التوحيد الخالص
2012-04-17, 17:03
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في مجموع الفتاوى [1/21] :
( كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة؛ والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه.
وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه،
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها؛ وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
- أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه.
وهذا معنى قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب؛ لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول من معنى الألوهية. والثاني من معنى الربوبية؛ إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما ، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها؛
وكذلك قوله تعالى: {عليه توكلت وإليه أنيب} . وقوله: {فاعبده وتوكل عليه} . وقوله: {عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} . وقوله تعالى {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} . وقوله تعالى: {عليه توكلت وإليه متاب} وقوله: {وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.
الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم؛ وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم؛ وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح؛ ولا نعيم ولا لذة؛ بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله؛ رأس الأمر.
فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: {يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك أن لا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له} .
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أتدري ما حق الله على عباده؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم أن لا يعذبهم} .
وهو يحب ذلك، ويرضى به؛ ويرضى عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه؛ وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع. فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه؛ إلا الله سبحانه؛ ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقا؛ إذ الله لا سمي له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية. وأما من جهة الربوبية فشيء آخر؛ كما نقرره في موضعه.
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب؛ وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو: فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره: وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا (إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم {لا أحب الآفلين} .وكان أعظم آية في القرآن الكريم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} . وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه ) انتهى
( كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة؛ والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه.
وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه،
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها؛ وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
- أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه.
وهذا معنى قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب؛ لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول من معنى الألوهية. والثاني من معنى الربوبية؛ إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما ، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها؛
وكذلك قوله تعالى: {عليه توكلت وإليه أنيب} . وقوله: {فاعبده وتوكل عليه} . وقوله: {عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} . وقوله تعالى {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} . وقوله تعالى: {عليه توكلت وإليه متاب} وقوله: {وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.
الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم؛ وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم؛ وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح؛ ولا نعيم ولا لذة؛ بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله؛ رأس الأمر.
فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: {يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك أن لا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له} .
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أتدري ما حق الله على عباده؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم أن لا يعذبهم} .
وهو يحب ذلك، ويرضى به؛ ويرضى عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه؛ وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع. فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه؛ إلا الله سبحانه؛ ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقا؛ إذ الله لا سمي له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية. وأما من جهة الربوبية فشيء آخر؛ كما نقرره في موضعه.
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب؛ وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو: فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره: وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا (إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم {لا أحب الآفلين} .وكان أعظم آية في القرآن الكريم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} . وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه ) انتهى