هشام 21
2008-12-11, 12:14
فضيلة العلامة د. صالح بن فوزان الفوزان : الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي من نطق بها وحقق مدلولها مبني ومعنى ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عرج به فوق السموات العلى : ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ . [ النجم : 9 ] ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى ومصابيح الدجى ، وسلم تسليمًا كثيرًا في الآخرة والأولى ، أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واشكروه على نعمه التي لا تحصى ، ومن أعظمها أن جعل لكم هذا البيت الشريف ، وهذا الحرم المنيف ، يتجه المسلمون إليه في صلواتهم من جميع أقطار الأرض ، ويفدون إليه حاجين ومعتمرين من كل فج عميق . ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ . [ الحج : 28 ] . فيلتقون حوله ويتعارفون عنده ، فتتألف قلوبهم ويتعاونون على تحصيل مصالحهم وحل مشاكلهم ، وتظهر قوة الإسلام ووحدة المسلمين ، ويرفع شعار الدين ، وتزول كل الفوارق المصطنعة إلا فارق التقوى ، وتسقط كل الشعارات البشرية والشرائع الجاهلية ، ولا يبقى إلا شعار الدين ، وشريعة رب العالمين ، وتبطل كل الاعتقادات الشركية ، ولا يبقى إلا العقيدة الحنيفية ، ملة إبراهيم إمام الملة الإسلامية .
فإن هذا البيت أسس على التوحيد حين أمر الله إبراهيم وإسماعيل ببنائه ، وقال تعالى : ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ . [ البقرة : 125 ] . وقال تعالى : ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ . [ الحج : 26 ] .
فمن حاول أن يجلب الوثنية إلى هذا البيت ، ويقيمها حوله ، أزاله الله من الوجود ، وأذاقه العذاب الأليم ، كما فعل بعمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار جزاءً له على ما أحدث من تغيير دين إبراهيم وتسييب السوائب للأصنام ، وكما فعل بقريش على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الإسلام وصحابته الكرام ، حين فتحوا مكة ومحوا ما فيها وحولها من الأصنام .
ومن أراد بهذا البيت وقاصديه والمتعبّدين فيه سوءًا ، أذابه الله بالعذاب كما يذوب الملح في الماء . قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ . [ الحج : 25 ] .
ولما أراد أبرهة ملك الحبشة هدم هذا البيت وصرف الناس عنه وجهز لذلك جيشًا هائلاً ، وفيه فيل عظيم ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في أركانها ويربطها في عنق الفيل ليجرها ويلقي جدرانها جملة واحدة ، وكان لا يمر في طريقه بقبيلة من قبائل العرب إلا دهمها ، إلى أن وصل إلى أرض الحرم فخرج أهل مكة إلى رؤوس الجبال خوفًا منه ، ولما تهيأ الجيش لدخول مكة وهيؤوا الفيل ووجهوا نحوها برك ، فضربوه ليقوم فأبى ، وإذا وجهوه إلى غير مكة قام يهرول . وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أمثال : الحمص والعدس . فحلقت فوقهم ورمتهم بتلك الحجارة فهلكوا ، وأنزل الله في ذلك قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ . [ الفيل : 1 - 5 ] .
والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمّرهم فأصبحوا ملقين على الأرض كعصف مأكول ، وهو التبن الذي أكلته البهائم وراثته ، وفي هذا أعظم عبرة وأكبر زاجر لمن يريد هذا البيت بسوء أن الله يهلكه ويجعله عبرة للمعتبرين .
وهذا البيت الشريف له خصائص عظيمة ؛ منها :
أنه أول بيت وضع للناس على وجه الأرض ، قال تعالى : ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ . [ آل عمران : 96 - 97 ] .
فأخبر سبحانه أنه أول المساجد في الأرض ، فهو قبل بيت المقدس ، وهذا من أعظم الآيات البينات فيه ، حيث تعاقبت عليه آلاف السنين ، وهو باق كما وضعه الله منارة للتوحيد ومثابة للناس ، مع حرص الكفار على إزالته والقضاء عليه بكل وسيلة ، ومع هذا بقي يتحدى كل عدو ، ولهذا سماه الله بالبيت العتيق . قيل : سمي عتيقًا ، لأنه أول بيت وضع للناس ، وقيل : لأن الله أعتقه من الجبابرة ، فلم يظهر عليه جبار قط ، وقيل : لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح - عليه السلام - ، وأنه مبارك ، أي : ذو بركة لما جعل الله في حجه والطواف به من الأجر وتكفير السيئات ، وأنه تضاعف فيه الحسنات ، والبركة وكثرة الخير .
فقوله تعالى : ﴿ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ . أي : إليه اتجاههم في صلاتهم وتعبداتهم ، فالمؤمنون يأتون حجاجًا وعمارًا ، فتحصل لهم بذلك أنواع الهداية من معرفة الحق وصلاح العقيدة ، وغير ذلك .
ولهذا يقول أحد المستشرقين لأصحابه لما اجتمعوا ليخططوا لإضلال المسلمين ؛ قال لهم : ( لا تطمعوا في إضلالهم ما بقي لهم هذا المصحف وهذه الكعبة ) .
وقوله تعالى : ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ . يعني : دلالات واضحات على التوحيد ، من : الركن والمقام ، والصفا والمروة ، والمشاعر كلها .
وقوله تعالى : ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ . يعني : أن الله جعل حول هذا البيت حرمًا إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء حتى في وقت الجاهلية كان الرجل يلقى قاتل أبيه ، فلا يمسه حتى يخرج من هذا الحرم ، وقال تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ . [ العنكبوت : 67 ] . حتى إن الصيد فيه لا يقتل ولا ينفر من أوكاره ، ولا يقطع شجرة ولا يقلع حشيشة .
ومن خصائص هذا البيت :
أن الله أوجب على الأمة كلها حجه كل عام ، وأوجب على الأفراد حجه مرة في العمر مع الاستطاعة ، قال تعالى : ﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾ . [ آل عمران : 97 ] .
فحجه على المجموع فرض كفاية كل عام ، وحجه على الأفراد فرض عين مرة في العمر مع الاستطاعة . وإنما شرع الله للناس الحج إلى بيته ليشهدوا منافع لهم ، لا لحاجة به إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه .
وقد افتتح الله سبحانه بيان شرعية حج هذا البيت بذكر محاسنه ليرغب الناس في قصده والإتيان إليه ، ولهذا أقبلت قلوب العباد إليه حبًا وشوقًا إلى رؤيته ، ولهذا قال سبحانه : ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ﴾ . [ البقرة : 152 ] . أي : كما يثوبون إليه ويرجعون إليه كل عام من جميع الأقطار ، ولا يقضون فيه وطرًا ، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا اشتياقًا إليه .
وقد حكم الله بكفر من ترك الحج وهو يقدر عليه ؛ فقال تعالى : ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ﴾ . [ آل عمران : 97 ] . فمن تركه جاحدًا لوجوبه فلا شك في كفره ، وهذا بإجماع المسلمين ، ومن تركه تكاسلاً أجر عليه ، وإن مات قبل أن يحج أخرج من تركته قدر ما يحج به عنه .
عن علي - رضي الله عنه - قال : ( قال رسول الله : فلا يضره مات يهوديًا أو نصرانيًا ، وذلك بأن الله قال : ﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ . [ آل عمران : 97 ] ) . [ رواه ابن جرير ] .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديًا أو نصرانيًا ) .
وقال أيضًا - رضي الله عنه - : ( لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين ) .
فليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها ، ولا بيت يشرع الطواف حوله إلا المسجد الحرام والبيت العتيق ، فأفضل بقاع الأرض هو المسجد الحرام ، وأفضل بيت على وجه الأرض هو الكعبة المشرفة .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في مكة : ( والله إنك لخير أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك لما خرجت ) . قال الترمذي : ( هذا حديث صحيح ) .
فالحمد لله الذي جعل للمسلمين لهذا البيت العظيم الذي تقر به أعينهم ، وتحط بزيارته والطواف به والصلاة عنده أوزارهم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) . فاشكروا الله - أيها المسلمون - على نعمته ، واسألوه أن يعمكم بواسع رحمته .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ . [ الحج : 26 - 31 ] .
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واشكروه على نعمه التي لا تحصى ، ومن أعظمها أن جعل لكم هذا البيت الشريف ، وهذا الحرم المنيف ، يتجه المسلمون إليه في صلواتهم من جميع أقطار الأرض ، ويفدون إليه حاجين ومعتمرين من كل فج عميق . ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ . [ الحج : 28 ] . فيلتقون حوله ويتعارفون عنده ، فتتألف قلوبهم ويتعاونون على تحصيل مصالحهم وحل مشاكلهم ، وتظهر قوة الإسلام ووحدة المسلمين ، ويرفع شعار الدين ، وتزول كل الفوارق المصطنعة إلا فارق التقوى ، وتسقط كل الشعارات البشرية والشرائع الجاهلية ، ولا يبقى إلا شعار الدين ، وشريعة رب العالمين ، وتبطل كل الاعتقادات الشركية ، ولا يبقى إلا العقيدة الحنيفية ، ملة إبراهيم إمام الملة الإسلامية .
فإن هذا البيت أسس على التوحيد حين أمر الله إبراهيم وإسماعيل ببنائه ، وقال تعالى : ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ . [ البقرة : 125 ] . وقال تعالى : ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ . [ الحج : 26 ] .
فمن حاول أن يجلب الوثنية إلى هذا البيت ، ويقيمها حوله ، أزاله الله من الوجود ، وأذاقه العذاب الأليم ، كما فعل بعمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار جزاءً له على ما أحدث من تغيير دين إبراهيم وتسييب السوائب للأصنام ، وكما فعل بقريش على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الإسلام وصحابته الكرام ، حين فتحوا مكة ومحوا ما فيها وحولها من الأصنام .
ومن أراد بهذا البيت وقاصديه والمتعبّدين فيه سوءًا ، أذابه الله بالعذاب كما يذوب الملح في الماء . قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ . [ الحج : 25 ] .
ولما أراد أبرهة ملك الحبشة هدم هذا البيت وصرف الناس عنه وجهز لذلك جيشًا هائلاً ، وفيه فيل عظيم ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في أركانها ويربطها في عنق الفيل ليجرها ويلقي جدرانها جملة واحدة ، وكان لا يمر في طريقه بقبيلة من قبائل العرب إلا دهمها ، إلى أن وصل إلى أرض الحرم فخرج أهل مكة إلى رؤوس الجبال خوفًا منه ، ولما تهيأ الجيش لدخول مكة وهيؤوا الفيل ووجهوا نحوها برك ، فضربوه ليقوم فأبى ، وإذا وجهوه إلى غير مكة قام يهرول . وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أمثال : الحمص والعدس . فحلقت فوقهم ورمتهم بتلك الحجارة فهلكوا ، وأنزل الله في ذلك قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ . [ الفيل : 1 - 5 ] .
والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمّرهم فأصبحوا ملقين على الأرض كعصف مأكول ، وهو التبن الذي أكلته البهائم وراثته ، وفي هذا أعظم عبرة وأكبر زاجر لمن يريد هذا البيت بسوء أن الله يهلكه ويجعله عبرة للمعتبرين .
وهذا البيت الشريف له خصائص عظيمة ؛ منها :
أنه أول بيت وضع للناس على وجه الأرض ، قال تعالى : ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ . [ آل عمران : 96 - 97 ] .
فأخبر سبحانه أنه أول المساجد في الأرض ، فهو قبل بيت المقدس ، وهذا من أعظم الآيات البينات فيه ، حيث تعاقبت عليه آلاف السنين ، وهو باق كما وضعه الله منارة للتوحيد ومثابة للناس ، مع حرص الكفار على إزالته والقضاء عليه بكل وسيلة ، ومع هذا بقي يتحدى كل عدو ، ولهذا سماه الله بالبيت العتيق . قيل : سمي عتيقًا ، لأنه أول بيت وضع للناس ، وقيل : لأن الله أعتقه من الجبابرة ، فلم يظهر عليه جبار قط ، وقيل : لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح - عليه السلام - ، وأنه مبارك ، أي : ذو بركة لما جعل الله في حجه والطواف به من الأجر وتكفير السيئات ، وأنه تضاعف فيه الحسنات ، والبركة وكثرة الخير .
فقوله تعالى : ﴿ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ . أي : إليه اتجاههم في صلاتهم وتعبداتهم ، فالمؤمنون يأتون حجاجًا وعمارًا ، فتحصل لهم بذلك أنواع الهداية من معرفة الحق وصلاح العقيدة ، وغير ذلك .
ولهذا يقول أحد المستشرقين لأصحابه لما اجتمعوا ليخططوا لإضلال المسلمين ؛ قال لهم : ( لا تطمعوا في إضلالهم ما بقي لهم هذا المصحف وهذه الكعبة ) .
وقوله تعالى : ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ . يعني : دلالات واضحات على التوحيد ، من : الركن والمقام ، والصفا والمروة ، والمشاعر كلها .
وقوله تعالى : ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ . يعني : أن الله جعل حول هذا البيت حرمًا إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء حتى في وقت الجاهلية كان الرجل يلقى قاتل أبيه ، فلا يمسه حتى يخرج من هذا الحرم ، وقال تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ . [ العنكبوت : 67 ] . حتى إن الصيد فيه لا يقتل ولا ينفر من أوكاره ، ولا يقطع شجرة ولا يقلع حشيشة .
ومن خصائص هذا البيت :
أن الله أوجب على الأمة كلها حجه كل عام ، وأوجب على الأفراد حجه مرة في العمر مع الاستطاعة ، قال تعالى : ﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾ . [ آل عمران : 97 ] .
فحجه على المجموع فرض كفاية كل عام ، وحجه على الأفراد فرض عين مرة في العمر مع الاستطاعة . وإنما شرع الله للناس الحج إلى بيته ليشهدوا منافع لهم ، لا لحاجة به إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه .
وقد افتتح الله سبحانه بيان شرعية حج هذا البيت بذكر محاسنه ليرغب الناس في قصده والإتيان إليه ، ولهذا أقبلت قلوب العباد إليه حبًا وشوقًا إلى رؤيته ، ولهذا قال سبحانه : ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ﴾ . [ البقرة : 152 ] . أي : كما يثوبون إليه ويرجعون إليه كل عام من جميع الأقطار ، ولا يقضون فيه وطرًا ، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا اشتياقًا إليه .
وقد حكم الله بكفر من ترك الحج وهو يقدر عليه ؛ فقال تعالى : ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ﴾ . [ آل عمران : 97 ] . فمن تركه جاحدًا لوجوبه فلا شك في كفره ، وهذا بإجماع المسلمين ، ومن تركه تكاسلاً أجر عليه ، وإن مات قبل أن يحج أخرج من تركته قدر ما يحج به عنه .
عن علي - رضي الله عنه - قال : ( قال رسول الله : فلا يضره مات يهوديًا أو نصرانيًا ، وذلك بأن الله قال : ﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ . [ آل عمران : 97 ] ) . [ رواه ابن جرير ] .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديًا أو نصرانيًا ) .
وقال أيضًا - رضي الله عنه - : ( لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين ) .
فليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها ، ولا بيت يشرع الطواف حوله إلا المسجد الحرام والبيت العتيق ، فأفضل بقاع الأرض هو المسجد الحرام ، وأفضل بيت على وجه الأرض هو الكعبة المشرفة .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في مكة : ( والله إنك لخير أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك لما خرجت ) . قال الترمذي : ( هذا حديث صحيح ) .
فالحمد لله الذي جعل للمسلمين لهذا البيت العظيم الذي تقر به أعينهم ، وتحط بزيارته والطواف به والصلاة عنده أوزارهم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) . فاشكروا الله - أيها المسلمون - على نعمته ، واسألوه أن يعمكم بواسع رحمته .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ . [ الحج : 26 - 31 ] .