شعب الجزائر مسلم
2012-03-26, 22:58
قال الشاطبي-رحمه الله تعالى- في "الاعتصام" :
((المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة والسلام : "أنه سيخرج من أمتي..." أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين:
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكَلَب بصاحبه فلا يرجع أبداً عن هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني : أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مُشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة، ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ،كقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :
"يمرقون من الدين... ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه" وقوله : "إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة" ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة .
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء ، فأغفل ما يكون قد هاج .
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل يجوز ذلك، والشرع إن جاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عادياً ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا انحتام الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول .
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهما ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها ، وإذا حصل تخصيص العموم بمفرد لم يبق اللفظ عاماً وحصل الانقسام .
وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها.
ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا تبين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى، استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام .
وذلك بأن يكون في الفرقة الواحدة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك .
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج، بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ، ومنه هؤلاء الذين أغرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه ، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم .
، ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .
ومنه مذهب الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه.
وعلى ذلك نقول :
إن من خرج عن الفرق ببدعة وإن كانت جزئية، فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضاً تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبّه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعةً من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغه ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أحد أمرين :
إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها الموالاة والمعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ،أو لا ينتصب للدعاء إليها.
ووجه ذلك: أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغاً عظيماً ، بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصرَه وأصمت سمعه،واستولت على كليته، وهي غاية المحبة .
ومن أحب شيئاً هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكته اهتدى إليها، فهي مدخرة في خزانة حفظه، يحكم بها على من وافق أو خالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة الإنكار ، أو القيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره،لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العربي في "العواصم" قال : "أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : {الرحمن على العرش استوى} قال لي أخصهم : فرأيت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد! قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأجحروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها، ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدارئة فسكنوا ثورانهم" .
فهذا أيضاً من قبيل من أشرب قلبه حب البدعة، حتى أداهم ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ، حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعد من ذلك الحزب .
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك، فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أعينهم حَمَلة السنة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما .
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها أن يناصب هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه، كالمثال في الحديث ، وكم من أهل البدع لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جداً ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهاراً كما فعل غيرهم ، ومنهم من يُعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق))اهـ . __________________
((المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة والسلام : "أنه سيخرج من أمتي..." أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين:
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكَلَب بصاحبه فلا يرجع أبداً عن هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني : أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مُشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة، ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ،كقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :
"يمرقون من الدين... ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه" وقوله : "إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة" ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة .
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء ، فأغفل ما يكون قد هاج .
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل يجوز ذلك، والشرع إن جاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عادياً ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا انحتام الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول .
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهما ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها ، وإذا حصل تخصيص العموم بمفرد لم يبق اللفظ عاماً وحصل الانقسام .
وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها.
ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا تبين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى، استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام .
وذلك بأن يكون في الفرقة الواحدة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك .
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج، بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ، ومنه هؤلاء الذين أغرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه ، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم .
، ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .
ومنه مذهب الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه.
وعلى ذلك نقول :
إن من خرج عن الفرق ببدعة وإن كانت جزئية، فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضاً تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبّه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعةً من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغه ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أحد أمرين :
إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها الموالاة والمعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ،أو لا ينتصب للدعاء إليها.
ووجه ذلك: أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغاً عظيماً ، بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصرَه وأصمت سمعه،واستولت على كليته، وهي غاية المحبة .
ومن أحب شيئاً هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكته اهتدى إليها، فهي مدخرة في خزانة حفظه، يحكم بها على من وافق أو خالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة الإنكار ، أو القيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره،لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العربي في "العواصم" قال : "أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : {الرحمن على العرش استوى} قال لي أخصهم : فرأيت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد! قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأجحروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها، ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدارئة فسكنوا ثورانهم" .
فهذا أيضاً من قبيل من أشرب قلبه حب البدعة، حتى أداهم ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ، حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعد من ذلك الحزب .
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك، فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أعينهم حَمَلة السنة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما .
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها أن يناصب هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه، كالمثال في الحديث ، وكم من أهل البدع لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جداً ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهاراً كما فعل غيرهم ، ومنهم من يُعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق))اهـ . __________________