أبو صهيب ناصر السنة
2012-02-16, 09:57
لا أدري ..!
بِقَلم فضيلة الشيخ : عبد الرّحمن بِن عبد الله السحيم .
..
كثُر قول السلف: "لا أدري " فيما لا يعلمون ، وكانوا لا يَتَحَرَّجُون مِن قول: " لا أدري "
وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُمِر أن يقول :
) مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ (
وفي حديث أُمَّ الْعَلاَءِ - رضي الله عَنها- أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا ، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ،
فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟
فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي - وَأَنَا رَسُولُ اللهِ - مَا يُفْعَلُ بِي .
قَالَتْ : فَوَ اللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا . رواه البخاري .
..
وروى الدارمي مِن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عُمر : أن رجلًا سأله عن مَسألة ، فقال : لا عِلْم لي بها ،
فلمَّا أدبر الرجل قال ابن عمر : نِعْم ما قال ابن عمر ! سُئل عمَّا لا يَعْلَم ، فقال : لا عِلْم لي به . !
..
وروى الطبراني في " الأوسط " وابن عبد البر في " جامع بيان العِلْم " مِن طريق نافع عن ابن عُمر قال : العِلْم ثلاثة : كتاب نَاطِق ، وسُنَّة ماضية ، ولا أدري . !
وروى ابن عبد البر في " جامع بيان العِلْم " مِن طريق عقبة بن مسلم قال : صَحِبْت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا ، فكان كثيرا ما يُسأل ، فيقول : " لا أدري " ، ثم يَلْتَفت إليّ ، فيقول : أتَدري ما يُريد هؤلاء ؟ يُرِيدُون أن يَجْعَلُوا ظهورنا جِسْرًا إلى جهنم!
..
قال ابن عبد البر: وذَكَر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خَرَج عليهم وهو يقول : ما أبْرَدَها على الكَبْد!
فقيل له : وما ذلك ؟ قال : أن تَقول للشيء لا تَعْلَمه : الله أعْلَم .
..
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُوسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ في قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )
قال : نَزَلَتْ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ صِيَامَ رَمَضَانَ فَيَفْتَدِي مِنْ كُلِّ يَوْمٍ بِطَعَامِ مِسْكِينٍ . قُلْتُ لَهُ : كَمْ طَعَامُهُ ؟ قَالَ : لاَ أَدْرِي ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : طَعَامُ يَوْمٍ .
..
وقال ابن عبد البر : قال ابن وَضَّاح : وسُئل سحنون : أيَسع العَالِم أن يقول : " لا أدري " فيما يَدْرِي ؟
فقال : أما مَا في كِتاب قائم أو سُنة ثابتة فلا يَسَعه ذلك ، وأما ما كان مِن هذا الرأي فإنه يَسَعه ذلك ؛ لأنه لا يَدْري أمُصِيب هو أم مُخْطِئ !
..
وروى ابن عبد البر في " جامع بيان العِلْم " مِن طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سُئل سعيد بن جبير عن شيء ، فقال : لا أعلم ، ثم قال : وَيل للذي يَقول لِمَا لا يَعْلَم : إني أعْلَم .
..
وقال : وذَكَر ابنُ وهب أيضا في كتاب " المجالس " قال : سَمِعْت مالِكًا يقول : ينبغي للعَالِم أن يَألَف فيما أشْكَل عليه قول : " لا أدري " ؛ فإنه عسى أن يُهَيَّأ له خَيْر .
..
قال الإمام مالك رحمه الله : ما شيء أشدّ عليّ مِن أن أُسْأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القَطْع في حُكْم الله ،
ولقد أدركت أهل العِلم والفقه بِبَلَدِنا وإن أحدهم إذا سُئل عن مسألة كأن الموت أشْرَف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يَشتهون الكلام فيه والفتيا ،
ولو وَقَفوا على ما يَصيرون إليه غدا لَقَلَّلُوا مِن هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعَلِيًّا وعامة خيار الصحابة كانت تَرِد عليهم المسائل - وهم خير القرن الذى بُعِث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم-
وكانوا يَجْمَعُون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويَسألون ، ثم حينئذ يُفْتُون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فَخْرهم الفُتيا ؛ فَبِقَدْر ذلك يُفْتَح لهم مِن العِلم!
..
وقال الإمام النووي في " مقدّمة المجموع" :
وروينا عن السَّلف وفُضلاء الْخَلف مِن التوقُّف عن الفُتيا أشياء كثيرة معروفة نَذْكُر مِنها أحْرُفا.
وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال : أدركت عشرين ومائة مِن الأنصار مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأل أحدهم عن المسألة فَيَرُدّها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى تَرْجِع إلى الأول .
وفي رواية : ما مِنهم مَن يُحَدِّث بِحَدِيث إلاَّ وَدّ أن أخاه كَفَاه إياه ، ولا يُسْتَفْتَى عن شئ إلاَّ وَدّ أن أخاه كَفَاه الفُتْيا ..
..
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان : إِذَا أَغْفَلَ العَالِمُ ( لاَ أَدْرِي ) أُصِيْبَتْ مَقَاتِلُهُ!
..
وعن الشافعي وقد سُئل عن مَسألة فلم يُجِب ، فقيل له ، فقال : حتى أدري أن الفَضْل في السكوت أو في الجواب .
وعن الاثرم : سَمِعت أحمد بن حنبل يُكْثِر أن يقول : لا أدري .
وعن الهيثم بن جميل : شَهِدْت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها : لا أدري .
وعن مالك أيضا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يُجِيب في واحدة منها .
وكان يقول : مَن أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يَعْرِض نفسه على الجنة والنار ، وكيف خلاصه ، ثم يُجِيب .
وسئل عن مسألة ، فقال : لا أدرى . فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ! فغضب ، وقال : ليس في العِلْم شَئ خفيف . اهـ .
..
وقال الشاطبي في " الموافقات " : قال موسى بن داود : ما رأيت أحدا مِن العلماء أكثر أن يقول: " لا أحسن " من مَالِك ، وربما سمعته يقول : " ليس نُبْتَلى بهذا الأمر ، ليس هذا بِبَلَدِنا " ، وكان يقول للرجل يسأله : اذهب حتى أنظر في أمرك ...
وسأل رجل مالِكًا عن مسألة - وذَكَر أنه أُرْسِل فيها مِن مسيرة ستة أشهر مِن المغرب - فقال له : أخبر الذي أرسلك أنه لا عِلْم لي بها . قال : ومَن يعلمها ؟ قال : مَن عَلَّمَه الله .
وسَأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب ؛ فقال : ما أدري ، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ، ولا سَمِعنا أحدًا مِن أشياخنا تكلم فيها، ولكن تَعُود فلما كان مِن الغد جاء وقد حَمَل ثقله على بَغْله يقوده ، فقال : مسألتي ! فقال : ما أدري ما هي . فقال الرجل : يا أبا عبد الله ! تَرَكْتُ خَلْفي مَن يقول : ليس على وَجه الأرض أعْلم منك . فقال مالك غير مُسْتَوحِش : إذا رَجَعْت فأخبرهم أني لا أُحْسِن .
وسأله آخر فلم يُجِبه ، فقال له : يا أبا عبد الله أجبني . فقال : ويحك ، تريد أن تَجْعَلَني حُجّة بينك وبَيْن الله ؟ فأحتاج أنا أوَّلاً أن أنظر كيف خلاصي ثم أُخَلِّصُك .
وسُئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : " لا أدري"
وسُئل مِن العراق عن أربعين مسألة ؛ فما أجاب منها إلاَّ في خَمْس ...
وقال : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يُورِث العَالِم جُلَسَاءه قَول : " لا أدري" !
وكان يقول في أكثر ما يُسأل عنه: " لا أدري" !
قال عمر بن يزيد : فقلت لِمَالِك في ذلك ؛ فقال : يَرْجِع أهل الشام إلى شامِهم ، وأهل العراق إلى عِراقهم ، وأهل مِصر إلى مِصرهم ، ثم لعلي أرجع عما أُفْتِيهم به .
قال: فأخبرت الليث بذلك ، فبكى ، وقال : مالك - والله - أقوى مِن الليث ، أو نحو هذا.
..
وسئل مَرَّة عن نَيِّف وعشرين مسألة ؛ فما أجاب منها إلاَّ في واحدة ، وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عَشر، ويقول في الباقي: " لا أدري " .
والروايات عنه في " لا أدري " ، و" لا أُحْسِن " كثيرة ؛ حتى قيل : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك " لا أدري" لَفَعل قبل أن يُجِيب في مسألة .
..
وقيل : إذا قُلت أنت يا أبا عبد الله : " لا أدري " فَمَن يَدْرِي ؟ قال : ويحك ! أعَرَفْتَنِي ؟ ومَن أنا ؟ وإيش مَنْزِلَتي حتى أَدْرِي ما لا تَدْرُون ؟
ثم أخذ يَحْتَجّ بِحَديث ابن عمر . وقال : هذا ابن عمر يقول " لا أدري " ؛ فمن أنا ؟ وإنما أهْلَك الناسَ العُجْبُ وطَلَبُ الرياسةِ ، وهذا يَضْمَحِلُّ عن قليل .
وقال مرة أخرى : قد ابْتُلِي عُمر بن الخطاب بهذه الأشياء ؛ فلم يُجِب فيها ، وقال ابن الزبير : لا أدري ، وابن عمر : لا أدري .
وسُئل مالك عن مسألة ، فقال: " لا أدري" ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سَهْلة ، وإنما أرَدْت أن أُعْلِم بها الأمير - وكان السائل ذا قَدر - فَغَضِب مالِك ، وقال : مَسألة خَفيفة سَهلة! ليس في العِلْم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : )إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً( ؛ فَالْعِلْم كُلّه ثَقيل ، وبِخَاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة .
قال بعضهم : ما سَمِعْت قطّ أكثر قَولاً مِن مالك : " لا حول ولا قوة إلا بالله "، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله: " لا أدري" ، إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ " ؛ لَفَعَلْنَا.
ولنا في أسْلافِنا أُسوة وقدوة ..
وإذا كان أسْلافُنا أكثروا مِن قول: "لا أدري" مع وَفْرة علومهم ، وسَعة فَهمهم ، وتَبَحُّرِهم في العلوم ، فينبغي أن نكون أكثر منهم في قولها ، وأجرأ على قولها ! وأن لا نأنَف مِن قَول " لا أدري " ، و " لا أعلم " ، وليس في ذلك نَقْص ولا غضاضة ، بل هو مِن كَمَال الشخص ونُبلِه .
وإنها لَتَرِد عليّ المسألة فأرْجِيها أيامًا حتى أبحث لها عن جَواب في أقوال وفتاوى ثِقات العلماء ، أو أسأل عنها بعض مشايخنا .
الرياض 11 / 1 / 1432 هـ
منقول
بِقَلم فضيلة الشيخ : عبد الرّحمن بِن عبد الله السحيم .
..
كثُر قول السلف: "لا أدري " فيما لا يعلمون ، وكانوا لا يَتَحَرَّجُون مِن قول: " لا أدري "
وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُمِر أن يقول :
) مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ (
وفي حديث أُمَّ الْعَلاَءِ - رضي الله عَنها- أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا ، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ،
فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟
فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي - وَأَنَا رَسُولُ اللهِ - مَا يُفْعَلُ بِي .
قَالَتْ : فَوَ اللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا . رواه البخاري .
..
وروى الدارمي مِن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عُمر : أن رجلًا سأله عن مَسألة ، فقال : لا عِلْم لي بها ،
فلمَّا أدبر الرجل قال ابن عمر : نِعْم ما قال ابن عمر ! سُئل عمَّا لا يَعْلَم ، فقال : لا عِلْم لي به . !
..
وروى الطبراني في " الأوسط " وابن عبد البر في " جامع بيان العِلْم " مِن طريق نافع عن ابن عُمر قال : العِلْم ثلاثة : كتاب نَاطِق ، وسُنَّة ماضية ، ولا أدري . !
وروى ابن عبد البر في " جامع بيان العِلْم " مِن طريق عقبة بن مسلم قال : صَحِبْت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا ، فكان كثيرا ما يُسأل ، فيقول : " لا أدري " ، ثم يَلْتَفت إليّ ، فيقول : أتَدري ما يُريد هؤلاء ؟ يُرِيدُون أن يَجْعَلُوا ظهورنا جِسْرًا إلى جهنم!
..
قال ابن عبد البر: وذَكَر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خَرَج عليهم وهو يقول : ما أبْرَدَها على الكَبْد!
فقيل له : وما ذلك ؟ قال : أن تَقول للشيء لا تَعْلَمه : الله أعْلَم .
..
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُوسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ في قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )
قال : نَزَلَتْ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ صِيَامَ رَمَضَانَ فَيَفْتَدِي مِنْ كُلِّ يَوْمٍ بِطَعَامِ مِسْكِينٍ . قُلْتُ لَهُ : كَمْ طَعَامُهُ ؟ قَالَ : لاَ أَدْرِي ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : طَعَامُ يَوْمٍ .
..
وقال ابن عبد البر : قال ابن وَضَّاح : وسُئل سحنون : أيَسع العَالِم أن يقول : " لا أدري " فيما يَدْرِي ؟
فقال : أما مَا في كِتاب قائم أو سُنة ثابتة فلا يَسَعه ذلك ، وأما ما كان مِن هذا الرأي فإنه يَسَعه ذلك ؛ لأنه لا يَدْري أمُصِيب هو أم مُخْطِئ !
..
وروى ابن عبد البر في " جامع بيان العِلْم " مِن طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سُئل سعيد بن جبير عن شيء ، فقال : لا أعلم ، ثم قال : وَيل للذي يَقول لِمَا لا يَعْلَم : إني أعْلَم .
..
وقال : وذَكَر ابنُ وهب أيضا في كتاب " المجالس " قال : سَمِعْت مالِكًا يقول : ينبغي للعَالِم أن يَألَف فيما أشْكَل عليه قول : " لا أدري " ؛ فإنه عسى أن يُهَيَّأ له خَيْر .
..
قال الإمام مالك رحمه الله : ما شيء أشدّ عليّ مِن أن أُسْأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القَطْع في حُكْم الله ،
ولقد أدركت أهل العِلم والفقه بِبَلَدِنا وإن أحدهم إذا سُئل عن مسألة كأن الموت أشْرَف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يَشتهون الكلام فيه والفتيا ،
ولو وَقَفوا على ما يَصيرون إليه غدا لَقَلَّلُوا مِن هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعَلِيًّا وعامة خيار الصحابة كانت تَرِد عليهم المسائل - وهم خير القرن الذى بُعِث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم-
وكانوا يَجْمَعُون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويَسألون ، ثم حينئذ يُفْتُون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فَخْرهم الفُتيا ؛ فَبِقَدْر ذلك يُفْتَح لهم مِن العِلم!
..
وقال الإمام النووي في " مقدّمة المجموع" :
وروينا عن السَّلف وفُضلاء الْخَلف مِن التوقُّف عن الفُتيا أشياء كثيرة معروفة نَذْكُر مِنها أحْرُفا.
وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال : أدركت عشرين ومائة مِن الأنصار مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأل أحدهم عن المسألة فَيَرُدّها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى تَرْجِع إلى الأول .
وفي رواية : ما مِنهم مَن يُحَدِّث بِحَدِيث إلاَّ وَدّ أن أخاه كَفَاه إياه ، ولا يُسْتَفْتَى عن شئ إلاَّ وَدّ أن أخاه كَفَاه الفُتْيا ..
..
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان : إِذَا أَغْفَلَ العَالِمُ ( لاَ أَدْرِي ) أُصِيْبَتْ مَقَاتِلُهُ!
..
وعن الشافعي وقد سُئل عن مَسألة فلم يُجِب ، فقيل له ، فقال : حتى أدري أن الفَضْل في السكوت أو في الجواب .
وعن الاثرم : سَمِعت أحمد بن حنبل يُكْثِر أن يقول : لا أدري .
وعن الهيثم بن جميل : شَهِدْت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها : لا أدري .
وعن مالك أيضا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يُجِيب في واحدة منها .
وكان يقول : مَن أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يَعْرِض نفسه على الجنة والنار ، وكيف خلاصه ، ثم يُجِيب .
وسئل عن مسألة ، فقال : لا أدرى . فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ! فغضب ، وقال : ليس في العِلْم شَئ خفيف . اهـ .
..
وقال الشاطبي في " الموافقات " : قال موسى بن داود : ما رأيت أحدا مِن العلماء أكثر أن يقول: " لا أحسن " من مَالِك ، وربما سمعته يقول : " ليس نُبْتَلى بهذا الأمر ، ليس هذا بِبَلَدِنا " ، وكان يقول للرجل يسأله : اذهب حتى أنظر في أمرك ...
وسأل رجل مالِكًا عن مسألة - وذَكَر أنه أُرْسِل فيها مِن مسيرة ستة أشهر مِن المغرب - فقال له : أخبر الذي أرسلك أنه لا عِلْم لي بها . قال : ومَن يعلمها ؟ قال : مَن عَلَّمَه الله .
وسَأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب ؛ فقال : ما أدري ، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ، ولا سَمِعنا أحدًا مِن أشياخنا تكلم فيها، ولكن تَعُود فلما كان مِن الغد جاء وقد حَمَل ثقله على بَغْله يقوده ، فقال : مسألتي ! فقال : ما أدري ما هي . فقال الرجل : يا أبا عبد الله ! تَرَكْتُ خَلْفي مَن يقول : ليس على وَجه الأرض أعْلم منك . فقال مالك غير مُسْتَوحِش : إذا رَجَعْت فأخبرهم أني لا أُحْسِن .
وسأله آخر فلم يُجِبه ، فقال له : يا أبا عبد الله أجبني . فقال : ويحك ، تريد أن تَجْعَلَني حُجّة بينك وبَيْن الله ؟ فأحتاج أنا أوَّلاً أن أنظر كيف خلاصي ثم أُخَلِّصُك .
وسُئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : " لا أدري"
وسُئل مِن العراق عن أربعين مسألة ؛ فما أجاب منها إلاَّ في خَمْس ...
وقال : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يُورِث العَالِم جُلَسَاءه قَول : " لا أدري" !
وكان يقول في أكثر ما يُسأل عنه: " لا أدري" !
قال عمر بن يزيد : فقلت لِمَالِك في ذلك ؛ فقال : يَرْجِع أهل الشام إلى شامِهم ، وأهل العراق إلى عِراقهم ، وأهل مِصر إلى مِصرهم ، ثم لعلي أرجع عما أُفْتِيهم به .
قال: فأخبرت الليث بذلك ، فبكى ، وقال : مالك - والله - أقوى مِن الليث ، أو نحو هذا.
..
وسئل مَرَّة عن نَيِّف وعشرين مسألة ؛ فما أجاب منها إلاَّ في واحدة ، وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عَشر، ويقول في الباقي: " لا أدري " .
والروايات عنه في " لا أدري " ، و" لا أُحْسِن " كثيرة ؛ حتى قيل : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك " لا أدري" لَفَعل قبل أن يُجِيب في مسألة .
..
وقيل : إذا قُلت أنت يا أبا عبد الله : " لا أدري " فَمَن يَدْرِي ؟ قال : ويحك ! أعَرَفْتَنِي ؟ ومَن أنا ؟ وإيش مَنْزِلَتي حتى أَدْرِي ما لا تَدْرُون ؟
ثم أخذ يَحْتَجّ بِحَديث ابن عمر . وقال : هذا ابن عمر يقول " لا أدري " ؛ فمن أنا ؟ وإنما أهْلَك الناسَ العُجْبُ وطَلَبُ الرياسةِ ، وهذا يَضْمَحِلُّ عن قليل .
وقال مرة أخرى : قد ابْتُلِي عُمر بن الخطاب بهذه الأشياء ؛ فلم يُجِب فيها ، وقال ابن الزبير : لا أدري ، وابن عمر : لا أدري .
وسُئل مالك عن مسألة ، فقال: " لا أدري" ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سَهْلة ، وإنما أرَدْت أن أُعْلِم بها الأمير - وكان السائل ذا قَدر - فَغَضِب مالِك ، وقال : مَسألة خَفيفة سَهلة! ليس في العِلْم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : )إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً( ؛ فَالْعِلْم كُلّه ثَقيل ، وبِخَاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة .
قال بعضهم : ما سَمِعْت قطّ أكثر قَولاً مِن مالك : " لا حول ولا قوة إلا بالله "، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله: " لا أدري" ، إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ " ؛ لَفَعَلْنَا.
ولنا في أسْلافِنا أُسوة وقدوة ..
وإذا كان أسْلافُنا أكثروا مِن قول: "لا أدري" مع وَفْرة علومهم ، وسَعة فَهمهم ، وتَبَحُّرِهم في العلوم ، فينبغي أن نكون أكثر منهم في قولها ، وأجرأ على قولها ! وأن لا نأنَف مِن قَول " لا أدري " ، و " لا أعلم " ، وليس في ذلك نَقْص ولا غضاضة ، بل هو مِن كَمَال الشخص ونُبلِه .
وإنها لَتَرِد عليّ المسألة فأرْجِيها أيامًا حتى أبحث لها عن جَواب في أقوال وفتاوى ثِقات العلماء ، أو أسأل عنها بعض مشايخنا .
الرياض 11 / 1 / 1432 هـ
منقول