علي الجزائري
2012-04-08, 23:17
السّلام عليكم و رحمة الله ..
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله نحمدُه و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضلّ له و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك
و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله .
أمّا بعدُ : فقد قال العلاّمة السّعدي رحمة الله عليه :
لا ريب أن الشارع مدح الرجاء الذي هو الرجاء ، و أمر به و بكل وسيلة توصل إليه ،
و ذمّ اليأس و نهى عنه و أخبر أنه من موبقات الذنوب؛ و ذلك لما يترتّب من الرجاء من المصالح
و الثمرات النافعة ، و ما ينشأ عنه من الأسباب الموصلة للمقاصد الجليلة و ما يترتّب على اليأس
من ضدّ ذلك .
مثال ذلك أن الراجي لرحمة الله و مغفرته - بحسب قوّة رجائه - يسعى بكلّ طريق يوصل إلى الرحمة
و المغفرة اللّتيْنِ تعلّق بهما رجاؤه،
بل لا يكون الرجاء حقيقيّا حتى يقوم بالأعمال الموصلة إلى الرحمة و المغفرة :
قال الله تعالى : (( إنَّ الذينَ ءامنواْ و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله أوْلائك يرجون رحمة الله ))
فخصَّ هؤلاء برجاء رحمة الله لما حصل منهم من السبب الأقوم الذي تُنالُ به الرحمة .
و قال تعالى : (( و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنّة عرضها السماوات و الأرضُ أُعِدّتْ للمتّقينَ ،
الّذين يُنفِقون في السّرّاء و الضّرّاء و الكاظِمين الغيظَ.. )) إلى آخر الآية التي فيها ذكر الأسباب
الموصلة إلى ذلك ،المحقّقة له .
فقوّة الرجاء تحمل العبد على كلّ عمل صالح، فإذا عمله على الوجه المرضيّ قَوِيَ رجاؤه ،
فلم يزل في ازدياد من الأعمال و رغبة فيما يقرّب إلى الله تعالى و رضوانه و ثوابه، و كلّما ضَعُفَ
رجاؤه كسلَ عن الخيرات، و تجرّأ على السيّئات، و دعته نفسه الأمّارة بالسوء إلى كلّ
سوء فانقادَ لها، لأنه ليس عنده من رجاءِ رحمة الله و مغفرته ما يكسِر سورتها (أي شدّتها)
و يقمع شرّها، ثمّ لا يزال الرجاء يضعُف في قلبه و اليأس يقوى فيضعُفُ إيمانه و تضعُف دواعيه
إلى الخير، كما تقوى دواعيه إلى الشرّ فيقع في اليأس المحْض من رَوْحِ الله، فلا يزال مُكبّاً على الذنوب
مصرّاً على المعاصي، لا يحدِّثُ نفسَه بتوبة، و لا يرجع إلى ربّه لاستيلاء اليأس عليه و ضَعفِ الرجاء .
و هذا هو الهلاك المبين، و مع أنه هلاكٌ يُرجَى - إن سعى في عِلاجه - أن يزول و تعود الصحّة،
و ذلك بأن يتأمّل و يتفكّر في الأسباب التي أوصلته إلى هذه الحال ، و أنها أسبابٌ قابلةٌ للزّوال إذا مرّن
نفسه على إضعاف اليأس - الذي ترامى به إلى الهلاك - و تقوية الرجاء الحامل له على التوبة و الإنابة ؛
لأنه إذا علِمَ أنّه (( غفّارٌ لمنْ تابَ و ءامنَ و عمِلَ صالحاً ثمّ اهتدى )) و لو بلغت الحالُ ما بلغتْ: طمع
في مغفرة ربّه و استعان به على التوبة التي هي الإقلاع عن المعاصي، و الندم على ما مضى منها،
و التصميم على أن لا يعود. و حصّل من علوم الإيمان و أعماله ما يُقوِّي عزيمته، و يوقظ همته
خصوصا الإيمان الخاص في هذا المقام و هو توحيده و علمه أنه لا يغفر الذنوب إلا الله و أن العبد
إذا تاب توبة نصوحاً فإن الله يغفر له و يتقبّل منه، فلا يزال إيمانُه يُمدّ توبتَه و توبتُه تُمدّ إيمانَه ،
و يعمل من الأعمال الصالحة ما يُتمّ به الإيمان و التوبة و يسلُك الصراط المستقيم في عِلمِه و عملِه:
حتّى يضمحلّ يأسه و يقوى رجاؤه و يسيرَ إلى ربّه سيراً جميلاً .
فهذا كلام عامّ في أمور الدّين كلِّها ، العلمِيّة و العَمَليّة .
و من مفردات هذا :
طالبُ العلمِ إذا اشتغل بفنّ من فنونِه فبَعدَ اشتغاله به رأى من صعوبته و بُطءِ فهمِه ما أوجب له اليأسَ
من تحصيلِه، فإنّه يملُكه اليأس و يدعوه إلى تركِه . و كُلّما خطر بباله الاشتغال به أو ذكر لهذا الأمر
فإنّ اليأسَ من إدراكه ماثل بين عينيه كأنّه ةحجر عظيم في طريقه، فإن هو أخلد إلى هذه و استرسلَ
معها قتلَهُ اليأسُ ،
و رأى المطلوب من المستحيلات عليه. و إن كان مُوَفَّقا ينظُرُ إلى حقائق الأشياءِ على ما هي عليه
و لم يملكه الخيال الضّارُّ علِمَ أنّ الآدميّ قابل لتعلّم كلّ علم ، مُهيّأ لذلك و أنّ مجرّد اشتغاله بالعلوم
النّافعة – و لو لم يُحصّل منها و يستفِد شيئا يُذكَر- : مصلحة و عبادة، لأنّه تصحبه النيّة الصّالحة .
و إن لم يشتغِل به إلا لنفع نفسه و نفع غيره، فلا يزالُ ساعيا في هذا الأمر، و إذا لم يحصل له مراده
أو بعضه في وقت : حدّث نفسَه أنّه سيُحصّله في وقت آخر إذا استمرّ على السعي و الاجتهادِ ،
فيقوى حينئذ رجاؤه و ينشط في المسيرِ في طلبه و ينفضُ عنه غبار اليأسِ حتّى يرتقيَ إلى درجته
اللّائقة به .
و كما أنّ الإنسان يطبّق هذا المعنى على نفسه فليستعمله في غيره، إذا أراد هداية أحد أو دعوته
إلى الإسلام أو أصل من أصوله أو فرع من فروعه، أو تعلميه لعلم نافع، ثمّ رأى من المدعوّ نفورا
و إعراضا، أو بلادة و قلّة فطنة، فإن أخذه الملل و اليأس من إدراك المقصود منه و عدِم رجاء انتفاعه،
لم يلبث إلاّ قليلا حتّى يدع دعوته و تعليمه، فيفوت بذلك خير كثير .
و إن هوَ سلك مسلكَ نبيّه صلّى الله عليه و على آله و سلّم في دعوته و هداية الخلقِ، و علِمَ أنّه مكث
مدّة طويلة يدعو النّاس إلى الإســلام و التوحيد فلا يلقى آذانا سامعة و لا قلبا مُجيبا فلم يضعف
و لم يلِن بل لم يزل قويّ الرّجاء عالما أنّ الله سيُتمُّ أمرَه ماضيا على دعوتهِ، حتّى فتح الله به أعينا عميا
و آذانا صمّا و قلوبا غلفا، و بلغت دعوته و هدايتُه ما بلغ اللّيل و النّهار.
فإذا جعل هذا بين عينيه لم يشتدّ عليه أمر من الأمور و لو لم يحصُل له إلاّ مجرّد دعوته إلى الله
من أكبر الحسنات لكفى الموفّق داعيا إلى الصّبر و الرّجاء.
و كم من أمر ميؤوس منه انتقل من طيّ العدم إلى الوجود بالصّبر و المزاولة، فلا يزال راجيا طامعا
في إدراك مقصوده أو بعضه ساعيا السعي اللاّئق به حتّى يرى من آثار سعيِه خيرا كثيرا.
و كما أنّ هذا المعنى ثابت في دقيق الأمورِ و جليلِها فخير ما استُعمِلَ هذا الأصل المهمّ في أحوال
المسلمين اليومَ، حيث كانوا من زمان طويل و التفرّق سار فيهم و العداوة قائمة بينهم، و كثير
من مصلحات دينهم متروكة حتّى تفكّكت قواهم، و ضعُف أمرهم،
و تملّكهم اليأس و القنوط ، خصوصا إذا نظروا إلى أعدائهم الحقيقيّين و قد بلغوا من القوّة مبلغا هائلا،
فحينئذ يستولي عليهم الكسلُ و اليأسُ و يتوهّمون أنّه كالمُحالِ وجودُ قوّة كافية تدفعُ عنهم عادية الأعداءِ،
فضلا عن أن يكونوا في صفوف الأمم القويّة، و من حدّث نفسهُ بهذا أو غيره فقد حدّثها بالمُحالِ !!
فاستولى عليهم الذلّ و توهّمت نفوسهم أنهم طعمة لكلّ أحد، و هذا ناشئ من ضعف الإيمان و استيلاء
اليأسِ و ضعف الرّجاء.
فلو أنّهم جعلوا الرجاء لرحمة الله و نصرِه و إعزازِ دينه نُصبَ أعيُنِهم و علموا أنّ من ينصر الله
ينصره و يُثبِّت قدمه فسَعَوا بما يمكن تلافيه من أمرهم، و جمعوا كلمتهم و جعلوا وحدة دينهم
و حفظَه من كلّ عاد هو الجامعة التي تربط أقصاهم و أدناهم، و تركوا لهذا كلَّ ما عارضه
من الأغراض الفاسدة و الأهوية الضّارّة، و قاموا في هذا الأمر قياما حقيقيّا و لم يمنعهم ما يعترض
لهم من العقوبات و التهويلات، لكان أوّل فائدة يجنونها الأمن على دينهم الّذي لولاهُ لم يسعَدوا دنيا
و لا أُخرى، و سلامتهم من الضربات المعدّة له و لهم الموجّهة إليهم، و لأمكنهم أن يعيشوا بأنفسهم
– و مع الأمم – بطمأنينة و حفظ للمصالح الدّينيّة و الدّنيوية من غير أن يضربوا بسلاح، و لا يشوّشوا
على أحد، لأنّ كلّ منصف يعذرهم حيث سعَوْا لحفظ كيانهم و دفع الظلم عنهم بكلّ طريق،
و هو حقّ يدلي به القويّ و الضّعيف، ثمّ يسعونَ في الإستعداد الكافي لمُقاومَة المُعتَدينَ.
فلو جعل الرُّؤساء هذا الأمر الواجب قبلة قلوبهم و جُلَّ مقصدهم، و حصلَ البحثُ التّامّ في كيفيّة الوُصول
إلى هذا المقصَد، و من أيّ طريق ينفُذُ و رَجَوْا عواقبه الحميدة لرَأَوْا من آثاره خيرا كثيراً .
فنرجو الله أن يوفّق جميع المسلمين في أقطار الأرض كلّها للقيام بدينهم حقّ القيام، و أن يكونوا يدا
واحدةً على من ناوأهم و اعتدى عليهم ، و أن ييسّر لهم الأسباب النّافعة، و يزيل عن قلوبهم – الهمّ –
الذي استولى على أكثرهم.
فلو نظروا بأعينهم لبعض الأمم الصّغيرة الّتي عملت لوحدة مصالحها الخاصّة كيفَ عاشَت مع الأمم
القويّة حتّى سادتهم في حفظِ الحقوق و النّظام و المصالح، خصوصا في هذا الوقت العصيب الذي وقع
فيه التّفاني بين أكبر قوّة في العالم مع نظيراتها، و كلّ واحدة منهما تُبدِئُ و تعيدُ أنّها ستُخرِجُ العالَمَ
من الظّلم و الإعتداء، و تجعل لهم نظاما جديدا من العدلِ يحفظ جميعَ الأمم، فلا علينا أن يكون هذا الكلام
منهم حقيقةً، و إنّما هو دعاية، فالمسلمون أحقّ النّاسِ كلّهم للتنبيه لهذا الأمرِ، و فيهم من الكثرة و القوّة
المستعدّة ما يؤهّلهم إلى أعلى المقامات من الإيمان و العونِ الإلاهيّ و قوّة الرّجاء، و ما في دينهم
من الدّعوة إلى كلّ إصلاح و نبذِ كلّ ضارّ .
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله نحمدُه و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضلّ له و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك
و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله .
أمّا بعدُ : فقد قال العلاّمة السّعدي رحمة الله عليه :
لا ريب أن الشارع مدح الرجاء الذي هو الرجاء ، و أمر به و بكل وسيلة توصل إليه ،
و ذمّ اليأس و نهى عنه و أخبر أنه من موبقات الذنوب؛ و ذلك لما يترتّب من الرجاء من المصالح
و الثمرات النافعة ، و ما ينشأ عنه من الأسباب الموصلة للمقاصد الجليلة و ما يترتّب على اليأس
من ضدّ ذلك .
مثال ذلك أن الراجي لرحمة الله و مغفرته - بحسب قوّة رجائه - يسعى بكلّ طريق يوصل إلى الرحمة
و المغفرة اللّتيْنِ تعلّق بهما رجاؤه،
بل لا يكون الرجاء حقيقيّا حتى يقوم بالأعمال الموصلة إلى الرحمة و المغفرة :
قال الله تعالى : (( إنَّ الذينَ ءامنواْ و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله أوْلائك يرجون رحمة الله ))
فخصَّ هؤلاء برجاء رحمة الله لما حصل منهم من السبب الأقوم الذي تُنالُ به الرحمة .
و قال تعالى : (( و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنّة عرضها السماوات و الأرضُ أُعِدّتْ للمتّقينَ ،
الّذين يُنفِقون في السّرّاء و الضّرّاء و الكاظِمين الغيظَ.. )) إلى آخر الآية التي فيها ذكر الأسباب
الموصلة إلى ذلك ،المحقّقة له .
فقوّة الرجاء تحمل العبد على كلّ عمل صالح، فإذا عمله على الوجه المرضيّ قَوِيَ رجاؤه ،
فلم يزل في ازدياد من الأعمال و رغبة فيما يقرّب إلى الله تعالى و رضوانه و ثوابه، و كلّما ضَعُفَ
رجاؤه كسلَ عن الخيرات، و تجرّأ على السيّئات، و دعته نفسه الأمّارة بالسوء إلى كلّ
سوء فانقادَ لها، لأنه ليس عنده من رجاءِ رحمة الله و مغفرته ما يكسِر سورتها (أي شدّتها)
و يقمع شرّها، ثمّ لا يزال الرجاء يضعُف في قلبه و اليأس يقوى فيضعُفُ إيمانه و تضعُف دواعيه
إلى الخير، كما تقوى دواعيه إلى الشرّ فيقع في اليأس المحْض من رَوْحِ الله، فلا يزال مُكبّاً على الذنوب
مصرّاً على المعاصي، لا يحدِّثُ نفسَه بتوبة، و لا يرجع إلى ربّه لاستيلاء اليأس عليه و ضَعفِ الرجاء .
و هذا هو الهلاك المبين، و مع أنه هلاكٌ يُرجَى - إن سعى في عِلاجه - أن يزول و تعود الصحّة،
و ذلك بأن يتأمّل و يتفكّر في الأسباب التي أوصلته إلى هذه الحال ، و أنها أسبابٌ قابلةٌ للزّوال إذا مرّن
نفسه على إضعاف اليأس - الذي ترامى به إلى الهلاك - و تقوية الرجاء الحامل له على التوبة و الإنابة ؛
لأنه إذا علِمَ أنّه (( غفّارٌ لمنْ تابَ و ءامنَ و عمِلَ صالحاً ثمّ اهتدى )) و لو بلغت الحالُ ما بلغتْ: طمع
في مغفرة ربّه و استعان به على التوبة التي هي الإقلاع عن المعاصي، و الندم على ما مضى منها،
و التصميم على أن لا يعود. و حصّل من علوم الإيمان و أعماله ما يُقوِّي عزيمته، و يوقظ همته
خصوصا الإيمان الخاص في هذا المقام و هو توحيده و علمه أنه لا يغفر الذنوب إلا الله و أن العبد
إذا تاب توبة نصوحاً فإن الله يغفر له و يتقبّل منه، فلا يزال إيمانُه يُمدّ توبتَه و توبتُه تُمدّ إيمانَه ،
و يعمل من الأعمال الصالحة ما يُتمّ به الإيمان و التوبة و يسلُك الصراط المستقيم في عِلمِه و عملِه:
حتّى يضمحلّ يأسه و يقوى رجاؤه و يسيرَ إلى ربّه سيراً جميلاً .
فهذا كلام عامّ في أمور الدّين كلِّها ، العلمِيّة و العَمَليّة .
و من مفردات هذا :
طالبُ العلمِ إذا اشتغل بفنّ من فنونِه فبَعدَ اشتغاله به رأى من صعوبته و بُطءِ فهمِه ما أوجب له اليأسَ
من تحصيلِه، فإنّه يملُكه اليأس و يدعوه إلى تركِه . و كُلّما خطر بباله الاشتغال به أو ذكر لهذا الأمر
فإنّ اليأسَ من إدراكه ماثل بين عينيه كأنّه ةحجر عظيم في طريقه، فإن هو أخلد إلى هذه و استرسلَ
معها قتلَهُ اليأسُ ،
و رأى المطلوب من المستحيلات عليه. و إن كان مُوَفَّقا ينظُرُ إلى حقائق الأشياءِ على ما هي عليه
و لم يملكه الخيال الضّارُّ علِمَ أنّ الآدميّ قابل لتعلّم كلّ علم ، مُهيّأ لذلك و أنّ مجرّد اشتغاله بالعلوم
النّافعة – و لو لم يُحصّل منها و يستفِد شيئا يُذكَر- : مصلحة و عبادة، لأنّه تصحبه النيّة الصّالحة .
و إن لم يشتغِل به إلا لنفع نفسه و نفع غيره، فلا يزالُ ساعيا في هذا الأمر، و إذا لم يحصل له مراده
أو بعضه في وقت : حدّث نفسَه أنّه سيُحصّله في وقت آخر إذا استمرّ على السعي و الاجتهادِ ،
فيقوى حينئذ رجاؤه و ينشط في المسيرِ في طلبه و ينفضُ عنه غبار اليأسِ حتّى يرتقيَ إلى درجته
اللّائقة به .
و كما أنّ الإنسان يطبّق هذا المعنى على نفسه فليستعمله في غيره، إذا أراد هداية أحد أو دعوته
إلى الإسلام أو أصل من أصوله أو فرع من فروعه، أو تعلميه لعلم نافع، ثمّ رأى من المدعوّ نفورا
و إعراضا، أو بلادة و قلّة فطنة، فإن أخذه الملل و اليأس من إدراك المقصود منه و عدِم رجاء انتفاعه،
لم يلبث إلاّ قليلا حتّى يدع دعوته و تعليمه، فيفوت بذلك خير كثير .
و إن هوَ سلك مسلكَ نبيّه صلّى الله عليه و على آله و سلّم في دعوته و هداية الخلقِ، و علِمَ أنّه مكث
مدّة طويلة يدعو النّاس إلى الإســلام و التوحيد فلا يلقى آذانا سامعة و لا قلبا مُجيبا فلم يضعف
و لم يلِن بل لم يزل قويّ الرّجاء عالما أنّ الله سيُتمُّ أمرَه ماضيا على دعوتهِ، حتّى فتح الله به أعينا عميا
و آذانا صمّا و قلوبا غلفا، و بلغت دعوته و هدايتُه ما بلغ اللّيل و النّهار.
فإذا جعل هذا بين عينيه لم يشتدّ عليه أمر من الأمور و لو لم يحصُل له إلاّ مجرّد دعوته إلى الله
من أكبر الحسنات لكفى الموفّق داعيا إلى الصّبر و الرّجاء.
و كم من أمر ميؤوس منه انتقل من طيّ العدم إلى الوجود بالصّبر و المزاولة، فلا يزال راجيا طامعا
في إدراك مقصوده أو بعضه ساعيا السعي اللاّئق به حتّى يرى من آثار سعيِه خيرا كثيرا.
و كما أنّ هذا المعنى ثابت في دقيق الأمورِ و جليلِها فخير ما استُعمِلَ هذا الأصل المهمّ في أحوال
المسلمين اليومَ، حيث كانوا من زمان طويل و التفرّق سار فيهم و العداوة قائمة بينهم، و كثير
من مصلحات دينهم متروكة حتّى تفكّكت قواهم، و ضعُف أمرهم،
و تملّكهم اليأس و القنوط ، خصوصا إذا نظروا إلى أعدائهم الحقيقيّين و قد بلغوا من القوّة مبلغا هائلا،
فحينئذ يستولي عليهم الكسلُ و اليأسُ و يتوهّمون أنّه كالمُحالِ وجودُ قوّة كافية تدفعُ عنهم عادية الأعداءِ،
فضلا عن أن يكونوا في صفوف الأمم القويّة، و من حدّث نفسهُ بهذا أو غيره فقد حدّثها بالمُحالِ !!
فاستولى عليهم الذلّ و توهّمت نفوسهم أنهم طعمة لكلّ أحد، و هذا ناشئ من ضعف الإيمان و استيلاء
اليأسِ و ضعف الرّجاء.
فلو أنّهم جعلوا الرجاء لرحمة الله و نصرِه و إعزازِ دينه نُصبَ أعيُنِهم و علموا أنّ من ينصر الله
ينصره و يُثبِّت قدمه فسَعَوا بما يمكن تلافيه من أمرهم، و جمعوا كلمتهم و جعلوا وحدة دينهم
و حفظَه من كلّ عاد هو الجامعة التي تربط أقصاهم و أدناهم، و تركوا لهذا كلَّ ما عارضه
من الأغراض الفاسدة و الأهوية الضّارّة، و قاموا في هذا الأمر قياما حقيقيّا و لم يمنعهم ما يعترض
لهم من العقوبات و التهويلات، لكان أوّل فائدة يجنونها الأمن على دينهم الّذي لولاهُ لم يسعَدوا دنيا
و لا أُخرى، و سلامتهم من الضربات المعدّة له و لهم الموجّهة إليهم، و لأمكنهم أن يعيشوا بأنفسهم
– و مع الأمم – بطمأنينة و حفظ للمصالح الدّينيّة و الدّنيوية من غير أن يضربوا بسلاح، و لا يشوّشوا
على أحد، لأنّ كلّ منصف يعذرهم حيث سعَوْا لحفظ كيانهم و دفع الظلم عنهم بكلّ طريق،
و هو حقّ يدلي به القويّ و الضّعيف، ثمّ يسعونَ في الإستعداد الكافي لمُقاومَة المُعتَدينَ.
فلو جعل الرُّؤساء هذا الأمر الواجب قبلة قلوبهم و جُلَّ مقصدهم، و حصلَ البحثُ التّامّ في كيفيّة الوُصول
إلى هذا المقصَد، و من أيّ طريق ينفُذُ و رَجَوْا عواقبه الحميدة لرَأَوْا من آثاره خيرا كثيراً .
فنرجو الله أن يوفّق جميع المسلمين في أقطار الأرض كلّها للقيام بدينهم حقّ القيام، و أن يكونوا يدا
واحدةً على من ناوأهم و اعتدى عليهم ، و أن ييسّر لهم الأسباب النّافعة، و يزيل عن قلوبهم – الهمّ –
الذي استولى على أكثرهم.
فلو نظروا بأعينهم لبعض الأمم الصّغيرة الّتي عملت لوحدة مصالحها الخاصّة كيفَ عاشَت مع الأمم
القويّة حتّى سادتهم في حفظِ الحقوق و النّظام و المصالح، خصوصا في هذا الوقت العصيب الذي وقع
فيه التّفاني بين أكبر قوّة في العالم مع نظيراتها، و كلّ واحدة منهما تُبدِئُ و تعيدُ أنّها ستُخرِجُ العالَمَ
من الظّلم و الإعتداء، و تجعل لهم نظاما جديدا من العدلِ يحفظ جميعَ الأمم، فلا علينا أن يكون هذا الكلام
منهم حقيقةً، و إنّما هو دعاية، فالمسلمون أحقّ النّاسِ كلّهم للتنبيه لهذا الأمرِ، و فيهم من الكثرة و القوّة
المستعدّة ما يؤهّلهم إلى أعلى المقامات من الإيمان و العونِ الإلاهيّ و قوّة الرّجاء، و ما في دينهم
من الدّعوة إلى كلّ إصلاح و نبذِ كلّ ضارّ .