تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : **بحث جاهز عن أوغست كونت**


شرايط عاشور
2012-01-07, 10:14
تمهيد
نشأة و تاريــــــخ علم الإجتمـــــــــــاع:
علم الاجتماع توجه أكاديمي جديد نسبيا بين علومِ الاجتماعيات الأخرى بما فيها الاقتصادِ، عِلْم السياسة، عِلْم الإنسان، التاريخ، وعلم النفْس.
لكن الأفكار المؤسسة له، على أية حال، ذات تاريخ طويل ويُمْكِنُ أَنْ نتتبّعَ أصولَها في خَلِيط المَعرِفَة الإنسَانِيَّةِ والفلسفة المشتركة.
ظهر علم الاجتماع كما هو حاليا كصياغة علمية في أوائِل القرن التاسع عشرِ كرَدّ أكاديمي على تحدي الحداثةِ، فالعالم كَانَ يتحول إلى كل متكامل ومترابط أكثر فأكثر، في حين أصبحت حياة الأفراد أكثر فردية وانعزالا. تمنى علماء الاجتماع أَنْ يَفْهموا التحولات التي طرأت على المجموعاتَ الاجتماعيةَ، متطلعين لتَطوير دواءَ للتفككِ الاجتماعيِ.
كان أوغست كونت، أول من صاغ تعبير (sociology) "علم اجتماع" في عام 1838 من (socius) التي تعني باللاتينية (رفيق، شريك) واللاحقة اليونانية logia بمعنى (دراسة، خطاب)
تمنى كونت توحيد كل الدِراسات البشرية بما في ذلك التاريخِ وعِلْمِ النفْس والاقتصاد. وكان مخططه الاجتماعي الخاص مثاليا يعود إلى القرن التاسع عشرِ؛ حيث اعتقدَ أن كل أنماط الحياة الإنسانية لجميع الشعوب في كل البقاع مَرّتْ من خلالِ نفس المراحلِ التاريخيةِ المُتميّزةِ وبهذا، إذا أمكن للشخصُ أَنْ يُدرك مراحل هذا التطور، فيُمْكِنُ له أَنْ يَصفَ العلاجَ للأمراضِ الاجتماعية.
مقدمة :
أوغست كونت و نشأته :
عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي و يعتبر تلميذا لـسان سيمون ،ولد" أوجست كونت بمون بوليه بفرنسا " في 19 يناير سنة ثمان وتسعين وسبع مائة وألف(1798), ولم يتلقى كونت تعليماً جامعيا مع أنه عاش في أسرة ميسورة متدينة شديدة التعلق بالنصرانية "الكاثوليكية". وكان من المنتظر أن يكون ابن أسرته في ذلك, متديناَ شديد التعلق بالنصرانية. لكنه فاجأ أسرته بإعلانه كفره بالنصرانية وجميع الأديان, وقد اتخذ هذه الخطوة الخطيرة في سن مبكرة حيث كانت سنه حين أعلن كفره حول الرابعة عشرة, أما عن مسيرته العلمية والعملية ., فهو لم ينتظم في التعليم طويلاً ، ولكنه تولي تعليم نفسه, فدرس الرياضيات وبرع فيها, ثم درس الفلسفة وبرز فيها كثيراً, وفي أثناء دراسته اتصل بالفيلسوف الفرنسي " سان سيمون" وعمل سكرتيرا له لخمس سنين ( 1817-1822 ). ثم اختلف معه حول بعض القضايا الفكرية, فتركه . اشتغل بعد ذلك بإلقاء محاضرات في " فلسفة العلوم", ثم مزج بفلسفة العلوم فلسفته الوضعية واللاهوتية, وكانت محاضراته تجتذب الكثيرين من العلماء, لكنه بعد ثلاث سنوات أصيب بلوثة عقلية وانهيار عصبي , ولما شفي من مرضه عاد إلى إلقاء محاضراته, ولم يطل به الأمر حتى عاوده المرض العقلي مرة أخرى, فحاول الانتحار, لكن امرأته عنيت به حتى مرت الأزمة. وكان مرضه الثاني بسبب هيامه بامرأة عشقها حتى الجنون, ولما ماتت هذه المرأة بعد سنتين من هيامه بها أصابته هذه اللوثة التي بدا أنه شفي منها ظاهراً, بينما كانت لوثته وجنونه يعيشان معه يستقي منهما أفكاره وفلسفته, وقد ظل هذا الفيلسوف يدعو هاته الاخيرة وبخاصة الدين الذي اخترعه حتى استطاع في أخريات حياته أن يجتذب إليه طوائف مختلفة. ومات في سنة سبع وخمسين وثمان مائه وآلف.'(1857( ومن أهم أعماله كتاب "الفلسفة الوضعية" الذي ظهر لأول مرة في ستة أجزاء (1830- 1842) ومات في سنة سبع وخمسين وثمان مائه وآلف.'1857
القضايا الأٍساسية التي عالجها أوجست كونت:
أولاً : علم الاجتماع : على الرغم من أن أوجست كونت هو الذي أعطى العلم الاسم المستخدم الآن إلا أنه قد كرس جهده للدعوة إلى العلم أكثر من اهتمامه بموضوع العلم ، فلقد كان كونت ينظر إلى العلوم على أنها إما عملية تطبيقية أو نظرية ، أو أنها علوم وضعية ملموسة وأخرى مجردة حيث تهتم الأولى بالظواهر الملموسة وتعالجها بينما الثانية تنشغل باكتشاف القوانين الطبيعية التي تحكم هذه الظواهر وتحدد وجودها وتتابعها . وتشكل العلوم النظرية المجردة سلسلة أو سلما تعتمد فيه كل حلقة عليا على الحلقات التي تسبقها ، وتحتل الرياضة قاعدة السلم لأنها تهتم بالجوانب المجردة لجميع الظواهر يليها في الترتيب الميكانيكا والتي خلط كونت بينها وبين الفلك ثم الفيزياء والكيمياء فالبيولوجيا وفوق كل ذلك يتربع العلم الجديد أو الفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع .

لقد كان المناخ الذي يسيطر على فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية مهيئا لبلورة أفكار كونت ولقد ظهرت مشكلات إصلاح المجتمع وإعادة تنظيمه بعد الثورة الفرنسية ولقد كان من وجهة نظره أن الفوضى التي يعيش فيها المجتمع ليست راجعة فقط إلى أسباب سياسية بل هي كذلك راجعة إلى أسباب عقلية أو إلى طرق التفكير فالمجتمع لكي يستمر ويتقدم ليس في حاجة إلى انسجام في المصالح المادية والمنافع المتبادلة فحسب بل في حاجة كذلك إلى اتفاق عقلي.
ولقد كانت الفوضى في رأيه راجعة إلى وجود أسلوبين متناقضين للتفكير ، التفكير العقلي والذي من خلاله يتم تناول الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية وثانيهما التفكير الديني الميتافيزيقي والذي يتناول الظواهر التي تتعلق بالإنسان والمجتمع ، ولقد أدت هذه الفوضى إلى فساد في الأخلاق والسلوك ، وللقضاء على هذه الفوضى عرض كونت ثلاثة تصورات هي :
‌أ- التوفيق بين التفكير الوضعي والميتافيزيقي .
‌ب- أن نجعل المنهج الديني (التيولوجي) والميتافيزيقي منهجا عاما تخضع له جميع العقول والعلوم .
‌ج- أن نعمم المنهج الوضعي فنجعل منه منهجا كليا يشمل جميع ظواهر الكون ، فبالنسبة للوسيلة الأولى لا يمكن تحقيقها علميا لأن المنهجين متناقضين فالمنهج الأول نسبي والثاني مطلق فغاية الأول كشف القوانين العلمية وهدف الثاني وضع مبادئ فلسفية لا سبيل إلى تصورها.

أما الوسيلة الثانية فهي قد تحقق الوحدة العقلية المنشودة ولكن هذا الوضع يتطلب القضاء على الحقائق الوضعية التي توصل إليها علماء مثل جاليليو وديكارت وبيكون ونيوتن ، وبالتالي هل نستطيع أن نحكم على القوانين الطبيعية التي حكمت على المراحل السابقة بالفساد ونمنعها من أن تحدث النتيجة نفسها مرة أخرى فكأننا نعيد الفوضى من جديد ونهدم المجتمع من حيث نريد له الإصلاح والتقدم.

وأخيرا لا يبقى في أيدينا إلى الاتجاه الثالث وهو أن نقبل التفكير الوضعي منهجا كليا عاما ونقضي على ما بقى من مظاهر التفكير الميتافيزيقي وهذا المنهج لا يمكن أن يتحقق إلا ظل شرطان :
*1- أن تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين ولا تسير وفق الأهواء والمصادفات.
*2- أن يستطيع الأفراد الوقوف على هذه القوانين لكي يفهموا الظواهر.

لهذا كان لا بد من ظهور علم يعالج الفوضى وتنطبق عليه هذه الشروط وهو ما أسماه أولا بالفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع.

ولقد قسم كونت موضوعات هذا العلم إلى قسمين هما :
(1) الاستاتيكا الاجتماعية .
(2) الديناميكا الاجتماعية.

ولقد كان في تصوره أن هذين القسمين يصوران البناء التنظيمي لهذا المجتمع وكذا مبادئ التغير الاجتماعي لهذا المجتمع ، فالاستاتيكا الاجتماعية تشمل الطبيعة الاجتماعية ( الدين والفن والأسرة والملكية والتنظيم الاجتماعي) والطبيعة البشرية (الغرائز والعواطف والعقل والذكاء) بينما تشمل الديناميكا الاجتماعية قوانين التغير الاجتماعي والعوامل المرتبطة به ( مستوى الضجر وطريقة الحياة ونمو السكان ومستوى التطور الاجتماعي والفكري ) ورأى كونت أن هذا البناء ككل يتقدم خلال مراحل التطور الثلاث نحو المرحلة الوضعية .
وسنتناول الاستاتيكا والديناميكا الاجتماعية بالتفصيل في الآتي :

أولاً : الاستاتيكا الاجتماعية :

تعني الاستقرار حيث تهتم الاستاتيكا بالشروط الضرورية لوجود المجتمع الإنساني ومن ثم فإن التركيز يكون أساسا على النظام العام فدراسة النظام العام هي دراسة لعوامل التوازن والانسجام في بيئة المجتمع ، تلك العوامل التي أطلق عليها كونت مصطلح الاتساق العام ، والاتساق العام هو التساند والاعتماد المتبادل بين الظواهر موضوع البحث أو بعبارة أخرى هو الارتباط الضروري القائم بين عناصر المجتمع ومكوناته الرئيسية ، والدراسة الاستاتيكية للنظام الاجتماعي تشبه ما اصطلح على تسميته بلغة علم الاجتماع المعاصر بالبناء الاجتماعي .
ولقد وصل كونت في تحليله الاستاتيكي إلى أن المجتمع يتكون من ثلاثة وحدات أو عناصر أساسية هي الفرد والأسرة والدولة ، غير أن الفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا فالقوة الاجتماعية مستمدة في حقيقتها من تضامن الأفراد واتحادهم ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف فيما بينهم ، أما القوة الفردية الخالصة فلا تبدو إلا في قوته الطبيعية ولكن ليست لهذه القوة أية قيمة إذا كان الفرد وحيدا أعزل من الأساليب والوسائل التي تذلل له متاعب الحياة ولا قيمة كذلك لقوة الفرد العقلية والأخلاقية فالأولى لا تظهر إلا بمشاركة غيرها من القوى واتحادها ببعضها والثانية في نظره وليدة الضمير الجمعي والتضامن الأخلاقي في المجتمع ، وهذا يعني أن الفردية الخالصة بفرض وجودها لا تمثل شيئا في الحياة الاجتماعية . بينما الأسرة هي أول خلية في جسم التركيب الجمعي وهي ثمرة من ثمرات الحياة الاجتماعية ويعرف كونت الأسرة بأنها " اتحاد ذو طبيعة أخلاقية " لأن المبدأ الأساسي في تكوينها يرجع في نظره إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية ولا شك أن الميل المتبادل بين الزوجين والعطف والمتبادل بينهما من جهة والأبناء من جهة أخرى والمشاركات الوجدانية الموجودة بين أفراد هذا المجتمع الصغير ثم تربية الأطفال والنزعة الدينية التي يغرسها الأبوان في أولادهم والحقوق والواجبات المترتبة لكل عضو في الأسرة قبل العضو الآخر ، كل هذه الأمور ترجع في طبيعتها إلى وظيفة الأسرة الأخلاقية .
لقد كان كونت ينظر إلى المجتمع على أنه وحدة حية ومركب معقد أهم مظاهره التعاون والتضامن ولذلك فهو من طبيعة عقلية وأما وظيفته الأخلاقية فإنها تابعة للوظيفة العقلية ولاحقة بها ومترتبة عليها ويرى كونت أن مبدأ التعاون والتضامن هو الذي يسيطر على المجتمع ويحكمه ويسمى لدى بعض المفكرين المحدثين تقسيم العمل.
ولقد انتهى كونت في دراسة الاستاتيكا الاجتماعية إلى " قانون التضامن" والذي يطلق عليه " قانون التضامن الاجتماعي المادي والروحي " وملخص هذا القانون أن مظاهر الحياة الاجتماعية تتضامن بعضها مع بضع وتسير أعمال كل منها منسجمة مع أعمال ما عداها شأنها في ذلك شأن جسم الإنسان الذي يختص كل عضو منه بأداء وظيفة معينة ، وكما أن الوظائف الحيوية كلها تعمل بصفة تلقائية لحفظ المركب الحيوي والحرص على سلامته كذلك نظم المجتمع وعناصره تعمل متضامنة لتحقيق استقرار الحياة الاجتماعية ودوام بقائها.
ويرى كونت أن مبدأ التضامن الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بصورة كاملة إلا إذا وجه المسئولون عنايتهم إلى إصلاح ثلاثة نظم اجتماعية أساسية وهي نظام التربية والتعليم ونظام الأسرة والنظام السياسي في الدولة . فنظام التعليم من شأنه أن يحارب الغرائز الفطرية ويهذب المشاعر الإنسانية ، أما النظام السياسي فمن شأنه أن يقاوم ما عسى أن ينشأ في جو المجتمع من تصادم بين مصالح الهيئات الاجتماعية ومن نزاع بين الطبقات حول مشاكل الإنتاج وكيفية توزيعه .

وبصدد إصلاح نظام التربية والتعليم يرى كونت أن المجتمع يحتاج إلى نظام من التربية العصرية يحل محل دراسة الآداب والنظريات المجردة وهذا النظام لابد وأن يقوم أولا على معرفة حقائق العلوم الوظيفية الجزئية ويقوم ثانيا على أسس علمية تنحوا بالنشئ بعيدا عن الجمود والعقم النظري ويؤهل الأفراد للمشاركة بصورة إيجابية فيما يتطلبه المجتمع من وظائف جديدة . ويجب أن يكون للإعداد المهني معاهد جديدة خاصة ، كما قسم مراحل التعليم إلى ثلاثة مراحل ، مرحلة ابتدائية وإعدادية وعالية وظيفتها إعداد الشباب لمواجهة حياتهم العملية.

كما أنه تناول الإصلاح الأسري ويلاحظ أن تصوره مستمد من المذهب الكاثوليكي حيث يركز بصفة خاصة على الوظيفة الأخلاقية والتربوية ، وبالنسبة لإصلاح النظام السياسي تعرض كونت لوظيفة الحكومة وحللها وقرر أن هذه الوظيفة ليست سهلة الأداء وليست مقصورة فقط على تنظيم البوليس أو ضمان سلامة الشعب ونشر الأمن وليست كما كان يقال عنها في القرن الثامن عشر أنها شر لابد منه بل على العكس من كل هذا فإن الحكومة هي أولى الوظائف الاجتماعية وأهمها وهي دليل على مبلغ تقدم المجتمع وهذا التقدم مرهون بنظام هذه الهيئة ومبلغ انقياد الأفراد لها ومدى سلطتها عليهم فوظيفة الحكومة في نظره تقوم على مبدأ التضامن في المجتمع والحرص على وحدته .

ولقد تناول كونت النظام الاقتصادي حيث تعرض للنظريات السائدة ونقدها جميعا حيث نقد آراء مدرسة الفيزيوقراط وما تذهب إليه من إشاعة الحرية الاقتصادية ونادى بضرورة التدخل من جانب الحكومة لكي تقيم توازنا معقولا بين الأهداف الفردية وبين ما ينبغي أن تكون عليه المعاملات الاجتماعية ، كما نقد الإشتراكيين والشيوعيين واعترف بأنهم وفقوا في الوصول إلى بعض الحقائق ولم يكونوا مخطئين في كل ما قالوه واتفق معهم في ضرورة تدخل الحكومة في العلاقات الاقتصادية ، كما درس كونت الناحية الأخلاقية ورأى وجوب قيام علم وضعي هو علم الأخلاق ورأى أن هذا العلم لا يمكن تأسيسه إلا بعد قيام علم الاجتماع .

ولم يفت كونت أن يدرس الناحية الدينية في المجتمع لأن المجتمع في حاجة ماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد يتفق عليها الأفراد جميعا وهذا لا يتأتى إلا إذا ألغينا الديانات القائمة وصهرناها في دين جديد ، أي أنه إلى جانب النظم السابقة وضع نظاما دينيا جديدا هو الدين الوضعي ، ويدور هذا الدين حول عبادة الإنسانية كفكرة ، أي أن فكرة الإنسانية تحل في رأيه محل فكرة " الله " في الديانات المعروفة.
فلسفة " كونت " الوضعية :
نذكر فيما يلي أهم الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الوضعية " كونت". الوضعية :
*1-تقوم الفلسفة الوضعية على أن الفكر الإنساني لا يدرك إلا الظواهر المحسوسة في العالم الذي نعيشه. ويدرك ما بين تلك الظواهر من علاقات مادية محسوسة واضحة . أما البحث وراء الظواهر الطبيعية عن علل لها خفية, أو أمور غائية, أو حكمة وعناية, أو فاعل ومدبر, أو خالق وصانع. فهذه كلها أوهام وخرافات ما ينبغي أن يفكر فيها أحد. وإن وجد من يتمسك بها, فإنما هي أوهام ذاتية لا صلة لها بالواقع إطلاقاً. فالبحث عن العلل والغايات وراء الظواهر إضافة إلى أنه وهم وخيال, فإنه لا يمكن إدراك شئ من ذلك, ولا فائدة له في عالم الواقع, وهو مفسدة للعقل, مضيعة للوقت والجهد .
يتضح من هذا أن المذهب الوضعي الذي وضع" أوجست كونت " أسسه مذهب مادي إلحادي يقوم على الإيمان بالمادة وحدها, وينكر كل ما وراء المادة والحس, ويرى أن المعرفة اليقينية هي المعرفة الحسية المادية التي تقوم على الملاحظة والتجربة الحسية. وكل معرفة لا تقوم على الحس أو التجربة فإنها عند هؤلاء وهم وخيال . المذهب الوضعي – إذن – مذهب مادي إلحادي ينكر جميع الأديان, ويرفض الغيب والمغيبات عن الحس , ويطعن في كل معرفة تأتي عن طريق الوحي, لأنه لا يؤمن بوجود الموحي – سبحانه -.

2-*قانون الحالات الثلاث :

يرى " كونت " أن البشرية مرت عبر تاريخها الطويل منذ وجودها حتى زمانه بحالات ثلاث, أو مراحل ثلاث متتابعة ومتوالية. وكل مرحلة تسلم للأخرى التي تليها ، وهذه الحالات الثلاث يطلق عليها " كونت " " قانون التقدم الإنساني" والفيلسوف مثل كل الفلاسفة والمفكرين الماديين الملاحدة يعتقد أن البشرية بدأت حياة بدائية قريبة من حياة الحيوان. ثم تقدمت تدريجياً عن طريق الخبرات والتجارب الحياتية, دون معونة أو توجيه من وحي أو إله. وهذه هي نفس عقيدة علماء الاجتماع والنفس, فكل هؤلاء يعتقدون أن الإنسان نشأ بدائياً, ثم تدرج بذاته وخبراته وتجاربه ، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وهذا الرأي مناقض تماماً بل مصادم للعقيدة الحقة التي نعتقدها ونؤمن بها نحن المسلمين. بل ويؤمن بها كذلك اليهود والنصارى أصحاب الكتابين السماويين, رغم ما وقع فيهما من تحريف وتبديل , فالكل يؤمن بأن البشرية بدأ تاريخها بأبي البشر" آدم" عليه السلام, وأن الله- سبحانه- خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته, وأسكنه جنته. وقد كان آدم عليه السلام نبياً, ولم يكن جاهلاً ولا بدائياً, بل كان لديه من العلم الذي أفاضه الله- تعالى- عليه. وعلمه إياه ما لم يكن لدى الملائكة, ولقد أمر ربنا- سبحانه- آدم أن يعلم الملائكة بعض ما كانوا يجهلون, فقد قال الله- تعالى- لآدم عليه السلام, " ياآدم أنبئهم بأسمائهم " هذه عقيدتنا, وهذا هو الحق لدى المسلمين, بل لدى غيرهم من أصحاب الدينين السماويين .
لكن" كونت " حسب ما يرى أن البشرية نشأت بدائية ثم تدرجت نحو التقدم, وإنه- بناء على ذلك- وضع ما أسماه " قانون الحالات الثلاث, أو التقدم الإنساني ". حيث إن البشرية مرت عبر تاريخها نحو التقدم بثلاث حالات أو مراحل :
-الحالة الأولى: اللاهوتية
-الحالة الثانية : الميتا فيزيقية
-الحالة الثالثة : الوضعية
-الحالة اللاهوتية :
يرى " كونت " أن هذه الحالة أو المرحلة كانت البشرية تحاول فيها التعرف على ما حولها. وكان العقل الإنساني يبحث في هذه المرحلة عن كنه الأشياء, وحقيقة الظواهر, وكان يحاول إرجاع كل طائفة من الظواهر إلى علة أو مبدأ مشترك. ويقرر "كونت " أن الإنسان في هذه الحالة اللاهوتية قد مر عبر ثلاث مراحل :
-المرحلة الأولى : ويسميها المرحلة " الفتشية " وفي هذه المرحلة كان الإنسان يخلع على الأشياء والظواهر الطبعية من حوله نوعاً من الحياة, ويعتقد أن لها تأثيراً في حياة الناس وأنها تتصرف في مصائرهم. ومن ثم كان الإنسان في هذه المرحلة يعبد هذه الظواهر أو هذه الأشياء, ويتقدم إليها بأنواع من الطقوس دفعاً لضرها وطلباً لنفعها. ولعل " كونت " يشير إلى ما يذهب إليه علماء الاجتماع الملحدة إلى أن نشأة التدين لدى الإنسان ترجع إلى بضع نظريات منها ما يسمونه" غريزة الاستحياء" ويريدون بذلك نفس ما أشار إليه الفيلسوف من أن الإنسان الأول – فيما يزعمون – كان يستحيي الأشياء والظواهر , أي يرى أن لها نوعاً من الحياة , وأن لها قوى تؤثر بها في حياته, ومن ثم كان يعبدها.
المرحلة الثانية : من مراحل الحالة اللاهوتية ؛ وهي مرحلة تعدد الآلهة المفارقة أو الآلهة العلوية . ويزعم الفيلسوف أن الإنسانية في هذه المرحلة أخذت تسلب الحياة وقوة التأثير عن الظواهر الطبيعية التي كانت تؤلهها وترجع القوة المؤثرة في الوجود من حولها إلى كائنات علوية غير منظورة وهي كائنات متعددة بتعدد شئون الحياة ؛ فإله للزرع وآخر للمطر وثالث للصيد وهكذا لكل لشأن من شئون الحياة إله علوي غير منظور .
المرحلة الثالثة : :من مراحل الحالة اللاهوتية ؛ وهي مرحلة ( التوحيد) ؛ فالرجل يزعم أن البشرية في هذه المرحلة قد جمعت جميع الآلهة التي كانت تعبدها ثم وحدتها في إله مفارق أي علوي غير منظور خارج عن عالمنا الذي نعيش فيه ، ويضرب الرجل مثالا لهذه المرحلة الأخيرة بظهور الدين النصراني والدين الإسلامي !
وقد رأى " كونت" أن من خصائص الحالة اللاهوتية وبخاصة في مرحلتها النهائية أن موضوعها مطلق وأن تفسيرها للظواهر والأحداث تعتمد " ما فوق الطبيعة " وأن منهجها خيالي وهمي ، وأن كل ما لدى أصحابها أمور ذاتية لا صله لها بالواقع أو الموضوع ، لكن الفيلسوف لاحظ شيئا آخر على قدر كبير وخطير من الأهمية ، حيث لاحظ أن الدين – أي دين – يمثل أساساً متينا وضروريا وحاجة ملحة للمجتمعات الإنسانية وللعلاقات الاجتماعية وأنها تمثل ضرورة اجتماعية على الفرد أو الجماعة ، كذلك لاحظ أن الدين – كذلك - يمثل من الجانب السياسي الأساس الذي تقوم عليه سلطة الكهنة والملوك حيث يستمدون سلطاتهم لدى الجماعة من الدين الذي تدين به الجماعة .
وهذه الملاحظة الأخيرة التي لاحظها " كونت " وهي ضرورة الدين للمجتمعات الإنسانية سيكون لها أعمق الأثر في فلسفته بعد ذلك – على ما سنرى بحول الله تعالى .
الحالة الميتافيزيقية :-
وفي هذه الحالة يحاول العقل الإنساني – أيضا - أن يكتشف حقائق الأشياء وأصولها ومصائرها ولكنه في هذه الحالة بدلا من أن يبحث عن علل مفاقة للظواهر كما فعل في الحالة الأولى ، فإنه يرفض العلل المفارقة ، ويبحث عن علل وأهداف في ذات الأشياء وبواطن الظواهر ، ففي هذه المرحلة لا يرجع العقل الإنساني حقائق الظواهر أو الأحداث إلى علل مفارقة ، وإنما يرجعها إلى نظم وقوانين وأسباب داخل الأشياء ذاتها .
ويرى الفيلسوف أن مسيرة العقل الإنساني ومنهجه في هذه الحالة إنما هي ضرب آخر من أضرب الوهم والخيال، وأن ذلك ناتج عن أوهام الذات التي لا صله لها بالواقع .
ويلاحظ الفيلسوف أن هذه الحالة الميتافيزيقية شبيهة بالحالة اللاهوتية من حيث موقف العقل الإنساني منهما . حيث بدأ الإنسان يعتقد في التعدد ثم انتهى بالتوحيد مع اختلاف الموضوع في الحالة الميتافيزيقية عنه في الحالة اللاهوتية .
ففي الحالة اللاهوتية اعتقد الإنسان في موجودات كثيرة ، ثم بدأ يرجع الظواهر إلى كائنات علوية مفارقة ، ثم انتهى به الأمر بتوحيد الكائنات المفارقة في كائن واحد . وهذه الكائنات المفارقة العلوية التي اجتمعت في واحد بعد ذلك كانت هي التي تتصرف في الأشياء والظواهر.
أما في الحالة الميتافيزيقية بدأ العقل الإنساني يبحث عن علل الأشياء والظواهر في الأشياء والظواهر نفسها ، وليس في كائنات علوية مفارقة . وقد بدأ الإنسان في هذه المرحلة بالتعدد أيضا ، فأخذ يرجع العلل إلى قوى متعددة بتعدد الظواهر مثل القوة المكيانيكية ، القوة الفيزيائية ، القوة الحيوية .. إلى غير ذلك من قوى متعددة ثم انتهى الأمر بالعقل الإنساني إلى توحيد هذه القوى المتعددة في قوة واحدة هي ( الطبيعة ) فالطبيعة أصبحت جامعة لكل القوى التي كانت متفرقة في الظواهر والأشياء .
الحالة الوضعية :-
يرى " كونت" أن العقل الإنساني في المرحلتين السابقتين كان يعيش حالات من الأوهام الذاتية والخرافات المتوارثة التي لا صله لها بالواقع . ولذلك كان يتخبط من الحالة اللاهوتية بمراحلها الثلاث ، ثم الحالة الميتافيزيقية ، لكن الأمر لا يستمر على ذلك بل أن العقل ينتقل من هذه الأوهام الذاتية إلى حقائق الحالة " الوضعية" .
والعقل في هذه الحالة الثالثة التي أطلق عليها كونت " الوضعية" يتخلص في الواقع من أوهام اللاهوت والميتافيزيقيا ، ويدرك الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع والموضوع . ويرى الفيلسوف أن السبب في تخبط العقل في الحالتين السابقتين أنه كان يبحث في الأشياء عن حقائقها وعللها المطلقة لكنه أخيرا يدرك أنه من المستحيل الحصول على حقائق مطلقة يقينية فيقصر همه على الاهتمام بواقع الأشياء واستكشاف قوانين الظواهر من خلال واقعها المادي الوضعي القائم على الملاحظة والتجربة.
3- وقد قرر " كونت" أن هذه الحالات الثلاث التي مرت على الإنسانية أو مر بها العقل الإنساني عبر رحلته الطويلة منذ كانت الإنسانية حتى عصره ، هذه الحالات تمر على الإنسان نفسه أو يمر بها كل إنسان عبر حياته أو مراحل عمره : ففي طفولته أو بداية حياته يقنع بالحلول اللاهوتية ثم في منتصف حياته يتحول إلى الحالة الميتافيزيقية فيبحث عن العلل وحقائق الأشياء في باطن الظواهر والأشياء . ثم في أواخر حياته حيث يكون قد نضج عقلا وفكرا ينتقل إلى الحالة الوضعية فيعتمد على ملاحظة الظواهر ويجري عليها التجارب متخذًا المنهج الوضعي طريقا للوصول إلى القوانين التي تحكم الأشياء .

منهج البحث عند كونت :
تتلخص قواعد المنهج عند كونت في الملاحظة والتجربة والمنهج المقارن ثم ما يسميه كونت بالمنهج التاريخي وسنتعرض في الآتي لكل منها :

1- الملاحظة : المقصود بالملاحظة ليس مجرد الإدراك المباشر للظواهر ولكن هناك وسائل أخرى مثل دراسة العادات والتقاليد والآثار ومظاهر الفنون الأخرى وتحليل ومقارنة اللغات والوقوف على الوثائق والخبرات التاريخية ودراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية وما إليها .

والملاحظة الاجتماعية ليست سهلة وذلك لطبيعة تداخلها وكذا لأن الفرد يشارك فيها بدرجة أو بأخرى ، لذا يجب النظر إلى الحقائق الاجتماعية على أنها موضوعات منعزلة عنا وخارجة عن ذاتنا ومنفصلة عن شعورنا حتى نستطيع أن نصل من وراء الملاحظة الاجتماعية إلى نتائج أقرب إلى حقائق الأمور ، وهو يرى أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية.

2- التجربة : يقصد بها التجربة الاجتماعية حيث يمكن مقارنة ظاهرتين متشابهتين في كل شيء ومختلفتين في شيء واحد .

3- المنهج المقارن : وهو يرى أن المقارنة الاجتماعية بالمعنى الصحيح تقوم على مقارنة المجتمعات الإنسانية بعضها ببعض للوقوف على أوجه الشبه وأوجه التباين بينها.

4- المنهج التاريخي : ويسميه كونت بالمنهج السامي ويقصد به المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة إلى أخرى أرقى منها.

ولقد ميز كونت علم الاجتماع عن الفلسفة السياسية بإصراره على أن الاستقصاءات السوسيولوجية لابد وأن تعتمد على المناهج الوضعية أو الموضوعية في الملاحظة والتجريب والمقارنة المميزة للعلوم الطبيعية ، كما أن تطبيق المعرفة العلمية عن المجتمع جديرة بأن تقدم أكبر تقدم في المجتمع الإنساني ، ولقد جاهد كونت وكتب كثيرا دفاعا عن الموقف الوضعي بالنسبة لدراسة المجتمع ولذلك أصبحت الوضعية مقترنة بكونت تاريخيا ، إلا أنه لم يمارس عمليا ما كان ينادى به حيث أنه لم يقم بدراسات يستخدم فيها طرق البحث الاجتماعي فلا نزاع في أنه أول من عرف علم الاجتماع بأنه الدراسة الواقعية المنظمة للظواهر الاجتماعية.

موقف علماء عصره من فكره :
لقد كان الرجل بطبعه شديد الاعتداد بنفسه, وكان يرى نفسه فذا بين المفكرين في عصره, فنزعة الغرور والكبر كانت متأصلة فيه, ولما بدأ يلقي محاضراته في فلسفة العلوم أقبل عليه المفكرون يستمعون إليه, ويهتمون بأفكاره, ويثنون عليه, فزاده ذلك غروراً وكبراً. ثم لما انتقل إلى تحليل المجتمعات الإنسانية والمراحل التي مر بها العقل الإنساني لم يراجعه أحد من العلماء, بل ازداد إعجابهم به, مما جعله, يزداد اغتراراً واستكباراً إلى أن بلغ به غروره إلى اختراع دين يعارض به جميع الأديان وليحل محلها.
ولو أن مفكري عصره وقفوا لأفكار بالمرصاد يحللونها ويظهرون فسادها وضلالها, ولو أنهم راجعوه وبينوا له أخطاءه, لعرف لنفسه حداً يقف عنده ولما انتهى به الأمر إلى ما انتهي من إليه من هذا الكم الهائل من الضلال. ولكن أنى لهم ذلك؟ وهم في مثل ضلاله أو أضل.


المراجع:
*: –رواد علم الاجتماع (http://www.maktoobblog.com/redirectLink.php?link=http%3A%2F%2Fwww.3almani.org %2Fspip.php%3Farticle2102) جورج رينزر
*موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، 1990، الجزء الخامس ص 273.


أرجو منكـــــــم الدعــــاء

khelifa8
2012-01-08, 17:51
مشكور أخي الكريم .. جزاك الله خيرا