سالم علي
2008-12-10, 21:42
يا أهل العقول ما هو حكمكم على من وجد نفسه قد نقل إلى مدينة مجهولة، أو صحراء لا يعرفها بدون اختيار منه أو إرادة، وعرف أن هناك من نقله وجاءه رسل من الذي جاء به إلى تلك المدينة أو الصحراء لإرشاده وهدايته ثم هو بعد ذلك لا يهتم بالتعرف على من جاؤوا لإنقاذه وهدايته، يحاربهم وهم يتحملون أذاه؟ يسبهم وهم يتقربون إليه.
إن العاقل لا بد أن يقول: إن أول واجب على هذا الإنسان الضائع الذي جيء به إلى عالم مجهول أن يبحث عن الذي جاء به إلى هذا المكان المجهول بدون إرادة منه وأن يعرف الحكمة من مجيئه وإن وجد رسلاً قد جاؤوا بهدايته فعليه أن يمتحن صدقهم فإن وثق بهم أكرمهم وتابعهم، أما الذي لا يهتم بأمر نفسه أو من جاء به، أو بالرسل المرسلين من الله فلا شك في سفاهته وحمقه فإذا تفكر العاقل في حياته على هذه الدنيا، وكيف كان تراباً ميتاً، ثم أصبح بشراً سوياً.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ (سورة الروم: آية 20)وكم الفرق بين عالم التراب الميت الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يتحرك ولا يحس ولا ينمو ولا يتناسل ولا يتصف بأي صفة من صفات الحياة وبين هذا البشر الحي المتحرك الذي ملأ الأرض حركة وحياة. وإذا تفكر العاقل، في قصة انتقاله من عالم التراب الميت إلى عالم البشر ورأى كيف تحول التراب إلى نطفة من ماء مهين عن طريق تحوله إلى طعام، ثم كيف تحولت النطفة إلى علقة فمضغة فعظام , فكسا العظام لحماً وكيف دبت الحياة والروح في الجنين البشري؟ وكيف خرج طفلاً ثم كان بشراً سوياً.
لو تفكر في ذلك كله لرأى أنه لم يكن له اختيار في شيء من ذلك ولعلم أن أول واجب عليه هو أن يتعرف على من بيده أمر وجوده وحياته، ونشأته وتصويره الذي جاء بالإنسان إلى
الدنيا بدون إذن أو اختيار من الإنسان ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (سورة الإنفطار: آية 6- 8).
فما الذي صرفك ايها الإنسان عن ردك الذي انشأك وصورك؟
أتحسب أنك قد جثت من العدم؟ وأن العدم الذي لا وجود له هو الذي ركبك؟ أما علمت أن العدم لا يخلق شيئاً ولقد علمت أنك لم تخلق من نفسك شيئاً؟! فلا بد أن لك خالقاً قد خلقك﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾ (سورة الطور: آية 35)فإذا كان أمر وجودك وحياتك وخلقك بيد الله الذي صورك وركبك، فلا بد أن تعرف الذي أمرُك بيده، ووجودك بيده وأنت رهن مشيئته ولا بد أن تكون معرفتك لربك أول واجب عليك أيها العاقل.
ملكُ مَن نحن
وهذه اليد التي تعمل بها، والقدم التي تسير عليها، واللسان الذي تنطق به، والعقل الذي تدبر وتفكر به وكل شيء تستخدمه وتنتفع به في جسمك وحياتك ملك من هو؟.
بل ملك من أنت؟ وملك من نحن جميعاً؟.
إن دلالة الملك بالحرية في التصرف في المملوك؟ فهل أنت الذي اخترت أن تأتي إلى هذه الدنيا؟ وهل أنت الذي اخترت أباك وأمك؟ وهل أنت الذي اخترت بلادك؟ أو الزمان الذي تولد فيه؟ وهل أنت اخترت صورتك وصفاتك الجسدية والنفسية والعقلية أو أن تكون ذكراً أو أنثى ؟ وهل أنت الذي تختار لنفسك أن تعود إلى حياة الضعف في مرحلة الشيخوخة بعد القوة؟.
إلى الجهل بعد العلم؟ إلى المرض بعد الصحة وإلى الموت بعد الحياة﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ (سورة الروم: آية 54) تلك أهم أمورك؟ لا تملك منها شيئاً لأنك لا تملك التصرف في واحدة منها. فهل أنت الذي تملك التصرف في هذه الأمور بالنسبة لأولادك؟ أو بالنسبة لأقربائك أو قبيلتك أو مدينتك أو شعبك أو أمتك؟ وهل يملك الآباء أو الأقارب أو القبيلة أو الشعب أو الأمة لأنفسهم شيئاً من هذه المقدرات المفروضة من الخالق لي ولك ولكل الناس في قديم الزمان واليوم وفي آخر الزمان؟!.
وإذن أنت مملوك... وأنا مملوك وكل هذه الأمم والشعوب والحكام والمحكومين محكومون للذي خلقهم كما يريد، وجاء بهم إلى هذه الدنيا وأخرجهم منها وأعطى لكل مخلوق منهم المواهب التي خلق عليها.
ثم تأمل أيها العاقل في يدك أو قدمك هل خلقت منها لحماً أو عظماً أو دماً أو حتى شعرة واحدة؟ ثم تأمل هل خلقت لإنسان غيرك شيئاً من جسمه أو كيانه؟ ثم تأمل هل خلق الشعب أو القبيلة أو الدولة شيئاً منك أو من غيرك من الناس؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (سورة الأعراف: آية 194)والآن ما رأيك في شخص يمر بحانوت أو مصنع- تركه
صاحبه بعض الوقت- أو مزرعة أو مكتب، فدخل هذا الشخص وأخذ يتصرف بمحتويات ذلك الحانوت أو المصنع أو المزرعة أو المكتب، وأخذ يقدم ويؤخر ويرفع أشياء ويخفض غيرها وينتقل من مكان إلى آخر بدون إذن من صاحب ذلك الحانوت أو المصنع أو المزرعة أو المكتب؟!.
إن كل عاقل سيحكم بسفاهة هذا العابث الذي تصرف في ملك غيره بدون إذن من المالك... وسل نفسك الآن هل أنت من السفهاء الذين يتصرفون فيما لا يملكون بدون إذن المالك؟!
فإذا تأمل العاقل في نفسه وجد أنه لا يملك من نفسه شيئاً وأن عليه أن لا يتصرف في شيء إلا بعد أن يعرف مالكه، ويعرف منه الهدى ويتلقى منه الأمر ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأعراف: آية 54)لذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف مالكه، وأن يعرف رسول ربه إليه.
لِمَاذا خُلِقنَا؟
لو وقف الأطباء في العالم كله في صف واحد، وسألتهم: هل خلقت عيون الإنسان لحكمة؟ لأجابوا جميعاً: نعم , ومن كذب ذلك فليقلع عينيه. ولو سألتهم عن الفم والأسنان والأذنين والأنف واليدين والقدمين والقلب والرئتين وعن كل عرق صغير أو خلية في الإنسان, هل خلقت هذه الأجزاء لحكمة؟ لأجابوا جميعاً: نعم, ولو سألتهم عن التفاصيل، لقالوا: إن هذا يحتاج منا إلى عشرات السنين لكي نستكمل المعرفة بدقائق الخلق في جسم الإنسان... وإذا سألتهم هل ترتبط حكمة الجزء من كيان الإنسان بكيان الإنسان بأجمعه؟ لأجابوا جميعاً: نعم, إن الحكمة من الفم أن يأكل لجميع أجزاء الإنسان, والحكمة من الرئتين أن تتنفسا لجميع أجزاء جسم الإنسان, والحكمة من القلب أن يرسل الدماء إلى جميع أجزاء الجسم, والحكمة من القدمين أن تنتقلا بكيان الإنسان كله... وهكذا ما أُحكم خلق الجزء إلا ليؤدي مهمة تتعلق بكيان الإنسان بأجمعه.
وإذا كان كل جزء فيك قد خُلق لحكمة؟ وما أُحكمت أعضاؤك إلا لخدمتك بأجمعك، فلا شك أنك قد خلقت لحكمة.
فهل تعلم لماذا خلقت؟ ولماذا خلق الناس جميعاً؟ إنك إذا لم تعرف حكمة خلقك تكون أهون من الورقة التي أمامك؟... لأن لهذه الورقة حكمة وهي أن تكتب عليها وأما أنت فلا حكمة لك في نظرك؟ فتأمل في شأنك كيف تعيش و أنت لا تعرف حكمة خلقك؟.
إن من لا يعرف الحكمة من الأشياء التي حوله مغفل عند كل الناس، والذي لا يعرف الحكمة من قطع الملابس التي يلبسها مغفل أكبر منه. ومن لا يعرف الحكمة من عينه أو فمه أو يده أو قدمه مغفل أكبر من سابقيه، ولكن أكبر مغفل وجاهل على وجه الأرض هو ذلك الذي لا
يعرف الحكمة من خلقه بأجمعه؟! ولا يعرف الحكمة من حياته كلها !! تنتهي حياته على الأرض وهو لا يعرف لماذا عاش؟ ولماذا يموت؟ إن حياته في نظر نفسه أقل شأناً من نعليه لأن نعليه لهما حكمة، أما هو فلا حكمة في نظره لحياتها كلها؟ ولا لحياة الناس جميعاً﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ (سورة محمد: آية 12). فهم يعيشون كما قال الشاعر:
جئت لا أعلم من أين
ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟
كيف أبصرت طريقي
لست أدري
ولماذا لست أدري.. لست أدري
وإذا كان الضالون لا يعرفون حكمة وجودهم, فنحن المسلمين نعرف تلك الحكمة، وإن كانوا لا يعرفون لماذا لا يعرفون (ولماذا
لست أدري) فذلك يرجع إلى أن الحكمة من المصنوع تختفي في نفس الصانع وتعلم بتعليم منه وكذلك الحكمة من خلق الإنسان قد خفيت عنا في نفس خالقنا وتُعلم بتعليم يأتينا منه وحده.
لذلك فلن يعرف الإنسان حكمة خلقه ووجوده إلا بتعليم من خالقه وما لم يعرف الإنسان خالقه ستسقط كرامة الإنسان عند نفسه، ولا يبعد عليه أن يسمي نفسه حيواناً ناطقاً أو خنفساً من الخنافس وربه ينادي ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (سورة الإسراء: آية 70)فيأبى الإنسان لنفسه إلا الهوان. لذلك كله كان أول واجب على الإنسان أن يعرف الله وأن يعرف رسوله..
هَل نحنُ ضَائِعون
وإذا تأمل الإنسان في حياة الناس وجد حياة أكثرهم تشهد أنهم في تيه وضياع, فعلامة الضائعين وأمارتهم أن تجدهم مختلفين في طريقهم مترددين في أعماق أنفسهم قلقين في مشاعرهم أدلتهم ظنون وأوهام وأماني وهكذا حياة أكثر الناس اليوم.
فهذه الدول تعيش في اختلاف وصراع وكذلك الأحزاب والهيئات والجماعات والقبائل داخل تلك الدول ونشهد الصراع أيضاً والاختلاف داخل أجنحة الحزب الواحد والهيئة الواحدة، والجماعة الواحدة والقبيلة الواحدة، وفي داخل كل جناح خلاف وصراع وحياة كأنها الضياع، فما هو السر في هذا الاختلاف وما هو السر في حياة الضياع؟. وما هو السر في هذا الصراع؟ لو تأملنا وتفكرنا لوجدنا أن السبب في الاختلاف يرجع إلى أن الناس قد اختلفوا في مبادئهم وآرائهم، وإذا تفكرنا في سبب اختلاف الناس في مبادئهم وآرائهم وجدنا أن السبب يرجع إلى اختلافهم فيما يلي:
- اختلاف الناس في علومهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في أخلاقهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في أفهامهم وعقولهم وهذا يؤدي إلى اختلاف آرائهم.
- اختلاف الناس في تجاربهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في مصالحهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
فإذا كان رأي كل واحد منا يتوقف على علمه، وخلقه، وفهمه، وتجربته، ومصلحته.
وإذا كان الناس يختلفون في كل هذا ولا يمكن أن تجد اثنين علومهم وأخلاقهم وأفهامهم، وتجاربهم ومصالحهم متساوية وموحدة, إذن فلا يمكن للبشر أن يتحدوا إلا إذا وحدنا آراءهم.
ولا يمكن أن تتحد الآراء والنظريات إلا إذا وحدنا الناس فجعلنا علومهم وأخلاقهم وأفهامهم وعقولهم وتجاربهم ومصالحهم واحدة. وهذا مستحيل فلا بد من الاختلاف ومن المستحيل، إذن أن يكون اتحاد بين الناس ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ (سورة هود: آية 118- 119) فما هو الحل لهذا؟.
إن الحل الوحيد هو أن يعرف الناس أن لهم خالقاً قد أحاط بكل شيء علماً وله أكمل الأخلاق وأعظم الصفات وله الأسماء الحسنى وهو الخبير الذي ما غاب ولا يغيب عن علمه ولن يغيب شيء وأنه الرب الرحيم الذي استوى الناس أمامه في عبوديته ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ (سورة الزمر: آية 7) فإذا عرف الناس ربهم وبحثوا عن هداه خرجوا من ذلك الاختلاف وأنقذوا أنفسهم من نتائجه وعاشوا عباداً متحدين معتصمين بحبل ربهم مهتدين بهداه قال تعالى﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ (سورة هود: آية 18 1- 19 1) وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة النحل: آية 64)لذلك كله فإنه لا يخرج الناس من الاختلاف إلا إذا عرفوا ربهم ولذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه.
وإذا تأملنا في السر الذي يبعث في الناس مشاعر الخوف من المجهول الذي قد يحدث في غدهم أو قد يلقاهم بعد موتهم، وإذا تأملنا في سر ذلك القلق الذي يغمر حياة الكفار في هذا الزمان، وجدنا أن السر يرجع إلى أنهم يعيشون في الدنيا لا يعرفون لحياتهم معنى ولا يعرفون الذي أوجدهم ولا يعرفون الطريق التي ترضي خالقهم ولا يعرفون ماذا ينتظرهم بعد موتهم؟ فهم يتخبطون وهم في قلق لا يطمئنون ولن يجد الناس الاطمئنان في العيش والرضى بحياتهم إلا إذا عرفوا ربهم وآمنوا به, قال تعالى: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (سورة الفجر: آية 27- 30) لذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه وخالقه.
وإذا تأملنا في السر الذي سبب هذا الصراع بين الناس رأينا أنه يرجع إلى جهل الناس بخالقهم وحكمته من خلقهم.
لأن كل إنسان قد خلق الله فيه طموحاً واسعاً بحيث لا تكفي الأرض لتحقيق طموح واحد من بني الإنسان فلو قيل لشخص قد ملكناك نصف الأرض لقال أريد نصفها الثاني فما هي نتيجة هذه الأطماع الواسعة التي تلتهب في نفوس الناس؟ الصراع هو النتيجة ولا مفر منه في ظل الكفر بالله تعالى, لأن الكافر يظن أنه ليس له من الحياة إلا هذه الدنيا ومتاعها وليس له من هذه الدنيا إلا ما تمتع به وتلذذ به وما في الأرض لا يكفي لتحقيق متعه ورغباته ولذاته فكيف وهو يجد ملايين من البشر, كل واحد مثله يريد أن يمتلك الدنيا لوحده وأن يخضعها لحكمه, فلا بد من الصراع على أطماع الدنيا ومتاعها الزائل! ولا بد من الصراع في داخل البيوت بين الأخ وأخيه ولا بد من الصراع في القرية أو الحارة بين الأسر.
لا بد من الصراع بين المناطق المختلفة، والقبائل المختلفة، والتجمعات المختلفة.
لا بد من الصراع بين الدول والأحلاف على وجه الأرض.
وهذا هو الواقع !! ومن لا يعيش الصراع يعد للصراع !! ولا مفر منه في ظل الكفر وكلما تذكر الإنسان الموت، ورأى أنه قد يفجؤه في أي لحظة أحس بقصر العمر فانطلق كالمجنون المسعور يزيد من صراعه ومنافسته ليفوز بأكبر قدر من متاع الدنيا قبل أن تنتهي حياته وهكذا يقدم الصراع على أطماع الدنيا وتستخدم في هذا الصراع كل الأسلحة والحيل مهما كانت خبيثة غادرة وهذا هو الواقع... ولا مفر منه في ظل الكفر إلا بالفرار إلى رحاب الإيمان, لأن المؤمن يعلم أن ربه قد خلق له ما يكفي طموحه وأطماعه في جنة عرضها السموات والأرض أعد الله فيها للمؤمنين كل ما تشتهيه نفوسهم وتلذ به أعينهم وهم فيها خالدون، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (سورة الزخرف: آية 69- 71) وعلم المؤمن أنه لن يفوز بهذا النعيم الدائم كما أنه لن ينجو من عذاب الجحيم إلا إذا نجح في امتحان طاعته لربه الذي يؤديه أثناء حياته وبقائه على وجه الأرض, وعلم المؤمن أن نجاحه في الامتحان لا يكون إلا باتباع أوامر خالقه ومالكه واجتناب ما نهاه عنه، وعلم المؤمن أن ربه قد أمره أن يأخذ حظه من متاع الدنيا من الطرق الحلال التي لا غش فيها ولا خداع ولا استغلال ولا ظلم وأن له ما يكفيه ويكفي من يعوله وعليه حق نحو من عجزوا عن أخذ ما يحتاجون له من متاع الدنيا, فترى المؤمن عاملاً مجداً، ومنافساً شريفاً، ومنفعاً متعاوناً مواسياً، وهكذا يعيش المؤمن في مجتمع تشيع فيه المحبة بدلاً من العداوة, والتعاون بدلاً من التقاطع, والمحبة بدلاً من الكراهية، والشرف بدلاً من الخسة، والعفة بدلاً من الدناءة، والكرم بدلاً من الشح، والمواساة بدلاً من الاستغلال، والعدل بدلاً من الظلم، والتواضع بدلاً من التكبر، و الرضى والسعادة بدلاً من السخط والقلق والشقاء والتعاسة.
وهكذا كان واقع المسلمين يوم أن كانوا مؤمنين أقوياء في إيمانهم ولا تزال هذه الصفات الطيبة في تناقص واختفاء في مجتمعات المسلمين، ويلاحظ اختفاؤها بقدر ما يصيب الإيمان من ضعف في نفوس أصحابه. وتعود للظهور مرة ثانية بقدر ما يعود الإيمان بالله ورسوله لينتهي الصراع بين الناس ولتعود الحياة الإسلامية الصالحة للظهور مرة ثانية كما ظهرت أول مرة ولذلك كان أهم واجب وأول واجب على الإنسان أن يعرف الله تعالى.
مَاذا ننتظرُ في سَاحَةِ الإعدَام
أنت ومن في الأرض جميعاً ستخرجون من الدنيا فبما يقارب مئة عام (إذا شاء الله) بعدها ستكون في عداد الأموات، قال تعالى﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ (سورة النساء: آية 78) فما أنت إلا من أبناء الموت وأنت تنتظر موعد طلبك للخروج من الدنيا كذلك الذي قد أخرج مع فوج كبير إلى ساحة الإعدام وهو ينتظر دوره الذي لا مفر منه وسيأتيك الموت في لحظة معينة، فقد تصبح مع الأحياء فلا تمسي إلا مع الأموات, وقد نمسي مع الأحياء فلا تصبح إلا مع الأموات. قال تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ (سورة ق: آية 19)وما أنت إلا أيام أيها الإنسان كلما مر يوم نقصت وقربت من أجلك ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (سورة الجمعة: آية 8) ستخرج راضياً أو كارهاً، وسيخرج الملوك والرؤساء والأغنياء كما خرجوا في الأمم الماضية, وكما يخرج الأفراد والفقراء والضعفاء, وستخرج كل الشعوب كما خرجت من قبل, فليس الناس إلا عبيداً لمن أحياهم وأماتهم بدون إذن منهم أو اختيار. وستترك مالك وسلطانك وأهلك وأحبابك وعلمك وعملك وخبرتك وصحتك وجمالك, وسيعود جسدك إلى ما بدأ منه، وستأتي اللحظة التي ينسلخ فيها لحمك عن عظامك وتتمزق فيها عروقك وأحشاؤك وسيصبح هذا الجسد الحي أمامك قليلاً من العظام تحت كتلة من التراب وسيطول بك المقام كما طال بسابق الأقوام فهل سألت نفسك عن حقيقة مصيرك الدائم وهل فهمت ما سيكون من أمرك في مستقبلك الطويل؟!.
إنك ومن في الأرض من الدول والشعوب تبذلون أقصى الجهود لتأمين مستقبل يعد بالسنين ولا يلبث أن تنتهي أعوامه وأيامه! فماذا أعددت لمستقبلك الدائم وهل هناك مستقبل؟ وهل هناك حياة بعد هذه الحياة؟ وهل ترتبط تلك الحياة بهذه الحياة؟ وما هو طريق الفوز والنجاة؟ وما الذي يؤكد لنا هذه الأخبار؟ إن الذي خلقنا أول مرة من تراب ليس بعسير عليه أن يبعثنا مرة أخرى بعد أن نعود تراباً. إن الذي ظهرت حكمته من خلقنا وأطوار خلقنا لا شك أنه قد أراد حكمة من موتنا ستظهر إن انتقلنا إلى طورنا الجديد بعد الموت.. إن الذي أتقن خلق الإنسان من نطفة تمنى لن يتركه يذهب سدى.. إن الذي أقام الحق في الأرض والسماء سيقيم الحق فيما عمل الإنسان من خير وشر فيجزي المحسن ويعاقب المسيء في يوم الحساب.. إن الذي بعث الرسل مبشرين ومنذرين من يوم الحساب بعد الموت في كل أمة لن يخلف وعده وسيصدقه رسله.. إن علامات قرب الساعة قد ظهرت في الدنيا كما أخبر محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فما بقي إلا أن نرى الساعة كما رأينا اليوم علاماتها. ولقد ثبت أن الأرض تحتفظ بسجل لأعمالنا (الصوت والصورة) وما حفظ وسجل إلا لعرضه مرة ثانية. قال تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾( سورة الزلزلة: آية ا- 4).
إن الذي يبدأ الخلق ثم يعيده قادر على إعادة خلقنا مرة ثانية كما بدأه أول مرة.
إن الأمر خطير إذن... إنه أمر المستقبل الدائم والمصير الدائم.
إما حياة النعيم... أو حياة الجحيم.
ولن يزول عنك الخوف من مستقبلك المجهول إلا إذا تحققت من صدق رسل ربك وتأكدت أن ما أخبروك به هو الحق من ربك الذي أحياك ويميتك ويبعثك وعندئذ تهدأ خواطرك وتسعد حياتك، ويذهب عنك القلق والفزع من المصير المجهول الذي ينتظرك ولكن ذلك كله لن يكون إلا إذا آمنت بالله ورسوله لذلك كله كان أول واجب على الإنسان أن يؤمن بالله تعالى وأن يعرف رسول الله إليه.
أعظَمُ صلة
إن الإنسان العاقل يحس وشعر بضعفه أمام قوة خالقه الذي يتصرف به كيفما يشاء، فربه الخالق المالك وهو المخلوق المملوك، وربه القوي العزيز الوهاب وهو الضعيف الخائف المحتاج، وربه الغني وهو الفقير، وربه الحاكم المسيطر القهار، وهو المستسلم الخاضع لحكم ربه، والإنسان حائر متردد جاهل وخالقه العليم الهادي المرشد الذي علم الإنسان ما لم يعلم. فما أحوج المخلوق المملوك الضعيف الخائف إلى خالقه المالك القوي المؤمن العزيز الوهاب.
وما أحوج الإنسان الفقير الخاضع المستسلم إلى ربه الغني الحاكم المسيطر القهار.
وما أحوج العبد المتردد الحائر الجاهل إلى إرشاد سيده، المرشد الهادي العليم.
إن الإنسان في أمَسّ الحاجة لتحقيق صلة دائمة بربه فإن حققها أمن المخاوف وعاش في ظل رعاية ربه، واثقاً مطمئناً سعيداً، كما يشاهد في أحوال المؤمنين الصادقين وكما عرف من تاريخ المسلمين الصادقين. لكن هذه السعادة وهذه الرعاية والألطاف الإلهية، والنصر والتثبيت لا تتحقق إلا بعد تحقق أهم صلة بين المخلوق وخالقه تلك هي صلة إيمان المخلوق بخالقه.
إن العاقل لا بد أن يقول: إن أول واجب على هذا الإنسان الضائع الذي جيء به إلى عالم مجهول أن يبحث عن الذي جاء به إلى هذا المكان المجهول بدون إرادة منه وأن يعرف الحكمة من مجيئه وإن وجد رسلاً قد جاؤوا بهدايته فعليه أن يمتحن صدقهم فإن وثق بهم أكرمهم وتابعهم، أما الذي لا يهتم بأمر نفسه أو من جاء به، أو بالرسل المرسلين من الله فلا شك في سفاهته وحمقه فإذا تفكر العاقل في حياته على هذه الدنيا، وكيف كان تراباً ميتاً، ثم أصبح بشراً سوياً.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ (سورة الروم: آية 20)وكم الفرق بين عالم التراب الميت الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يتحرك ولا يحس ولا ينمو ولا يتناسل ولا يتصف بأي صفة من صفات الحياة وبين هذا البشر الحي المتحرك الذي ملأ الأرض حركة وحياة. وإذا تفكر العاقل، في قصة انتقاله من عالم التراب الميت إلى عالم البشر ورأى كيف تحول التراب إلى نطفة من ماء مهين عن طريق تحوله إلى طعام، ثم كيف تحولت النطفة إلى علقة فمضغة فعظام , فكسا العظام لحماً وكيف دبت الحياة والروح في الجنين البشري؟ وكيف خرج طفلاً ثم كان بشراً سوياً.
لو تفكر في ذلك كله لرأى أنه لم يكن له اختيار في شيء من ذلك ولعلم أن أول واجب عليه هو أن يتعرف على من بيده أمر وجوده وحياته، ونشأته وتصويره الذي جاء بالإنسان إلى
الدنيا بدون إذن أو اختيار من الإنسان ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (سورة الإنفطار: آية 6- 8).
فما الذي صرفك ايها الإنسان عن ردك الذي انشأك وصورك؟
أتحسب أنك قد جثت من العدم؟ وأن العدم الذي لا وجود له هو الذي ركبك؟ أما علمت أن العدم لا يخلق شيئاً ولقد علمت أنك لم تخلق من نفسك شيئاً؟! فلا بد أن لك خالقاً قد خلقك﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾ (سورة الطور: آية 35)فإذا كان أمر وجودك وحياتك وخلقك بيد الله الذي صورك وركبك، فلا بد أن تعرف الذي أمرُك بيده، ووجودك بيده وأنت رهن مشيئته ولا بد أن تكون معرفتك لربك أول واجب عليك أيها العاقل.
ملكُ مَن نحن
وهذه اليد التي تعمل بها، والقدم التي تسير عليها، واللسان الذي تنطق به، والعقل الذي تدبر وتفكر به وكل شيء تستخدمه وتنتفع به في جسمك وحياتك ملك من هو؟.
بل ملك من أنت؟ وملك من نحن جميعاً؟.
إن دلالة الملك بالحرية في التصرف في المملوك؟ فهل أنت الذي اخترت أن تأتي إلى هذه الدنيا؟ وهل أنت الذي اخترت أباك وأمك؟ وهل أنت الذي اخترت بلادك؟ أو الزمان الذي تولد فيه؟ وهل أنت اخترت صورتك وصفاتك الجسدية والنفسية والعقلية أو أن تكون ذكراً أو أنثى ؟ وهل أنت الذي تختار لنفسك أن تعود إلى حياة الضعف في مرحلة الشيخوخة بعد القوة؟.
إلى الجهل بعد العلم؟ إلى المرض بعد الصحة وإلى الموت بعد الحياة﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ (سورة الروم: آية 54) تلك أهم أمورك؟ لا تملك منها شيئاً لأنك لا تملك التصرف في واحدة منها. فهل أنت الذي تملك التصرف في هذه الأمور بالنسبة لأولادك؟ أو بالنسبة لأقربائك أو قبيلتك أو مدينتك أو شعبك أو أمتك؟ وهل يملك الآباء أو الأقارب أو القبيلة أو الشعب أو الأمة لأنفسهم شيئاً من هذه المقدرات المفروضة من الخالق لي ولك ولكل الناس في قديم الزمان واليوم وفي آخر الزمان؟!.
وإذن أنت مملوك... وأنا مملوك وكل هذه الأمم والشعوب والحكام والمحكومين محكومون للذي خلقهم كما يريد، وجاء بهم إلى هذه الدنيا وأخرجهم منها وأعطى لكل مخلوق منهم المواهب التي خلق عليها.
ثم تأمل أيها العاقل في يدك أو قدمك هل خلقت منها لحماً أو عظماً أو دماً أو حتى شعرة واحدة؟ ثم تأمل هل خلقت لإنسان غيرك شيئاً من جسمه أو كيانه؟ ثم تأمل هل خلق الشعب أو القبيلة أو الدولة شيئاً منك أو من غيرك من الناس؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (سورة الأعراف: آية 194)والآن ما رأيك في شخص يمر بحانوت أو مصنع- تركه
صاحبه بعض الوقت- أو مزرعة أو مكتب، فدخل هذا الشخص وأخذ يتصرف بمحتويات ذلك الحانوت أو المصنع أو المزرعة أو المكتب، وأخذ يقدم ويؤخر ويرفع أشياء ويخفض غيرها وينتقل من مكان إلى آخر بدون إذن من صاحب ذلك الحانوت أو المصنع أو المزرعة أو المكتب؟!.
إن كل عاقل سيحكم بسفاهة هذا العابث الذي تصرف في ملك غيره بدون إذن من المالك... وسل نفسك الآن هل أنت من السفهاء الذين يتصرفون فيما لا يملكون بدون إذن المالك؟!
فإذا تأمل العاقل في نفسه وجد أنه لا يملك من نفسه شيئاً وأن عليه أن لا يتصرف في شيء إلا بعد أن يعرف مالكه، ويعرف منه الهدى ويتلقى منه الأمر ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأعراف: آية 54)لذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف مالكه، وأن يعرف رسول ربه إليه.
لِمَاذا خُلِقنَا؟
لو وقف الأطباء في العالم كله في صف واحد، وسألتهم: هل خلقت عيون الإنسان لحكمة؟ لأجابوا جميعاً: نعم , ومن كذب ذلك فليقلع عينيه. ولو سألتهم عن الفم والأسنان والأذنين والأنف واليدين والقدمين والقلب والرئتين وعن كل عرق صغير أو خلية في الإنسان, هل خلقت هذه الأجزاء لحكمة؟ لأجابوا جميعاً: نعم, ولو سألتهم عن التفاصيل، لقالوا: إن هذا يحتاج منا إلى عشرات السنين لكي نستكمل المعرفة بدقائق الخلق في جسم الإنسان... وإذا سألتهم هل ترتبط حكمة الجزء من كيان الإنسان بكيان الإنسان بأجمعه؟ لأجابوا جميعاً: نعم, إن الحكمة من الفم أن يأكل لجميع أجزاء الإنسان, والحكمة من الرئتين أن تتنفسا لجميع أجزاء جسم الإنسان, والحكمة من القلب أن يرسل الدماء إلى جميع أجزاء الجسم, والحكمة من القدمين أن تنتقلا بكيان الإنسان كله... وهكذا ما أُحكم خلق الجزء إلا ليؤدي مهمة تتعلق بكيان الإنسان بأجمعه.
وإذا كان كل جزء فيك قد خُلق لحكمة؟ وما أُحكمت أعضاؤك إلا لخدمتك بأجمعك، فلا شك أنك قد خلقت لحكمة.
فهل تعلم لماذا خلقت؟ ولماذا خلق الناس جميعاً؟ إنك إذا لم تعرف حكمة خلقك تكون أهون من الورقة التي أمامك؟... لأن لهذه الورقة حكمة وهي أن تكتب عليها وأما أنت فلا حكمة لك في نظرك؟ فتأمل في شأنك كيف تعيش و أنت لا تعرف حكمة خلقك؟.
إن من لا يعرف الحكمة من الأشياء التي حوله مغفل عند كل الناس، والذي لا يعرف الحكمة من قطع الملابس التي يلبسها مغفل أكبر منه. ومن لا يعرف الحكمة من عينه أو فمه أو يده أو قدمه مغفل أكبر من سابقيه، ولكن أكبر مغفل وجاهل على وجه الأرض هو ذلك الذي لا
يعرف الحكمة من خلقه بأجمعه؟! ولا يعرف الحكمة من حياته كلها !! تنتهي حياته على الأرض وهو لا يعرف لماذا عاش؟ ولماذا يموت؟ إن حياته في نظر نفسه أقل شأناً من نعليه لأن نعليه لهما حكمة، أما هو فلا حكمة في نظره لحياتها كلها؟ ولا لحياة الناس جميعاً﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ (سورة محمد: آية 12). فهم يعيشون كما قال الشاعر:
جئت لا أعلم من أين
ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟
كيف أبصرت طريقي
لست أدري
ولماذا لست أدري.. لست أدري
وإذا كان الضالون لا يعرفون حكمة وجودهم, فنحن المسلمين نعرف تلك الحكمة، وإن كانوا لا يعرفون لماذا لا يعرفون (ولماذا
لست أدري) فذلك يرجع إلى أن الحكمة من المصنوع تختفي في نفس الصانع وتعلم بتعليم منه وكذلك الحكمة من خلق الإنسان قد خفيت عنا في نفس خالقنا وتُعلم بتعليم يأتينا منه وحده.
لذلك فلن يعرف الإنسان حكمة خلقه ووجوده إلا بتعليم من خالقه وما لم يعرف الإنسان خالقه ستسقط كرامة الإنسان عند نفسه، ولا يبعد عليه أن يسمي نفسه حيواناً ناطقاً أو خنفساً من الخنافس وربه ينادي ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (سورة الإسراء: آية 70)فيأبى الإنسان لنفسه إلا الهوان. لذلك كله كان أول واجب على الإنسان أن يعرف الله وأن يعرف رسوله..
هَل نحنُ ضَائِعون
وإذا تأمل الإنسان في حياة الناس وجد حياة أكثرهم تشهد أنهم في تيه وضياع, فعلامة الضائعين وأمارتهم أن تجدهم مختلفين في طريقهم مترددين في أعماق أنفسهم قلقين في مشاعرهم أدلتهم ظنون وأوهام وأماني وهكذا حياة أكثر الناس اليوم.
فهذه الدول تعيش في اختلاف وصراع وكذلك الأحزاب والهيئات والجماعات والقبائل داخل تلك الدول ونشهد الصراع أيضاً والاختلاف داخل أجنحة الحزب الواحد والهيئة الواحدة، والجماعة الواحدة والقبيلة الواحدة، وفي داخل كل جناح خلاف وصراع وحياة كأنها الضياع، فما هو السر في هذا الاختلاف وما هو السر في حياة الضياع؟. وما هو السر في هذا الصراع؟ لو تأملنا وتفكرنا لوجدنا أن السبب في الاختلاف يرجع إلى أن الناس قد اختلفوا في مبادئهم وآرائهم، وإذا تفكرنا في سبب اختلاف الناس في مبادئهم وآرائهم وجدنا أن السبب يرجع إلى اختلافهم فيما يلي:
- اختلاف الناس في علومهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في أخلاقهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في أفهامهم وعقولهم وهذا يؤدي إلى اختلاف آرائهم.
- اختلاف الناس في تجاربهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في مصالحهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
فإذا كان رأي كل واحد منا يتوقف على علمه، وخلقه، وفهمه، وتجربته، ومصلحته.
وإذا كان الناس يختلفون في كل هذا ولا يمكن أن تجد اثنين علومهم وأخلاقهم وأفهامهم، وتجاربهم ومصالحهم متساوية وموحدة, إذن فلا يمكن للبشر أن يتحدوا إلا إذا وحدنا آراءهم.
ولا يمكن أن تتحد الآراء والنظريات إلا إذا وحدنا الناس فجعلنا علومهم وأخلاقهم وأفهامهم وعقولهم وتجاربهم ومصالحهم واحدة. وهذا مستحيل فلا بد من الاختلاف ومن المستحيل، إذن أن يكون اتحاد بين الناس ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ (سورة هود: آية 118- 119) فما هو الحل لهذا؟.
إن الحل الوحيد هو أن يعرف الناس أن لهم خالقاً قد أحاط بكل شيء علماً وله أكمل الأخلاق وأعظم الصفات وله الأسماء الحسنى وهو الخبير الذي ما غاب ولا يغيب عن علمه ولن يغيب شيء وأنه الرب الرحيم الذي استوى الناس أمامه في عبوديته ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ (سورة الزمر: آية 7) فإذا عرف الناس ربهم وبحثوا عن هداه خرجوا من ذلك الاختلاف وأنقذوا أنفسهم من نتائجه وعاشوا عباداً متحدين معتصمين بحبل ربهم مهتدين بهداه قال تعالى﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ (سورة هود: آية 18 1- 19 1) وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة النحل: آية 64)لذلك كله فإنه لا يخرج الناس من الاختلاف إلا إذا عرفوا ربهم ولذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه.
وإذا تأملنا في السر الذي يبعث في الناس مشاعر الخوف من المجهول الذي قد يحدث في غدهم أو قد يلقاهم بعد موتهم، وإذا تأملنا في سر ذلك القلق الذي يغمر حياة الكفار في هذا الزمان، وجدنا أن السر يرجع إلى أنهم يعيشون في الدنيا لا يعرفون لحياتهم معنى ولا يعرفون الذي أوجدهم ولا يعرفون الطريق التي ترضي خالقهم ولا يعرفون ماذا ينتظرهم بعد موتهم؟ فهم يتخبطون وهم في قلق لا يطمئنون ولن يجد الناس الاطمئنان في العيش والرضى بحياتهم إلا إذا عرفوا ربهم وآمنوا به, قال تعالى: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (سورة الفجر: آية 27- 30) لذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه وخالقه.
وإذا تأملنا في السر الذي سبب هذا الصراع بين الناس رأينا أنه يرجع إلى جهل الناس بخالقهم وحكمته من خلقهم.
لأن كل إنسان قد خلق الله فيه طموحاً واسعاً بحيث لا تكفي الأرض لتحقيق طموح واحد من بني الإنسان فلو قيل لشخص قد ملكناك نصف الأرض لقال أريد نصفها الثاني فما هي نتيجة هذه الأطماع الواسعة التي تلتهب في نفوس الناس؟ الصراع هو النتيجة ولا مفر منه في ظل الكفر بالله تعالى, لأن الكافر يظن أنه ليس له من الحياة إلا هذه الدنيا ومتاعها وليس له من هذه الدنيا إلا ما تمتع به وتلذذ به وما في الأرض لا يكفي لتحقيق متعه ورغباته ولذاته فكيف وهو يجد ملايين من البشر, كل واحد مثله يريد أن يمتلك الدنيا لوحده وأن يخضعها لحكمه, فلا بد من الصراع على أطماع الدنيا ومتاعها الزائل! ولا بد من الصراع في داخل البيوت بين الأخ وأخيه ولا بد من الصراع في القرية أو الحارة بين الأسر.
لا بد من الصراع بين المناطق المختلفة، والقبائل المختلفة، والتجمعات المختلفة.
لا بد من الصراع بين الدول والأحلاف على وجه الأرض.
وهذا هو الواقع !! ومن لا يعيش الصراع يعد للصراع !! ولا مفر منه في ظل الكفر وكلما تذكر الإنسان الموت، ورأى أنه قد يفجؤه في أي لحظة أحس بقصر العمر فانطلق كالمجنون المسعور يزيد من صراعه ومنافسته ليفوز بأكبر قدر من متاع الدنيا قبل أن تنتهي حياته وهكذا يقدم الصراع على أطماع الدنيا وتستخدم في هذا الصراع كل الأسلحة والحيل مهما كانت خبيثة غادرة وهذا هو الواقع... ولا مفر منه في ظل الكفر إلا بالفرار إلى رحاب الإيمان, لأن المؤمن يعلم أن ربه قد خلق له ما يكفي طموحه وأطماعه في جنة عرضها السموات والأرض أعد الله فيها للمؤمنين كل ما تشتهيه نفوسهم وتلذ به أعينهم وهم فيها خالدون، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (سورة الزخرف: آية 69- 71) وعلم المؤمن أنه لن يفوز بهذا النعيم الدائم كما أنه لن ينجو من عذاب الجحيم إلا إذا نجح في امتحان طاعته لربه الذي يؤديه أثناء حياته وبقائه على وجه الأرض, وعلم المؤمن أن نجاحه في الامتحان لا يكون إلا باتباع أوامر خالقه ومالكه واجتناب ما نهاه عنه، وعلم المؤمن أن ربه قد أمره أن يأخذ حظه من متاع الدنيا من الطرق الحلال التي لا غش فيها ولا خداع ولا استغلال ولا ظلم وأن له ما يكفيه ويكفي من يعوله وعليه حق نحو من عجزوا عن أخذ ما يحتاجون له من متاع الدنيا, فترى المؤمن عاملاً مجداً، ومنافساً شريفاً، ومنفعاً متعاوناً مواسياً، وهكذا يعيش المؤمن في مجتمع تشيع فيه المحبة بدلاً من العداوة, والتعاون بدلاً من التقاطع, والمحبة بدلاً من الكراهية، والشرف بدلاً من الخسة، والعفة بدلاً من الدناءة، والكرم بدلاً من الشح، والمواساة بدلاً من الاستغلال، والعدل بدلاً من الظلم، والتواضع بدلاً من التكبر، و الرضى والسعادة بدلاً من السخط والقلق والشقاء والتعاسة.
وهكذا كان واقع المسلمين يوم أن كانوا مؤمنين أقوياء في إيمانهم ولا تزال هذه الصفات الطيبة في تناقص واختفاء في مجتمعات المسلمين، ويلاحظ اختفاؤها بقدر ما يصيب الإيمان من ضعف في نفوس أصحابه. وتعود للظهور مرة ثانية بقدر ما يعود الإيمان بالله ورسوله لينتهي الصراع بين الناس ولتعود الحياة الإسلامية الصالحة للظهور مرة ثانية كما ظهرت أول مرة ولذلك كان أهم واجب وأول واجب على الإنسان أن يعرف الله تعالى.
مَاذا ننتظرُ في سَاحَةِ الإعدَام
أنت ومن في الأرض جميعاً ستخرجون من الدنيا فبما يقارب مئة عام (إذا شاء الله) بعدها ستكون في عداد الأموات، قال تعالى﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ (سورة النساء: آية 78) فما أنت إلا من أبناء الموت وأنت تنتظر موعد طلبك للخروج من الدنيا كذلك الذي قد أخرج مع فوج كبير إلى ساحة الإعدام وهو ينتظر دوره الذي لا مفر منه وسيأتيك الموت في لحظة معينة، فقد تصبح مع الأحياء فلا تمسي إلا مع الأموات, وقد نمسي مع الأحياء فلا تصبح إلا مع الأموات. قال تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ (سورة ق: آية 19)وما أنت إلا أيام أيها الإنسان كلما مر يوم نقصت وقربت من أجلك ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (سورة الجمعة: آية 8) ستخرج راضياً أو كارهاً، وسيخرج الملوك والرؤساء والأغنياء كما خرجوا في الأمم الماضية, وكما يخرج الأفراد والفقراء والضعفاء, وستخرج كل الشعوب كما خرجت من قبل, فليس الناس إلا عبيداً لمن أحياهم وأماتهم بدون إذن منهم أو اختيار. وستترك مالك وسلطانك وأهلك وأحبابك وعلمك وعملك وخبرتك وصحتك وجمالك, وسيعود جسدك إلى ما بدأ منه، وستأتي اللحظة التي ينسلخ فيها لحمك عن عظامك وتتمزق فيها عروقك وأحشاؤك وسيصبح هذا الجسد الحي أمامك قليلاً من العظام تحت كتلة من التراب وسيطول بك المقام كما طال بسابق الأقوام فهل سألت نفسك عن حقيقة مصيرك الدائم وهل فهمت ما سيكون من أمرك في مستقبلك الطويل؟!.
إنك ومن في الأرض من الدول والشعوب تبذلون أقصى الجهود لتأمين مستقبل يعد بالسنين ولا يلبث أن تنتهي أعوامه وأيامه! فماذا أعددت لمستقبلك الدائم وهل هناك مستقبل؟ وهل هناك حياة بعد هذه الحياة؟ وهل ترتبط تلك الحياة بهذه الحياة؟ وما هو طريق الفوز والنجاة؟ وما الذي يؤكد لنا هذه الأخبار؟ إن الذي خلقنا أول مرة من تراب ليس بعسير عليه أن يبعثنا مرة أخرى بعد أن نعود تراباً. إن الذي ظهرت حكمته من خلقنا وأطوار خلقنا لا شك أنه قد أراد حكمة من موتنا ستظهر إن انتقلنا إلى طورنا الجديد بعد الموت.. إن الذي أتقن خلق الإنسان من نطفة تمنى لن يتركه يذهب سدى.. إن الذي أقام الحق في الأرض والسماء سيقيم الحق فيما عمل الإنسان من خير وشر فيجزي المحسن ويعاقب المسيء في يوم الحساب.. إن الذي بعث الرسل مبشرين ومنذرين من يوم الحساب بعد الموت في كل أمة لن يخلف وعده وسيصدقه رسله.. إن علامات قرب الساعة قد ظهرت في الدنيا كما أخبر محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فما بقي إلا أن نرى الساعة كما رأينا اليوم علاماتها. ولقد ثبت أن الأرض تحتفظ بسجل لأعمالنا (الصوت والصورة) وما حفظ وسجل إلا لعرضه مرة ثانية. قال تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾( سورة الزلزلة: آية ا- 4).
إن الذي يبدأ الخلق ثم يعيده قادر على إعادة خلقنا مرة ثانية كما بدأه أول مرة.
إن الأمر خطير إذن... إنه أمر المستقبل الدائم والمصير الدائم.
إما حياة النعيم... أو حياة الجحيم.
ولن يزول عنك الخوف من مستقبلك المجهول إلا إذا تحققت من صدق رسل ربك وتأكدت أن ما أخبروك به هو الحق من ربك الذي أحياك ويميتك ويبعثك وعندئذ تهدأ خواطرك وتسعد حياتك، ويذهب عنك القلق والفزع من المصير المجهول الذي ينتظرك ولكن ذلك كله لن يكون إلا إذا آمنت بالله ورسوله لذلك كله كان أول واجب على الإنسان أن يؤمن بالله تعالى وأن يعرف رسول الله إليه.
أعظَمُ صلة
إن الإنسان العاقل يحس وشعر بضعفه أمام قوة خالقه الذي يتصرف به كيفما يشاء، فربه الخالق المالك وهو المخلوق المملوك، وربه القوي العزيز الوهاب وهو الضعيف الخائف المحتاج، وربه الغني وهو الفقير، وربه الحاكم المسيطر القهار، وهو المستسلم الخاضع لحكم ربه، والإنسان حائر متردد جاهل وخالقه العليم الهادي المرشد الذي علم الإنسان ما لم يعلم. فما أحوج المخلوق المملوك الضعيف الخائف إلى خالقه المالك القوي المؤمن العزيز الوهاب.
وما أحوج الإنسان الفقير الخاضع المستسلم إلى ربه الغني الحاكم المسيطر القهار.
وما أحوج العبد المتردد الحائر الجاهل إلى إرشاد سيده، المرشد الهادي العليم.
إن الإنسان في أمَسّ الحاجة لتحقيق صلة دائمة بربه فإن حققها أمن المخاوف وعاش في ظل رعاية ربه، واثقاً مطمئناً سعيداً، كما يشاهد في أحوال المؤمنين الصادقين وكما عرف من تاريخ المسلمين الصادقين. لكن هذه السعادة وهذه الرعاية والألطاف الإلهية، والنصر والتثبيت لا تتحقق إلا بعد تحقق أهم صلة بين المخلوق وخالقه تلك هي صلة إيمان المخلوق بخالقه.