ابو إبراهيم
2008-12-25, 14:01
-قال -رحمه الله - :
( لا ريب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال ، فسمى نفسه بالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر .. إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى ، ووصف نفسه بما ذكره من الصفات كسورة الإخلاص وأول الحديد وأول طه وغير ذلك ، ووصف نفسه بأنه يُحب ويكره ويمقت ويرضى ويغضب ويأسف ويسخط ويجيء ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا وأنه استوى على عرشه وأن له علمًا وحياة وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا ووجهًا ، وأن له يدين وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل بالأمر من عنده وأنه قريب وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين وأن السموات مطويات بيمينه .
ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك وأن قلوب العباد بين أصابعه ، وغير ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله .
فيقال للمتأول : هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره وتمنع حمله على حقيقته ؟ أم تُـقر الجميع على ظاهره وحقيقته ؟ أم تفرق بين بعض ذلك وبعضه ؟
فإن تأولتَ الجميع وحملته على خلاف حقيقته ، كان ذلك عنادًا ظاهرًا وكفرًا صراحًا وجحدًا للربوبية ، وحينئذ فلا تستقر لك قدم على إثبات ذات الرب تعالى ، ولا صفة من صفاته ، ولا فعل من أفعاله ، فإن أعطيت هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقت بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يُثبتون للعالم خالقًا ولا ربًـا .
فإن قلتَ : بل أثبتُ أن للعالم صانعًا وخالقًا ، ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه ، وحيث وُصف بما يقع على المخلوق أتأوله .
قيل لك : فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه ، هل تدل على معانٍ ثابتة هي حق في نفسها أم لا تدل ؟
فإن نفيتَ دلالتها على معنى ثابت ؛كان ذلك غاية التعطيل . وإن أثبتَ دلالتها على معانٍ هي حق ثابت ، قيل لك : فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض ؟ وما الفرق بين ما أثبته ونفيته وسكت عن إثباته ونفيه من جهة السمع أو العقل ؟
ودلالة النصوص على أن له سمعًا وبصرًا وعلمًا وقدرة وإرادة وحياة وكلامًا ؛ كدلالتها على أن له رحمة ومحبة وغضبًا ورضىً وفرحًا وضحكًا ووجهًا ويدين ، فدلالة النصوص على ذلك سواء ، فلمَ نفيتَ حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتها بنفس الإرادة ؟
فإن قلت : لأن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيهًا وتجسيمًا ، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم ، فإنها لا تُعقل إلا في الأجسام ، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان ، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها ، والغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام ، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسره عليه .
قيل لك : وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها ، وكذلك جميع ما أثبتَه من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد ، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم أو صفة عرضية قائمة به ، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف ، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟!
فإن قلت : لأني أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشابهها .
قيل لك : فهلا أثبتَ الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها ؟! ولم فهمت من إطلاق هذا : التشبيه والتجسيم ، وفهمت من إطلاق ذلك : التنزيه والتوحيد ؟ وهلاّ قلتَ : أثبتُ له وجهًا ومحبة وغضبًا ورضىً وضحكًا ليس من جنس صفات المخلوقين ؟
فإن قلتَ : هذا لا يعقل .
قيل لك : فكيف عقلت سمعًا وبصرًا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين ؟
فإن قلتَ : أنا أفرق بين ما يُتأول وبين ما لا يُتأول بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله ؛ كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر ، وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله ؛ كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى ، فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل ، وإحكامه دل على علمه ، والتخصيص دل على الإرادة .. فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل .
قيل لك : أولاً : وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء ، والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاجتباء دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة ، والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض كدلالة ضده على الحب والرضى ، والعقوبة والبطش والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى .
ويقال ثانيًا : هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها ، فإنه لا ينفيها ، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل ، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله ؟
ويقال لك ثالثًا : إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيهًا أو تجسيمًا ، فهو يقتضيه في الجميع ، فأوّل الجميع ، وإن كان لا يقتضي ذلك ، لم يجز تأويل شيء منه ، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طولبت بالفرق بين الأمرين ، وعادت المطالبة جَذَعـًا !
ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال : ما دل عليه الإجماع ؛ كالصفات السبع لا يُتأول ، وما لم يدل عليه إجماع فإنه يُتأول .
وهذا من أفسد الفروق ، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل على التجسيم والتشبيه ، ولولا ذلك لتأولناه ، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم
، وهذا قدح في الإجماع ؛ فإنه لا ينعقد على باطل .
ثم يقال : إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصفات ، وظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه ، بطل نفيكم لذلك ، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به .
ثم يقال : خصومكم من المعتزلة لم يُجمعوا معكم على إثبات هذه الصفات .
فإن قلتم : انعقد الإجماع قبلهم .
قيل : صدقتم والله ، والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصفات أجمعوا على إثبات سائر الصفات ، ولم يخصوها بسبع ، بل تخصيصها بسبع خلاف قول السلف ، وقول الجهمية والمعتزلة ، فالناس كانوا طائفتين : سلفية وجهمية ، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولاً بين القولين ، فلا للسلف اتبعوا ، ولا مع الجهمية بقوا .
وقالت طائفة أخرى : ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض ؛ كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يُتأول ، وما كان ظاهره جوارح وأبعاض ؛ كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع فإنه يتعين تأويله ؛ لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم .
فيقال لهم : جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات ، فإنهم قالوا لكم : لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلاً للأعراض ، ولزم التركيب والتجسيم والانقسام ، كما قلتم : لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام ، فحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به !
فإن قلتم : نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضًا ولا نسميها أعراضًا ، فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيمًا .
قيل لكم : ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه - ونفيتموها أنتم عنه - على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ، ولا يُسمى المتصف بها مركبًا ولا جسمًا ولا منقسمًا .
فإن قلتم : هذه لا يُعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض .
قلنا لكم : وتلك لا يُعقل منها إلا الأعراض .
فإن قلتم العرَض لا يبقى زمانين ، وصفات الرب باقية قديمة أبدية ، فليست أعراضًا .
قلنا : وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها وانفكاكها ، وذلك في حق الرب تعالى محال ، فليست أبعاضًا ولا جوارح، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقًا في النوعين ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .
فإن قلتم : إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال ، وإن كان غيره لزم التمييز ويلزم التركيب .
قلنا لكم : وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال ، وإن تميزت لزم التركيب ، فما هو جواب لكم ، فالجواب مشترك .
فإن قلتم : نحن نعقل صفات ليست أعراضًا تقوم بغير جسم متحيز ، وإن لم يكن لها نظير في الشاهد .
قلنا لكم : فاعقلوا صفات ليست بأبعاض تقوم بغير جسم ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير ، ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة ، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين ، وأن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه .
ولما أخذ هذا الإلزام بحلوق الجهمية قالوا : الباب كله عندنا واحد ، ونحن ننفي الجميع .
فتبين أنه لا بد لكم من واحد من أمور ثلاثة :
1- إما هذا النفي العام والتعطيل المحض .
2- وإما أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ، ولا تتجاوزوا القرآن والحديث ، وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الماضين ، الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفيًا وإثباتًا ، وأشد تعظيما لله وتنزيهًا له عمّا لا يليق بجلاله ، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا يترك تدبرها ومعرفتها ف، يكون ذلك مشابهة للذين إذا ذُكروا بآيات ربهم خروا عليها صمًا وعميانًا ، ولا يقال : هي ألفاظ لا تُعقل معانيها ، ولا يُعرف المراد منها ، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها ، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان ، إثباتًا بلا تشبيه ، وتنزيهًا بلا تعطيل ، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك ، فكان الباب عندهم بابًا واحدًا ، قد اطمأنت به قلوبهم ، وسكنت إليه نفوسهم ، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون ، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون ، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات ، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات ، فصفاته لا تشبه الصفات ، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم ؛ تلقوه بالقبول ، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار ؛ لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته ، قال الإمام أحمد : " إنما التشبيه أن تقول يد كيد أو وجه كوجه ، فأما إثبات يد ليست كالأيدي ووجه ليس كالوجوه ، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات ، وحياة ليست كغيرها من الحياة ، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار " .
فليس إلا هذا المسلك ، أو مسلك التعطيل المحض ، أو التناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ولا في الإثبات ، وبالله التوفيق ) . ( مختصر الصواعق 1/42-50 ) .
------- يتبع ان شاء الله -- *** نقله للفائدة -اخوكم ابو ابراهيم ***
( لا ريب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال ، فسمى نفسه بالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر .. إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى ، ووصف نفسه بما ذكره من الصفات كسورة الإخلاص وأول الحديد وأول طه وغير ذلك ، ووصف نفسه بأنه يُحب ويكره ويمقت ويرضى ويغضب ويأسف ويسخط ويجيء ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا وأنه استوى على عرشه وأن له علمًا وحياة وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا ووجهًا ، وأن له يدين وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل بالأمر من عنده وأنه قريب وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين وأن السموات مطويات بيمينه .
ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك وأن قلوب العباد بين أصابعه ، وغير ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله .
فيقال للمتأول : هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره وتمنع حمله على حقيقته ؟ أم تُـقر الجميع على ظاهره وحقيقته ؟ أم تفرق بين بعض ذلك وبعضه ؟
فإن تأولتَ الجميع وحملته على خلاف حقيقته ، كان ذلك عنادًا ظاهرًا وكفرًا صراحًا وجحدًا للربوبية ، وحينئذ فلا تستقر لك قدم على إثبات ذات الرب تعالى ، ولا صفة من صفاته ، ولا فعل من أفعاله ، فإن أعطيت هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقت بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يُثبتون للعالم خالقًا ولا ربًـا .
فإن قلتَ : بل أثبتُ أن للعالم صانعًا وخالقًا ، ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه ، وحيث وُصف بما يقع على المخلوق أتأوله .
قيل لك : فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه ، هل تدل على معانٍ ثابتة هي حق في نفسها أم لا تدل ؟
فإن نفيتَ دلالتها على معنى ثابت ؛كان ذلك غاية التعطيل . وإن أثبتَ دلالتها على معانٍ هي حق ثابت ، قيل لك : فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض ؟ وما الفرق بين ما أثبته ونفيته وسكت عن إثباته ونفيه من جهة السمع أو العقل ؟
ودلالة النصوص على أن له سمعًا وبصرًا وعلمًا وقدرة وإرادة وحياة وكلامًا ؛ كدلالتها على أن له رحمة ومحبة وغضبًا ورضىً وفرحًا وضحكًا ووجهًا ويدين ، فدلالة النصوص على ذلك سواء ، فلمَ نفيتَ حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتها بنفس الإرادة ؟
فإن قلت : لأن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيهًا وتجسيمًا ، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم ، فإنها لا تُعقل إلا في الأجسام ، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان ، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها ، والغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام ، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسره عليه .
قيل لك : وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها ، وكذلك جميع ما أثبتَه من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد ، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم أو صفة عرضية قائمة به ، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف ، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟!
فإن قلت : لأني أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشابهها .
قيل لك : فهلا أثبتَ الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها ؟! ولم فهمت من إطلاق هذا : التشبيه والتجسيم ، وفهمت من إطلاق ذلك : التنزيه والتوحيد ؟ وهلاّ قلتَ : أثبتُ له وجهًا ومحبة وغضبًا ورضىً وضحكًا ليس من جنس صفات المخلوقين ؟
فإن قلتَ : هذا لا يعقل .
قيل لك : فكيف عقلت سمعًا وبصرًا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين ؟
فإن قلتَ : أنا أفرق بين ما يُتأول وبين ما لا يُتأول بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله ؛ كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر ، وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله ؛ كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى ، فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل ، وإحكامه دل على علمه ، والتخصيص دل على الإرادة .. فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل .
قيل لك : أولاً : وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء ، والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاجتباء دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة ، والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض كدلالة ضده على الحب والرضى ، والعقوبة والبطش والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى .
ويقال ثانيًا : هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها ، فإنه لا ينفيها ، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل ، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله ؟
ويقال لك ثالثًا : إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيهًا أو تجسيمًا ، فهو يقتضيه في الجميع ، فأوّل الجميع ، وإن كان لا يقتضي ذلك ، لم يجز تأويل شيء منه ، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طولبت بالفرق بين الأمرين ، وعادت المطالبة جَذَعـًا !
ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال : ما دل عليه الإجماع ؛ كالصفات السبع لا يُتأول ، وما لم يدل عليه إجماع فإنه يُتأول .
وهذا من أفسد الفروق ، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل على التجسيم والتشبيه ، ولولا ذلك لتأولناه ، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم
، وهذا قدح في الإجماع ؛ فإنه لا ينعقد على باطل .
ثم يقال : إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصفات ، وظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه ، بطل نفيكم لذلك ، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به .
ثم يقال : خصومكم من المعتزلة لم يُجمعوا معكم على إثبات هذه الصفات .
فإن قلتم : انعقد الإجماع قبلهم .
قيل : صدقتم والله ، والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصفات أجمعوا على إثبات سائر الصفات ، ولم يخصوها بسبع ، بل تخصيصها بسبع خلاف قول السلف ، وقول الجهمية والمعتزلة ، فالناس كانوا طائفتين : سلفية وجهمية ، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولاً بين القولين ، فلا للسلف اتبعوا ، ولا مع الجهمية بقوا .
وقالت طائفة أخرى : ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض ؛ كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يُتأول ، وما كان ظاهره جوارح وأبعاض ؛ كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع فإنه يتعين تأويله ؛ لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم .
فيقال لهم : جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات ، فإنهم قالوا لكم : لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلاً للأعراض ، ولزم التركيب والتجسيم والانقسام ، كما قلتم : لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام ، فحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به !
فإن قلتم : نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضًا ولا نسميها أعراضًا ، فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيمًا .
قيل لكم : ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه - ونفيتموها أنتم عنه - على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ، ولا يُسمى المتصف بها مركبًا ولا جسمًا ولا منقسمًا .
فإن قلتم : هذه لا يُعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض .
قلنا لكم : وتلك لا يُعقل منها إلا الأعراض .
فإن قلتم العرَض لا يبقى زمانين ، وصفات الرب باقية قديمة أبدية ، فليست أعراضًا .
قلنا : وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها وانفكاكها ، وذلك في حق الرب تعالى محال ، فليست أبعاضًا ولا جوارح، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقًا في النوعين ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .
فإن قلتم : إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال ، وإن كان غيره لزم التمييز ويلزم التركيب .
قلنا لكم : وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال ، وإن تميزت لزم التركيب ، فما هو جواب لكم ، فالجواب مشترك .
فإن قلتم : نحن نعقل صفات ليست أعراضًا تقوم بغير جسم متحيز ، وإن لم يكن لها نظير في الشاهد .
قلنا لكم : فاعقلوا صفات ليست بأبعاض تقوم بغير جسم ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير ، ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة ، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين ، وأن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه .
ولما أخذ هذا الإلزام بحلوق الجهمية قالوا : الباب كله عندنا واحد ، ونحن ننفي الجميع .
فتبين أنه لا بد لكم من واحد من أمور ثلاثة :
1- إما هذا النفي العام والتعطيل المحض .
2- وإما أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ، ولا تتجاوزوا القرآن والحديث ، وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الماضين ، الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفيًا وإثباتًا ، وأشد تعظيما لله وتنزيهًا له عمّا لا يليق بجلاله ، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا يترك تدبرها ومعرفتها ف، يكون ذلك مشابهة للذين إذا ذُكروا بآيات ربهم خروا عليها صمًا وعميانًا ، ولا يقال : هي ألفاظ لا تُعقل معانيها ، ولا يُعرف المراد منها ، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها ، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان ، إثباتًا بلا تشبيه ، وتنزيهًا بلا تعطيل ، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك ، فكان الباب عندهم بابًا واحدًا ، قد اطمأنت به قلوبهم ، وسكنت إليه نفوسهم ، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون ، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون ، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات ، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات ، فصفاته لا تشبه الصفات ، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم ؛ تلقوه بالقبول ، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار ؛ لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته ، قال الإمام أحمد : " إنما التشبيه أن تقول يد كيد أو وجه كوجه ، فأما إثبات يد ليست كالأيدي ووجه ليس كالوجوه ، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات ، وحياة ليست كغيرها من الحياة ، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار " .
فليس إلا هذا المسلك ، أو مسلك التعطيل المحض ، أو التناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ولا في الإثبات ، وبالله التوفيق ) . ( مختصر الصواعق 1/42-50 ) .
------- يتبع ان شاء الله -- *** نقله للفائدة -اخوكم ابو ابراهيم ***