المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحب في زمن...الزهايمر


ناصر80
2012-03-25, 18:02
أواخر شهر نوفمبر كعادتها تحمل أطنانا من الأحزان و الدموع فتفرغها على المدن و القرى و الأحياء، تترك آهاتها في كل منعرج و خلف كل شجرة و في حضن كل سفح كأنها لا تحل كل سنة إلا لتذكر الإنسان بأقوى الأحاسيس و أعمقها و أصدقها على الإطلاق، إنه الحزن.
الكتابة في هذه الفترة من السنة حاجة ملحة، نداء تصعب مقاومته، إنها الشعاع الدافئ الوحيد الذي يمكن الفرار إليه من البرودة، برودة في كل شيء، حتى الوجوه باردة و الكلمات باردة و الهاتف إذا رنّ فكأنها ينفث صقيعا.
لقد أصبحت منذ أيام على يقين تام أن مرض أمي هو أهم سبب لهذه البرودة، هذا المرض الغريب، الغائب الحاضر، العميق الظاهر، هذا النزول البطيء المستمر إلى أعماق الظلام و الاضمحلال وسط أمواج النسيان المتلاطمة، إنه ببساطة قطع الصلة مع الحياة ليتحوّل الإنسان إلى خيال لذاته أو مجرد ذكرى يثيرها ذلك الجسد الهزيل الذي فقد كل شيء سوى نظرة الحنان و ابتسامة العطف و الأمل.
الحديث حول الزهايمر حديث حول الموت، اليأس، المعاناة، ثم إرجاع الامور إلى مشيئة الله تعالى و التعزي بكونه أمرا خارجا عن قدرتنا و لا سبيل لنا إلى تغيير الوضع، هذا المرض يعلمنا أن قيمة الأشخاص ليست أبدا في مظاهرهم و لا حتى في أقوالهم و تصرفاتهم بل فيما نحمله لهم من مودة و اعتراف بالفضل ذلك لأنه يسلبهم المظاهر و يجعلهم لا يتحكمون في أقوالهم و تصرفاتهم لكن رغم ذلك تبقى صلتنا بهم قوية و تعلقنا بهم شديدا لأن المرض لا يسلب منا الذكريات و لا يشوه ما كان في الماضي من حب و إحسان.
نتعلم من التعامل مع مريض الزهايمر أن نتعلق بأبسط الأشياء و نعطيها قيمة كبيرة، أن نبحث عن كوة أمل و لو صغيرة علّها تبدد ظلمات اليأس المتراكمة، نبحث عن أقل رابطة تربطنا به و تربطه بالحياة و كأننا نرفض الاستسلام لهذا الجبار المستبد الذي يحول بيننا و بين بناء تجارب جديدة مع من نحب لتكون ذكريات في مستقبل الأيام.
يعلمنا الزهايمر أهمية الوقت الذي قضيناه مع من نحب، تلك الأيام الخوالي التي لم نعرف يوما قيمتها و نحن نستمتع بها، لم نفكّر يوما في الحظ الذي أوتي لنا، لكن اليوم أكتشف هذا بعد فوات الاوان، لقد ضيعنا فرصا كثيرة للسعادة، فرصا كثيرة لنعبر لذلك الشخص عن حبّنا و ننعم بقربه أطول وقت ممكن، يذكرني هذا بوداع الكاتب الشهير غابريال غارسيا ماركيز الذي أدرك أنه يعيش آخر أيام حياته بسبب المرض ففهم أهمية الماضي و دعا غلى اغتنام الفرص مادامت سانحة للتعبير عن عواطفنا اتجاه الأشخاص المحيطين بنا قبل أن يصبح ذلك مستحيلا. الندم هنا شعور حتمي لا مفر منه عن كل لحظة مرت او دقيقة ضاعت و لم نقضها في أحضان الأهل.
عندما أقضي يوما كاملا مع أمي تنتابني في آخر النهار حالة من الكآبة و الإحباط لدرجة لا أقوى على الكلام و أفقد كل رغبة في الخروج أو رؤية أحد، فأغرق في صمت رهيب و أنعزل عن كل ما يحيط بي، أشعر أن وتيرة الحياة قد تراجعت عندي و أعيش بذلك لحظات شبيهة بتلك التي تعيشها هي على الدوام، إنها تجربة غريبة و مريرة، أقضي وقتي جالسا بجانبها أستمع غلى هذيانها او تكتفي بالنظر إليّ كمن يحاول الإفصاح عن شيء لكن لسانه يخونه و ذاكرته لا تسعفه.
أفكر في كل هذا و أنا جالس خلف مكتب حراسة الاختبارات أو فلنقل حراسة السجن، أو فلنسمي هذا مقاومة الغش، كيف لا و نحن نلمس هذه الصورة البشعة التي تشكلت لدى المتعلمين حول المؤسسة التعليمية و نشعر أننا نجبرهم على الحضور كل صباح، نجبرهم على العمل، على المشاركة ، على النجاح، نعم حتى النجاح أصبح إجباريا و رغما عنهم، فما أشبههم اليوم بسلعة كاسدة تتقاذفها المؤسسات من مستوى إلى آخر حتى ينتهي بهم المطاف في الشوارع أو في سوق العمل التي لا تملك من مقومات العمل و النشاط سوى الاسم.