الكبير والرجل أو المرأة, فالكل في العلم سواء وهم أقران وأقرباء فيه, وما تلك الجحافل لجيوش العلماء المسلمين والمسطرة أسمائهم من زلال الذهب الخالص في كتب التاريخ إلا دلالة على ذلك, وقد برعوا عبر العديد من العصور وعلى مرّ الدهور في شتى مجالاته وأصوله وتفرعاته ...
وقد أعجبت كثيرا بما قيل عن العلم في تلك الوريقات البسيطة, ومن شغفي أنني أتممت قراءتها دون إدراك للوقت, فمرّت الساعة والساعتان والثلاث وصاحبكم يقلب وريقاته, يحثو فيها منافع له, ويجّلي النَظر ويُمعن الإدراك ويُحاول تحضير واستحضار العقل الباطن لعله يقع على ما يفيده أو ما يريده, ثم وإذا بي أُقلّب صفحات الكتيب انتبهت إلى كلمة وردت هكذا في خاطري فألزمتها الركون إلى التفكير والنظر واستحثثتها البوح والفصح بالمكامن, وهاته الكلمة هي ((الأخلاق)) أو ((الآداب)), وببداهة ومن غير تفكير ربطت بينها وبين ما كنت أقرأ قبلا, فكتبت عنوان موضوعي هذا اليوم وعلى عجل وتساءلت بنفس البداهة, يا ترى ما فضل العلم دون وجود أخلاق تضبطه وما فضل الأخلاق دون وجود العلم يزينها؟ وأيهما له الفضل والسبق عن الآخر؟
هو سؤال نزل مفاجئا وطبعا قد تتراء خلفه كثير من الردود وكثير من البُرود والشرود وهذا لتصورنا لعدّة تأويلات وأشكال لخلفية الطرح ومعانيه, ثم قد جَرَتْ لُعبة الفِكر ودارت الدورة العقلية حولهما, فهل ينفع العالم أو طالب العلم عِلْمه عندما تَفْسُدُ أخلاقه وتبرز سوءاته ومساوئه للناس ثانيا وربّ الناس أولاً وثانيًا, وهي كارثة حقيقية عندما يكون أولئك النخبة من القوم بهذه الشاكلة وهذه الحالة, فتره تارةً يسيء الأدب مع أقرانه أو مع طلابه أو سائليه أو جيرانه أو أهله أو غيرهم ممن يليه أو يتولاه غوصًا في تلك العلوم وطلبا لها, ولا يليق لهذا الوصف تبيانا إلا قول الشاعر:
إِنَّ الغُصـونَ إِذا قَوَّمتَها اِعتَدَلَت *** وَلا يَليـنُ قَوَّمتَــهُ الخَشَـبُ
قَد يَنفَعُ الأَدَبُ الصَغيـر في مَهلٍ *** وَلَيسَ يَنفَعُ في ذِى الشَيبَةِ الأَدَبُ
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم", وفي هذا تلويح باهر ومبهر لدور ((الأخلاق)) البارز عند العالم أو المتعلم ولا حاجة لنا لتفنيد وتظهير دورها بين الناس العاديين ككل, ولكن الأهم بين أولئك النخبة من العلماء وطلاب العلم فلهم معها شأن آخر وشكل آخر وطعم آخر وإلزام آخر وتغليظ آخر في العقوبة, وبشكل عام إن تحدثنا عن دور ((الأخلاق)) في أمتنا نجد أن كثير من شباب وشيوخ وصغار وكبار ونساء وعجائز أمتنا الإسلامية الغراء, قد تلون وتَزَوَّقَ وتَطَبَعَ بِطَبائع غَرْبِيَةٍ غريبة عجيبة, خاصة لدى النشء منهم والشباب بخاصة, وقد صقل الفهم على مقاس ذلك اللباس الحضاري المزيف, فلا تراه يُقيم وزنًا للأخلاق وسمو دورها لدى الفرد العادي في تعامله واحتكاكه بالناس, فما بالك بالعالم المجاهد المجتهد أو المتعلم الـمُجِّد الساعي, وما بالك إن كان الأمر بينهم هُمْ وهُمْ العالمون العاملون, وهم القدوة الحسنة التي تنشأ حولها تلك الهالة الربانية والسكنية الإلهية التي تحيط العالم أو طالب العلم, ولو تفحصنا بشكل أدق أسباب هذا الفساد في الفهم الأخلاقي لدى شبابنا لاستخلصنا أن مَرَدَ ذلك كله كلمة لها علاقة قوية بالأخلاق وهي ((التربية)) أو ((التنشئة)) العليلة المبنية على العُجْب الحضاري اللاأخلاقي الأوربي في شكله المدني الحديث, قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: "لو أنني سُئلتُ أن أُجمل فلسفةَ الدينِ الإسلامي كلَّها في لفظين، لقلُت: إنها ثباتُ الأخلاق، ولو سُئلَ أكبرُ فلاسفةِ الدنيا أن يُوجزَ علاجَ الإنسانية كلَّه في حرفين، لما زاد على القول: إنه ثبات الأخلاق، ولو اجتمع كلُّ علماء أوربا ليدرسوا المدنية الأوربية ويحصُرُوا ما يُعْوِزُها في كلمتين لقالوا: ثباتُ الأخلاق", هنا الرافعي رحمه الله ربط دور ((الأخلاق)) وثباتها في الفرد بالحضارة والرقي لكل أمة أو أنه وصف لها علاجًا وترياقًا باهرًا لمشاكل هاته الإنسانية جمعاء, طبعا هنا نحن نتكلم بشكل عام وإن حصرنا ودققنا في ترادف كلمتي ((الأخلاق)) و((العلم)), نجد أنه لم ولن يفيد ذلك العلم وذلك التطور والتقدم في إيجاد حلول للإنسانية من مشاكلها, وبالتالي وكأنها رغم تقدمها ورقي حضارتها لم تتصل بمصدر القوة الحقيقي في نفوس أفرادها سواء العاديين أو أكثر وأكبر من ذلك في نفوس نخبتها من العلماء وطلاب العلم والمثقفين, إلى هنا نرى جيدا أن العلم لا يغني عن الأخلاق شيئا ولن تقوم قائمة لأحد مهما بلغ بعلمه وثقافته وفصاحته كل مَبْلَغْ, طبعا إن تجرد من الأخلاق التي تضبطه وتقوّم سلوكه سواء في طبعه أو معاملته لغيره, لعلي قرأت كثيرا مآثر العرب في جاهليتهم وقبل بزوغ فجر الإسلام في دولتهم, فرغم ما كانوا فيه من تشرذم وجهل وعصبيات قبلية عشائرية وغيرها, إلا أنهم كانوا أصحاب أخلاق عالية يضرب بها المثل في معاملاتهم وتعاملاتهم مع بعضهم البعض ومع جيرانهم, وبالعملية العكسية نلاحظ كذلك أنه ربما يمكن الاستغناء عن العلم مع الحفاظ على الأخلاق, نعم ندرك أن للجهل ضرر كبير ودهماء عظمى على أية أمة ولكنها أقل ضررًا من الأولى, وهناك من علماء الغرب المنصفين من توّصل لهاته الجزئية المهمة فقد قال العالم الأخلاقي صمويل سميلز: "إن العلم يجب اقترانه بالخير فرُبَّ عالم أقل من جاهل أمانةً، وفضيلةً، وأخلاقاً، وعملاً بالواجب"...
بعد كل هاته التقريبات والوصلات البيانية بين الكلمتين ومدلولهما وكذا تداخلهما مع بعضهما البعض في كثير من المرات ونَفْرَتِهما من بعضهما في حالات أخرى كثيرة, وكل هذا نزر قليل ومادة ثقيلة لمن أراد الغوص والتعمق كثيرا في ذلك العمق البياني والمعنوي للكلمتين, ومنه يتبين لنا بعد كل هذا أن ((الأخلاق)) قبل كل شيء, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتم مكارم الأخلاق", وقد اختصر بعض العلماء الدين كله في كلمة واحدة هي ((الأخلاق)) وكم هي جميلة وقفات الشاعر العبقري حافظ إبراهيم في نظمه البديع هذا :
إنـي لتطربني الخلال الكريمة *** طرب الغريب بأوبة وتلاقي
وتهزني ذكرى المروءة والندى *** بين الشمائل هـزة المشتاق
فإذا رزقت خليقة محمـودة *** فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فـالناس هذا حظه مال وذا *** علم وذاك مكـارم الأخلاق
والمـال إن لم تدخره محصناً *** بالعلم كان نهـاية الإمـلاق
والعلم إن لـم تكتنفه شمائل *** تعليـه كـان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفـع وحده *** ملـم يتـوج ربـه بخلاق
وجميلة كذلك مقولة لأحد علمائنا الأشاوس عندما قال: نعم الغرب حديثا تقدم وتطور كثير علينا في مجالات عدّة وتخصصات كثيرة ونحن تخلفنا فيما تقدم هو فيه لكننا كمسلمين متقدمون على هذا الغرب بأخلاقنا وقيمنا الرفيعة, فإن ضيعنا ما نحن متقدمون فيه عليه, فقد فقدنا أي سبق لنا أو كل ما نمتاز به عن هذا الغرب المادي, ولا شيء لنا لنقايضهم به, فهي في نهاية المطاف مصالح متبادلة, وحُقَّ علينا تِبْيَانُ ما نحمله من رسالة حضارية أخلاقية لهذا الغرب دون مقابل أو دون وجود تلك المصالح, لذا نحن قد نأخذ منهم تقدمهم التقني والتكنولوجي وهم يأخذوا عنا تقدمنا الأخلاقي, وحتى وإن كنا في غير الحاجة لتقدمهم عنا, فالواجب أن نريهم ونبين لهم تقدمنا الأخلاقي, والذي وَرَثَّهُ لنا ديننا الحنيف وتحلى به أسلافنا قديما في حروبهم وعلمهم وعملهم وجلساتهم وحلقاتهم ونقاشاتهم وفي كل أمورهم, نعم العلم مطلوب ومحبوب وهو زينة لصاحبه وخير معين له, ولكن دون أن يكون صاحبه متجردا عاريا من أخلاق تحدد له ضوابطه المتينة المبنية على القيّم الدينية القويمة, لا أن يَتَزَوَّقَ دعوة العلم وطلب العلم في الظاهر والباطن هواء وخواء ... وخير ما أختم به, الصلاة السلام على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم يقوم الأشهاد ...
يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً *** فإن كَفِّـــيَ في النيران تلتهبُ
فَكَمْ يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمَـًا *** طارتْ إلى المجد والعُرْبانَ قد رَسَبُوا
ونحنُ كنا بهذا الكــون أَلْوِيَةً *** ونحن كنـا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَى الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني *** أنَّ النهـارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ
(بمناسبة يوم العلم)