مشاهدة النسخة كاملة : الموسوعة الفقهية الميسّرة .. ( باب الطّهارة ) ..
علي الجزائري
2011-12-19, 22:17
بسم الله الرحمن الرّحيم .
إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا،
من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ.
وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عَبدهُ ورَسولهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .- سورة آل عمران-
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . - من سورة النساء-
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .- من سورة الأحزاب -
أمَّا بعد:
فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة،
وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار ..
أمّا بعد :
فقد صدر مؤخّرا تفريغ نصّي للموسوعة الفقهيّة الميسّرة لفضيلة الشيخ : حسين بن عودة العوايشة
حفظه الله أحد تلامذة العلامة الألباني رحمة الله عليه ، و هذه الموسوعة تشتمل على أبواب الفقه
مفصّلة على طريقة المحدّثين ليس فيها سوى اتباع الدليل بحمد الله تعالى ..
كيف لا و هي طريقة الأئمة الأربعة و من سواهم من الأئمة الأعلام رحمهم الله تعالى :
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى :
ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها لعل فيها عظة وذكرى لمن يقلدهم -
بل يقلد من دونهم بدرجات تقليدا أعمى - ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء
والله عز وجل يقول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون .
1 - أبو حنيفة رحمه الله
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي
إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها :
1 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( ابن عابدين في " الحاشية " 1/63 )
2 ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ) . ( ابن عابدين في " حاشيته على البحر الرائق " 6/293 )
وفي رواية : ( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ) .
زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ) .
وفي أخرى : ( ويحك يا يعقوب ( هو أبو يوسف ) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي
اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد ) .
3 ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي ) .
( الفلاني في الإيقاظ ص 50 )
2 - مالك بن أنس رحمه الله
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال :
1 - ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2/32 )
2 - ( ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ) .
( ابن عبد البر في الجامع 2/91 )
3 - قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ؟ فقال : ليس ذلك على الناس .
قال : فتركته حتى خف الناس فقلت له : عندنا في ذلك سنة فقال : وما هي ؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد
وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد
بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال :
إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع .
( مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 - 32 )
3 - الشافعي رحمه الله
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها :
1 ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت
من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو قولي ) . ( تاريخ دمشق لابن عساكر 15/1 /3 )
2 ( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها
لقول أحد ) . ( الفلاني ص 68 )
3 ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ودعوا ما قلت ) . ( وفي رواية ( فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ) . ( النووي في المجموع 1/63 )
4 ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( النووي 1/63 )
5 ( أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون : كوفيا أو بصريا
أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا ) . ( الخطيب في الاحتجاج بالشافعي 8/1 )
6 ( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل
بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ) . ( أبو نعيم في الحلية 9/107 )
7 - ( إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب ) .
( ابن عساكر بسند صحيح 15/10/1 )
8 - ( كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) .
( ابن عساكر بسند صحيح 15/9/2 )
9 ( كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني ) . ( ابن أبي حاتم 93 - 94 )
4 - أحمد بن حنبل رحمه الله
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى ( كان يكره وضع الكتب التي تشتمل
على التفريع والرأي ) ولذلك قال :
1 ( لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا ) .
( ابن القيم في إعلام الموقعين 2/302 )
وفي رواية : ( لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين
بعد الرجل فيه مخير ) .
وقال مرة : ( الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين
مخير ) . ( أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 276 - 277 )
2 ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار ) .
( ابن عبد البر في الجامع 2/149 )
3 ( من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ) . ( ابن الجوزي في المناقب ( ص 182 )
تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة
وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف
بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة
الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم
ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .
وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى :
( فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع
أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به
من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف
سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله
أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم
ويتبع ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف
أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه .
قلت : كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة ؟
بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها ولذلك
لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها
انفرادا واجتماعا في مجلد ضخم قال في أوله :
( إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها
إليهم فيكذبوا عليهم ) .
ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعا للسنة .
ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيرا
منها لما ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين : محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما
أبا حنيفة ( في نحو ثلث المذهب ) وكتب الفروع
كفيلة ببيان ذلك ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره ولو ذهبنا نضرب على ذلك
الأمثلة لطال بنا الكلام ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين :
1 - قال الإمام محمد في " موطئه " ( ص 158 ) : ( قال محمد : أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى
في الاستسقاء صلاة وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه ) إلخ .
2 - وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف ( كان يفتي بخلاف
قول الإمام أبي حنيفة كثيرا لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به " ولذلك
( كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ) كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم
فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة
الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم .
وخلاصة القول إنني أرجو أن لا يبادر أحد من المقلدين إلى الطعن في مشرب هذا الكتاب وترك الاستفادة
مما فيه من السنن النبوية بدعوى مخالفتها للمذهب بل أرجو أن يتذكر ما أسلفناه من أقوال الأئمة في وجوب
العمل بالسنة وترك أقوالهم المخالفة لها وليعلم أن الطعن في هذا المشرب إنما هو طعن في الإمام الذي يقلده
أيا كان من الأئمة فإنما أخذنا هذا المنهج منهم كما سبق بيانه فمن أعرض عن الاهتداء بهم في هذا السبيل
فهو على خطر عظيم لأنه يستلزم الإعراض عن السنة وقد أمرنا عند الاختلاف بالرجوع إليها والاعتماد عليها
كما قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا
مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] .
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم :
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون .
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .
دمشق 13 جمادى الآخرة سنة 1370 هـ .
انتهى كلامه رحمه الله من :
مقدّمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه و آله و سلّم كأنك تراها ..
http://www.djib-maktabah.com/img/p/34-175-large.jpg
و لحاجتنا جميعا لتعلّم العلم الشرعي النافع الذي لا يسعنا جهله رأينا تفريغ هذه الموسوعة
المباركة بإذن الله تعالى عسى أن ننتفع بها و تكون أجرا لصاحبها و لمفرّغيها على الشبكة .
و قبل التفريغ سنضع فهرسا للموسوعة لما سيتم إدراجه هنا بالموضوع بإذن الله مع الإحالة على رابط
المشاركة مباشرة لتسهيل الوصول إليها
و عليه ننبّه الإخوة الأفاضل إلى أنّ الموضوع سيظلّ مغلقا طيلة التفريغ و أيّ استفسار أو ملاحظة فلتكن على الخاص ..
كما ننبه إلى أنّ الموضوع سيبقى هنا في القسم الإسلامي العام فترة طويلة ثم يتم تحويله بعدها لقسم الفقه و أصوله إن شاء الله..
نسأل الله أن يجزي الشيخ خير الجزاء و أن يجزي خيرا من أعان لنشر هذا العمل المبارك .. و أن يوفّقنا و إياكم للعلم النافع و العمل الصالح ..
علي الجزائري
2011-12-19, 22:18
فهرس الموسوعة الفقهيّة الميسّرة
- مقدّمة المؤلّف . (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8288315&postcount=3)
المياه وأقسامها
القسم الأول: الماء الطَّهور (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8288941&postcount=4)
القسم الثاني: الماء الطاهر غير المطهِّر
القسم الثالث: الماء النَّجس . (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8299100&postcount=5)
الفصل الثاني : النجاسات .
- غائط الآدمي - وبوله - (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8324159&postcount=6)دم الحيض - الودي - المذي (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8324159&postcount=6)
- الميتة - لحم الخنزير - الكلب - لحم السّباع - لحم الحمار - الجلاّلة
-عظام و شعر و قرن ما يُحكَم بنجاسته . (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8324744&postcount=7).
الفصل الثالث: الأسآر ..
القسم الأول: الأسآر الطاهرة: (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8419684&postcount=8)
- سؤر الآدمي - سؤر ما يؤكل لحمه - سؤر الهرّة . (http://www.djelfa.info/vb/showpost.php?p=8419684&postcount=8)
علي الجزائري
2011-12-19, 22:31
مقدّمة المؤلّف ..
إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا،
من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ.
وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عَبدهُ ورَسولهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (من سورة آل عمران).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (من سورة النساء).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (من سورة الأحزاب).
أمَّا بعد:
فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها،
وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار.
أما بعد : فإِنَّني رأيتُ حاجة الأمَّة مُلحَّةً لكتاب فقهيٍّ: شامل، ميسَّر، مُدعَّم بالأدلَّة الثابتة، بعيدٍ عن الغُموض
والتَّعقيد والخلافات الفقهيَّة، يفيد من أقوال أهل العلم؛ من غير تعصُّب لمذهب من المذاهب أو عالم من العلماء.
وتأمَّلت الكتبَ الموجودة؛ قديمها وحديثها، فرأيتُ الحاجة المُبتغاة مُتناثرة هنا وهناك، ورأيت أقربها
إِلى هذا المطلب كتاب "فقه السنَّة" للسَّيد سابق -حفظه الله- تبويباً وترتيباً وتيسيراً وعرضاً وتناولاً؛
فقد أدَّى كتابُه نفعاً عظيماً وجُهداً مباركاً، وقد استفدْتُ منه في كتابي هذا، ولا سيّما في كثيرٍ من العناوين والأدلّة،
وكذلك من بعض عناوين المعلِّق على "الروضة الندية" للشيخ محمد الحلاق -حفظه الله- أسأل الله تعالى أن يتقبَّل منِّي ومنه.
بَيْد أنَّ الحاجة -فيما أرى- ما تزال مُلحَّة لوجود الكتاب الذي ذكرْتُ سماته في بداية حديثي، لأمور حديثيَّة وفقهيَّة وغير ذلك.
لذلك؛ شمَّرتُ عن ساعد الجدِّ، وأنا أعلمُ أنَّ الطريق طويلٌ، والجهد عظيمٌ؛ لأقوم بهذا العمل النافع المبارَك بإِذن الله.
وأرجو أن أنتفع من إِخواني بنصيحة أو توجيه أو اقتراح أو تصويب؛ فالمؤمن مرآة المؤمن؛
ليكون الكتاب على خير وجه -بإِذن الله تعالى-.
هذا، وقد رجعْتُ لشيخنا الألباني -شفاه الله تعالى وعافاه- في كثير من المسائل، فاستفدْتُ منه،
وأنِسْتُ برأيه، فجزاه الله عنِّي وعن المسلمين خيراً.
ولعلك سترى بعد ذكر كلمة (شيخنا) (1) مرّة -حفظه الله تعالى- ومرّة -شفاه الله وعافاه- وقد ترى كلمة -شفاه الله وعافاه-
قبل أو بعد -حفظه الله تعالى- ذلكم أنه قد اشتدّ بشيخنا المرض في فترةٍ من الفترات، ثمَّ تحسَّن حاله، ثمَّ عاوده المرض.
كما أننّي كتبتُ بعض العبارات وهو يستمتع بالصحة والعافية، وعند تصحيح التجارب كان في مرضه، وهأنذا الآن على وشك
الانتهاء من الكتاب، وقد اشتدّ به المرض، وهو على حالٍ لا أستطيع وصْفها تُذكِّرنا بمقولة قتيبة ابن سعيد
-في حياة أحمد بن حنبل رحمه الله- قال: "مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن،
ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع".أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (1254) والبيهقي في "مناقب الشافعي" (2/ 250) (2).
ولا أدري ما أقول! هل فقْدنا شيخنا الوالد عبد العزيز بن باز -رحمه الله- هيّأنا للمصاب الجلل الذي سيحلّ بالأمّة،
أم أنّ ما نترقبّه من عظيم المصاب يهيّج أحزاننا على فراقه، وهذا كما قال الشاعر:
فقُلت له إِنّ الشجى يبعث الشجى ... فدعني فهذا كلّه قبر مالك
أسأل الله العظيم، ربَّ العرش العظيم أن يتقبَّلَ منِّي عملي، وأن ينفَعني به وإِخواني المسلمين، وأن لا يجعل لأحدٍ منه شيئاً؛
إِنَّه سبحانه على كلِّ شيء قدير.
ثمَّ وقعت مصيبة الموت وكان ذلك قبل مغرب يوم السبت بساعة ونصف تقريباً لثمانية أيّام بقين من شهر جمادى الآخر سنة 1420 هـ الموافق 2/ 10/1999م
فإِنّا لله وإِنّا إِليه راجعون، ونقول: "إِنَّ العين لتدمع، وإِنَّ القلب ليحزن، وإِنّا بفراقك يا شيخنا الألباني لمحزونون".
ورحم الله فقيه المحدثين ومحدّث الفقهاء وشيخ الإِسلام في هذا الزمان، وأجزل له المثوبة والأجر، وجمَعنا به مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وقد قلتُ أيام حياته -رحمه الله تعالى-:
لولا تفضُّلُ ربِّنا الرحمنِ ... بلقائكم يا شيخنا الألباني
ما كنتُ أشعر بالحياة وطعمها ... ولَما استطَبْتُ العيش في عمّانِ
علّمتنا كيف النّجاة ننالُها ... فالحمد للغفّار للمنّانِ
إِني سألْتُ الله أن ألقاكمُ ... في جنّة الفردوس خير جنانِ
ومع الأحبّة والأعزّة كلُّهم ... يا حبّذا عيشي مع الإِخوانِ
لا تحسبنّ القول نفثة شاعر ... أو أنّني قد هِمْت في الودْيانِ
فالكذْب ليس بجائز في ديننا ... لكنّها مِن غربة الإِيمانِ
وأقول الآن بعد مماته -رحمه الله-:
ودّعتنا يا شيخنا الألباني ... وادَمعَتَا للعالِم الرباني
فارقْتنا والحزن ليس مفارقي ... والدمع يعشق بعدكم أجفاني
أسفي على الدنيا بفقد إِمامنا ... والحزن بعدك شيخنا يهواني
يا شيخنا إِنّ القلوب تفطرت ... هذا عزائي أيها الثقلان
سأظل أذكركم ويذكرني الشجى ... حتى يوافيَ قبريَ الملكان
قلبي يتاجر بالهموم فمن أتى ... سيرى به سوقاً من الأحزانِ
أنظل نفرح بالربيع وزهره ... وكذا بماءٍ صبَّ في الوديانِ
أم سوف يبهجنا هديل حمائمٍ ... لما تبدّى الحزن من عمّانِ
أم سوف يُمتعنا السكون بليله ... حين اختفى عن أمّتي القمرانِ
لمّا قضى عبد العزيز إِمامنا ... ثمّ افتقَدنا بعده الألباني
ماذا يعيد إِلى القلوب سرورَها ... ماذا يبدّد مبعثَ الأشجان
كيف السبيل إِلى ابتسام شفاهنا ... تالله ليس لنا سوى الرحمنِ
ذاك الثرى قد ضمّ أغلى عالمٍ ... فلتهنئي يا تربة (الهملان) (3)
ورجاؤنا استغفار نملٍ شيخنا ... لكمُ ونرجو ذاك في الحيتان
منهاجَ خير الناس قد بصّرتنا ... أرشدتنا نحيا مع البرهانِ
عرَّفتنا هدي النبي وصحبه ... تالله هذا منهج القرآن
علّمتنا حبّ النبي وآله ... حفّزتنا نسعى إِلى الغفرانِ
في دقّة الأقوال قد مرّستنا ... درّبتنا نمضي إِلى الإِحسان
تالله شمس علومكم ما كُوّرت ... تكوير شمسٍ جاء في القرآنِ
وبحار فهمك شيخنا ما سُجّرت ... ستظل مغدقةً مع الأزمانِ
لكن بحار الكون يأتيها الفنا ... تسجيرها آتٍ بغير توانِ
أمّا انكدار النجم فهو محقّقٌ ... هذي عقيدتنا بلا نكرانِ
حين انكدار النجم يلمع علمكم ... وبه المفازة بالمنى وجنان
من للحديث مصححاً ومضعّفاً ... إِني شكوت البثّ للرحمن
من للفتاوى حين يعضل أمرها ... مِن بعد فقدِك رائد الفرسان
من ذا يصدُّ المُحدِثين وكيدَهم ... ويردُّ ما قالوا من الطغيان
من ذا سيُفحم كل صاحب بدعةٍ ... من ذا سيلجم هجمة الفتانِ
إِنً الذي قد قال إِنك مرجئٌ ... لا يعرف التأصيل في الإيمان
كبُر الكلام خروجه وقبوله ... من فيه شخصٍ خاض في البهتان
من قال ذا الإِيمانُ ليس بثابتٍ ... هو في ازديادٍ بل وفي نقصانِ
أو قال إنَّ الضُّر قد مس الفتى ... حين اقتراف الذنب والعصيانِ
أو قال سبُّ المسلمين مُفسِّقٌ ... وقتالهم يهدي إِلى الكفرانِ
كان المصيبَ وليس ذاك بمرجئ ... هذا -وربي- الحقُّ يا إِخواني
فاترك هواك فإِنه لك قاتلٌ ... وحذارِ أن تبقى على الهذيانِ
إِنَّ الهوى في قتلكم متجاهلٌ ... دِيَةً ولم يورِث سوى الخسران
أو قائل ما أنت غيرَ محدّث ... في الفقه ما عرفوا لكم من شانِ
ذاك امرؤٌ في جهله متخبّطٌ ... إِنّ الجحود طبيعة الإِنسان
روّى الورى من فقهه فتأمّلن ... "صفةَ الصلاة" مصنفَ الألباني
"أدب الزفاف" دقائقٌ ولطائفٌ ... "إِرواؤُه" كالماء للعطشانِ
وكفى بـ "حكام الجنائز" درّةً ... بيّنتَها للناس خير بيان
إنّ "الصحيحة" قد تعاظم نفْعها ... منها عبيق المسك والريحان
و"مناسك الحج" التي صنّفتها ... كانت وربّي تحفة الخلاّنِ
إِغفالكم إِغفال سنّة أحمدٍ ... نسيانكم ضربٌ من العصيان
مهما حييتُ فلست أنسى فضلكم ... إِني أخاف الله أن ينساني
لو كان ذلك جائزاً لوجدتني ... والله في عجزٍ عن النسيانِ
أنا في قيامي للصلاة لخالقي ... لا بد من ذكري إِمامي الحاني
لا بُدّ من ذكر الذي قد قاله ... في ذي الصلاة وسائر الأركانِ
في الحجّ ماذا قال أو أفتى به ... في الصوم في الصدقات في الإِحسانِ
لمّا يسبّح بعضهم في سبحةٍ ... قد كان يذكر أحمد العدناني
فيقول هذا لم يَرِدْ في ديننا ... ولذا تمثّل في جميع بناني
فإِذا السنون فنت سيبقى علمكم ... تالله ما قدّمتَ ليس بفانِ
كم من فتاوى كنت تُفتينا بها ... ستظل تذكركم بكل أمان
رباه ما أبغي الغلوّ فإِنّه ... يدعو إِلى النيران والشيطان
لكن أردت أداء حقِّ إِمامنا ... يا رب باعِدني عن الكفرانِ
رحم الإِله الشيخ أوسع رحمةٍ ... وحباه ما يرجو من الرضوان
وكتب:
حسين بن عودة العوايشة.
ثمَّ بلَغَنا وفاة الشيخ السيد سابق -رحمه الله- فكان عامنا هذا حافلاً بالأحزان لفَقْد جَمْعٍ من العلماء، وأقول ما قاله الإِمام البخاري
حين بلغه نبأ وفاة الإِمام الدارمي -رحمهما الله تعالى-:
إِنْ تبْقَ تُفَجعْ بالأحبّة كلهم ... وفناء نفسك -لا أبالك أفجع-.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شفاه الله و عافاه .
(2) وهذا من إِتحافات أخي الشيخ مشهور -حفظه الله ورعاه- في بعض دروسه النافعة في المساجد.
(3) هي المقبرة التي دُفن فيها شيخنا -رحمه الله تعالى-.
علي الجزائري
2011-12-19, 23:37
الطهارة
المياه وأقسامها
القسم الأول: الماء الطَّهور:
وهو الماء الطَّاهر في نفسه، المُطهِّر لغيره، تُرفع به الأحداث والنجاسات.
ويشمل الأنواع الآتية:
1 - ماء المطر:
قال الله سبحانه: {وأَنْزَلْنَا مِنَ السَّماء ماءً طَهُوراً - (الفرقان)} (1)
وقال سبحانه: {ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً ليُطَهّرَكمْ به - (الأنفال)} (2).
2 - ما كان أصله الماء؛ كالثلج والبَرَد:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسكُتُ بين التكبير وبين القراءة إِسكاتة -
قال: أحسِبُه قال: هُنَيَّةً- فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! إِسكاتُك بين التَّكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: "أقول:
اللهم باعد بيني وبين خطايايَ كما باعَدتَ بين المشرق والمغرب، اللهمَّ نقِّني من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض
من الدنس، اللهمَّ اغْسِلْ خطاياي بالماء والثلج والبرد" (3).
3 - مياه العيون والينابيع (4):
قال الله تعالى: {أَلمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ منَ السَّماء مَاءً فَسَلَكهُ يَنابيعَ في الأرْضِ} (5).
4 - ماء البحر:
لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سأل رجل النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله!
إِنَّا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإِنْ توضأنا به عطِشْنا، أفنتوضأ بماء البحر؟
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هو الطَّهورُ ماؤه، الحِلُّ مَيتته" (6).
5 - ماء زمزم:
لِما ثَبَتَ من رواية عليّ -رضي الله عنه-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بسَجْل (7) من ماء زمزم،
فشَرِب منه وتوضَّأ" (8).
6 - الماء الآجن (9) المتغير بطول المكث (10) أو بمخالطة طاهر لا يمكن صونُه عنه؛ كالطحلب، وورق الشجر،
والصابون، والدقيق.
"وكذلك ما يتغيَّر في آنية الأدم (الجلد) والنحاس ونحوه؛ يُعْفَى عن ذلك كلِّه، ولا يخرج به الماء عن إِطلاقه".
"وأيضاً؛ ما تغيَّر بالسمك ونحوه من دوابِّ البحر، لأنه لا يمكن التحرُّز منه" (11).
ويظلُّ كلُّ ذاك طَهوراً ما دام اسم الماء المطلق يتناوله.
ومن الأدلَّة على ذلك:
ما روته أمُّ عطيَّة -رضي الله عنها- قالت: دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تُوفِّيت ابنته، فقال:
"اغْسِلْنَها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك -إِنْ رأيتنَّ- بماءٍ وسِدْر (12)، واجعَلْنَ في الآخرةِ كافوراً (13)، فإذا فرغْتُنَّ؛
فآذِنَّني"، فلما فرغْنا؛ آذنَّاه، فأعطانا حَِقْوه 14)، فقال: "أشعِرْنها (15) إِيَّاه"؛ تعني: إِزاره (16).
وفي حديث أمِّ هانئ: "أنَّ النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل وميمونة من إناء واحد؛ في قصعة فيها أثر العجين" (17).
قال ابن حزم -رحمه الله تعالى- (مسألة 147) من "المحلى":
"وكلُّ ماءٍ خالَطه شيء طاهر مباح، فظهر فيه لونه وريحُه وطعمُه؛ إِلاَّ أنه لم يُزِلْ عنه اسم الماء؛ فالوضوء به جائز، والغُسل به للجنابة جائز.
برهان ذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (18)، وهذا ماء، سواء كان الواقع فيه مِسكاً أو عسلاً أو زعفراناً أو غير ذلك".
وأما دليل الوضوء في آنية النحاس والجلد ونحوها:
فلحديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- قال: "أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأخرَجْنا له ماءً في تَوْرٍ
مِن صُفر (19)، فتوضَّأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرَّتين مرَّتين، ومسحَ برأسه، فأقبَلَ به وأدْبَرَ، وغَسل رِجليه" (20).
وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بِتُّ ذات ليلة عند خالتي ميمونة، فقام النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلِّي متطوِّعاً من الليل، فقام النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى القربة فتوضأ، فقام فصلَّى، فقُمْتُ لمَّا رأيتُه صنَعَ
ذلك، فتوضَّأتُ من القِربة، ثمَّ قُمتُ إِلى شقِّه الأيسر، فأخَذ بيدي من وراء ظهره إِلى الشقِّ الأيمن" (21).
وكذلك حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خَرَجَ لحاجته؛ أجيء
أنا وغلام معنا إِداوَة (22) من ماء؛ يعني: يستنجي به" (23).
7 - الماء الذي خالَطَتْه النجاسةُ، ولم يتغيَّر طعمه أو لونُه أو ريحهُ:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يُقال له: إِنَّه يُستقى لك
مِن بئر بُضاعة -وهي بئر يُلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض (24) وعُذَر النَّاس- فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إِنَّ الماء طهور، لا ينجِّسه شيء" (25).
وفي الحديث: "إِذا بَلَغَ الماء قُلَّتين (26)؛ لم يَحملِ الخَبَث" (27).
قال الشوكاني: "وأمَّا حديث القُلَّتين؛ فغايةُ ما فيه أنَّ ما بلَغَ مقدار القلَّتين؛ لا يحمل الخَبَث، فكان هذا المقدار؛
لا يؤثِّرُ فيه الخبث في غالب الحالات، فإِنْ تغيَّر بعض أوصافه؛ كان نَجِساً بالإِجماع الثابت من طُرُق متعدِّدة.
وأمّا ما كان دون القلَّتين؛ فلم يَقُل الشارع: إِنه يحمل الخَبَث قطعاً وبتّاً، بل مفهوم حديث القلَّتين يدلُّ على أنَّ ما
دونهما قد يحمل الخَبَث وقد لا يحمله، فإِذا حَمَلَهُ؛ فلا يكون ذلك إِلا بتغيُّر بعض أوصافه ... " (28).
وقال الزهري: "لا بأس بالماء؛ ما لم يغيِّره طعمٌ أو ريحٌ أو لون" (29).
8 - الماء المستعمَل:
سواء تُوضِّىءَ به أو اغتُسِل ... ونحو ذلك؛ ما لم يُستعمل في إِزالة نجاسة. وفي ذلك أدلَّة كثيرة؛ منها:
ما قاله عروة عن المِسْوَر وغيره -يصدِّق كل واحد منهما صاحبه-: "وإِذا توضَّأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كادوا يقتتلون على وَضوئه" (30).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اغتسل بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة (31)، فجاء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ليتوضَّأ منها -أو يغتسل- فقالت له: يا رسول الله! إِنِّي كنتُ جُنُباً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إِنَّ الماء لا يُجْنِب" (32).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يُقال له: إِنَّه يُستقى لك مِن بئر بُضاعة
وهي بئر يُلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض (33) وعُذَر النَّاس- فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الماء طهور، لا ينجِّسه شيء" (34).
وعن الرّبَيِّع بنت مُعَوِّذ -رضي الله عنها- في وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسحَ برأسه مِن فضْل ماءٍ كان في يده" (35).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لقيني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جُنُب،فأخذ بيدي، ف
مشيتُ معه حتى قعد، فانْسَلَلْتُ فأتيتُ الرحل (36)، فاغتسلتُ،ثمَّ جئت وهو قاعد، فقال: "أين كنتَ يا أبا هرّ؟ ".
فقلتُ له (37)، فقال: "سبحان الله يا أبا هرّ! إِنَّ المؤمن لا ينجُس" (38).
قال ابن قدامة: " ... ولأنَّه ماء طاهر لاقى محلاًّ طاهراً؛ كالذي غسل به الثوب الطاهر" (39).
وقال أيضاً: "ولأنَّه لو غمس يده في الماء؛ لم ينجِّسْه، ولو مسَّ شيئاً رطباً؛ لم يُنجِّسْهُ" (40).
وعن عمرو بن يحيى عن أبيه؛ قال: "كان عمِّي يكثر من الوضوء. قال لعبد الله بن زيد: أخبِرني كيف رأيتَ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضَّأ؟ فدعا بتورٍ (41) مِن ماء، فكفأ على يديه، فغسَلهما ثلاث مرار، ثم أدخَل يده في التَّور،
فمضمض واستنثَر ثلاث مرَّات من غَرفة واحدة، ثمَّ أدخَل يده فاغترف بها، فغسَل وجهه ثلاث مرات، ثمَّ غسَل يديه إِلى
المرفقين مرتين مرتين، ثمَّ أخذ بيده ماءً، فمسح رأسه، فأدبرَ به وأقبل، ثمَّ غسل رجليه، فقال: هكذا رأيت النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ" (42).
وفي "صحيح البخاري": "وأمرَ جريرُ بنُ عبد الله أهلَه أن يتوضَّؤوا بفضل سواكِه" (43).
قال الحافظ في "الفتح": "وقد صحَّحه الدارقطني بلفظ: كان يقول لأهله: توضَّؤوا من هذا الذي أدخل فيه سواكي" (44).
وعن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة، فأُتي بوَضوء،
فتوضَّأ، فجعَل النَّاس يأخذون من فضل وَضوئهِ فيتمسَّحون به ... " (45).
قال الحافظ: "وفيه دلالةٌ بيِّنة على طهارة الماء المستعمل".
وعن أنس -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بإِناء من ماء، فأُتي بقدح رَحْراح (46) فيه شيء من ماء، فوضع أصابعَه فيه"، قال أنس: "فجعلت أنظر إلى الماء ينبُع من بين أصابعه".
قال أنس: "فحزَرْتُ (47) مَن توضَّأ ما بين السبعين إلى الثمانين" (48).
وفي "الفتاوى" (21/ 46) لشيخ الإِسلام:
"وسُئِل ... -رحمه الله- عن الماء إِذا غَمَس الرجل يده فيه؛ هل يجوز استعماله أم لا؟ فأجاب: لا ينجس بذلك،
بل يجوز استعماله عند جمهور العلماء؛ كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وعنه رواية أخرى أنَّه يصير
مستعملاً، والله سبحانه وتعالى أعلم".
وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (مسألة 141):
"والوضوء بالماء المستعمل جائز، وكذلك الغسل به للجنابة، وسواءٌ وُجد ماءٌ آخر غيره أو لم يوجد، وهو الماء الذي
توضَّأ به بعينه لفريضة أو نافلة، أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها، وسواء كان المتوضِّىء رجلاً أو امرأة.
برهان ذلك: قول الله تعالى: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَىِ أو عَلى سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنْكُم مِنَ الغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ
فَلَمْ تَجِدوا مَاءَ فَتَيَمَّموا} (49).
فعمَّ -تعالى- كل ماء، ولم يخصَّه، فلا يحِلُّ لأحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده؛ إِلا ما منعه
منه نصٌّ ثابت أو إِجماع متيقَّن مقطوع بصحّته".
9 - الماء المسخَّن:
فقد ثبت عن عمر -رضي الله عنه-: "أنَّه كان يسخَّن له الماء في قمقم (50)، فيغتسل به" (51).
وثبت عنه أيضاً: "أنَّه كان يغتسل بالحميم" (52).
وأمّا حديث: "لا تغتسلوا بالماء المشمَّس؛ فإِنَّه يورث البَرَص"؛ فإِنَّه لم يثبت (53).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال ابن كثير: "أي: آلة يُتطهَّر بها؛ كالسَّحور والوجور وما جرى مجراهما". والوَجور: الدواء يوجَر في وسط الفم؛ أي: يُصبُّ. "مختار الصحاح".
(2) قال ابن كثير في "تفسيره": " {لِيُطهِّرَكم به}؛ أي: مِن حدَث أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر".
(3) أخرجه البخاري: 744، ومسلم: 598، وغيرهما.
(4) اليَنبوع: عين الماء، وجمعها: ينابيع. "مختار الصحاح".
(5) الزمر: بعض الآية 21، وفي "تفسير ابن كثير" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: " ... ليس في الأرض ماءٌ إِلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيِّره، فذلك قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ ينابيعَ في الأرضِ}، فمن سرّه أن يعود الملح عذباً؛ فليصعدْه".
(6) أخرجه مالك وأصحاب السنن وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (480)، و"صحيح سنن أبي داود" (رقم 76).
(7) بمعنى الذَّنوب: الدلو الملأى ماء. "النهاية". وفي "فقه اللغة" للثعالبي: "لا يُقال للدلو: سَجْل؛ إِلا ما دام فيها ماء قلَّ أو كثر، ولا يُقال لها: ذَنوب؛ إِلا إِذا كانت ملأى".
(8) أخرجه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد المسند" (1/ 76)؛ كما في "الإِرواء" (13)، وانظر "تمام المنة" (ص 46).
(9) أي: المتغيِّر الطَّعم واللون.
(10) ونقل شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- اتفاق العلماء على ذلك في "الفتاوى" (21/ 36).
(11) انظر كتاب "المغني" (أحكام الماء المطلق والمتغيِّر).
(12) السِّدر: شجر النَّبِق.
(13) الكافور: من أخلاط الطيب، وفي "الصحاح": من الطيب. "لسان العرب".
(14) بفتح المهملة -ويجوز كسرها، وهي لغة هذيل- بعدها قاف ساكنة، والمراد به هنا الإِزار. "فتح" -بحذف يسير-.
(15) أي: اجْعلْنه شعارها؛ أي: الثوب الذي يلي جسدها.
(16) أخرجه البخاري: 1253، ومسلم: 939، وغيرهما.
(17) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (234)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (303)، وغيرهما، وانظر "المشكاة" (485)، و "الإِرواء" (271).
(18) النساء: 43، والمائدة: 6
(19) التور: شبه الطَّسْت، وقيل: هو الطَّسْت. والصُّفْر: النحاس الجيِّد. "الفتح".
(20) أخرجه البخاري: (رقم 197)، وروى النسائي نحوه.
(21) أخرجه البخاري: 6316، ومسلم: 763، وغيرهما.
(22) هي إِناء صغير من جلد.
(23) أخرجه البخاري: 150
(24) قال في "النهاية": قيل: المحايض جمْع المحيض، وهو مصدر حاض، فلما سُمّي به جَمَعَه، ويقع المحيض على المصدر والزمان والمكان والدّم.
(25) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (60)، و "الإرواء" (14)، قال أبو داود: "وسمعت قتيبة بن سعيد؛ قال: سألت قيِّم بئر بُضاعة عن عمقها.
قال: أكثر ما يكون إلى العانة. قلت: فإِذا نقص؟ قال: دون العورة".
قال أبو داود: "وقدرْتُ أنا بئر بُضاعة بردائي مَدَدْتُه عليها، ثمَّ ذرَعْتُه، فإِذا عرضها ستة أذرع، وسألتُ الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إِليه: هل غُيِّر بناؤها عمَّا كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماءً متغيِّر اللون".
(26) في "سنن الترمذي": "قال عبدة: قال محمد بن إِسحاق: القُلة هي الجرار، والقُلَّة التي يُستقى فيها".
وقال الشافعي وأحمد وِإسحاق -كما في الترمذي أيضاً-: "يكون نحواً من خمس قِرب".
والمراد من ذِكْر القلَّتين كثرة الماء، والله أعلم. وسمِّيت قُلَّة؛ لأنَّها تُقَلُّ؛ أي: ترفع وتحْمل.
(27) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (56)، و"صحيح سنن النسائي" (51)، و"صحيح سنن الترمذى" (57)، و "الإِرواء" (23).
(28) "السيل الجرّار" (باب المياه)، بحذف يسير، ونحوه في "الدراري المضية".
(29) أخرجه البخاري في "صحيحه" معلَّقاً مجزوماً به.
وقال شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى- في "مختصر البخاري" (باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، رقم: 59): "وصَلَه ابن وهب في"جامعه" بسند صحيح عنه، والبيهقي نحوه". وانظر "الفتح" (1/ 342).
(30) أخرجه البخاري: 189
(31) الجفنة: هي القصعة، وفي "الصحاح": "كالقصعة".
(32) أخرجه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح". وانظر "صحيح سنن أبي داود" "صحيح سنن الترمذي" (55)، و"المشكاة" (457).
(33) قال في "النهاية": قيل: المحايض جمْع المحيض، وهو مصدر حاض، وتقدّم.
(34) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (60)، و"الإرواء" (14)، تقدّم.
(35) عن "صحيح سنن أبي داود" (120).
(36) أى: المكان الذي يأوى فيه. "فتح".
(37) في رواية أخرى: "كنت جنباً، فكرهتُ أن أجالسك وأنا على غير طهارة". البخاري: 283.
(38) أخرجه البخاري: 285، ومسلم: 371..
(39) "المغني" (الماء المضاف إِلى مقرِّه والمخالطة لما يلازمه).
40) "المغني" (الماء المضاف إِلى مقرِّه والمخالطة لما يلازمه).
(41) شبه الطَّسْت، وقيل: هو الطَّسْت، وتقدَّم.
(42) أخرجه البخاري: 199، ومسلم: 235، وفيه الدلالة الصريحة على جواز إدخال اليد في الإِناء إلاَّ ما استُثني؛ خلافاً لمن يتحرَّج من ذلك، أو ينهى عنه.
(43) كذا أورده معلَّقاً بصيغة الجزم. وقال الحافظ في "الفتح": "هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة والدراقطني وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه". وذكر شيخنا في "مختصر البخاري" تصحيح الدارقطني إِسناده. قال الحافظ: "وفي بعض طرقه: كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء، ثمَّ يقول لأهله: توضؤوا بفضله، لا يرى به بأساً".
(44) انظر (كتاب الوضوء) "باب استعمال فضل وضوء الناس" (رقم 187).
(45) أخرجه البخاري: 187
(46) رَحْراح: أي: متَّسع الفم. وقال الخطَّابي: "الرَّحْراح: الإِناء الواسع الصَّحن القريب القعر، ومثله لا يَسَع الماء الكثير؛ فهو أدلّ على عِظَم المعجزة". قال الحافظ: "وهذه الصفة شبيهة بالطَّست".
(47) أي: قدَّرْتُ.
(48) أخرجه البخاري: 200
(49) النساء: 43، والمائدة: 6
(50) القُمقم: ما يسخّن فيه الماء من نحاس وغيره ويكون ضيّق الرأس. "النهاية".
(51) أخرجه الدارقطني وغيره، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (16).
(52) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (17). والحميم: هو الماء الحارُّ.
(53) ضعيف موقوفاً على عمر -رضي الله عنه- ورُوِي مرفوعاً من طُرق واهية جدّاً. وانظر "المشكاة" (489).
علي الجزائري
2011-12-20, 20:52
تابع المياه و أقسامها
القسم الثاني: الماء الطاهر غير المطهِّر:
وهو ما خالَطَه طاهر، فغيَّر اسمه، حتى صار صبغاً أو خَلاً أو ماء وَرْد، أو غَلَب على أجزائه فصيَّره حِبراً، أو طُبِخ فيه فصار مَرَقاً (1)،
وهذا الصِّنْف لا يجوز الغسل به ولا الوضوء؛ لأنَّ الطَهارة إِنَّما تجوز بالماء؛ لقوله تعالى: { ... فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا} (2).
وهذا لا يقع عليه اسم الماء. وعن عطاء: "أنَّه كره الوضوء باللبن والنّبيذ، وقال: إِنَّ التيمُّم أعجب إِليَّ منه" (3).
وعن أبي خَلْدة؛ قال: "سألت أبا العالية عن رجل أصابته جنابة، وليس عنده ماء، وعنده نبيذ؛ أيغتسل به؟ قال: لا" (4).
قال البخاري -رحمه الله- في "صحيحه": "باب: لا يجوز الوضوء بالنّبيذ ولا المسكر، وكرِهه الحسن وأبو العالية" (5).
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى (6) -: "وقول من يقول: لا يُتَوَضَّأ بالنَّبيذ: أقرب إلى الكتاب وأشبه؛
لأنَّ الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً} (7) ".
القسم الثالث: الماء النَّجس:
وهو ما تغيَّر بمخالطة نَجِس، أو أنْ تُغيِّر النجاسة طعمَه أو لونه أو ريحه. وهذا لا يجوز التطهّر به. قال شيخ الإِسلام
ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (21/ 30): "الماء إِذا تغيَّر بالنَّجاسات؛ فإِنَّه ينجس بالاتفاق".
وجاء في "سُبُل السلام" (ص 21): "قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنَّ الماء القليل والكثير إِذا وقَعَت فيه نجاسة،
فغيَّرت له طعْماً أو لوناً أو ريحاً؛ فهو نجِس".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
(1) "الشرح الكبير" (ص 11).
(2) النساء: 43، والمائدة: 6
(3) أخرجه البخاري معلَّقاً، وهو في "سنن أبي داود" (86) موصولاً، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (78).
(4) أخرجه أبو داود: 87، وقال شيخنا -حفظه الله-: "إِسناده صحيح على شرط البخاري". وهو في "صحيح سنن أبي داود" (79).
(5) قال شيخنا في "مختصر البخاري": "أمّا أثر الحسن؛ فوصَله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريقين عنه نحوه، وأما أثر أبي العالية؛ فوصله أبو داود وأبو عبيد بسند صحيح عنه نحوه". وهو في "صحيح أبي داود" (87) ". وانظر "الفتح" (1/ 354).
(6) بعد أن نقل أقوال أهل العلم في المسألة.
(7) النساء: 43، والمائدة: 6
علي الجزائري
2011-12-22, 21:43
الفصل الثاني : النجاسات ..
أولاً: غائط الآدمي، وبوله:
وفي ذلك أدلَّة عديدة؛ منها:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل" (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (166).).
ولم أستدلَّ به على تخفيف طهارة بول الغلام -مع إِفادته ذلك- بل على نجاسة البول بعامَّة،
والشاهد: "وبول الجارية يُغسل".
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بول الأعرابي: "دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنوباً من ماء
-أو سَجْلاً من ماء-" (أخرجه البخاري: 6128، ومسلم: 284، وغيرهما.
).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المُعذَّبَيْن في قبرَيهما: "كان أحدهما لا يستتر من بوله،
وكان الآخر يمشي بالنميمة" ( أخرجه البخاري: 1361، ومسلم: 292، وغيرهما. ومعنى: "لا يستتر": لا يستبرئ، ولا يتطهَّر، ولا يستبعد منه.
).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وطئ أحدُكم بنعليه الأذى؛
فإِنَّ التراب له طَهور" (أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (371)، وانظر "المشكاة" (503).
).
وفي رواية: "إِذا وَطِئ الأذى بخُفَّيْه؛ فطَهورهما التراب" ( أخرجه أبو داود "
صحيح سنن أبي داود" (372) وغيره.).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في خلْع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعليه في الصلاة-: قال:
بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلِّي بأصحابه؛ إِذ خَلَعَ نعليه، فوضَعَهُما عن يساره،
فلمَّا رأى ذلك القوم؛ ألقَوا نعالَهم، فلمَّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتَه؛
قال: "ما حَمَلَكُم على إِلقائكم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيْتَ نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إِنَّ جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذراً".
وقال: "إِذا جاء أحدكم إِلى المسجد، فلينْظرْ،
فإِنْ رأى في نعليه قذراً أو أذى؛ فليَمْسَحْهُ، ولْيُصَلِّ فيهما" (أخرجه أبو داود وغيره،
انظر "صحيح سنن أبي داود" (605)، و"الإِرواء" (284).).
وممَّا ورد في بول الصغير الذي لم يطعم:
ما روته أم قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها-: "أنَّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إِلى رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأجلسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجره،
فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فنَضَحَهُ، ولم يغسله" (أخرجه البخاري: 223، ومسلم: 287).
قال الحافظ في "الفتح" في تفسير: "لم يأكل الطعام": "المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه
والتمر الذي يحنَّك به والعسل الذي يلعقه للمُداواة وغيره، فكأنَّ المراد أنَّه لم يحصل له
الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النووي في "شرح مسلم" و "شرح المهذَّب".
وقال ابن التين -كما في "الفتح"-: "يُحتمل أنَّها أرادت أنَّه لم يتقوَّت بالطَّعام، ولم يستغنِ به عن الرَّضاع".
وعن لُبابة بنت الحارث -رضي الله عنها- قالت: كان الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في حجر رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبال عليه، فقلتُ: اِلبَسْ ثوباً وأعطني إِزاركَ حتى أغسله. قال:
"إِنَّما يُغسل من بول الأنثى، وينُضَحُ من بول الذَّكر" ( أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (361)، وابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر "المشكاة" (501).).
عن أبي السَّمح؛ قال: "كنت أخدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إِذا أراد أن يغتسل؛ قال:
"ولِّني قفاك"، فأولِّيه قفاي، فأسترُه به، فأُتي بحَسَن -أو حُسين- فبال على صدره، فجئتُ أغسله،
فقال: "يُغسل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام" ( أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (362) وغيره، وانظر "المشكاة" (502).).
وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "يُغسل بول الجارية،
ويُنضح بول الغلام؛ ما لم يطعم" ( أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (363).).
وفي رواية: "قال قتادة: هذا ما لم يطعما الطعام، فإِذا طعما؛ غُسلا جميعاً" (أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (364).).
قال أبو عيسى الترمذي: "وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والتابعين من بعدهم -مِثل أحمد وإِسحاق-؛ قالوا: يُنضح بول الغلام، ويُغسل بول الجارية،
وهذا ما لم يطعما، فإِذا طعما؛ غُسلا جميعاً".
ثانياً: دم الحيض:
وفيه أدلَّة عديدة؛ منها:عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبَيْش إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقالت: يا رسول الله! إِني امرأة أُسْتحاض فلا أطهُر، أفأدَعُ الصلاة؟ فقال:
"لا؛ إِنَّما ذلك عِرْق، وليس بالحيضة، فإِذا أقبلتِ الحيضة؛ فدَعي الصلاة، وِإذا أدبرَت؛
فاغْسِلي عنك الدم وصلِّي " (أخرجه البخاري: 228، ومسلم: 333، وهذا لفظه.).
وعن أم قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها- قالت:
سألتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض يكون في الثوب؟ قال:
"حُكِّيه بضِلْع (2)، واغسليه بماء وسِدْر" (أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (349)، والنسائي وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (300).
الضِّلع: هو العود، والأصل فيه ضِلع الحيوان، فسمِّي به العود الذى يشبهه. "النهاية"،
وقيل: العود الذى فيه اعوجاج.
وقد نقل النووي في "شرحه" (3/ 200) الإجماع على نجاسته.
ثالثاً: الودي:
وهو: "البَلَل اللَّزِج الذي يخرج من الذكر بعد البول" مباشرة، وهو لا يوجب الغُسل.
(كذا في "النهاية"، وقال: "هو بسكون الدال وبكسرها وتشديد الياء، وقيل:التشديد أصحّ وأفصح من السكون".)
رابعاً: المَذي:
وهو ماءٌ أبيض لَزج رقيق، يخرج بلا دَفْق عند الملاعبة أو تذكُّر الجماع أو إِرادته،
وقد لا يحسُّ الإِنسان بخروجه، وهي من النجاسات التي يشقُّ الاحتراز عنها، فخُفِّف تطهيرُه،
ولا غُسل على من يصيبه ذلك؛ بل عليه الوضوء، ويغسل ذكَره وخصيتيه قبل ذلك،
ويأخذ كفّاً من ماء، وينضح بها ثوبه. والأدلة على ذلك ما يأتي:
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: كنت رجلاً مذَّاء، فأمرْت رجلاً أن يسأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-لمكان ابنته- فسأل، فقال: "توضأ، واغسل ذَكَرَك" (أخرجه البخاري: 269، ومسلم: 306، وغيرهما.).
وفي رواية: "إِذا وَجَدَ أحدُكم ذلك؟ فليَنْضَحْ فرْجَه، وليتوضَّأ وضوءه للصلاة" (انظر "صحيح سنن أبي داود" (191).
( النضح : ورد النضح على معنيين: الغسل والرش. ولما جاء في بعض الروايات بمعنى الغسل؛
تعيَّن حمل النضح عليه، وهذا ما ذهَب إليه النووي -رحمه الله-.
قلت: "وهذا بخلاف الثوب؛ فإِنَّه لم يقل بغسله للتخفيف بخلاف الفرج".
وفي رواية: "ليغسل ذكَرَهُ وأنثييه" (انظر "صحيح سنن أبي داود" (192)، وأنثييه؛ أي: خصيتيه.).
وفي رواية: "من المَذْي الوضوء، ومن المَنِيِّ الغُسْل" ( أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (99) وغيره، وانظر "المشكاة" (311)..
قال أبو عيسى الترمذي: "وهو قول عامَّة أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم،
وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق".
وعن سهل بن حُنيف -رضي الله عنه- قال: "كنتُ ألقَى من المذي شدَّة وعناء، فكنتُ أُكثر منه الغسل،
فذكرْتُ ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه فقال:
"إِنَّما يُجزئك من ذلك الوضوء". فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟
قال: "يكفيك أن تأخذ كفّاً من ماء، فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنَّه أصاب منه" (أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (195)،
و"صحيح سنن ابن ماجه" (409)، و "صحيح سنن الترمذي" (100).
قال الشوكاني -رحمه الله-: "فدلَّ هذا الحديث على أن مجرَّد النَّضح يكفي في رفع نجاسة المذْي،
ولا يصحُّ أن يُقال هنا ما قيل في المنِيّ، إِنَّ سبب غسله كونه مستقذراً، لأنَّ مجرَّد النضح
لا يزيل عين المذي كما يزيله الغسل، فظهر بهذا أنَّ نضحه واجب، وأنَّه نَجِس خُفِّف تطهيره" ("السيل الجرّار" (7/ 35).
علي الجزائري
2011-12-22, 22:26
تتمّة الفصل الثاني : النجاسات ..
خامساً: الميتة:
وهي ما مات من غير تذكية أو ذبح شرعي. ودليل نجاستها
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُبِغَ الإِهاب، فقد طَهُرَ" (أخرجه مسلم: 366). والإِهاب: هو الجلد قبل أن يُدبَغ؛ فأمّا بعده؛ فلا يسمى إِهاباً.
قال الصنعاني -رحمه الله- في "سبل السلام" (1/ 52):
"وأمّا الميتة؛ فلولا أنَّه وَرَدَ "دباغ الأديم طَهوره" (أخرجه مسلم: 366). و"أيّما إِهاب دُبغ؛ فقد طهُر" أخرجه أحمد في "مسنده" والترمذي والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3955)
وانظر "غاية المرام" (28). ؛ لقُلْنا بطهارتها إِذ الوارد في القرآن تحريم أكْلها لكن حكَمْنا بالنَّجاسة
لمَّا قام عليها دليلٌ غير دليل تحريمها".
ويندرج تحتها ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة؛ لحديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما قُطِعَ من البهيمة وهي حيَّةٌ؛ فهو ميتة" ( أخرجه أحمد في "مسنده" وأبو داود والترمذي والحاكم في "مستدركه"
وحسّنه شيخنا في "غاية المرام" (41)..
ويستثنى من ذلك ميتة السمك والجراد؛ فإِنَّها طاهرة حلال أكلها؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُحِلَّتْ لنا ميتتان ودمان فأمّا الميتتان: فالحوت والجراد
وأمّا الدَّمان: فالكبد والطحال" ( أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (1118).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: "هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ مَيتتُه" ( تقدّم في (باب المياه).
وجلد الميتة نجس كذلك -كما لا يخفى-؛ للحديث المتقدّم: "إِذا دُبِغَ الإِهاب؛ فقد طَهُر".
وتقدّم في هذا المعنى بعض النصوص غير بعيد.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "تُصدِّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمرَّ بها رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "هلاَّ أخذْتم إِهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟.
فقالوا: إِنَّها مَيتة. فقال: "إِنَّما حَرُم أكلُها" (أخرجه البخاري: 1492، 2221، 5531، ومسلم: 363، وهذا لفظه.).
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهُر"؛ يدلُّ على نجاسته قبل الدِّباغة؛ كما هو بيِّن.
سادساً: لحم الخنزير:
قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام: 145).
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"من لَعِبَ بالنَّرْدَشير ؛ فكأنَّما صَبَغَ يده في لحم خنزير ودمه" ( أخرجه مسلم: 2260، والبخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وغيرهم.).
-- النَّرد: اسم أعجمي معرَّب. وشير: بمعنى: حلو. "النهاية". وتعرف في بلاد الشام بـ (لعبة الطاولة).
سابعاً: الكلب:
ومن الأدلة على نجاسته:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شَرِبَ الكلب في إِناء أحدكم؛ فليَغْسِلْهُ سبعاً"
( أخرجه البخاري: 172 ومسلم: 279 وغيرهما.).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور (2) إِناء أحدكم إِذا وَلَغَ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهنَّ بالتراب" (أخرجه مسلم: 279 وأبو داود: 71 وغيرهما.).
- - طهور: قال في "سُبُل السلام": "قال في "الشرح الأظهر": فيها ضمّ الطاء ويقال بفتحها؛ لغتان".
ثامناً: لحم السباع :
ومن أدلة نجاستها ما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سُئل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدوابِّ والسباع فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إذا كان الماء قُلَّتين؛ لم يحمل الخَبَث" (أخرجه جمع من الأئمة وانظر "صحيح سنن أبي داود" (56) و"المشكاة" (477)
وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (23) وتقدم.)
وفي لفظ: "لم ينجِّسْه شيء" (وهو عند ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (418) وأحمد وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (23) وتقدّم.).
انظر للمزيد -إِن شئت- (سؤر السباع).
تاسعاً: لحم الحمار:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جاءٍ،
فقال: أُكِلَتِ الحُمُر ثم جاءه جاءٍ فقال: أُكِلَت الحُمر ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُفْنِيَتِ الحُمُر فأمَر منادياً
فنادى في النَّاس: "إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهليَّة؛ فإِنَّها رجس".
فأُكْفِئت القُدور وإِنَّها لتفور باللحم" ( أخرجه البخاري: 5528، ومسلم: 1940، وغيرهما.)
عاشراً: الجَلاَّلة
جاء في "النهاية" ونحوه في "اللسان": "الجَلاَّلة من الحيوان: التي تأكل العَذِرة، والجِلَّة: البعر،
فوضَع موضع العَذِرة، يقال: جلَّت الدابَّة الجِلَّة واجْتَلَتْها، فهي جالَّة وجلاَّلة، إِذا التقطتْها".
وفي "مختار الصحاح": "جلَّ البعر: التقطه، ومنه سمِّيت الدابَّة التي تأكل العَذِرة: الجَلاَّلة".
فقد ثبت في حديث ابن عمر: أنه قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الجلاَّلة
وألبانها" (أخرجه أبو داود، وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (2503).
وقال عبد الله بن أبي أوفى: " ... تحدَّثنا أنّما حرَّمها رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبته من أجل أنها تأكل العَذِرة" ( أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2585).
وثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما-:
أنَّه كان إِذا أراد أكل الجلاَّلة حبَسها ثلاثاً ( أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه، وانظر "الإِرواء" (2505).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (مسألة 140):
"وألبان الجلاَّلة حرام، وهي الإِبل التي تأكل الجلَّة -وهي العَذِرة- والبقر والغنم كذلك، فإِن مُنعت
من أكلها حتى سقط عنها اسم الجلاَّلة؛ فألبانها حلال طاهرة".
وأمّا الدَّجاج؛ فلا حرج في أكله، ولو أكَل الأقذار ( انظر "الفتح" (9/ 646) للمزيد من الفائدة.)، وقد ثبت أنَّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكلهُ؛ كما في حديث زَهْدَم؛ قال:
"كنَّا عند أبي موسى الأشعري -وكان بيننا وبين هذا الحيِّ من جَرْم إِخاء - فأُتِي بطعام فيه لحم دجاج،
وفي القوم رجُل جالس أحمر، فلم يدْنُ من طعامه، فقال: ادْنُ؛ فقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يأكل منه. قال: إِنّي رأيته يأكل شيئاً فقذِرته، فحَلَفْتُ أن لا آكله ... (وذكر الحديث) " ( أخرجه البخاري: 5518، ومسلم: 1649، وغيرهما.).
والبيض أيضاً يحمل نفس الحكم(استفدته من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-.).
حادي عشر: عظام وشَعْر وقَرْن ما يُحكم بنجاسته:
لأنها تتغذَّى بالنجاسة؛ إِلا إِذا قَبِلت الدِّباغ (أفادنيه شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-.
علي الجزائري
2011-12-30, 22:57
الفصل الثالث: الأسآر ..
جمع سؤر، وهو فضلة الشرب وبقيَّته.
القسم الأول: الأسآر الطاهرة:
وتندرج تحتها الأنواع الآتية:
1 - سؤر الآدمي:
قال ابن قدامة في "المغني" (انظر (سؤر الآدمي وعرَقه).
-في معرض كلامه عن سؤر الآدمي-: " ... فهو طاهر، وسؤره طاهر
سواء كان مسلماً أو كافراً، عند عامّة أهل العلم ... ".
وفي ذلك أدلَّة؛ منها:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... إنَّ المؤمن لا ينجس" ( تقدم تخريجه في (الماء المستعمل).
وفي رواية: "إنَّ المسلم لا ينجس" ( أخرجه البخاري: 283، ومسلم: 372.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فقال:
يا عائشة! ناوليني الثوب". فقالت: إني حائض. فقال: "إنَّ حيضتك ليست بيدك"، فناولَتْهُ (أخرجه مسلم: 299).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنتُ أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا
حائض، ثمَّ أناولُه النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ" (أخرجه مسلم: 300
جاء في "الفتح" (2/ 129): "عَرْقاً -بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف-.
قال الخليل: العُراق: العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم؛ فهو عرق. وفي المحكم عن الأصمعي: العَرْق -بسكون الراء-: قطعة لحم.
وقال الأزهري: العَرق واحد العراق، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق، فيُكسر ويُطبخ ويؤكل ما على العظام
من لحم دقيق، ويتشمس العظام، يقال: عرَقت اللحم واعترقْتُه وتعرَّقته: إِذا أخذت اللحم منه نهشاً".
ومما قال ابن الأثير في "النهاية": "العَرْق: العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم".
وهذا صريح في طهارة فم وسؤر الحائض.
وعن عبد الله بن سعد -رضي الله عنه- قال: سألتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواكلة الحائض؟
فقال: "واكِلْها" ( انظر "صحيح سنن ابن ماجه" (531) و"صحيح سنن الترمذي" (114).
وقد أورده الترمذي -رحمه الله- في (باب: مواكلة الحائض وسؤرها).
وأما القول بطهارة سؤر الكافر؛ فللأسباب الآتية:
أولاً: التمشي مع القاعدة المعروفة: "الأصل في الأعيان الطهارة".
ثانياً: مخالطة المسلمين للمشركين وإباحة ذبائحهم والزواج منهم، ولا نعلم أنَّهم كانوا يغسلون شيئاً
ممّا أصابته أبدانهم أو ثيابهم ( قاله السيد سابق -حفظه الله تعالى- بمعناه في "فقه السنَّة" (سؤر الآدمي).
وأما قول الله تعالى: {إِنَّما المُشْرِكون نَجَس} (التوبة: 28)؛ فلا يُراد منها نجاسة الأبدان. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره ":
وأما نجاسة بدنه؛ فالجمهور على أنَّه ليس البدن والذات؛ لأنَّ الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ... ".
وقال ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير" (وقد نَقَلَ ثلاثة أقوال في الآية.):
والثالث: أنَّه لمّا كان علينا اجتنابهم كما تُجتَنَب الأنجاس؛ صاروا بحُكم الاجتناب كالأنجاس،
وهذا قول الأكثرين، وهو صحيح".
2 - سؤر ما يؤكل لحمه:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: إِنِّي لَتَحْت ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسيل عليَّ لعابُها،
فسمعته يقول: "إِنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ ألا لا وصيَّة لوارث" ( أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2194)، والترمذي والدارقطني وغيرهم، وانظر "الإرواء" (6/ 89).
جاء في "سُبل السلام" (1/ 53): "والحديث دليل على أنَّ لعاب ما يؤكل لحمه طاهر. قيل: وهو إِجماع.
وهو أيضاً الأصل، فذِكْر الحديث بيانٌ للأصل، ثمَّ هذا مبنيٌّ على أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
علِم سيلان اللُّعاب عليه؛ ليكون تقريراً".
قال أبو بكر بن المنذر: "أجمع أهلُ العلم -لا اختلاف بينهم- أنَّ سُؤر ما يؤكل لحمُه طاهر؛ يجوزُ شربُه والتطهر به" ( الأوسط (1/ 299) (المسألة 76).
ويرى أهل العلم طهارة روث ما يؤكل لحمه؛ فالقول بطهارة سؤره أولى.
3 - سؤر الهرة:
عن كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أنَّ أبا قتادة دخل فسكبت له وَضوءاً،
فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى (أي: أمال.
) لها الإِناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظرُ إِليه.
فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلتُ: نعم. فقال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"إِنَّها ليست بنَجَس، إِنَّها من الطَوَّافين عليكم والطَوَّافات" ( أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما. وانظر "صحيح سنن أبي داود" (68).
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" تحت (173): " ... وكذا صحَّحه البخاري والعقيلي والداراقطني؛ كما في تلخيص الحافظ ... ".
وعن داود بن صالح بن دينار التمَّار عن أمه: أنَّ مولاتها أرسلَتها بهريسة إِلى عائشة، فوجدَتها تصلِّي،
فأشارت إِليَّ أن ضعيها، فجاءت هرَّة، فأكَلت منها، فلمَّا انصرفتْ، أكَلت من حيث أكَلت الهرة. فقالت:
إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّها ليست بنَجَس، إِنَّما هي من الطوَّافين عليكم"،
وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضَّأ بفضلها (أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (69).).
في "لسان العرب": " الهرْس: الدق، ومنه الهريسة، وقيل: الهريس: الحب المهروس قبل أن يُطبخ، فهو الهريسة ... "
وفي طهارة سؤر الهرة قال الترمذي -رحمه الله-: "وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والتابعين ومَن بعدهم؛ مِثل: الشافعي وأحمد وإسحاق؛ لم يَروْا بسؤر الهرَّة بأساً".
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir