sollo44
2012-02-13, 12:00
ها قد عدت من الحرب أخيرا ، رجعت بعد مكابدة الأهوال و المتاعب القاسية ، مات من الرفاق عدد لا يستهان به ، و أصيب عدد أكبر من ذلك ، و عقب كل فجر كنا نتجند بكل قوة لدفن سلسلة طويلة من الجثث المجهولة المشوهة ، و الرصاص يعبث في السماء بصوته الرهيب و حمرته القانية الممازجة لشمس الفجر ، خلال الحرب رددت سؤالا واحدا أكثر من عدد الرصاصات التي أطلقتها ، كنت أردده في كل لحظة ، كان سؤالا و أمنية عزيزة في الوقت نفسه : متى تتوقف الحرب ؟؟............
لم يعرف أحد كيف حدث ذلك ، و لم تستوعب عقولنا المترنحة تحت صوت الانفجارات و الاوامر العسكرية شيئا ، و لكن حدثا واحدا هو الذي رقق المعاناة و رتق الجروح و مسح عواطف الحنق و الرذيلة و الظلم المستخلص من شرور البشر ، أجل إنه خبر انتهاء الحرب ، خبر عظيم هتف به القادة و الجنود و إذاعات الراديو ، حتى الكلاب نامت مطمئنة في ذلك اليوم مستيقنة بزوال العداء و القتل المقنن ........ الحرب يا صديقي قوة هائلة تبيد و لا ترحم ، إنها تستهلك الرجال و طموحاتهم و أمالهم الممحونة بسطوة الشقاء ، و تقدم لنا فضلاتها جثثا و دماء و أشلاء ، و لكن كل شيئ حدث بعد رجوعي من الجبهة ، رجعت لبلدتي الصغيرة الهانئة ، و في استقبالي وقف الرجال و النساء والصبيان ، ارتفعت الزغردات من حناجر النساء ، و في خضم تلك الزغردات المختلطة لاح لي صوت زوجتي المختبئة وسط الحشود المرحبة ، فكرت في عناقها و لكن معنى الرجولة منعني من البوح بعواطفي قبل أن أعانق أعيان البلدة من الرجالات و والأسياد ، فقال صوت مجهول :
- دعوا الرجل ينال بعض الراحة ، و في غد سنقوم بحفل بهيج .
فصاح صوت مؤيد :
- نعم .... فالرجل عاد من الحرب لتوه ، و شوقه لأهله أكبر من الظنون .
و قال كبير البلدة :
- نعم الرأي .
سبقتني خطواتي المرتعبة إلى بيتي القديم ، كان لقاء الزوجة حدثا رهيبا عظيما لا يعادله إلا خبر انتهاء الحرب ، و كانت هي لا تزال على عهدها جميلة باهرة آسرة ، و رغم البكاء و الشوق و الفجيعة إلا أنها انتظرت رجوعي و مشطت شعرها و جهزت ثيابها في كل ليلة خوفا منها أن أرجع فجأة فلا أرى فيها الحسناء أخت البدر في تمامه ، في الصباح تأملت البيت الحجري القديم ، هو على كل حال بيتي ، رغم ضيقه و بساطته و قدمه إلا أنه بيتي و أنا أحبه ، شكله يوحي أنه صفحة طائشة من أوراق التاريخ المجيد ، به غرفتان مسقوفتان بالقصب و الطين المكلل بالقرميد الأحمر ، و بما أنني لا أستطيع العيش من غير نور الشمس ، فتحت في الجدار نافذة صغيرة و زودتها بأضلاف خشيبة طالما عبث الريح بها ليال عديدة ، و طيلة خمس أعوام هي فترة زواجي لم أظفر فيها بالأولاد ، لذلك لم أستخدم من غرف البيت إلا واحدة بينما تركت الثانية فارغة حتى دار بيني وبين زوجتي الحديث التالي :
- يا رجل ... هل سنترك الغرفة الثانية فارغة يعبث بها الجن ؟
فقلت بلا مبالاة :
- هل قلت أماكن العيش على الجن حتى لا يجد له مكانا غير بيتي الوضيع ؟
فقالت و هي تضحك :
- الحق معك ........ و لكن البرد في الخارج شديد .
- و ما شأني بالبرد مادام قاسيا بالداخل كما هو بالخارج ؟
فقالت مفسرة :
- إني خائفة على بغلنا الأبيض ، قد يهلكه البرد و المرض فيموت و نخسر بذلك خسارة كبيرة ، و لا أخفي عليك فقد ساعدني البغل خلال غيابك في جلب الماء و الحطب و حرث الحقل لزراعة الفول . ..... أشفق عليه و هو في الخارج يكابد وحده البرد و المطر و خطر الذئاب و الكلاب .
و قلت من توي مسائلا :
فماذا تقترحين أن نفعل ؟؟
فردت بحزم :
الغرفة الثانية فارغة و لا ضرر في أن نسكنه فيها حتى حلول الصيف .
- نسكن في بيتنا بغلا ؟؟
- أجل ..... مادام مسالما و مفيدا و طيبا .
شعرت بالغباء و أنا أوافق على طلبها ، و لكنها كانت محقة على كل حال ، و سارت الأيام بسرعة و البغل الأبيض يقاسمنا البيت و الأكل ، حتى استفقت ذات ليلة على صوت فوضى عارمة قادم من غرفة البغل، خلت نفسي في ميادين الحرب أولا ، و سرعان ماعاد إلي رشدي حين رأيت البغل في حالة من السعار الشديد ، فراح يرفس و يصك جدران الغرفة بقوائمه القوية الشديدة ، حاولت أن اعرف سبب هيجانه فلم أفلح ، حاولت أن أهدئ من روعه فلم أقدر أيضا ، و كان يزداد جنونا عقب كل لحظة من الزمن ، تراجعت للخلف حتى لا يصيبني بالأذى ، أسرعت لغرفتي و طلبت من زوجتي الهروب من البيت قبيل سقوطه ، و لحظات إثر هروبنا انهار البيت جراء هيجان البغل الأبيض ، فلم يعد يرى منه غير كومة من التراب و الركام ، بينما نجى البغل من الانهيار بأعجوبة ................................
و سرعان ما نمى الخبر إلى مسامع الجيران فهبوا يتدافعون شوقا لمعرفة الحدث ، و كنا حينها زوجين حائرين تائهين، تلطخت عيوننا برماد بني دقيق في حين علق الغبار المستدق بمناخير الانوف فسبب لنا الكحة إضافة إلى الهول و الرعب الذين أطاحا بصمودي و صمود زوجتي ، بسرعة فقدنا كل شيئ ، بسرعة عجيبة كخبر انتهاء الحرب تغيرت الدنيا ، و أصبحنا من يومها بلا مأوى و لا نصير ، و تحطمت المسرات تباعا كما تحطم الحرب القلوب و الأحلام ، و في الغد اكتريت شاحنة و عصبت عيون البغل بعصابة من قماش ، و على متن الشاحنة قدته لمكان مجهول لا يمكن له الرجوع منه ، ظننت أنني ارتحت منه و لكنه خطر علي في الحلم ، كان يرتع في حقل من الفول اليابس ، تعكس عيونه و حركاته طمأنينة راسخة و قال البغل ساخرا :" ستحيط بك الشماتة حتى تكره الحياة " .............
من أين لي بالمسكن الآن ؟ من أين لي بالهناء و أنا ضعيف بهذا القد ؟
قالت الزوجة في حالة من التجلي :
- أنت محارب قديم و لك الحق في أن تعطيك الدولة مسكنا لائقا ، و على كل حال فأنت سيد الرجال .
ضحك المحارب القديم و قال معلقا :
- سيجازيني ربي و لا شك .
************************************
عرض علي صهري بيتا هجره منذ مدة ، فكرت في الرفض و لكن شيئا غريزيا دفعني للقبول ، وافقت على السكن في بيت مهجور على أن تكون تلك مرحلة انتقالية ، و في خضم تلك المرحلة المزرية تقلبت مزاجاتي بين القلق و الرهبة و الأسى، و بين الفرح و التعجب ، و شمت بي الأعداء و الخونة و الرعاديد ،و تحولت قهوة البلدة فجأة من ركن يضم النمامين و معاكسي البنات إلى ماخور تغتصب فيه المروءة ، و قالت الزوجة ذات يوم بعد أن استشعرت قلقي :
- لا تأكل هما ، فأنا سأسايرك على كل حال و سأسكن معك أينما سكنت ، عموما هذا البيت المهجور خير من بيت الطين الذي هده البغل .
و ذات مرة و الصيف يرخي تقاسيمه الحارة على مدينتي ، ارتفعت درجة الحرارة إلى حد لا يطاق ، فتململت النباتات الصفراء و جفت من الماء ، و تشققت الأرض الراسخة و احترت الحيطان و جفت الحناجر ، بدأ الناس يتهافتون على استهلاك الكهرباء برعونة متفاوتة ، المكيفات تقذف تحتها قطرات من الماء لتشكل بركا صغيرة أسفل الحيطان ، المراوح تدور يمنة و شمالا ، و مبردات الماء تصنع طبقات لا متناهية من الجليد المتكاثف ، زاد الحمل على الخيطان الكهربائية و صدرت منها روائح الإحتراق و لكن أحدا لم يبال للأمر ، صحت فجأة :
- ألست تشمين رائحة نتنة تشبه احتراق الخيطان ؟
فردت متثاقلة و هي تستعد للنوم :
- لا أشم شيئا عدى نتانة قدميك .
فتحرجت و التزمت الصمت في حين أطبق النعاس على جفوننا المتكسرة .
و خلال النوم رأيت البغل الأبيض من جديد ، جاءني في المنام ليسخر مني و هو على عادته القديمة من الهدوء و الرزانة ، رأيته يدخن سيجارة و يقف على كومة من التبن اليابس ، صمت قليلا ثم قال لي البغل :
- أ تحب أن نلعب لعبة جميلة ؟
- لا وقت لي لأعبث مع بغل وضيع مثلك .
صاح البغل مستاء :
- ما أقساك أيها الآدمي ...... حتى في المنام لا تتخلى عن جبروتك و سلطتك القاهرة ....... سكت قليلا ثم أقبل إلي مهرولا و قال من جديد :
- ألن نلعب و لو لمرة واحدة ؟
و أمام إصراره الملح وافقت و قلت متثاقلا :
- هات ما عندك و دعنا نسترح .
- ترى ؟ لو ألقيت السيجارة على كومة التبن هذه ما تظن أنه سيحدث ؟
- أتسخر مني يا بغل ؟ ..... ستشتعل النيران في الجوار حتما .
- ذكي انت أيها الآدمي ....
و ألقى البغل السيجارة على كومة التبن ، و في الحين استعرت النيران و طاف الدخان الأسود في الأرجاء ، تمنيت للحظة لو أتمكن منه فأقتله و لكنه فر و تركني وحدي بين النيران الهائلة ، تشعر الزوجة بتخبطي في المنام فتكزني وكزتين لأستيقظ إثرهما ، و في الحين وجدت النيران تلتهم الجدران و السقف و الأثاث ، صرخت الزوجة من هول الفجيعة و جمدت في مكانها ، في حين أقبلت انقذ ما يمكن إنقاذه .
- جاء الصباح ليكشف عن هول الكارثة ، ركام أسود و روائح الحريق المميزة ، و طوابير هائلة من سكان المدينة أكثرهم الشامتون و أقلهم المواسون . تحلق الجميع حول المشهد الذي يشبه ساحات القتال ، وقال المحقق :
- سلك كهربائي سبب الكارثة .
*********************************
و صرنا من جديد بلا مأوى و لا نصير ، تخيل كيف تغدو حين تخرج من الحرب لتطالعك الحياة بخرجاتها القاسية ، الفقر و الخوف و الضياع ، تخيل كم يلزمك من القوة حتى تتخطى هذه المحنة ، لا أعرف كيف احترق كل شيئ في البيت عدى تلك الصورة ، إنها ترجع لخمس سنوات كاملة ، ترجع تماما ليوم زفافي حين كنت شابا مفعما بالحياة ، صورة تعبق بالذكريات الجميلة ، البدلة الكلاسيكية و التسريحة الحديثة و الابتسامة المدوية ، نظرت الزوجة للصورة و قالت معلقة :
- صورة من عهد الشباب و الأمل .
نظرت إليها و قلت آسفا :
- لم يبق لنا من الحياة إلا الذكريات ...... و لولا الود لتفارقنا من زمن .
فأجابت مواسية :
- لن يهنأ العيش لي بعيدة عنك ، و ما البيت الذي احترق إلا وصفة سحرية لتشد متانة الوثاق الذي يجمعني و يجمعك .
- أتعلمين أننا من غير بيت ؟
- أعلم .....بالتأكيد أعلم ، و لكنني أحبك .
نظرت حولي ببصر مائع و قلت برتابة :
- لم يبق لنا غير الرحيل لمكان جديد .
و سرنا معا بخطوات متثاقلة ، و العيون خلف النوافذ ترقبنا في استخفاء ، إلى أين أذهب ؟ ... إلى أين أتجه ؟ ... لا أعرف كيف أصف هذا الشعور و لكن الضيق القاتل وثب على صدري و شد الخناق ، أشعر بخيبة قاتلة ، و ها هي الزوجة المنكوبة تسير بإزائي خائرة القوى ، الصبر عندها في أقصى درجاته و الدنيا تتكالب علي بشتى أنواع قواها المدمرة لتحطيم حياتي ، الطريق طويل أمامنا ، المدينة خلف ظهورنا بكيلومترات عديدة و لا معلم يدل على مكان من الأمكنة ، الأسئلة الحائرة تتخبط داخل رأسي مستنفرة من سوء الحال ، و من بعيد لاحت لي بناية قديمة ، بناية متهالكة متوجة بقبة بيضاء ، و الصمت و السكون يطبقان على المكان كأنه جمود الموت ، مهلا بل إنه الموت فعلا ، إنه الموت بعينه ، فما الأرض التي لاحت لي غير مقبرة ، و ما البناية القديمة غير ضريح الولي الصالح ، و في الحين طرأت فكرة على رأسي :
- أعتقد أننا وجدنا مسكنا لائقا و محترما .
فردت في حيرة جلية :
- أجننت يا رجل ؟
- لا أبدا و لكن ضريح الولي خال من أي سا كن ، و لا ضير في استعماره .
- صاحت الزوجة من حينها متوترة :
- أتريدني أن أسكن مع الجن و الهمسات الليلية المرعبة ؟
- و ما يضرك و قد سكنا لفترة و في جوارنا بغل أبيض ؟
- البغل بغل و لكن الجن موضوع آخر ...
صمتت برهة ثم انفجرت باكية :
- لا أود البقاء معك ...... سأعود أدراجي لأهلي .
- و ماذا عن الوعد و العهود ؟
- ستجدها أمامك لتواسيك في وحشة الليل تحت قبة الضريح .
طفقت أشيعها بنظري و هي عائدة من حيث أتينا ، و في برهة وجيزة اختفى جسدها بين السراب ، و صرت مجددا بلا مأوى و لا نصير ، ماذا أفعل ؟ ........... سرت بين القبور المتلازقة ، و فجأة عثرت على قبر مفتوح ، دخلت فيه و تمددت على ظهري ، شممت رائحة التراب و استشعرت طعم الراحة الأبدية ، و هناك داخ رأسي و أنا أفكر في حل من الحلول .
لقد صحت تكهينة البغل و حلت بي الشماتة من كل جانب و خسرت كل شيئ ، رأيت في حياتي عدة قوى هادمة ، كالحرب و النار و الوحدة و الفقر و الضياع ، و لكنني لم أر أشد تدميرا من قوة المرأة التي تخلع يدها من يد الرجل ،
هل سترجع إلي لتقتسم معي هم المعاناة ؟؟ .... هل ستحن لزمن الحب و الفأل و الشباب ؟
هزني شعور داخلي بأن النهاية قريبة و داخل القبر نظرت لتلك الصورة القديمة و فكرت في أمور لا حصر لها .......
لم يعرف أحد كيف حدث ذلك ، و لم تستوعب عقولنا المترنحة تحت صوت الانفجارات و الاوامر العسكرية شيئا ، و لكن حدثا واحدا هو الذي رقق المعاناة و رتق الجروح و مسح عواطف الحنق و الرذيلة و الظلم المستخلص من شرور البشر ، أجل إنه خبر انتهاء الحرب ، خبر عظيم هتف به القادة و الجنود و إذاعات الراديو ، حتى الكلاب نامت مطمئنة في ذلك اليوم مستيقنة بزوال العداء و القتل المقنن ........ الحرب يا صديقي قوة هائلة تبيد و لا ترحم ، إنها تستهلك الرجال و طموحاتهم و أمالهم الممحونة بسطوة الشقاء ، و تقدم لنا فضلاتها جثثا و دماء و أشلاء ، و لكن كل شيئ حدث بعد رجوعي من الجبهة ، رجعت لبلدتي الصغيرة الهانئة ، و في استقبالي وقف الرجال و النساء والصبيان ، ارتفعت الزغردات من حناجر النساء ، و في خضم تلك الزغردات المختلطة لاح لي صوت زوجتي المختبئة وسط الحشود المرحبة ، فكرت في عناقها و لكن معنى الرجولة منعني من البوح بعواطفي قبل أن أعانق أعيان البلدة من الرجالات و والأسياد ، فقال صوت مجهول :
- دعوا الرجل ينال بعض الراحة ، و في غد سنقوم بحفل بهيج .
فصاح صوت مؤيد :
- نعم .... فالرجل عاد من الحرب لتوه ، و شوقه لأهله أكبر من الظنون .
و قال كبير البلدة :
- نعم الرأي .
سبقتني خطواتي المرتعبة إلى بيتي القديم ، كان لقاء الزوجة حدثا رهيبا عظيما لا يعادله إلا خبر انتهاء الحرب ، و كانت هي لا تزال على عهدها جميلة باهرة آسرة ، و رغم البكاء و الشوق و الفجيعة إلا أنها انتظرت رجوعي و مشطت شعرها و جهزت ثيابها في كل ليلة خوفا منها أن أرجع فجأة فلا أرى فيها الحسناء أخت البدر في تمامه ، في الصباح تأملت البيت الحجري القديم ، هو على كل حال بيتي ، رغم ضيقه و بساطته و قدمه إلا أنه بيتي و أنا أحبه ، شكله يوحي أنه صفحة طائشة من أوراق التاريخ المجيد ، به غرفتان مسقوفتان بالقصب و الطين المكلل بالقرميد الأحمر ، و بما أنني لا أستطيع العيش من غير نور الشمس ، فتحت في الجدار نافذة صغيرة و زودتها بأضلاف خشيبة طالما عبث الريح بها ليال عديدة ، و طيلة خمس أعوام هي فترة زواجي لم أظفر فيها بالأولاد ، لذلك لم أستخدم من غرف البيت إلا واحدة بينما تركت الثانية فارغة حتى دار بيني وبين زوجتي الحديث التالي :
- يا رجل ... هل سنترك الغرفة الثانية فارغة يعبث بها الجن ؟
فقلت بلا مبالاة :
- هل قلت أماكن العيش على الجن حتى لا يجد له مكانا غير بيتي الوضيع ؟
فقالت و هي تضحك :
- الحق معك ........ و لكن البرد في الخارج شديد .
- و ما شأني بالبرد مادام قاسيا بالداخل كما هو بالخارج ؟
فقالت مفسرة :
- إني خائفة على بغلنا الأبيض ، قد يهلكه البرد و المرض فيموت و نخسر بذلك خسارة كبيرة ، و لا أخفي عليك فقد ساعدني البغل خلال غيابك في جلب الماء و الحطب و حرث الحقل لزراعة الفول . ..... أشفق عليه و هو في الخارج يكابد وحده البرد و المطر و خطر الذئاب و الكلاب .
و قلت من توي مسائلا :
فماذا تقترحين أن نفعل ؟؟
فردت بحزم :
الغرفة الثانية فارغة و لا ضرر في أن نسكنه فيها حتى حلول الصيف .
- نسكن في بيتنا بغلا ؟؟
- أجل ..... مادام مسالما و مفيدا و طيبا .
شعرت بالغباء و أنا أوافق على طلبها ، و لكنها كانت محقة على كل حال ، و سارت الأيام بسرعة و البغل الأبيض يقاسمنا البيت و الأكل ، حتى استفقت ذات ليلة على صوت فوضى عارمة قادم من غرفة البغل، خلت نفسي في ميادين الحرب أولا ، و سرعان ماعاد إلي رشدي حين رأيت البغل في حالة من السعار الشديد ، فراح يرفس و يصك جدران الغرفة بقوائمه القوية الشديدة ، حاولت أن اعرف سبب هيجانه فلم أفلح ، حاولت أن أهدئ من روعه فلم أقدر أيضا ، و كان يزداد جنونا عقب كل لحظة من الزمن ، تراجعت للخلف حتى لا يصيبني بالأذى ، أسرعت لغرفتي و طلبت من زوجتي الهروب من البيت قبيل سقوطه ، و لحظات إثر هروبنا انهار البيت جراء هيجان البغل الأبيض ، فلم يعد يرى منه غير كومة من التراب و الركام ، بينما نجى البغل من الانهيار بأعجوبة ................................
و سرعان ما نمى الخبر إلى مسامع الجيران فهبوا يتدافعون شوقا لمعرفة الحدث ، و كنا حينها زوجين حائرين تائهين، تلطخت عيوننا برماد بني دقيق في حين علق الغبار المستدق بمناخير الانوف فسبب لنا الكحة إضافة إلى الهول و الرعب الذين أطاحا بصمودي و صمود زوجتي ، بسرعة فقدنا كل شيئ ، بسرعة عجيبة كخبر انتهاء الحرب تغيرت الدنيا ، و أصبحنا من يومها بلا مأوى و لا نصير ، و تحطمت المسرات تباعا كما تحطم الحرب القلوب و الأحلام ، و في الغد اكتريت شاحنة و عصبت عيون البغل بعصابة من قماش ، و على متن الشاحنة قدته لمكان مجهول لا يمكن له الرجوع منه ، ظننت أنني ارتحت منه و لكنه خطر علي في الحلم ، كان يرتع في حقل من الفول اليابس ، تعكس عيونه و حركاته طمأنينة راسخة و قال البغل ساخرا :" ستحيط بك الشماتة حتى تكره الحياة " .............
من أين لي بالمسكن الآن ؟ من أين لي بالهناء و أنا ضعيف بهذا القد ؟
قالت الزوجة في حالة من التجلي :
- أنت محارب قديم و لك الحق في أن تعطيك الدولة مسكنا لائقا ، و على كل حال فأنت سيد الرجال .
ضحك المحارب القديم و قال معلقا :
- سيجازيني ربي و لا شك .
************************************
عرض علي صهري بيتا هجره منذ مدة ، فكرت في الرفض و لكن شيئا غريزيا دفعني للقبول ، وافقت على السكن في بيت مهجور على أن تكون تلك مرحلة انتقالية ، و في خضم تلك المرحلة المزرية تقلبت مزاجاتي بين القلق و الرهبة و الأسى، و بين الفرح و التعجب ، و شمت بي الأعداء و الخونة و الرعاديد ،و تحولت قهوة البلدة فجأة من ركن يضم النمامين و معاكسي البنات إلى ماخور تغتصب فيه المروءة ، و قالت الزوجة ذات يوم بعد أن استشعرت قلقي :
- لا تأكل هما ، فأنا سأسايرك على كل حال و سأسكن معك أينما سكنت ، عموما هذا البيت المهجور خير من بيت الطين الذي هده البغل .
و ذات مرة و الصيف يرخي تقاسيمه الحارة على مدينتي ، ارتفعت درجة الحرارة إلى حد لا يطاق ، فتململت النباتات الصفراء و جفت من الماء ، و تشققت الأرض الراسخة و احترت الحيطان و جفت الحناجر ، بدأ الناس يتهافتون على استهلاك الكهرباء برعونة متفاوتة ، المكيفات تقذف تحتها قطرات من الماء لتشكل بركا صغيرة أسفل الحيطان ، المراوح تدور يمنة و شمالا ، و مبردات الماء تصنع طبقات لا متناهية من الجليد المتكاثف ، زاد الحمل على الخيطان الكهربائية و صدرت منها روائح الإحتراق و لكن أحدا لم يبال للأمر ، صحت فجأة :
- ألست تشمين رائحة نتنة تشبه احتراق الخيطان ؟
فردت متثاقلة و هي تستعد للنوم :
- لا أشم شيئا عدى نتانة قدميك .
فتحرجت و التزمت الصمت في حين أطبق النعاس على جفوننا المتكسرة .
و خلال النوم رأيت البغل الأبيض من جديد ، جاءني في المنام ليسخر مني و هو على عادته القديمة من الهدوء و الرزانة ، رأيته يدخن سيجارة و يقف على كومة من التبن اليابس ، صمت قليلا ثم قال لي البغل :
- أ تحب أن نلعب لعبة جميلة ؟
- لا وقت لي لأعبث مع بغل وضيع مثلك .
صاح البغل مستاء :
- ما أقساك أيها الآدمي ...... حتى في المنام لا تتخلى عن جبروتك و سلطتك القاهرة ....... سكت قليلا ثم أقبل إلي مهرولا و قال من جديد :
- ألن نلعب و لو لمرة واحدة ؟
و أمام إصراره الملح وافقت و قلت متثاقلا :
- هات ما عندك و دعنا نسترح .
- ترى ؟ لو ألقيت السيجارة على كومة التبن هذه ما تظن أنه سيحدث ؟
- أتسخر مني يا بغل ؟ ..... ستشتعل النيران في الجوار حتما .
- ذكي انت أيها الآدمي ....
و ألقى البغل السيجارة على كومة التبن ، و في الحين استعرت النيران و طاف الدخان الأسود في الأرجاء ، تمنيت للحظة لو أتمكن منه فأقتله و لكنه فر و تركني وحدي بين النيران الهائلة ، تشعر الزوجة بتخبطي في المنام فتكزني وكزتين لأستيقظ إثرهما ، و في الحين وجدت النيران تلتهم الجدران و السقف و الأثاث ، صرخت الزوجة من هول الفجيعة و جمدت في مكانها ، في حين أقبلت انقذ ما يمكن إنقاذه .
- جاء الصباح ليكشف عن هول الكارثة ، ركام أسود و روائح الحريق المميزة ، و طوابير هائلة من سكان المدينة أكثرهم الشامتون و أقلهم المواسون . تحلق الجميع حول المشهد الذي يشبه ساحات القتال ، وقال المحقق :
- سلك كهربائي سبب الكارثة .
*********************************
و صرنا من جديد بلا مأوى و لا نصير ، تخيل كيف تغدو حين تخرج من الحرب لتطالعك الحياة بخرجاتها القاسية ، الفقر و الخوف و الضياع ، تخيل كم يلزمك من القوة حتى تتخطى هذه المحنة ، لا أعرف كيف احترق كل شيئ في البيت عدى تلك الصورة ، إنها ترجع لخمس سنوات كاملة ، ترجع تماما ليوم زفافي حين كنت شابا مفعما بالحياة ، صورة تعبق بالذكريات الجميلة ، البدلة الكلاسيكية و التسريحة الحديثة و الابتسامة المدوية ، نظرت الزوجة للصورة و قالت معلقة :
- صورة من عهد الشباب و الأمل .
نظرت إليها و قلت آسفا :
- لم يبق لنا من الحياة إلا الذكريات ...... و لولا الود لتفارقنا من زمن .
فأجابت مواسية :
- لن يهنأ العيش لي بعيدة عنك ، و ما البيت الذي احترق إلا وصفة سحرية لتشد متانة الوثاق الذي يجمعني و يجمعك .
- أتعلمين أننا من غير بيت ؟
- أعلم .....بالتأكيد أعلم ، و لكنني أحبك .
نظرت حولي ببصر مائع و قلت برتابة :
- لم يبق لنا غير الرحيل لمكان جديد .
و سرنا معا بخطوات متثاقلة ، و العيون خلف النوافذ ترقبنا في استخفاء ، إلى أين أذهب ؟ ... إلى أين أتجه ؟ ... لا أعرف كيف أصف هذا الشعور و لكن الضيق القاتل وثب على صدري و شد الخناق ، أشعر بخيبة قاتلة ، و ها هي الزوجة المنكوبة تسير بإزائي خائرة القوى ، الصبر عندها في أقصى درجاته و الدنيا تتكالب علي بشتى أنواع قواها المدمرة لتحطيم حياتي ، الطريق طويل أمامنا ، المدينة خلف ظهورنا بكيلومترات عديدة و لا معلم يدل على مكان من الأمكنة ، الأسئلة الحائرة تتخبط داخل رأسي مستنفرة من سوء الحال ، و من بعيد لاحت لي بناية قديمة ، بناية متهالكة متوجة بقبة بيضاء ، و الصمت و السكون يطبقان على المكان كأنه جمود الموت ، مهلا بل إنه الموت فعلا ، إنه الموت بعينه ، فما الأرض التي لاحت لي غير مقبرة ، و ما البناية القديمة غير ضريح الولي الصالح ، و في الحين طرأت فكرة على رأسي :
- أعتقد أننا وجدنا مسكنا لائقا و محترما .
فردت في حيرة جلية :
- أجننت يا رجل ؟
- لا أبدا و لكن ضريح الولي خال من أي سا كن ، و لا ضير في استعماره .
- صاحت الزوجة من حينها متوترة :
- أتريدني أن أسكن مع الجن و الهمسات الليلية المرعبة ؟
- و ما يضرك و قد سكنا لفترة و في جوارنا بغل أبيض ؟
- البغل بغل و لكن الجن موضوع آخر ...
صمتت برهة ثم انفجرت باكية :
- لا أود البقاء معك ...... سأعود أدراجي لأهلي .
- و ماذا عن الوعد و العهود ؟
- ستجدها أمامك لتواسيك في وحشة الليل تحت قبة الضريح .
طفقت أشيعها بنظري و هي عائدة من حيث أتينا ، و في برهة وجيزة اختفى جسدها بين السراب ، و صرت مجددا بلا مأوى و لا نصير ، ماذا أفعل ؟ ........... سرت بين القبور المتلازقة ، و فجأة عثرت على قبر مفتوح ، دخلت فيه و تمددت على ظهري ، شممت رائحة التراب و استشعرت طعم الراحة الأبدية ، و هناك داخ رأسي و أنا أفكر في حل من الحلول .
لقد صحت تكهينة البغل و حلت بي الشماتة من كل جانب و خسرت كل شيئ ، رأيت في حياتي عدة قوى هادمة ، كالحرب و النار و الوحدة و الفقر و الضياع ، و لكنني لم أر أشد تدميرا من قوة المرأة التي تخلع يدها من يد الرجل ،
هل سترجع إلي لتقتسم معي هم المعاناة ؟؟ .... هل ستحن لزمن الحب و الفأل و الشباب ؟
هزني شعور داخلي بأن النهاية قريبة و داخل القبر نظرت لتلك الصورة القديمة و فكرت في أمور لا حصر لها .......