تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ماذا يعني أدب الاعتذار وما جدواه؟


النايلي01
2009-01-01, 23:34
منذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أخذ المجتمع السياسي العالمي يعمل ليعطي عن نفسه صورة مجتمع تسوده قيم أخلاقية ويتعامل فيما بينه بأساليب حضارية.

إن المجتمع السياسي الراهن يعمل لترجيح أسلوب الحوار على نزوعات العنف والحرب، ويتطلع إلى إشاعة التفاهم والتعاون، وتوفير شروط التسامح والمصالحة بين فصائله، والتخفيف من حدة التوترات بين النظم والأمم والشعوب، والسعي إلى تجاوز الأزمات المعقدة، وتيسير أسباب التواصل لإطفاء نارها.

والمطلوب من الإنسان الحضاري في عالم اليوم أن يكون ذلك الذي يعفو عند المقدرة، ويصفح عمّن ظلمه، ويصبر على المكاره، وينسى ولا يحقد، ويقدم الاعتذار لمن آذاه، ويقبل برحابة صدر عذر من اعتذر إليه.

وهذه الأخلاقيات ليست جديدة لأن الديانات السماوية دعت إليها منذ قرون خلت، مما جعل منها ديانات رحمة كما قال القرآن عن موسى، وديانات محبة كما اشتهرت به رسالة المسيح الذي نصح بأن لا يُرد على العدوان بمثله، وأن يُعطي من ضُرِب على خدّه الأيمن خدّه الأيسر للضرب في تسامح مثالي، وديانة سماحة وتسامح وسلام، وهي القيم الإسلامية التي جاء بها الإسلام وطبقها المسلمون في تعاملهم مع الذات والآخر، وأشاد الله بها في قوله تعالى عن المتقين الموعودين بالجنة وذكر من بينهم «الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس» (سورة آل عمران 134)، وجاءت في القرآن آيات تحدثت عن أدب الاعتذار وما يحسن قبوله منه. وهو الاعتذار الصادق الذي يعني أن من يقدمه قد راجع حساباته وتعرف على أخطائه، وأنه بتقديم اعتذاره مصمم على عدم العودة إلى ما اعتذر عنه، كما تحدث القرآن أيضا عن الاعتذارات المرفوضة التي تصدر عن المنافقين الذين لا يجهرون بما يُسِرّون، وتكون لغة اعتذارهم مزدوجة أو تتسع لأكثر من معنى. وبعبارة أخرى، هذا النوع من الاعتذارات لا ينمُّ عن صدق المعتذِر ولا يكشف ما طرأ عليه من تحول ناتج عن مراجعة أخطائه والحكم عليها بموضوعية ونزاهة، والتصميم على عدم العودة إلى ارتكابها.

وهكذا يكون أدب الاعتذار قديما وليس من إبداعات القرنين السابق والراهن. مثلما أن ضوابط أدب الاعتذار وقبوله قديمة.

ومن حق أي ناقد أن يتساءل: وماذا ينفع الاعتذار بعد وقوع الأذى وفوات الأوان، لأن الواقع لا يرتفع والاعتذار لا يمحوه؟ وماذا يستفيد منه المعتذَر إليه سوى أن يستمع إليه ويبقى غير مطمئن إلى صدقه؟ وهو ما قد يوقظ الذاكرة النائمة ويشدها من جديد إلى وقائع الحدث المعتذَر عنه ويعمق الجروح التي قد يكون تراكم السنين قد عمل على تضميدها. ومن هنا فإن ما هو أكبر وأفضل من الاعتذار هو صيغة الاعتذار وقالَبه وتشكيله. فإذا ما وقع الإخلال في هذه الأشكال يصبح الاعتذار ناقصاً عديم الجدوى وقاصراً عن تحقيق غرضه. أي أنه يصبح لا اعتذارا.

سنتحدث فيما يلي عن أربع حالات لأدب الاعتذار جرت في الأسابيع الأخيرة ولها نظائر عديدة لا يتسع حجم هذا المقال لذكرها.

الحالة الأولى الاعتذار الذي صدر عن وزارة الخارجية الإنجليزية في تقرير جاء فيه أن إنجلترا تأسف لمسؤوليتها التاريخية عن إصدارها سنة 1917 وعد بلفور القاضي بمنح أرض فلسطين لليهود ليقيموا عليها موطناً قومياً (حسب النص الرسمي) أي الوطن الذي أقامت إسرائيل عليه دولتها.

والملاحظ أن هذا التصريح القصير شكلاً اقتصر على إبداء الأسف ولم يَرْقَ إلى مستوى الاعتذار ولم يتوجه التقرير به إلى مخاطَب معين. وكان يمكن على الأقل أن يُعرب للعرب وشعب فلسطين عن هذا الأسف. وبذلك فهذا الأسف لا يعدو أن يكون خطابَ أو مناجاةَ الذات أوحت به بعد ما يقرب من تسعين سنة وخزة الضمير التي لا يعتريها التقادم.

واقتصار هذا التقرير على الإعراب عن الأسف مع استمرار إنجلترا في دعمها وحمايتها للغاصب الإسرائيلي وممارسة سياسة التبعية للولايات المتحدة في تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل لا يعني إلا أن هذا الأسف نوع من لغو القول، أو من باب البلاغات الإنشائية التي تُفْرِغ خُلُق الأسف من مضمونه ومحتواه.

حالة الاعتذار الثانية جاءت على لسان «موشي قصاب» رئيس إسرائيل وهو في زيارة لإحدى عواصم أوروبا عندما قال: «إنه يأسف ويعتذر عن سقوط قتلى فلسطينيين مدنيين، وإصابة بعضهم من خلال القصف الإسرائيلي. وأن إسرائيل لا تفعل ذلك إلا خطأ وعن غير قصد».

والملاحظة الأولى على هذا التصريح صدوره من رئيس لا يخوّله الدستور الإسرائيلي إلا مسؤولية التمثيل المظهري للدولة، ولا يُشركه في قرار، ولا يملك أن ينطق باسم الحكومة. فهو بكلمة واحدة شخص غير مسؤول تبرع بما لا يملك وما يعجز عن عطائه.

والملاحظة الثانية أن هذا الأسف صدر عن شخص ينتمي إلى حزب العمل الإسرائيلي الذي كان زعيمه «بيلعازر» يمسك بحقيبة وزارة الدفاع وكان يشرف على عمليات «الخطأ غير المقصود»، وظل يرتكب الخطأ إلى أن حصد الفشل وخرج من حكومة الوحدة مضطراً للانسحاب منها على رأس الفريق الوزاري العمالي. ثم فشل في المنافسة على رئاسة الحزب. ولعله أنهى حياته السياسية وسيدخل في طي النسيان هو وزميله المراوغ شيمون بيريز.

وكان الأولى بوزير الدفاع العمالي «بيلعازر» أن يتولى هو نفسه الإعراب عن أسفه ويقدم اعتذاره للشعب الفلسطيني. وإذ لم يفعل ذلك فهو يعترف ضمناً وبسكوته الفصيح بأن ضميره لم يستيقظ للندم عما ارتكبه ـ قصداً وبتصميم بحق الفلسطينيين ـ في عهده من مجازر ومذابح وتقتيل وتجويع وإعاقة وتشويه.

وجاءت حالة الاعتذار الثالثة من الرئيس جورج بوش الذي نطق بتصريحات في حق الإسلام في لحظات الغضب والألم مباشرة بعد تحطيم البرجين وصلت إلى حد إثارته مرجعية الحرب الصليبية، ورتب عليها تدابير لا قانونية اتخذها الأمن الأميريكي ضد المواطنين الأميريكيين المدنيين المسلمين، واعتُبِرت سُبّة وعاراً في تاريخ الولايات المتحدة. لكن الرئيس لم يلبث أن راجع هذه السياسة بما جاء عنه من أقوال تصحيحية عن الإسلام كلها إنصاف وتمجيد، وبقيامه بالزيارات التي والاها للمركز الإسلامي بواشنطن، وبالاستضافات الكريمة لزعماء المسلمين الأميريكيين في المناسبات الإسلامية، وأخيراً بخطبه المشحونة بالكرم التي وجهها الى المسلمين بمناسبة شهر رمضان وعيد الفطر. ومن حقه علينا أن نعترف له بهذه الالتفاتات الطيبة التي جمع فيها بين لسان المقال ولسان الحال. لكن يبقى من حقنا عليه أن تكون أقواله ركيزة ثابتة للعودة إلى التعامل مع العالم الإسلامي بروح المودة والتعاون. وهو ما يرغب فيه العالم الإسلامي نفسه وينتظر منه إعطاء الإشارات للعودة إليه، ابتداء من معالجة مشكل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة، وانتهاء إلى الضغط على إسرائيل لحملها على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة سواء في فلسطين، أو سوريا، أو لبنان.

أما حالة الاعتذار الرابعة، فهي اعتذار الرئيس صدام حسين عن اكتساح تراب دولة الكويت العربية شقيقة العراق، واحتلال أرضها، وتدمير منشآتها، وترحيل حكومتها إلى المنفى، وما واكب وتلا ذلك من مآسي. وقد جاءت فقرات الاعتذار في خطاب الرئيس مفاجِئة للجميع بما في ذلك الشعبان العراقي والكويتي. كما جاءت مؤكدة اتجاه النظام العراقي إلى إحداث تغيير في عقليته وسلوكه، وسعيه إلى تصحيحه للأخطاء المرتكبة. وهي شجاعة يُهنّأ الرئيس العراقي على المبادرة الى ممارستها على الذات، وينبغي أن تسجل له.

بيد أن خطاب اعتذار الرئيس العراقي لم يُرضِ الكويت لخلوه من الاعتذار للحكومة الشرعية، ولأنه ـ على حد قول الوزراء الكويتيين ـ كان تحريضاً مباشراً للشعب الكويتي على الثورة على حكامه، ولأن عبارات الاعتذار كانت محسوبة وحمالة أوجه، ولأن العراق لم يذكر فيها بصراحة أن الكويت دولة مستقلة ذات سيادة، وأنها ليست كما كان يقول عنها «المقاطعة العراقية السابعة عشرة»، وملاحظات أخرى كثيرة عددها خطاب الكويت الرسمي.

ونعود إلى الاعتذار الذي يُعتبر أدباً (وسميناه بهذا الاسم) لنقول إنه يجب أن تتوفر له عناصر صدق القول، وصراحة الخطاب، وخلو صيغته من الالتباس والخلط بين المواضيع التي قد يكون بعضها مثيراً عند المعتذَر إليه حساسية وتشنجاً، ليكون بذلك وبغيره من الصفات الأخلاقية خطاباً بليغاً، أي بالغاً قصدَه من السامع. فالبلاغة ـ كما يعرِّفها البلاغيون ـ هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي مطابقة كلام المتكلّم (صاحب الخطاب) لمقتضى حال المخاطَب، أي السامع الموجَّه إليه الخطاب. لا أن يكون خطاباً صادماً مستفزاً يزيد الطين بلة والجرح إيلاماً، خطاباً لا يكون العذر فيه أكبر من الزلّة على حد القول المنسوب لهارون الرشيد الذي داعبه أبو نواس مداعبة بذيئة فأنكر عليه دُعابته واعتذر شاعر القصر بأنه إنما ظن هارون الرشيد زوجته زبيدة، فأنكر هارون عليه مقولته وقال: «العذر أكبر من الزلة».

وإذا لم يقدر من ينوي تقديم الاعتذار على توفير هذه الشروط الأساسية لخطابه فلْيعْدِل عن الكلام، وليلازم الصمت، تأسِّياً بما قاله شاعر العرب أبو الطيب المتنبي مخاطِبا سيف الدولة:

وفي النفس حاجاتٌ وفيك فَطانةٌ

سكوتي بيانٌ عندها وخطاب

وتقول الحكمة العربية: «رب سكوت أبلغ من كلا

زوفـــري
2009-01-01, 23:37
عييت نقرا نص نتاعك

yasminemed
2009-01-01, 23:43
ماشاء الله موضوع رائع

النايلي01
2009-01-02, 10:28
الحمد الله انه نال اعجابكم

mechyas
2009-01-13, 00:24
:dj_17:اهنئك على الموضوع الرائع:19:

laial
2009-01-13, 14:54
شكراااا على الموضوع القيم من الجميل انك تعتذر لكن في بعض الاوقات نحن نعتذر على اشياء مو من الضروري نعتذر عليها ليش .....لانو الضمير ضعيف للغاية بس الي تعتذرلو لازم يستاهل انك تعتذرلو ...انا اطرح هاد عليكم لانو انا ساعات نعملها وبعدها نفكر بلي عملتو

نور المنتديات
2009-01-20, 12:26
مشكووووووووور أخي النايلي موضوع راااااااااااائع

أريج_1
2009-01-20, 12:27
مشكور على الموضوع الرائع

سلاف26
2009-01-20, 12:35
والمطلوب من الإنسان الحضاري في عالم اليوم أن يكون ذلك الذي يعفو عند المقدرة، ويصفح عمّن ظلمه، ويصبر على المكاره، وينسى ولا يحقد، ويقدم الاعتذار لمن آذاه، ويقبل برحابة صدر عذر من اعتذر إليه.

مشكور على الموضوع أخي بولرباح

ابوانس 22
2009-01-20, 14:22
الاعتذار لا يصدر الا من نفس شجاعة
وحتى ان كان الاعتذار بعد فوات الاوان ....و يكون الذي حصل قد حصل
الا انه يلئم الجروح المعنوي ونفسي

بوركـت

وشَـ،ـآحْ الـصـِـبـآا
2009-01-22, 16:05
موضوع مميز.............أحمد الصمت حين لا يحسن الكلام

النايلي01
2009-01-23, 10:52
شكرا على مروركم الذي نور الصفحة
اخوكم الحدي عماد