sollo44
2011-12-10, 11:59
انفلتت الذكريات في تلك الليلة من غير إنذار مسبق ، و جلس إلى مكتبه بعضلات متكسرة ، تحسس تحت ضوء المكتب الخفيف دفتره البني ، فتحه عند ورقة مثنية في أعلى جهتها اليمنى ، هي الصفحة التي توقف عندها البارحة و طفق يقرأ بعينين ضعيفتين تستقويان بنظارات العميان : ..........." اليوم يا دليلة سأبرهن عن حبي لك ، سأطلق العنان لقلبي المتوثب للخروج من صدري ، سأطلق العنان لجنونه و تهوره و خياله ، اليوم سأتسلل في الليل خلسة إلى بستان بيتكم ، و بسكيني الصغير سأكتب بأنني أحبك ، سأكتبها على درنة التين الهندي الذي يحيط ببيتكم ، فقط استيقضي صباحا و توجهي للبستان و هناك ستكتشفين قدر الجنون الذي يعبث بقلبي ، و ليس قلبك وحده من سيصدقني و لكن عقلك أيضا "........... توقف عن القراءة و ضحك ضحكة صغيرة متوترة لإخفاء حنينه لتلك الأيام ،و قال كأنه يكلم نفسه : أنا أتكلم عن ذكريات عمرها الأن ثلاثون سنة ، و هذا ما بقي لي منها ، جسد هزيل و يد مرتجفة ، قلب نابض بالحب و ذاكرة من حديد ، ...........قصة حبي لدليلة عشتها في مدينتي القديمة المتواضعة ، مدينة لطالما عشش الفقر و المرض بها لعقود ، مدينة محرومة من الانارة و الهاتف و الغاز ، مدينة تنتشر بها الكلاب الضالة و تتوالد في أقبيتها المظلمة ، تتناثر بها حقول القمح و الشعير و البطاطا ، و يقف الجبل فوقها بشموخ كحارس أمين تتكلل قممه بالغابات و الثلج و الضباب ...
و رغم بساطة مدينتي إلا أنني أحببتها ، أحببتها بعنف لا يعادله إلا حبي لدليلة و قلت لنفسي ذات مرة : سأعيش في هذه الأرض الطيبة و أتزوج من دليلة فأموت هنا و أدفن هنا ، و كانت دليلة يومها فتاة متألقة باسمة ، يسطع الحنان و الجمال في وجهها كسطوع القمر ، و كنت كلما رأيتها خيل إلي أنني أرى الحياة تمشي على قدمين ، رؤيتي لعيونها اللوزية هي اللحظة الوحيدة التي أشعر فيها بالضعف و البساطة و الحب و السحر و السكينة ، ........ كانت أنثى بمعنى الكلمة ، عاشقة و قوية و متمردة ، كانت مسحورة بجمال المدينة البسيط ، في النهار تنظر إلى حقول الزرع فترى الريح تعبث بها مشكلة أمواجا غير نهائية من السنابل المتراقصة ، و في الليل تتأمل نجوم السماء فتربط بعضها ببعض مشكلة أشكالا لحيوانات أو رموزا قديمة من حضارات بائدة ، حتى أنها ذات مرة فاجأتني قائلة : لقد تمكنت البارحة من كتابة اسمك على صفحة السماء .......... خيالية كانت و رومنسية ، عجيبة هذه الفتاة هكذا وصفتها ذات مرة في مذكراتي ، في مدينتي كانت اللقالق تعشش جنبا إلى جنب مع الفقر ، كانت تعشش فوق الأشجار الضخمة الميتة منذ عهد بعيد ، فتبني لها أعشاشا ضخمة مكورة ، و تقف فوقها قبالة الريح و الشمس على قدم واحدة ، اللقالق الرشيقة ، ذات الريش الأبيض و الأسود ، و المنقار الأصفر الطويل المكلل بعينين داهشتين . إنها تعود في كل عام لمدينتي لتكمل فيها دورة الحياة الملغزة ، و أنا و دليلة كنا نرقب و نحن صغارا هذه العودة كل سنة ، و كانت دليلة تقول بلهجة مسائلة : اللقالق تعود للمدينة كل عام فهل بها حنين للرجوع ؟؟
و منذ ذلك اليوم و انا أتساءل ببراءة : لماذا نحن إلى مدننا القديمة ؟؟ لماذا تشدنا قوة سحرية خفية إلى ترابها و هوائها ؟؟ أي سر عجيب هذا ؟؟ ......... اليوم و بعد أن تزوجت من دليلة و أنجبت منها سلسلة من الأبناء الناجحين و الفاشلين ، و تغربت في كل أنحاء الوطن بحثا عن الخبز و العمل ، و بعدما عشت معها حياة جميلة تعثرت في بعض مراحلها ، و تجافينا أحيانا و تصافينا أحيانا أخرى ، بعد ذلك كله عدت لمدينتي القديمة كما كانت اللقالق ترجع إليها ، آن للغز أن ينكسر ، و آن للسؤال أن يتحطم بقبضة الجواب القوية ، تساءلت كما كنت أتساءل في طفولتي الاولى : لماذا رجعت إلى مدينتي القديمة ؟؟ أي سر في ذلك و أي قوة سحرية هذه ؟؟
و لكنني قبل ان أضفر بجواب ، ألقيت نظرة خاطفة على مدينتي القديمة ، تغيرت مدينتي .... تغيرت حتى كدت لا أعرفها ، و لكنها تعرفني و لا شك ، انتشرت بها البنايات الشاهقة و العمارات المتلازقة ، و زحف الزفت فيها على الطرقات حتى عبدها ، انحصرت حقول الزرع و البطاطا لتختنق بالمصانع و الغازات الضارة ، تحولت الساحة التي تعلمت فيها المشي ، و جريت بها لسنوات عديدة ، و مارست فيها مع أترابي لعبة الشرطة و اللصوص تحولت إلى بناء ضخم ظننته سجنا ، ارتفعت المآذن في مدينتي بشكل لافت ، و لم يعد للكلاب الضالة أثرا و لكن بدلهم وجدت شوارع المدينة تضج بالمجانين الذين أنهكتهم الحياة الجديدة القادمة من الغرب ، أعتقد انك تتساءل عن اللقالق و لا شك ؟؟..... لقد تزامنت عودتي إلى المدينة مع عودتها ، رجعت كعهدها في السنوات الماضية و لكن أعشاشها تحولت من قمم الأشجار الميتة إلى اعمدة الكهرباء و الهاتف و بروج الإرسال و مآذن المساجد .
أعتقد انني وجدت بعد هذه السنوات كلها جوابا لسؤالي الطفولي ، نحن نحن لمدننا القديمة لانها تتغير باستمرار ، في حين تبقى ذكرياتنا التي اكتسبناها منها صورة جامدة لا تتغير و لا تقبل الاستحالة لشيئ جديد ، و متى ما التقت ذكرياتنا بالمدينة يحدث صراع في الزمان يمتد لأجيال عديدة ، صراع يحاول إرجاع الانسان لنقطة الصفر ، نقطة الانطلاق و التي غالبا ما تكون نقطة النهاية ، ......... و لكن شيئا واحدا لم يتغير طيلة تلك السنوات هو حبي لدليلة و عشقي لها بجنون و هوس تركته مخلدا في صفحات مذكراتي .
و رغم بساطة مدينتي إلا أنني أحببتها ، أحببتها بعنف لا يعادله إلا حبي لدليلة و قلت لنفسي ذات مرة : سأعيش في هذه الأرض الطيبة و أتزوج من دليلة فأموت هنا و أدفن هنا ، و كانت دليلة يومها فتاة متألقة باسمة ، يسطع الحنان و الجمال في وجهها كسطوع القمر ، و كنت كلما رأيتها خيل إلي أنني أرى الحياة تمشي على قدمين ، رؤيتي لعيونها اللوزية هي اللحظة الوحيدة التي أشعر فيها بالضعف و البساطة و الحب و السحر و السكينة ، ........ كانت أنثى بمعنى الكلمة ، عاشقة و قوية و متمردة ، كانت مسحورة بجمال المدينة البسيط ، في النهار تنظر إلى حقول الزرع فترى الريح تعبث بها مشكلة أمواجا غير نهائية من السنابل المتراقصة ، و في الليل تتأمل نجوم السماء فتربط بعضها ببعض مشكلة أشكالا لحيوانات أو رموزا قديمة من حضارات بائدة ، حتى أنها ذات مرة فاجأتني قائلة : لقد تمكنت البارحة من كتابة اسمك على صفحة السماء .......... خيالية كانت و رومنسية ، عجيبة هذه الفتاة هكذا وصفتها ذات مرة في مذكراتي ، في مدينتي كانت اللقالق تعشش جنبا إلى جنب مع الفقر ، كانت تعشش فوق الأشجار الضخمة الميتة منذ عهد بعيد ، فتبني لها أعشاشا ضخمة مكورة ، و تقف فوقها قبالة الريح و الشمس على قدم واحدة ، اللقالق الرشيقة ، ذات الريش الأبيض و الأسود ، و المنقار الأصفر الطويل المكلل بعينين داهشتين . إنها تعود في كل عام لمدينتي لتكمل فيها دورة الحياة الملغزة ، و أنا و دليلة كنا نرقب و نحن صغارا هذه العودة كل سنة ، و كانت دليلة تقول بلهجة مسائلة : اللقالق تعود للمدينة كل عام فهل بها حنين للرجوع ؟؟
و منذ ذلك اليوم و انا أتساءل ببراءة : لماذا نحن إلى مدننا القديمة ؟؟ لماذا تشدنا قوة سحرية خفية إلى ترابها و هوائها ؟؟ أي سر عجيب هذا ؟؟ ......... اليوم و بعد أن تزوجت من دليلة و أنجبت منها سلسلة من الأبناء الناجحين و الفاشلين ، و تغربت في كل أنحاء الوطن بحثا عن الخبز و العمل ، و بعدما عشت معها حياة جميلة تعثرت في بعض مراحلها ، و تجافينا أحيانا و تصافينا أحيانا أخرى ، بعد ذلك كله عدت لمدينتي القديمة كما كانت اللقالق ترجع إليها ، آن للغز أن ينكسر ، و آن للسؤال أن يتحطم بقبضة الجواب القوية ، تساءلت كما كنت أتساءل في طفولتي الاولى : لماذا رجعت إلى مدينتي القديمة ؟؟ أي سر في ذلك و أي قوة سحرية هذه ؟؟
و لكنني قبل ان أضفر بجواب ، ألقيت نظرة خاطفة على مدينتي القديمة ، تغيرت مدينتي .... تغيرت حتى كدت لا أعرفها ، و لكنها تعرفني و لا شك ، انتشرت بها البنايات الشاهقة و العمارات المتلازقة ، و زحف الزفت فيها على الطرقات حتى عبدها ، انحصرت حقول الزرع و البطاطا لتختنق بالمصانع و الغازات الضارة ، تحولت الساحة التي تعلمت فيها المشي ، و جريت بها لسنوات عديدة ، و مارست فيها مع أترابي لعبة الشرطة و اللصوص تحولت إلى بناء ضخم ظننته سجنا ، ارتفعت المآذن في مدينتي بشكل لافت ، و لم يعد للكلاب الضالة أثرا و لكن بدلهم وجدت شوارع المدينة تضج بالمجانين الذين أنهكتهم الحياة الجديدة القادمة من الغرب ، أعتقد انك تتساءل عن اللقالق و لا شك ؟؟..... لقد تزامنت عودتي إلى المدينة مع عودتها ، رجعت كعهدها في السنوات الماضية و لكن أعشاشها تحولت من قمم الأشجار الميتة إلى اعمدة الكهرباء و الهاتف و بروج الإرسال و مآذن المساجد .
أعتقد انني وجدت بعد هذه السنوات كلها جوابا لسؤالي الطفولي ، نحن نحن لمدننا القديمة لانها تتغير باستمرار ، في حين تبقى ذكرياتنا التي اكتسبناها منها صورة جامدة لا تتغير و لا تقبل الاستحالة لشيئ جديد ، و متى ما التقت ذكرياتنا بالمدينة يحدث صراع في الزمان يمتد لأجيال عديدة ، صراع يحاول إرجاع الانسان لنقطة الصفر ، نقطة الانطلاق و التي غالبا ما تكون نقطة النهاية ، ......... و لكن شيئا واحدا لم يتغير طيلة تلك السنوات هو حبي لدليلة و عشقي لها بجنون و هوس تركته مخلدا في صفحات مذكراتي .