أحمد أبو أنس
2009-01-07, 20:25
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أيها المسلمون! اطلبوا الهداية على الحقيقة في وحي الله من الله تجدوها، لا تستأثرنكم دونها عادات وتقاليد ومظاهر وأعراف، فتكونوا لقمةً بين فكي أسد وطبقتي رحى،
إن العالم يلهث ويلهث ويتطلع في خضم تيهه وشقائه إلى منقذ، وحاله حال أهل جهنم: { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [الأعراف:50] هل عندنا ماء الهداية الزلال أم أننا نملك السراب والآل؟ أم أننا كالعيس العطاش الهلكى في البيداء وعلى ظهورها الماء في القلال؟.
إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والسير في ركاب الصالحين، والتجافي عن طريق الضالين؛ لهو أعزُّ وأنفس وأغلى ما يملكه المرء، وهو أتم نعمةٍ يمتن بها الله على العبد: { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الحجرات:17] إنها حصن الله الحصين، من دخله كان من الآمنين، وهي الباب العظيم الذي من ولجه كان إلى الله من الواصلين، نوره يسعى بين يديه وبأيمانه إذا أطفئت أنوار المبتدعة والمنافقين، قال الله: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122] كلا.
من تكن همته نسج الحصير فهو لا يعلم ما نسج الحرير
من رام الهداية على الحقيقة طلبها وبحث عنها، وحشد همته، وعبأ طاقته، وجرد نفسه من كل شاغل، وعالج عثرات طريقه، ومن علم الله صدقه أعطاه وهداه وآتاه، ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب، قال الله: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف:178]
وفي القدسي: { يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم } يمين الله ملأى سحَّاء لا يغيضها شيء.
سبحانه وسعت آثار رحمته أهل الأراضي وسكان السماوات
فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري : [[ إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموْصل إلى الجزيرة ، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكونُ على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!
قال زيد : ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداًَ، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد : وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد ، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به.
فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.
قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم ]] .
عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طِلْبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عَرْفها وريحها وكنت من أهلها،
{ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } [مريم: 65] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[ رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري ]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها،
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما استوت شدها سواءً وأرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تُصْرف حالاً فحالا
سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: { رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام } .
رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو ، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه.
الهداية على الحقيقة نورٌ وحبور وسرور، والنور لا يحل إلا في قلبٍ صحيحٍ سليمٍ من الهوى والحقد والغل والحسد كما يقول الحميدي ، أما القلب المريض، فإنه محجوبٌ عن ذلك النور، ولو كان الفكر في غاية الذكاء والفهم والعلم، فهو أحير من ضب؛ إذا بعد عن جحره خَبن، وأهل الصحراء أعلم بذلك.
هاهو غلامٌ أسودٌ راعٍ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ لبعض حصون خيبر ، معه غنم هو أجيرٌ فيها لرجلٍ من يهود، فقال: يا رسول الله، اِعرض عليَّ الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً أن يعرض عليه الإسلام، فعرض عليه الإسلام فأسلم وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رسول الله! إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانةٌ عندي، كيف أصنع بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: { اضرب في وجوهها ترجع إلى ربها، فقام فأخذ حفنة من حصى، فرمى بها في وجوه الغنم، وقال: ارجعي، لا أصحبك والله أبداً، فخرجت كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت حصن اليهودي، ثم تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل، فأصابه حجرٌ، فقتله وما صلى لله صلاةً قط، لم يكن بين إسلامه وقتله صلاة، فيؤتى به ويوضع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسجى بشملةٍ كانت عليه، ثم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ من أصحابه، ثم يعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله! لم أعرضت عنه؟ فقال فيما روي عنه: إن معه الآن زوجتيه من حور العين } .
تحول عنه الأذى وانتهت صروف الحياة وأشجانها
هكذا يا معاشر المسلمين أبصر نور الهداية أسود راعٍ مملوك، بينما حجبت عن علماء أهل الكتاب في حصونهم مع أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ليسوا للهداية بأهل: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ } [الأنفال:23] اتبعوا الهوى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } [القصص:50] زاغوا: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف:5] وكتموا الحق وهم يعلمون، فبئس ما يصنعون.
إذا ما تردى في الضلالة جاهلُ فما عذر من يأبى الهدى وهو عارفُ
سيلقون بؤساً بعد بؤسٍ ومحنةً فلا العيش فياحٌ ولا الظل وارف
حقيقة الهداية ليست بمجرد الانتساب، أعني: الانتساب إلى الدين مع ارتكاب كل مناقضٍ له:
إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلةً كحالاتها أسماؤها والمصادر
أما إن الحق لا يثبت بالدعوى ولكن بالدليل، وإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء فحسب، وبالأفعال لا بالأقوال فقط، ولو أن كل من سمته أمه صالحاً كان صالحاً على الحقيقة، وكل من سمي عادلاً كان عدلاً على الحقيقة، لكُنا سعداء بكثرة الصالحين والعدول فينا، ولو أن كل من تسمى حسناً لا يأتي إلا الفعل الحسن، لعظم وطغى الحسن على القبيح، ولكن وراء هذه الأسماء والألقاب الجميلة أفق الواقع تتهاوى فيه كثيرٌ من هذه الأسماء والألقاب، وتنفلق فلا تجد إلا الحقيقة من فعلٍ يصدق ذلك أو يكذبه:
ذكر أبو الفرج أن تأبط شراً الشاعر ثابت بن جابر لقي ذات مرة رجلاً من ثقيف يكنى بأبي وهب، وكان رجلاً أهوج أحمق وعليه حلةٌ جميلة فارهة، فقال أبو وهب لـ تأبط شراً : بم تغلب الرجال يا ثابت : كيف تغلب الرجال وأنت كما أرى دميم ضئيل؟ -نظر إلى المظاهر وترك الحقائق- قال ثابت : أغلبهم باسمي، إنما أقول ساعة ألقى الرجل: أنا تأبط شراً ، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت.
فقال الثقفي: أبهذا فقط؟!
قال: ليس إلا.
قال: فهل لك أن تبيعني اسمك؟
قال: نعم ولكن ما الثمن؟
قال: هذه حلةٌ جميلة مع كنيتي، قال: أفعل، ففعل، وعندها قال تأبط شراً : لك اسمي ولي اسمك، وأخذ الحلة وأعطاه طمريه، ثم انصرف تأبط شراً وهو يقول مخاطباً زوجة الثقفي:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهبٍ
فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطبِ؟!
وأين له بأسٌ كبأسي ونجدتي؟! وأين له في كل فادحةٍ قلبي؟!
مضى وتركه وهو يعيش باسمٍ دون مسمى، وخيالٍ أشبه بالخبال.
وبعض الداء ليس له شفاءُ وداء الحمق ليس له دواءُ
لكأنك به عند أول لقاء وقد هزم، وذهبت حلته وبقي له حمقه وكنيته، وحاله:
وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
إخوتي في الله! ليس كل من تزيا بزي الشجعان، وأخذ ألقابهم وأسماءهم وكناهم، وتحدث حديثهم، وردد عباراتهم وشعاراتهم يعتبر شجاعاً، حتى يكون في ذاته وهمه وشعوره، وتصوره وإقدامه وقوة قلبه كالشجعان حقاً، ليس كل من ارتدى مُسوح أهل العلم، وإن كان في غاية البلادة في الفهم، والضحالة في العلم، والغباء في الذهن، ورسوخ الجهل؛ يعتبر عالماً حتى يكون في همته وشعوره، وتصوره وإدراكه، وفهمه واتباعه وخشيته كالعلماء حقاً.
ليس كل من تزيا بزي المستقيمين المهتدين، ولبس لباسهم، وردد ألفاظهم؛ يعتبر مستقيماً مهتدياً حقاً، حتى يكون في شعوره وولائه، وحبه وبغضه، وهمته وجديته، وسمته وخلقه، وتعامله وكبح جماح نفسه على الخير كالمستقيمين حقاً.
كما قال، فليست العبرة بالمظاهر فحسب، بل بالمظاهر مع الحقائق، فاعلم وعِ:
معاشر المسلمين! الهداية الحقة ليست بمجرد الانتساب وإظهار الولاء فحسب، إن من يظهر الانتساب للإسلام ولا يطبق أحكامه، ويرتكب ما يناقضه؛ لا يكون مسلماً حقاً ، فكذلك من ينتسبون إلى الإسلام وسلوكهم يناقض أحكامه وآدابه، هم صادون عنه وإن كانوا يحملون اسمه، فهم كالطائر قِصَّ جناحاه، فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه طائراً.
إن الانتماء إلى الإسلام ليس انتماء وراثة، ولا هوية، ولا مظهر فحسب، وإنما هو انتماء للإسلام، والتزام به، واستقامة على أحكامه، تكيف به في كل مناحي الحياة، كنزٌ ثمين، فلنشد عليه يد الضنين:
فلو لم يكن الزهر في البستان ما غرد قمري على الأغصان، وما صدحت الحناجر بأعذب الألحان.
الهداية على الحقيقة تحولٌ جذري في السلوك والفكر، والتصور والمعتقد، والشعور والانتماء والمعاملة، والظاهر والباطن، إنها باختصار إسلام النفس لله وحكمها بوحي الله، أقوال المهتدي حقاً، وأعماله، وعطاؤه ومنعه، وحبه وبغضه، ومعاملته؛ لوجه الله، لا يريد بذلك جزاءً من الناس ولا شكوراً، ولا ابتغاء جاهٍ عندهم، ولا طلب محمدةٍ ومنزلةٍ في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، قد عدَّ الناس بمنزلة أهل القبور، لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، عرف الناس فأنزلهم منازلهم، وعرف الله فأخلص له، وأصلح ما بينه وبينه، فمقاله: أسلمت وجهي لله.
هاهو أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مأموناً يتاجر في أموال قريش، واقتنع أن دين الله هو الحق، وأسلم سراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع ليرد الأموال، فقيل له وهو عازمٌ على أن يؤدي الأمانات إلى أهلها في مكة : هل لك أن تأخذ هذه الأموال، إنما هي أموال المشركين؟ فقال في اعتزاز المسلم وأمانته وطهره، وتحوله عن كل جاهلية: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي.
وحاله:
على المال والجاه حرص الجميع فمن ذا على دينه يحرص؟
ومن يعرف الله لا ينقصُ
أنا لله وليٌ لا لعزى أو مناة أنا شمس ليس تطفى بهبوب العاصفات
أيها المسلمون! اطلبوا الهداية على الحقيقة في وحي الله من الله تجدوها، لا تستأثرنكم دونها عادات وتقاليد ومظاهر وأعراف، فتكونوا لقمةً بين فكي أسد وطبقتي رحى،
إن العالم يلهث ويلهث ويتطلع في خضم تيهه وشقائه إلى منقذ، وحاله حال أهل جهنم: { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [الأعراف:50] هل عندنا ماء الهداية الزلال أم أننا نملك السراب والآل؟ أم أننا كالعيس العطاش الهلكى في البيداء وعلى ظهورها الماء في القلال؟.
إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والسير في ركاب الصالحين، والتجافي عن طريق الضالين؛ لهو أعزُّ وأنفس وأغلى ما يملكه المرء، وهو أتم نعمةٍ يمتن بها الله على العبد: { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الحجرات:17] إنها حصن الله الحصين، من دخله كان من الآمنين، وهي الباب العظيم الذي من ولجه كان إلى الله من الواصلين، نوره يسعى بين يديه وبأيمانه إذا أطفئت أنوار المبتدعة والمنافقين، قال الله: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122] كلا.
من تكن همته نسج الحصير فهو لا يعلم ما نسج الحرير
من رام الهداية على الحقيقة طلبها وبحث عنها، وحشد همته، وعبأ طاقته، وجرد نفسه من كل شاغل، وعالج عثرات طريقه، ومن علم الله صدقه أعطاه وهداه وآتاه، ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب، قال الله: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف:178]
وفي القدسي: { يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم } يمين الله ملأى سحَّاء لا يغيضها شيء.
سبحانه وسعت آثار رحمته أهل الأراضي وسكان السماوات
فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري : [[ إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموْصل إلى الجزيرة ، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكونُ على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!
قال زيد : ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداًَ، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد : وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد ، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به.
فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.
قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم ]] .
عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طِلْبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عَرْفها وريحها وكنت من أهلها،
{ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } [مريم: 65] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[ رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري ]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها،
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما استوت شدها سواءً وأرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تُصْرف حالاً فحالا
سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: { رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام } .
رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو ، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه.
الهداية على الحقيقة نورٌ وحبور وسرور، والنور لا يحل إلا في قلبٍ صحيحٍ سليمٍ من الهوى والحقد والغل والحسد كما يقول الحميدي ، أما القلب المريض، فإنه محجوبٌ عن ذلك النور، ولو كان الفكر في غاية الذكاء والفهم والعلم، فهو أحير من ضب؛ إذا بعد عن جحره خَبن، وأهل الصحراء أعلم بذلك.
هاهو غلامٌ أسودٌ راعٍ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ لبعض حصون خيبر ، معه غنم هو أجيرٌ فيها لرجلٍ من يهود، فقال: يا رسول الله، اِعرض عليَّ الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً أن يعرض عليه الإسلام، فعرض عليه الإسلام فأسلم وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رسول الله! إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانةٌ عندي، كيف أصنع بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: { اضرب في وجوهها ترجع إلى ربها، فقام فأخذ حفنة من حصى، فرمى بها في وجوه الغنم، وقال: ارجعي، لا أصحبك والله أبداً، فخرجت كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت حصن اليهودي، ثم تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل، فأصابه حجرٌ، فقتله وما صلى لله صلاةً قط، لم يكن بين إسلامه وقتله صلاة، فيؤتى به ويوضع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسجى بشملةٍ كانت عليه، ثم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ من أصحابه، ثم يعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله! لم أعرضت عنه؟ فقال فيما روي عنه: إن معه الآن زوجتيه من حور العين } .
تحول عنه الأذى وانتهت صروف الحياة وأشجانها
هكذا يا معاشر المسلمين أبصر نور الهداية أسود راعٍ مملوك، بينما حجبت عن علماء أهل الكتاب في حصونهم مع أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ليسوا للهداية بأهل: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ } [الأنفال:23] اتبعوا الهوى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } [القصص:50] زاغوا: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف:5] وكتموا الحق وهم يعلمون، فبئس ما يصنعون.
إذا ما تردى في الضلالة جاهلُ فما عذر من يأبى الهدى وهو عارفُ
سيلقون بؤساً بعد بؤسٍ ومحنةً فلا العيش فياحٌ ولا الظل وارف
حقيقة الهداية ليست بمجرد الانتساب، أعني: الانتساب إلى الدين مع ارتكاب كل مناقضٍ له:
إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلةً كحالاتها أسماؤها والمصادر
أما إن الحق لا يثبت بالدعوى ولكن بالدليل، وإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء فحسب، وبالأفعال لا بالأقوال فقط، ولو أن كل من سمته أمه صالحاً كان صالحاً على الحقيقة، وكل من سمي عادلاً كان عدلاً على الحقيقة، لكُنا سعداء بكثرة الصالحين والعدول فينا، ولو أن كل من تسمى حسناً لا يأتي إلا الفعل الحسن، لعظم وطغى الحسن على القبيح، ولكن وراء هذه الأسماء والألقاب الجميلة أفق الواقع تتهاوى فيه كثيرٌ من هذه الأسماء والألقاب، وتنفلق فلا تجد إلا الحقيقة من فعلٍ يصدق ذلك أو يكذبه:
ذكر أبو الفرج أن تأبط شراً الشاعر ثابت بن جابر لقي ذات مرة رجلاً من ثقيف يكنى بأبي وهب، وكان رجلاً أهوج أحمق وعليه حلةٌ جميلة فارهة، فقال أبو وهب لـ تأبط شراً : بم تغلب الرجال يا ثابت : كيف تغلب الرجال وأنت كما أرى دميم ضئيل؟ -نظر إلى المظاهر وترك الحقائق- قال ثابت : أغلبهم باسمي، إنما أقول ساعة ألقى الرجل: أنا تأبط شراً ، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت.
فقال الثقفي: أبهذا فقط؟!
قال: ليس إلا.
قال: فهل لك أن تبيعني اسمك؟
قال: نعم ولكن ما الثمن؟
قال: هذه حلةٌ جميلة مع كنيتي، قال: أفعل، ففعل، وعندها قال تأبط شراً : لك اسمي ولي اسمك، وأخذ الحلة وأعطاه طمريه، ثم انصرف تأبط شراً وهو يقول مخاطباً زوجة الثقفي:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهبٍ
فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطبِ؟!
وأين له بأسٌ كبأسي ونجدتي؟! وأين له في كل فادحةٍ قلبي؟!
مضى وتركه وهو يعيش باسمٍ دون مسمى، وخيالٍ أشبه بالخبال.
وبعض الداء ليس له شفاءُ وداء الحمق ليس له دواءُ
لكأنك به عند أول لقاء وقد هزم، وذهبت حلته وبقي له حمقه وكنيته، وحاله:
وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
إخوتي في الله! ليس كل من تزيا بزي الشجعان، وأخذ ألقابهم وأسماءهم وكناهم، وتحدث حديثهم، وردد عباراتهم وشعاراتهم يعتبر شجاعاً، حتى يكون في ذاته وهمه وشعوره، وتصوره وإقدامه وقوة قلبه كالشجعان حقاً، ليس كل من ارتدى مُسوح أهل العلم، وإن كان في غاية البلادة في الفهم، والضحالة في العلم، والغباء في الذهن، ورسوخ الجهل؛ يعتبر عالماً حتى يكون في همته وشعوره، وتصوره وإدراكه، وفهمه واتباعه وخشيته كالعلماء حقاً.
ليس كل من تزيا بزي المستقيمين المهتدين، ولبس لباسهم، وردد ألفاظهم؛ يعتبر مستقيماً مهتدياً حقاً، حتى يكون في شعوره وولائه، وحبه وبغضه، وهمته وجديته، وسمته وخلقه، وتعامله وكبح جماح نفسه على الخير كالمستقيمين حقاً.
كما قال، فليست العبرة بالمظاهر فحسب، بل بالمظاهر مع الحقائق، فاعلم وعِ:
معاشر المسلمين! الهداية الحقة ليست بمجرد الانتساب وإظهار الولاء فحسب، إن من يظهر الانتساب للإسلام ولا يطبق أحكامه، ويرتكب ما يناقضه؛ لا يكون مسلماً حقاً ، فكذلك من ينتسبون إلى الإسلام وسلوكهم يناقض أحكامه وآدابه، هم صادون عنه وإن كانوا يحملون اسمه، فهم كالطائر قِصَّ جناحاه، فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه طائراً.
إن الانتماء إلى الإسلام ليس انتماء وراثة، ولا هوية، ولا مظهر فحسب، وإنما هو انتماء للإسلام، والتزام به، واستقامة على أحكامه، تكيف به في كل مناحي الحياة، كنزٌ ثمين، فلنشد عليه يد الضنين:
فلو لم يكن الزهر في البستان ما غرد قمري على الأغصان، وما صدحت الحناجر بأعذب الألحان.
الهداية على الحقيقة تحولٌ جذري في السلوك والفكر، والتصور والمعتقد، والشعور والانتماء والمعاملة، والظاهر والباطن، إنها باختصار إسلام النفس لله وحكمها بوحي الله، أقوال المهتدي حقاً، وأعماله، وعطاؤه ومنعه، وحبه وبغضه، ومعاملته؛ لوجه الله، لا يريد بذلك جزاءً من الناس ولا شكوراً، ولا ابتغاء جاهٍ عندهم، ولا طلب محمدةٍ ومنزلةٍ في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، قد عدَّ الناس بمنزلة أهل القبور، لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، عرف الناس فأنزلهم منازلهم، وعرف الله فأخلص له، وأصلح ما بينه وبينه، فمقاله: أسلمت وجهي لله.
هاهو أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مأموناً يتاجر في أموال قريش، واقتنع أن دين الله هو الحق، وأسلم سراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع ليرد الأموال، فقيل له وهو عازمٌ على أن يؤدي الأمانات إلى أهلها في مكة : هل لك أن تأخذ هذه الأموال، إنما هي أموال المشركين؟ فقال في اعتزاز المسلم وأمانته وطهره، وتحوله عن كل جاهلية: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي.
وحاله:
على المال والجاه حرص الجميع فمن ذا على دينه يحرص؟
ومن يعرف الله لا ينقصُ
أنا لله وليٌ لا لعزى أو مناة أنا شمس ليس تطفى بهبوب العاصفات