b.lamine
2008-12-07, 17:40
مقدمة:
تدفعنا الأوضاع الجديدة لتطور الرأسمالية التي يجمعها مصطلح "العولمة" لإعادة قراءة نقد ماركس للاقتصاد السياسي. و يرجع السبب في ذلك إلى أن الأيديولوجيا الليبرالية التي نقدها ماركس و تتبع وجودها و انتشارها عبر نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يعاد ظهورها من جديد الآن في شكل ما يسمى بالليبرالية الجديدة. فالتوسع العالمي للرأسمالية الذي يتخذ صورة العولمة يعتمد على مجموعة أفكار و نظريات هي إعادة إحياء لليبرالية الكلاسيكية الحاضرة بقوة في الاقتصاد السياسي. و من هنا فعودة الرأسمالية لليبرالية باعتبارها تبريرا فكريا و شكلا في إضفاء الشرعية عليها يجعلنا بالمثل نعيد قراءة نقد ماركس للاقتصاد السياسي.
تناول العديد من المفكرين منذ النصف الأول من القرن العشرين عناصر النقد الماركسي لرأسمالية القرن التاسع عشر، أعني الرأسمالية الليبرالية نظرا لاتخاذها الليبرالية أيديولوجيا و سياسة اقتصادية لها، و رأوا أن ذلك النقد لم يعد يناسب رأسمالية الدولة في القرن العشرين، و من أبرز هؤلاء المفكرين فلاسفة مدرسة فرانكفورت و على رأسهم بولوك و هوركهايمر و ماركيوز. حيث لم تعد رأسمالية الدولة في القرن العشرين بنفس بناء و آليات سابقتها في القرن التاسع عشر، و لم يعد اقتصاد السوق يشكل البناء التحتي للعلاقات الاجتماعية و التنظيم السياسي ، و لم يعد النظام يجد مبررات وجوده و شرعيته في آليات السوق و عدالة التبادل ، بل في علاقته السياسية بمواطنيه و توفيره لاحتياجاتهم الأساسية ، أي في دولة الرفاهية. و بذلك تحولت الهيمنة الاقتصادية غير المباشرة إلى هيمنة سياسية مباشرة ، و تحول الاستغلال من استغلال متخف وراء ما يسمى بقوانين السوق إلى استغلال واضح و صريح ، كان أبرز مثال عليه هو الأنظمة الفاشية . و بعد أن كان اقتصاد السوق هو الذي يقوم بدور الأيديولوجيا السائدة ، أصبحت منظمات و مؤسسات دولة الرفاهية هي التي تقوم بهذا الدور بما فيها النظام التعليمي و وسائل الإعلام و الثقافة. و من هنا تحدث ألتوسير عن "أجهزة الدولة الأيديولوجية" .
أما الآن فقد شهد العالم اضمحلالا واضحا للدور التقليدي للدولة و أزمة شديدة أصابت دولة الرفاهية. فلم تعد الدولة و مؤسساتها تقوم بدور التبرير الأيديولوجي و إضفاء الشرعية ، بل عادت الرأسمالية الآن إلى تبرير توسعها العالمي باستخدام الأيديولوجيا الليبرالية و أفكارها عن آليات السوق و قوانينه الحتمية ، و عادت الأفكار الليبرالية التقليدية للحياة مثل حرية التجارة و التمسك بالتالي برفع الحماية الجمركية ، و عدالة المنافسة بأن تنسحب الدولة من دعم صناعاتها القومية لتخلي المجال لتنافس المستثمرين .
تكشف هذه الظواهر الجديدة أن هناك عودة قوية لتبرير التوسع العالمي للرأسمالية و إلغاء دور الدولة عن طريق الليبرالية الجديدة التي هي إحياء لليبرالية القرن التاسع عشر و التي نقدها ماركس . و الهدف الأساسي لهذا المقال هو توضيح الدلالات المعاصرة للنقد الماركسي للأيديولوجيا الليبرالية السائدة في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ، و صلاحية هذا النقد في فهم و دراسة الليبرالية الجديدة و توظيف العولمة الاقتصادية لها.
الرأسمالية الليبرالية:
تتصف الرأسمالية الليبرالية بوجود مجتمع مدني و اقتصاد سوق مستقلين عن الدولة و السياسة. و مع وجود اقتصاد سوق ذاتي التسيير لا يعود النظام في حاجة إلى أيديولوجيا دينية أو أسلوب في إضفاء الشرعية يعتمد على القيم و المعايير و الأفكار الدينية أو الميتافيزيقية ، بل في حاجة إلى مجرد أخلاق نفعية أداتية و معايير فردية. فالنظام في المجتمع الليبرالي لا يستمد شرعيته من مصدر إلهي أو ديني مفارق ، بل يستمدها من داخله ، أي لكونه يعتمد على آليات السوق و قوانينه الاقتصادية التي تضمن التبادل العادل ، و على أن هذه الآليات و القوانين هي التي ستحقق تلقائيا العدالة و الحرية و المساواة.
قدمت الليبرالية تعريفات للفرد و الحرية و العدالة، و نقدها ماركس لكونها انعكاسا لاقتصاد السوق الرأسمالي. فالفرد هو الشخص الذي يتمتع بحرية إقامة علاقات مع غيره من أفراد المجتمع و يدخل معهم في تعاقدات ، و الحرية هي حرية الفرد في أن يبيع عمله و نتاج عمله ، و حرية البائع و الشاري في الدخول في تعاقدات يضعون شروطها بأنفسهم مع عدم تدخل الدولة في هذه العمليات و ترك آليات السوق تعمل بحرية . أما المساواة و العدالة فتتحققان عن طريق توازن المصالح و المنافسة الحرة في السوق .و يذهب ماركس إلى أن جميع الحقوق الليبرالية تختزل في حق الملكية. فالحرية هي حرية التملك ، و المساواة هي تساوي الأفراد في سعيهم نحو التملك ، و الأمن هو المناخ الذي يضمن للفرد حمايته لملكيته و الحصول على المزيد منها .
التعريفات السابقة للفرد و الحرية و المساواة كانت بالفعل تعبيرا عن فكر البورجوازية و أسلوب حياتها و سلوكها. فعندما ظهرت البورجوازية كانت في صراع مع الإقطاع و الأرستقراطية . و لكي تخرج من براثن النظام القديم و تؤسس نظامها الجديد في الإنتاج كان لابد و أن تقدم تعريفات جديدة للفرد و الحرية و المساواة ، و هدفت من ذلك أن تفسح مجالا للفرد كي يعمل و يراكم رأس مال و يستخدم قوى عاملة و يبادل ما ينتجه مع غيره من المنتجين دون الخضوع لإقطاع أو أرستقراطية أو إشراف دولة .
و من نقد ماركس للمفهوم الليبرالي عن الدولة يتضح الطابع الرأسمالي الضيق لهذا المفهوم. ذهبت الليبرالية إلى أن خير حكومة هي حكومة الحد الأدنى Minimal Government . و لأن الاقتصاد ذاتي التسيير و تحكمه قوانين ضرورية ، و لأن الأفراد هم الأقدر على تحقيق مصالحهم بأنفسهم ، فليست هناك ضرورة لحكومة كبيرة أو قوية . و الحكومة تقام لضمان السلام ، و السلام غايته تحقيق الرفاهية العامة. و قد عرفت الليبرالية هذه الرفاهية العامة بصورة اقتصادية بحتة على أنها ثمرة الاستمتاع بالملكية الخاصة، كما فهمت القوانين على أنها داعمة لنظام الملكية الخاصة ، فهي تضمن "ألا يمنعنا الآخرين من الاستمتاع و الاستخدام الحر بما نملك ، و لا نضايقهم نحن في حيازتهم لما يملكون ". كما يتضمن مفهوم "حكومة الحد الأدنى" مفهوم الحكومة المحدودة Limited Government أي المقيدة بقوانين تحد من حريتها المطلقة و تقنن تعاملها مع الأفراد .
يعطي ماركس تفسيرا لهذه القيود الكثيرة على الدولة في الأيديولوجيا الليبرالية بقوله أن البورجوازية في بداية ظهورها كانت في صراع مع الدولة القائمة حينذاك ، و كانت ذات طابع إقطاعي و أرستقراطي ، و ما كل القيود التي فرضتها الليبرالية على الدولة إلا جزءا من استراتيجية البورجوازية في حربها ضد النظام القديم الذي كان يحد من نموها و حريتها.
يتضح الطابع الطبقي للدولة في عصر الرأسمالية الليبرالية في الحدود التي فرضتها البورجوازية على سلطاتها. و كانت أي محاولة لتوسيع نطاق هذه السلطة ينظر إليها على أنها تدخل في الحريات و تقابل بالمقاومة الطاغية من قبل النظم التي أقامتها البورجوازية مثل نظام الملكية الخاصة و القانون المدني و الصحافة. أما الديمقراطية فقد فهمتها على أنها صيغة سياسية تسمح لها بالتخلص من إلزامات الدولة .
أما النظام وفق الأيديولوجيا الليبرالية فيحدث تلقائيا و بدون تخطيط مقصود. فالاقتصاد إذا ما ترك يعمل بحرية فسوف يؤدي إلى إحداث النظام. و السوق يمثل العقلانية الاقتصادية التي هي أساس كل عقلانية و كل نظام. و الصالح العام يتحقق عن طريق سعي كل فرد نحو صالحه الشخصي، فالليبرالية تنظر إلى المجتمع على أنه ليس إلا مجموع أفراده المكونين له، و إذا سعى كل فرد نحو صالحه الشخصي تحققت المصلحة العامة للمجتمع. و ما يجمع جهود الأفراد الجزئية لتحقيق الصالح العام و ينسق بينها و يعمل على توازنها يد خفية أو قانون طبيعي يعمل بتلقائية . و ليست هناك حاجة للتخطيط أو لاقتصاد مخطط طالما أن هناك فرصا متساوية للجميع و منافسة حرة و حرية في الاختيار و في المحاولة و الخطأ أمام الفرد.
استطاع ماركس بتحليله للاقتصاد السياسي أن يكشف عن علاقات القوة و السيطرة في المجتمع الرأسمالي الليبرالي و ذلك لأن البناء الاجتماعي آنذاك كان طبقيا ، أي مستندا على الأسلوب الرأسمالي في توزيع الثروة، و لأن الاقتصاد كان هو الذي يوجه السياسة ، أو بتعبير ماركس كان الاقتصاد هو البناء التحتي الذي أقيم على أساسه النظام السياسي أو البناء الفوقي. فما يختص به المجتمع الرأسمالي الليبرالي أن الوضع السياسي و الاجتماعي للفرد يتحدد بوضعه في العملية الإنتاجية ، أي أن أسلوب تقسيم العمل هو في نفس الوقت أسلوب في توزيع القوة السياسية و تحديد الأدوار السياسية التي يمكن أن يقوم بها أعضاء المجتمع و تحديد نطاق فعاليتهم و تأثيرهم السياسي .
رأسمالية الدولة:
ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر بدأ الاقتصاد الرأسمالي يعاني من أزمات كبيرة، منها أزمات بطالة و كساد أو فرط إنتاج، أي زيادة كبيرة في الإنتاج مع ضعف كبير في التوزيع، و فوضى شاملة في اقتصاد السوق ، و وصلت هذه الأزمات إلى ذروتها في أوائل ثلاثينات القرن العشرين فيما عرف بالكساد الكبير. و أصبح العالم الرأسمالي مهددا بخطر الشيوعية و بالحركات العمالية العنيفة. و هذا ما أدى إلى ضرورة إحداث تغييرات شاملة اقتصادية و سياسية في بناء الرأسمالية. و كان الفاعل الرئيسي الذي قام بإحداث هذه التغييرات هو الدولة. وانتهت هذه التغييرات إلى أن تحول الاقتصاد الرأسمالي من اقتصاد السوق إلى اقتصاد مخطط و مدار من قبل الدولة. و من هنا اتخذت الرأسمالية خصائص و صفات جديدة يجمعها مصطلح رأسمالية الدولة.
فبينما كان السوق في الرأسمالية الليبرالية يقوم بدور المنظم لعمليات الإنتاج و التوزيع، أسندت هذه العمليات في عصر رأسمالية الدولة إلى الدولة نفسها. فمع استمرار ظهور أزمات اقتصادية حادة في اقتصاد السوق، عملت الدولة على حل هذه الأزمات بتدخلها المباشر في العملية الاقتصادية، فأصبحت تقوم بدور الوسيط و المنظم للمصالح المتعارضة. و بقيامها بدور المنظم للسوق قدمت الدولة خدمة جليلة للرأسمالية، فقد حمت الرأسماليين من بعضهم البعض و منعتهم من أن يحطموا أنفسهم و يدمروا النظام الرأسمالي معهم، و فتحت أسواقا جديدة للتصريف عن طريق حركة الاستعمار، و من هنا ذهب لينين إلى أن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
أدت هذه السياسات الجديدة إلى ظهور ما يسمى بدولة الرفاهية Welfare State في الغرب، و لم يكن النموذج الاشتراكي للدولة في الشرق إلا نوعا آخر من رأسمالية الدولة. و يشير مصطلح دولة الرفاهية إلى جملة التنظيمات و السياسات التي تتدخل عن طريقها الحكومة بإيجابية في العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية لمواطنيها من أجل ضمان مقاييس عامة أو حد أدنى من الحياة و أسباب المعيشة. و كانت الشخصية الأساسية وراء هذا التحول هو المفكر الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز John Maynard Keynes . فقد كان كينز هو صاحب النظرية الاقتصادية المدعمة لدولة الرفاهية . يقول كينز: " إن أهم برنامج للدولة لا يتصل بتلك الأنشطة التي يقوم بها الأفراد بالفعل (الرأسماليين) بل بالوظائف التي تقع خارج مجال الأفراد، و القرارات التي لن يصدرها أحد إذا لم تصدرها الدولة." فمع كينز توقف الاقتصاد السياسي عن الاعتماد على الأيديولوجيا الليبرالية و الفردية و عن الثقة في فكرة "دعه يعمل" Laissez Faire و في باقي الأفكار الليبرالية حول التسيير الآلي و التلقائي لاقتصاد السوق و حريته من تدخل الدولة، و بدأ عصر الاقتصاد المخطط.
مع ظهور الدولة المنظمة للاقتصاد أصبحت الأولوية للسياسي على الاقتصادي، و لم يعد الاقتصاد هو ذلك المجال المستقل الذي تنبني عليه السياسة، بل أصبحت السياسة هي المتحكمة في الاقتصاد. و بالتالي فالخطاب المبرر و المشرع للنظام القائم لم يعد يستند على اقتصاد السوق الحر، أي على الليبرالية، بل أصبح يستند على الآليات السياسية. و من هنا لم يعد النقد الماركسي للاقتصاد السياسي ذا دلالة لنقد رأسمالية الدولة.
كما استطاعت الدولة استيعاب العمال بالاستجابة لبعض مطالبهم في رفع الأجور و تثبيتها و تقديم الخدمات الاجتماعية لهم، و حتى السماح بإقامة أحزاب لهم و نقابات قوية لها دور سياسي فعال داخل الحكومات نفسها. كل هذه الإجراءات كان هدفها علاج أزمات اقتصاد السوق و القضاء على الصراع الطبقي و على احتمالات الثورة. وبعدما أصبح للعمال أحزاب و نقابات حصلوا عن طريقها على مكاسب و أوضاع أفضل أدركوا أن النضال الطبقي يكون من خلال الدولة لا ضدها كما ذهب ماركس.
و حسب نظرية ماركس في الثورة، يتحقق الانتقال إلى الاشتراكية بسيطرة البروليتاريا على الدولة، و عندئذ تستطيع تغيير علاقات الإنتاج و إعادة تشكيل الاقتصاد بالأسلوب الاشتراكي. أما الذي حدث فهو أن الدولة وضعت عقبات كثيرة أمام البروليتاريا بحيث أن هذه الطبقة لم تعد قادرة على مجرد الاستيلاء البسيط على الدولة، إذ عملت الدولة على تشكيل المجتمع المدني بحيث أصبحت مؤسساته عقبة أمام البروليتاريا. فقد أنشأت الدولة نظما في التعليم العام و أجهزة ثقافة جماهيرية ووسائل اتصال و إعلام عديدة تنشر عبرها أيديولوجيتها و تقضي بها على الصراع الطبقي و على إمكانيات الثورة و ذلك بالسيطرة على وعي الجماهير و توجيهه. فلم تعد البروليتاريا قادرة على الوصول مباشرة إلى الدولة، إذ كان يجب عليها أن تعيد تشكيل مؤسسات المجتمع المدني التي تحولت إلى أجهزة أيديولوجية للدولة، و كان هذا مستحيلا.
لم تؤد تناقضات الرأسمالية و أزماتها إلى ثورة اشتراكية كما تنبأ ماركس بل إلى ظهور شكل جديد من الرأسمالية و هو رأسمالية الدولة، و هذا ما أدى إلى اضمحلال أهمية النقد الماركسي للاقتصاد السياسي و للرأسمالية الليبرالية و ذلك حتى لدى التيارات الماركسية ذاتها مثل التيار النقدي لمدرسة فرانكفورت. فمع فريدريك بولوك أحد أشهر الأعضاء الماركسيين في المدرسة بدأت في فقدان الثقة في نقد ماركس للاقتصاد السياسي .14 ذهب بولوك إلى أن ماركس كان يؤكد دائما على أن إمكانات الثورة تكمن في القوانين الاقتصادية للرأسمالية، فما بها من تناقضات هو الذي سيؤدي إلى الثورة.15 أما بعد التحول إلى رأسمالية الدولة فقد تم القضاء على هذه التناقضات و ذلك لأن القوانين الاقتصادية للرأسمالية تفقد وظيفتها المحفزة و المعجلة بالثورة بعد أن علت الدولة على الاقتصاد و أصبح مدارا من قبلها. و لم تعد الهيمنة الطبقية على العمال من وظيفة النظام الاقتصادي بل من وظيفة النظام السياسي، و بذلك تحولت علاقات السيطرة الاقتصادية إلى علاقات قوة سياسية.
ومن هنا تحولت كثير من التيارات الماركسية إلى نقد البناء الفوقي، أي السياسة و الثقافة و الإعلام و التكنولوجيا، و تخلت عن نقد الاقتصاد السياسي في سبيل أنواع أخرى من النقد مثل نقد العقلانية الأداتية و النقد الأدبي و الثقافي.
الليبرالية الجديدة و العولمة:
استمر عصر رأسمالية الدولة فترة طويلة من القرن العشرين، تمتد من بداية الحرب العالمية الأولى في نظر البعض، أو من بداية الحرب العالمية الثانية في نظر البعض الآخر، و حتى أواخر السبعينات، و ذلك عندما أخذت الرأسمالية منعطفا كبيرا و اتخذت طابعا مختلفا. فمنذ السبعينات انتهى عصر رأسمالية الدولة و الديمقراطية الاشتراكية و ذلك بإعادة إحياء الأفكار الليبرالية التقليدية في صورة ما يعرف بالليبرالية الجديدة التي بدأ ظهورها في الغرب في السبعينات و انتقلت إلى العالم الثالث منذ أواسط الثمانينات، و كانت بداية لشكل جديد من الأيديولوجيا المدعمة و المبررة للتوسع العالمي للرأسمالية و هي العولمة. فما أسباب هذا التحول الذي حدث؟
يجمع كثير من المفكرين على أن أسباب هذا التحول تتمثل في أزمات عديدة تعرضت لها دولة الرفاهية في الغرب و برامج الديمقراطية الاشتراكية. فقد كان البرنامج الأصلي لدولة الرفاهية يتمثل في إمكانية تحقيق التوظف الكامل و القضاء على مشكلة البطالة نهائيا، و إمكانية أن تكون الدولة طرفا أساسيا في الطلب الكلي، أي عميلا رئيسيا لرأس المال، يوظفه في مشاريع قومية و يخلق له قنوات جديدة للاستثمار و فرصا جديدة للربح. استطاعت الدولة أن تقوم بهذه الوظائف لفترة طويلة، إلا أن ما جد منذ السبعينات أن تفاقمت مشكلة البطالة و زاد الكساد و لم يجد رأس المال فرصا جديدة للاستثمار. و على جانب آخر زاد حجم و تعقد آلة الدولة البيروقراطية حتى أصبحت عبئا على الجميع.
الأسباب السابقة لأزمة رأسمالية الدولة ليست أسبابا رئيسية بل ثانوية مباشرة. أما السبب الرئيسي و غير المباشر فهو القانون الذي استنتجه ماركس و صاغه بدقة و هو ميل معدل الربح نحو الهبوط كلما تقدمت وسائل الإنتاج و التكنولوجيا و كلما زاد توسع الاستثمار الرأسمالي. و من الأسباب الحقيقية لأزمة رأسمالية الدولة في الغرب أن نجاحها كان يتزامن تماما مع الحربين العالميتين و سلسلة الحروب الصغيرة التالية لهما و التي خاضتها الدول الرأسمالية: كوريا، فيتنام، الجزائر، العدوان الثلاثي. فقد شكلت هذه الحروب مناخا مناسبا لازدهار رأسمالية الدولة، فرأسمالية الدولة هي اقتصاد حرب في الدرجة الأولى.16 فالإنتاج الحربي الموسع أنعش الرأسمالية، و انصراف عدد كبير من السكان إلى التجنيد كان علاجا لمشكلة البطالة. أما بعد انتهاء هذه الحروب فقد واجهت الدول الرأسمالية الأزمة على نحو صريح.
و من هنا ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني.17 و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ "دعه يعمل" Laissez Faire
و بالفعل خففت الدولة في الغرب من التزاماتها الاجتماعية السابقة و بدأت عملية الخصخصة، أي في بيع الكثير من المشروعات التي كانت مملوكة لها. ففي بريطانيا بدأت هذه السياسات مارجريت تاتشر في أواخر السبعينات، و ريجان في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينات، و سرعان ما طبقت باقي الدول الرأسمالية نفس السياسات. لقد عادت الفكرة الليبرالية القديمة عن حكومة الحد الأدنى.
كان هذا جزءا من السياسات الليبرالية الجديدة و الذي يختص بالدول الرأسمالية. أما دول العالم الثالث فقد أعدت لها الليبرالية الجديدة برنامجا آخر. المشكلة الرئيسية التي واجهت الدول الرأسمالية كانت مشكلة زيادة حجم رؤوس الأموال غير الموظفة و فرط في الإنتاج مع نقص في الطلب. و كان الحل الذي طرحه البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و كثير من المؤسسات المالية التابعة للرأسمالية العالمية هو ضرورة انتقال رؤوس الأموال من الدول الرأسمالية إلى دول العالم الثالث في شكل استثمارات أو قروض، و أن تبيع تلك الدول مؤسساتها في سبيل علاج مشكلة الديون.18 و لن يتم ذلك إلا إذا طبقت هذه الدول نفس السياسات الليبرالية الجديدة. و من هنا اتخذ التطبيق العالمي لهذه السياسات طابع العولمة.
يتم استخدام الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة بنفس شروط استخدام ليبرالية القرن التاسع عشر.فقد استخدمت ليبرالية القرن التاسع عشر للتخلص من القيود الدينية و الإقطاعية و الأرستقراطية على رأس المال، و من قيود الدولة أيضا و التي كانت في يد هذه القوى آنذاك. و الآن أيضا يعاد استخدام نفس المبادئ الليبرالية و لنفس الأهداف تحت عباءة العولمة، أي للتخلص من كل ما يقف في طريق رأس المال العالمي من دولة أو قومية أو خصوصية ثقافية. فللأيديولوجيا الليبرالية دائما طابع تصادمي مع النظم و التقاليد التي تريد أن تحل محلها.
عندما كانت مجتمعاتنا لا تزال تأخذ بمبادئ رأسمالية الدولة و الاقتصاد المخطط لم نكن بحاجة للتفكير في الأيديولوجيا الليبرالية و لا في النقد الموجه لها مثلما تدعو الحاجة الآن. الحقيقة أن العولمة التي تحدث حاليا، أو بتعبير سمير أمين الرأسمالية المعولمة، تدخل إلى مجتمعاتنا أشكال التفكير المبررة لاقتصاد السوق و التي يجمعها مصطلح الليبرالية، و هذا ما يجعلنا نعيد البحث في الكتابات التي تناولت التاريخ الاستعماري و الإمبريالي للرأسمالية و لجميع الانتقادات التي وجهت لليبرالية و أهمها نقد ماركس و ما كتبه عن الطابع العالمي للتوسع و التراكم الرأسمالي و السوق العالمية. إن دعوة العولمة الآن إلى السوق الحر و إلغاء الحمايات و الأخذ بمنطق الربح ما هي إلا دعوة أيديولوجية سوف تؤدي إلى زيادة تبعية العالم الثالث لرأس المال العالمي و الحفاظ على وضعيته باعتباره هامشا للمراكز الرأسمالية في الغرب، و دعوة لأن يقوم النظام الاقتصادي الجديد بنفس الوظائف السلطوية و الاستغلالية التي كانت تقوم بها الرأسمالية الليبرالية و التي كانت محل نقد ماركس.
تدفعنا الأوضاع الجديدة لتطور الرأسمالية التي يجمعها مصطلح "العولمة" لإعادة قراءة نقد ماركس للاقتصاد السياسي. و يرجع السبب في ذلك إلى أن الأيديولوجيا الليبرالية التي نقدها ماركس و تتبع وجودها و انتشارها عبر نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يعاد ظهورها من جديد الآن في شكل ما يسمى بالليبرالية الجديدة. فالتوسع العالمي للرأسمالية الذي يتخذ صورة العولمة يعتمد على مجموعة أفكار و نظريات هي إعادة إحياء لليبرالية الكلاسيكية الحاضرة بقوة في الاقتصاد السياسي. و من هنا فعودة الرأسمالية لليبرالية باعتبارها تبريرا فكريا و شكلا في إضفاء الشرعية عليها يجعلنا بالمثل نعيد قراءة نقد ماركس للاقتصاد السياسي.
تناول العديد من المفكرين منذ النصف الأول من القرن العشرين عناصر النقد الماركسي لرأسمالية القرن التاسع عشر، أعني الرأسمالية الليبرالية نظرا لاتخاذها الليبرالية أيديولوجيا و سياسة اقتصادية لها، و رأوا أن ذلك النقد لم يعد يناسب رأسمالية الدولة في القرن العشرين، و من أبرز هؤلاء المفكرين فلاسفة مدرسة فرانكفورت و على رأسهم بولوك و هوركهايمر و ماركيوز. حيث لم تعد رأسمالية الدولة في القرن العشرين بنفس بناء و آليات سابقتها في القرن التاسع عشر، و لم يعد اقتصاد السوق يشكل البناء التحتي للعلاقات الاجتماعية و التنظيم السياسي ، و لم يعد النظام يجد مبررات وجوده و شرعيته في آليات السوق و عدالة التبادل ، بل في علاقته السياسية بمواطنيه و توفيره لاحتياجاتهم الأساسية ، أي في دولة الرفاهية. و بذلك تحولت الهيمنة الاقتصادية غير المباشرة إلى هيمنة سياسية مباشرة ، و تحول الاستغلال من استغلال متخف وراء ما يسمى بقوانين السوق إلى استغلال واضح و صريح ، كان أبرز مثال عليه هو الأنظمة الفاشية . و بعد أن كان اقتصاد السوق هو الذي يقوم بدور الأيديولوجيا السائدة ، أصبحت منظمات و مؤسسات دولة الرفاهية هي التي تقوم بهذا الدور بما فيها النظام التعليمي و وسائل الإعلام و الثقافة. و من هنا تحدث ألتوسير عن "أجهزة الدولة الأيديولوجية" .
أما الآن فقد شهد العالم اضمحلالا واضحا للدور التقليدي للدولة و أزمة شديدة أصابت دولة الرفاهية. فلم تعد الدولة و مؤسساتها تقوم بدور التبرير الأيديولوجي و إضفاء الشرعية ، بل عادت الرأسمالية الآن إلى تبرير توسعها العالمي باستخدام الأيديولوجيا الليبرالية و أفكارها عن آليات السوق و قوانينه الحتمية ، و عادت الأفكار الليبرالية التقليدية للحياة مثل حرية التجارة و التمسك بالتالي برفع الحماية الجمركية ، و عدالة المنافسة بأن تنسحب الدولة من دعم صناعاتها القومية لتخلي المجال لتنافس المستثمرين .
تكشف هذه الظواهر الجديدة أن هناك عودة قوية لتبرير التوسع العالمي للرأسمالية و إلغاء دور الدولة عن طريق الليبرالية الجديدة التي هي إحياء لليبرالية القرن التاسع عشر و التي نقدها ماركس . و الهدف الأساسي لهذا المقال هو توضيح الدلالات المعاصرة للنقد الماركسي للأيديولوجيا الليبرالية السائدة في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ، و صلاحية هذا النقد في فهم و دراسة الليبرالية الجديدة و توظيف العولمة الاقتصادية لها.
الرأسمالية الليبرالية:
تتصف الرأسمالية الليبرالية بوجود مجتمع مدني و اقتصاد سوق مستقلين عن الدولة و السياسة. و مع وجود اقتصاد سوق ذاتي التسيير لا يعود النظام في حاجة إلى أيديولوجيا دينية أو أسلوب في إضفاء الشرعية يعتمد على القيم و المعايير و الأفكار الدينية أو الميتافيزيقية ، بل في حاجة إلى مجرد أخلاق نفعية أداتية و معايير فردية. فالنظام في المجتمع الليبرالي لا يستمد شرعيته من مصدر إلهي أو ديني مفارق ، بل يستمدها من داخله ، أي لكونه يعتمد على آليات السوق و قوانينه الاقتصادية التي تضمن التبادل العادل ، و على أن هذه الآليات و القوانين هي التي ستحقق تلقائيا العدالة و الحرية و المساواة.
قدمت الليبرالية تعريفات للفرد و الحرية و العدالة، و نقدها ماركس لكونها انعكاسا لاقتصاد السوق الرأسمالي. فالفرد هو الشخص الذي يتمتع بحرية إقامة علاقات مع غيره من أفراد المجتمع و يدخل معهم في تعاقدات ، و الحرية هي حرية الفرد في أن يبيع عمله و نتاج عمله ، و حرية البائع و الشاري في الدخول في تعاقدات يضعون شروطها بأنفسهم مع عدم تدخل الدولة في هذه العمليات و ترك آليات السوق تعمل بحرية . أما المساواة و العدالة فتتحققان عن طريق توازن المصالح و المنافسة الحرة في السوق .و يذهب ماركس إلى أن جميع الحقوق الليبرالية تختزل في حق الملكية. فالحرية هي حرية التملك ، و المساواة هي تساوي الأفراد في سعيهم نحو التملك ، و الأمن هو المناخ الذي يضمن للفرد حمايته لملكيته و الحصول على المزيد منها .
التعريفات السابقة للفرد و الحرية و المساواة كانت بالفعل تعبيرا عن فكر البورجوازية و أسلوب حياتها و سلوكها. فعندما ظهرت البورجوازية كانت في صراع مع الإقطاع و الأرستقراطية . و لكي تخرج من براثن النظام القديم و تؤسس نظامها الجديد في الإنتاج كان لابد و أن تقدم تعريفات جديدة للفرد و الحرية و المساواة ، و هدفت من ذلك أن تفسح مجالا للفرد كي يعمل و يراكم رأس مال و يستخدم قوى عاملة و يبادل ما ينتجه مع غيره من المنتجين دون الخضوع لإقطاع أو أرستقراطية أو إشراف دولة .
و من نقد ماركس للمفهوم الليبرالي عن الدولة يتضح الطابع الرأسمالي الضيق لهذا المفهوم. ذهبت الليبرالية إلى أن خير حكومة هي حكومة الحد الأدنى Minimal Government . و لأن الاقتصاد ذاتي التسيير و تحكمه قوانين ضرورية ، و لأن الأفراد هم الأقدر على تحقيق مصالحهم بأنفسهم ، فليست هناك ضرورة لحكومة كبيرة أو قوية . و الحكومة تقام لضمان السلام ، و السلام غايته تحقيق الرفاهية العامة. و قد عرفت الليبرالية هذه الرفاهية العامة بصورة اقتصادية بحتة على أنها ثمرة الاستمتاع بالملكية الخاصة، كما فهمت القوانين على أنها داعمة لنظام الملكية الخاصة ، فهي تضمن "ألا يمنعنا الآخرين من الاستمتاع و الاستخدام الحر بما نملك ، و لا نضايقهم نحن في حيازتهم لما يملكون ". كما يتضمن مفهوم "حكومة الحد الأدنى" مفهوم الحكومة المحدودة Limited Government أي المقيدة بقوانين تحد من حريتها المطلقة و تقنن تعاملها مع الأفراد .
يعطي ماركس تفسيرا لهذه القيود الكثيرة على الدولة في الأيديولوجيا الليبرالية بقوله أن البورجوازية في بداية ظهورها كانت في صراع مع الدولة القائمة حينذاك ، و كانت ذات طابع إقطاعي و أرستقراطي ، و ما كل القيود التي فرضتها الليبرالية على الدولة إلا جزءا من استراتيجية البورجوازية في حربها ضد النظام القديم الذي كان يحد من نموها و حريتها.
يتضح الطابع الطبقي للدولة في عصر الرأسمالية الليبرالية في الحدود التي فرضتها البورجوازية على سلطاتها. و كانت أي محاولة لتوسيع نطاق هذه السلطة ينظر إليها على أنها تدخل في الحريات و تقابل بالمقاومة الطاغية من قبل النظم التي أقامتها البورجوازية مثل نظام الملكية الخاصة و القانون المدني و الصحافة. أما الديمقراطية فقد فهمتها على أنها صيغة سياسية تسمح لها بالتخلص من إلزامات الدولة .
أما النظام وفق الأيديولوجيا الليبرالية فيحدث تلقائيا و بدون تخطيط مقصود. فالاقتصاد إذا ما ترك يعمل بحرية فسوف يؤدي إلى إحداث النظام. و السوق يمثل العقلانية الاقتصادية التي هي أساس كل عقلانية و كل نظام. و الصالح العام يتحقق عن طريق سعي كل فرد نحو صالحه الشخصي، فالليبرالية تنظر إلى المجتمع على أنه ليس إلا مجموع أفراده المكونين له، و إذا سعى كل فرد نحو صالحه الشخصي تحققت المصلحة العامة للمجتمع. و ما يجمع جهود الأفراد الجزئية لتحقيق الصالح العام و ينسق بينها و يعمل على توازنها يد خفية أو قانون طبيعي يعمل بتلقائية . و ليست هناك حاجة للتخطيط أو لاقتصاد مخطط طالما أن هناك فرصا متساوية للجميع و منافسة حرة و حرية في الاختيار و في المحاولة و الخطأ أمام الفرد.
استطاع ماركس بتحليله للاقتصاد السياسي أن يكشف عن علاقات القوة و السيطرة في المجتمع الرأسمالي الليبرالي و ذلك لأن البناء الاجتماعي آنذاك كان طبقيا ، أي مستندا على الأسلوب الرأسمالي في توزيع الثروة، و لأن الاقتصاد كان هو الذي يوجه السياسة ، أو بتعبير ماركس كان الاقتصاد هو البناء التحتي الذي أقيم على أساسه النظام السياسي أو البناء الفوقي. فما يختص به المجتمع الرأسمالي الليبرالي أن الوضع السياسي و الاجتماعي للفرد يتحدد بوضعه في العملية الإنتاجية ، أي أن أسلوب تقسيم العمل هو في نفس الوقت أسلوب في توزيع القوة السياسية و تحديد الأدوار السياسية التي يمكن أن يقوم بها أعضاء المجتمع و تحديد نطاق فعاليتهم و تأثيرهم السياسي .
رأسمالية الدولة:
ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر بدأ الاقتصاد الرأسمالي يعاني من أزمات كبيرة، منها أزمات بطالة و كساد أو فرط إنتاج، أي زيادة كبيرة في الإنتاج مع ضعف كبير في التوزيع، و فوضى شاملة في اقتصاد السوق ، و وصلت هذه الأزمات إلى ذروتها في أوائل ثلاثينات القرن العشرين فيما عرف بالكساد الكبير. و أصبح العالم الرأسمالي مهددا بخطر الشيوعية و بالحركات العمالية العنيفة. و هذا ما أدى إلى ضرورة إحداث تغييرات شاملة اقتصادية و سياسية في بناء الرأسمالية. و كان الفاعل الرئيسي الذي قام بإحداث هذه التغييرات هو الدولة. وانتهت هذه التغييرات إلى أن تحول الاقتصاد الرأسمالي من اقتصاد السوق إلى اقتصاد مخطط و مدار من قبل الدولة. و من هنا اتخذت الرأسمالية خصائص و صفات جديدة يجمعها مصطلح رأسمالية الدولة.
فبينما كان السوق في الرأسمالية الليبرالية يقوم بدور المنظم لعمليات الإنتاج و التوزيع، أسندت هذه العمليات في عصر رأسمالية الدولة إلى الدولة نفسها. فمع استمرار ظهور أزمات اقتصادية حادة في اقتصاد السوق، عملت الدولة على حل هذه الأزمات بتدخلها المباشر في العملية الاقتصادية، فأصبحت تقوم بدور الوسيط و المنظم للمصالح المتعارضة. و بقيامها بدور المنظم للسوق قدمت الدولة خدمة جليلة للرأسمالية، فقد حمت الرأسماليين من بعضهم البعض و منعتهم من أن يحطموا أنفسهم و يدمروا النظام الرأسمالي معهم، و فتحت أسواقا جديدة للتصريف عن طريق حركة الاستعمار، و من هنا ذهب لينين إلى أن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
أدت هذه السياسات الجديدة إلى ظهور ما يسمى بدولة الرفاهية Welfare State في الغرب، و لم يكن النموذج الاشتراكي للدولة في الشرق إلا نوعا آخر من رأسمالية الدولة. و يشير مصطلح دولة الرفاهية إلى جملة التنظيمات و السياسات التي تتدخل عن طريقها الحكومة بإيجابية في العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية لمواطنيها من أجل ضمان مقاييس عامة أو حد أدنى من الحياة و أسباب المعيشة. و كانت الشخصية الأساسية وراء هذا التحول هو المفكر الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز John Maynard Keynes . فقد كان كينز هو صاحب النظرية الاقتصادية المدعمة لدولة الرفاهية . يقول كينز: " إن أهم برنامج للدولة لا يتصل بتلك الأنشطة التي يقوم بها الأفراد بالفعل (الرأسماليين) بل بالوظائف التي تقع خارج مجال الأفراد، و القرارات التي لن يصدرها أحد إذا لم تصدرها الدولة." فمع كينز توقف الاقتصاد السياسي عن الاعتماد على الأيديولوجيا الليبرالية و الفردية و عن الثقة في فكرة "دعه يعمل" Laissez Faire و في باقي الأفكار الليبرالية حول التسيير الآلي و التلقائي لاقتصاد السوق و حريته من تدخل الدولة، و بدأ عصر الاقتصاد المخطط.
مع ظهور الدولة المنظمة للاقتصاد أصبحت الأولوية للسياسي على الاقتصادي، و لم يعد الاقتصاد هو ذلك المجال المستقل الذي تنبني عليه السياسة، بل أصبحت السياسة هي المتحكمة في الاقتصاد. و بالتالي فالخطاب المبرر و المشرع للنظام القائم لم يعد يستند على اقتصاد السوق الحر، أي على الليبرالية، بل أصبح يستند على الآليات السياسية. و من هنا لم يعد النقد الماركسي للاقتصاد السياسي ذا دلالة لنقد رأسمالية الدولة.
كما استطاعت الدولة استيعاب العمال بالاستجابة لبعض مطالبهم في رفع الأجور و تثبيتها و تقديم الخدمات الاجتماعية لهم، و حتى السماح بإقامة أحزاب لهم و نقابات قوية لها دور سياسي فعال داخل الحكومات نفسها. كل هذه الإجراءات كان هدفها علاج أزمات اقتصاد السوق و القضاء على الصراع الطبقي و على احتمالات الثورة. وبعدما أصبح للعمال أحزاب و نقابات حصلوا عن طريقها على مكاسب و أوضاع أفضل أدركوا أن النضال الطبقي يكون من خلال الدولة لا ضدها كما ذهب ماركس.
و حسب نظرية ماركس في الثورة، يتحقق الانتقال إلى الاشتراكية بسيطرة البروليتاريا على الدولة، و عندئذ تستطيع تغيير علاقات الإنتاج و إعادة تشكيل الاقتصاد بالأسلوب الاشتراكي. أما الذي حدث فهو أن الدولة وضعت عقبات كثيرة أمام البروليتاريا بحيث أن هذه الطبقة لم تعد قادرة على مجرد الاستيلاء البسيط على الدولة، إذ عملت الدولة على تشكيل المجتمع المدني بحيث أصبحت مؤسساته عقبة أمام البروليتاريا. فقد أنشأت الدولة نظما في التعليم العام و أجهزة ثقافة جماهيرية ووسائل اتصال و إعلام عديدة تنشر عبرها أيديولوجيتها و تقضي بها على الصراع الطبقي و على إمكانيات الثورة و ذلك بالسيطرة على وعي الجماهير و توجيهه. فلم تعد البروليتاريا قادرة على الوصول مباشرة إلى الدولة، إذ كان يجب عليها أن تعيد تشكيل مؤسسات المجتمع المدني التي تحولت إلى أجهزة أيديولوجية للدولة، و كان هذا مستحيلا.
لم تؤد تناقضات الرأسمالية و أزماتها إلى ثورة اشتراكية كما تنبأ ماركس بل إلى ظهور شكل جديد من الرأسمالية و هو رأسمالية الدولة، و هذا ما أدى إلى اضمحلال أهمية النقد الماركسي للاقتصاد السياسي و للرأسمالية الليبرالية و ذلك حتى لدى التيارات الماركسية ذاتها مثل التيار النقدي لمدرسة فرانكفورت. فمع فريدريك بولوك أحد أشهر الأعضاء الماركسيين في المدرسة بدأت في فقدان الثقة في نقد ماركس للاقتصاد السياسي .14 ذهب بولوك إلى أن ماركس كان يؤكد دائما على أن إمكانات الثورة تكمن في القوانين الاقتصادية للرأسمالية، فما بها من تناقضات هو الذي سيؤدي إلى الثورة.15 أما بعد التحول إلى رأسمالية الدولة فقد تم القضاء على هذه التناقضات و ذلك لأن القوانين الاقتصادية للرأسمالية تفقد وظيفتها المحفزة و المعجلة بالثورة بعد أن علت الدولة على الاقتصاد و أصبح مدارا من قبلها. و لم تعد الهيمنة الطبقية على العمال من وظيفة النظام الاقتصادي بل من وظيفة النظام السياسي، و بذلك تحولت علاقات السيطرة الاقتصادية إلى علاقات قوة سياسية.
ومن هنا تحولت كثير من التيارات الماركسية إلى نقد البناء الفوقي، أي السياسة و الثقافة و الإعلام و التكنولوجيا، و تخلت عن نقد الاقتصاد السياسي في سبيل أنواع أخرى من النقد مثل نقد العقلانية الأداتية و النقد الأدبي و الثقافي.
الليبرالية الجديدة و العولمة:
استمر عصر رأسمالية الدولة فترة طويلة من القرن العشرين، تمتد من بداية الحرب العالمية الأولى في نظر البعض، أو من بداية الحرب العالمية الثانية في نظر البعض الآخر، و حتى أواخر السبعينات، و ذلك عندما أخذت الرأسمالية منعطفا كبيرا و اتخذت طابعا مختلفا. فمنذ السبعينات انتهى عصر رأسمالية الدولة و الديمقراطية الاشتراكية و ذلك بإعادة إحياء الأفكار الليبرالية التقليدية في صورة ما يعرف بالليبرالية الجديدة التي بدأ ظهورها في الغرب في السبعينات و انتقلت إلى العالم الثالث منذ أواسط الثمانينات، و كانت بداية لشكل جديد من الأيديولوجيا المدعمة و المبررة للتوسع العالمي للرأسمالية و هي العولمة. فما أسباب هذا التحول الذي حدث؟
يجمع كثير من المفكرين على أن أسباب هذا التحول تتمثل في أزمات عديدة تعرضت لها دولة الرفاهية في الغرب و برامج الديمقراطية الاشتراكية. فقد كان البرنامج الأصلي لدولة الرفاهية يتمثل في إمكانية تحقيق التوظف الكامل و القضاء على مشكلة البطالة نهائيا، و إمكانية أن تكون الدولة طرفا أساسيا في الطلب الكلي، أي عميلا رئيسيا لرأس المال، يوظفه في مشاريع قومية و يخلق له قنوات جديدة للاستثمار و فرصا جديدة للربح. استطاعت الدولة أن تقوم بهذه الوظائف لفترة طويلة، إلا أن ما جد منذ السبعينات أن تفاقمت مشكلة البطالة و زاد الكساد و لم يجد رأس المال فرصا جديدة للاستثمار. و على جانب آخر زاد حجم و تعقد آلة الدولة البيروقراطية حتى أصبحت عبئا على الجميع.
الأسباب السابقة لأزمة رأسمالية الدولة ليست أسبابا رئيسية بل ثانوية مباشرة. أما السبب الرئيسي و غير المباشر فهو القانون الذي استنتجه ماركس و صاغه بدقة و هو ميل معدل الربح نحو الهبوط كلما تقدمت وسائل الإنتاج و التكنولوجيا و كلما زاد توسع الاستثمار الرأسمالي. و من الأسباب الحقيقية لأزمة رأسمالية الدولة في الغرب أن نجاحها كان يتزامن تماما مع الحربين العالميتين و سلسلة الحروب الصغيرة التالية لهما و التي خاضتها الدول الرأسمالية: كوريا، فيتنام، الجزائر، العدوان الثلاثي. فقد شكلت هذه الحروب مناخا مناسبا لازدهار رأسمالية الدولة، فرأسمالية الدولة هي اقتصاد حرب في الدرجة الأولى.16 فالإنتاج الحربي الموسع أنعش الرأسمالية، و انصراف عدد كبير من السكان إلى التجنيد كان علاجا لمشكلة البطالة. أما بعد انتهاء هذه الحروب فقد واجهت الدول الرأسمالية الأزمة على نحو صريح.
و من هنا ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني.17 و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ "دعه يعمل" Laissez Faire
و بالفعل خففت الدولة في الغرب من التزاماتها الاجتماعية السابقة و بدأت عملية الخصخصة، أي في بيع الكثير من المشروعات التي كانت مملوكة لها. ففي بريطانيا بدأت هذه السياسات مارجريت تاتشر في أواخر السبعينات، و ريجان في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينات، و سرعان ما طبقت باقي الدول الرأسمالية نفس السياسات. لقد عادت الفكرة الليبرالية القديمة عن حكومة الحد الأدنى.
كان هذا جزءا من السياسات الليبرالية الجديدة و الذي يختص بالدول الرأسمالية. أما دول العالم الثالث فقد أعدت لها الليبرالية الجديدة برنامجا آخر. المشكلة الرئيسية التي واجهت الدول الرأسمالية كانت مشكلة زيادة حجم رؤوس الأموال غير الموظفة و فرط في الإنتاج مع نقص في الطلب. و كان الحل الذي طرحه البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و كثير من المؤسسات المالية التابعة للرأسمالية العالمية هو ضرورة انتقال رؤوس الأموال من الدول الرأسمالية إلى دول العالم الثالث في شكل استثمارات أو قروض، و أن تبيع تلك الدول مؤسساتها في سبيل علاج مشكلة الديون.18 و لن يتم ذلك إلا إذا طبقت هذه الدول نفس السياسات الليبرالية الجديدة. و من هنا اتخذ التطبيق العالمي لهذه السياسات طابع العولمة.
يتم استخدام الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة بنفس شروط استخدام ليبرالية القرن التاسع عشر.فقد استخدمت ليبرالية القرن التاسع عشر للتخلص من القيود الدينية و الإقطاعية و الأرستقراطية على رأس المال، و من قيود الدولة أيضا و التي كانت في يد هذه القوى آنذاك. و الآن أيضا يعاد استخدام نفس المبادئ الليبرالية و لنفس الأهداف تحت عباءة العولمة، أي للتخلص من كل ما يقف في طريق رأس المال العالمي من دولة أو قومية أو خصوصية ثقافية. فللأيديولوجيا الليبرالية دائما طابع تصادمي مع النظم و التقاليد التي تريد أن تحل محلها.
عندما كانت مجتمعاتنا لا تزال تأخذ بمبادئ رأسمالية الدولة و الاقتصاد المخطط لم نكن بحاجة للتفكير في الأيديولوجيا الليبرالية و لا في النقد الموجه لها مثلما تدعو الحاجة الآن. الحقيقة أن العولمة التي تحدث حاليا، أو بتعبير سمير أمين الرأسمالية المعولمة، تدخل إلى مجتمعاتنا أشكال التفكير المبررة لاقتصاد السوق و التي يجمعها مصطلح الليبرالية، و هذا ما يجعلنا نعيد البحث في الكتابات التي تناولت التاريخ الاستعماري و الإمبريالي للرأسمالية و لجميع الانتقادات التي وجهت لليبرالية و أهمها نقد ماركس و ما كتبه عن الطابع العالمي للتوسع و التراكم الرأسمالي و السوق العالمية. إن دعوة العولمة الآن إلى السوق الحر و إلغاء الحمايات و الأخذ بمنطق الربح ما هي إلا دعوة أيديولوجية سوف تؤدي إلى زيادة تبعية العالم الثالث لرأس المال العالمي و الحفاظ على وضعيته باعتباره هامشا للمراكز الرأسمالية في الغرب، و دعوة لأن يقوم النظام الاقتصادي الجديد بنفس الوظائف السلطوية و الاستغلالية التي كانت تقوم بها الرأسمالية الليبرالية و التي كانت محل نقد ماركس.