الكهف الجزائري
2007-03-20, 19:33
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحاب السبت
(.. ويقولون سيغفر لنا) (3)
الحمد لله رب الأرض والسماوات، تسبح بحمده جميع المخلوقات، والصلاة والسلام على
المبعوث رحمة للكائنات، أما بعد:
فهذا لقاؤنا السادس حول قصة أصحاب السبت؛ الثالث في الخُلُوف التي جاءت من
بعدهم، وقد مرَّ بنا في اللقاء السابق الحديث عما وقعت فيه بعض الفرق المنسوبة
إلى الإسلام من شبهات، أصولها تعود إلى التأثر بما فعله اليهود من تحريف للكلم
عن مواضعه ومن القول على الله بغير علم.
واليوم حديثنا عن فتن الشهوات وما وقعت فيه أمة الإسلام - إلا ما رحم الله - من
مشابهة لأهل الكتاب. وقبل أن أبدأ معك هذا الحديث أذكرك أخي الكريم أننا نتحدث
حول قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا
فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأعراف: 169].
وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق التعقيب على قصة أصحاب السبت وهي تتحدث عن
زيادة الانحراف في الأجيال المتتالية من بني إسرائيل، وقد سبق الحديث عن ذلك
بشيء من التفصيل وكيف وقعت الخلوف في انحرافات السابقين وزادت عليها مع وجود
الميثاق المؤكد في كتبهم أن يتقوا الله فيما استحفظهم عليه من كتاب وجعلهم
أمناء عليه وأوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والتحريف، وأن يبلِّغوه للناس
ولا يكتموه.
ومن علامة سعادة ورثة الكتاب أن يقوموا بما أمرهم الله ولا يكتموه، ومن علامات
الشقاوة أن يكون العالم مُخلدًا للبطالة، غير قائم بما أمر الله به ولا مبال
بما استحفظ عليه، وقد أهمله وأضاعه بل حرَّفه وبدَّله واشترى بآيات الله ثمنًا
قليلاً في الدنيا، وهذا ما وقع فيه بنو إسرائيل وقوعًا تامًا، وقد بينا ذلك
فيما سبق بوضوح، وقد حذرنا الله - سبحانه - أن نقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل،
ومع ذلك فقد وقع في أمتنا ما وقع في بني إسرائيل على مستوى العلماء والعوام،
وعلى مستوى الشبهات والشهوات، وقد ذكرنا جانبًا من ذلك في مقالنا السابق مباشرة
واليوم آن الآوان أن نستكمل معك الموضوع ونبدأ مع الإمام القرطبي - رحمه الله -
حيث قال عند تفسير الآية السالفة الذكر: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
وَرِثُوا الْكِتَابَ... قال رحمه الله: «وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به
هؤلاء موجود فينا». واستدل على قوله هذا بأثر موقوف على الصحابي الجليل معاذ بن
جبل رحمه الله: «سبيلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرؤونه لا
يجدون له حلاوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا
يخالطه خوف إن قصَّروا قالوا سنبلغُ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك
بالله شيئًا».
[أخرجه الدارمي في فضائل القرآن - باب تعاهد القرآن]
أصل الداء:
نشير هنا إلى أمر هام ألا وهو أن القضية الأساسية ليست في وقوع القوم في
المعاصي أو تقصيرهم في طاعة الله، إنما المشكلة في زعمهم أن الله سيغفر لهم مع
تقصيرهم في طاعة الله واستمرارهم على المعصية.
ثم لم يتوبوا ولا هم يستغفرون، وإنما نشأ ذلك من ضعف العلم وغفلة استولت على
القلب وطمست البصيرة، أوصلت القوم إلى التقول على الله بغير علم، وإحسان الظن
بأنفسهم مع سوء الظن بالله.
قال ابن القيم - رحمه الله-: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر،
فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد
الطيران ومتى قُطِعَ الرأس مات الطائر، ومتى فُقِدَ الجناحان أو أحدهما فهو
عرضة لكل صائد وكاسر. [الفوائد]
وقال رحمه الله في «الداء والدواء»: «وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله
وعفوه وكرمه وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنَّه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن
القوم المجرمين».
وأكمل الأحوال للمسلم الاعتدال في جانب الرجاء والخوف، وقد أخبر سبحانه عن
أوليائه وأصفيائه فقال سبحانه مثنيًا عليهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
وقال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 16، 17].
وإنما نشأ عند القوم الاستهانة بأوامر الله من تغليب جانب الرجاء على الخوف
وحسبوا أن ذلك من إحسان الظن وكذبوا كما قال الحسن البصري- رحمه الله-: «إن
قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: لأني
أحسن الظن بربي ! وكذبوا، لو أحسن الظن لأحسن العمل». وقال رحمه الله: «إن
المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل».
الفرق بين حسن الظن والغرور:
لأهمية هذا الموضوع وخطورته سأقدم لك خلاصة ستين صفحة من كتاب الجواب الكافي
«الداء والدواء» لابن القيم - رحمه الله - في السطور التالية: «حسن الظنِّ
بالله إن حمل على العمل وحث عليه وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة
والانهماك في المعاصي فهو غرور».
وقال: «حسن الظن هو الرجاء؛ فمن كان رجاؤه هاديًا إلى الطاعة وزاجرًا عن
المعصية؛ فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً، ورجاؤه بطالة وتفريطًا فهو
المغرور».
وقال رحمه الله: وسر المسألة: أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان
بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره، وثوابه وكرامته، فيأتي العبد
بها ثم يحسن ظنه بربه، ويرجوه ألا يكله إليها، وأن يجعلها موصولة لما ينفعه
ويصرف عنه ما يعارضها ويبطل أثرها». اهـ.
وبعد فإن من تتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار ومن تبعهم
بإحسان وجدهم على ذلك فإنهم أحسنوا العمل ومع ذلك أساءوا الظن بأنفسهم وقال
قائلهم: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي
مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». [متفق عليه]
وهذا علَّمه خير نبي لخير ولي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي
الله عنه يقوله في صلاته، هذا وقد خلفت خلوف أساؤوا العمل وأحسنوا الظن بأنفسهم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والحمد لله رب
العالمين
أصحاب السبت
(.. ويقولون سيغفر لنا) (3)
الحمد لله رب الأرض والسماوات، تسبح بحمده جميع المخلوقات، والصلاة والسلام على
المبعوث رحمة للكائنات، أما بعد:
فهذا لقاؤنا السادس حول قصة أصحاب السبت؛ الثالث في الخُلُوف التي جاءت من
بعدهم، وقد مرَّ بنا في اللقاء السابق الحديث عما وقعت فيه بعض الفرق المنسوبة
إلى الإسلام من شبهات، أصولها تعود إلى التأثر بما فعله اليهود من تحريف للكلم
عن مواضعه ومن القول على الله بغير علم.
واليوم حديثنا عن فتن الشهوات وما وقعت فيه أمة الإسلام - إلا ما رحم الله - من
مشابهة لأهل الكتاب. وقبل أن أبدأ معك هذا الحديث أذكرك أخي الكريم أننا نتحدث
حول قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا
فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأعراف: 169].
وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق التعقيب على قصة أصحاب السبت وهي تتحدث عن
زيادة الانحراف في الأجيال المتتالية من بني إسرائيل، وقد سبق الحديث عن ذلك
بشيء من التفصيل وكيف وقعت الخلوف في انحرافات السابقين وزادت عليها مع وجود
الميثاق المؤكد في كتبهم أن يتقوا الله فيما استحفظهم عليه من كتاب وجعلهم
أمناء عليه وأوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والتحريف، وأن يبلِّغوه للناس
ولا يكتموه.
ومن علامة سعادة ورثة الكتاب أن يقوموا بما أمرهم الله ولا يكتموه، ومن علامات
الشقاوة أن يكون العالم مُخلدًا للبطالة، غير قائم بما أمر الله به ولا مبال
بما استحفظ عليه، وقد أهمله وأضاعه بل حرَّفه وبدَّله واشترى بآيات الله ثمنًا
قليلاً في الدنيا، وهذا ما وقع فيه بنو إسرائيل وقوعًا تامًا، وقد بينا ذلك
فيما سبق بوضوح، وقد حذرنا الله - سبحانه - أن نقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل،
ومع ذلك فقد وقع في أمتنا ما وقع في بني إسرائيل على مستوى العلماء والعوام،
وعلى مستوى الشبهات والشهوات، وقد ذكرنا جانبًا من ذلك في مقالنا السابق مباشرة
واليوم آن الآوان أن نستكمل معك الموضوع ونبدأ مع الإمام القرطبي - رحمه الله -
حيث قال عند تفسير الآية السالفة الذكر: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
وَرِثُوا الْكِتَابَ... قال رحمه الله: «وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به
هؤلاء موجود فينا». واستدل على قوله هذا بأثر موقوف على الصحابي الجليل معاذ بن
جبل رحمه الله: «سبيلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرؤونه لا
يجدون له حلاوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا
يخالطه خوف إن قصَّروا قالوا سنبلغُ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك
بالله شيئًا».
[أخرجه الدارمي في فضائل القرآن - باب تعاهد القرآن]
أصل الداء:
نشير هنا إلى أمر هام ألا وهو أن القضية الأساسية ليست في وقوع القوم في
المعاصي أو تقصيرهم في طاعة الله، إنما المشكلة في زعمهم أن الله سيغفر لهم مع
تقصيرهم في طاعة الله واستمرارهم على المعصية.
ثم لم يتوبوا ولا هم يستغفرون، وإنما نشأ ذلك من ضعف العلم وغفلة استولت على
القلب وطمست البصيرة، أوصلت القوم إلى التقول على الله بغير علم، وإحسان الظن
بأنفسهم مع سوء الظن بالله.
قال ابن القيم - رحمه الله-: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر،
فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد
الطيران ومتى قُطِعَ الرأس مات الطائر، ومتى فُقِدَ الجناحان أو أحدهما فهو
عرضة لكل صائد وكاسر. [الفوائد]
وقال رحمه الله في «الداء والدواء»: «وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله
وعفوه وكرمه وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنَّه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن
القوم المجرمين».
وأكمل الأحوال للمسلم الاعتدال في جانب الرجاء والخوف، وقد أخبر سبحانه عن
أوليائه وأصفيائه فقال سبحانه مثنيًا عليهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
وقال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 16، 17].
وإنما نشأ عند القوم الاستهانة بأوامر الله من تغليب جانب الرجاء على الخوف
وحسبوا أن ذلك من إحسان الظن وكذبوا كما قال الحسن البصري- رحمه الله-: «إن
قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: لأني
أحسن الظن بربي ! وكذبوا، لو أحسن الظن لأحسن العمل». وقال رحمه الله: «إن
المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل».
الفرق بين حسن الظن والغرور:
لأهمية هذا الموضوع وخطورته سأقدم لك خلاصة ستين صفحة من كتاب الجواب الكافي
«الداء والدواء» لابن القيم - رحمه الله - في السطور التالية: «حسن الظنِّ
بالله إن حمل على العمل وحث عليه وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة
والانهماك في المعاصي فهو غرور».
وقال: «حسن الظن هو الرجاء؛ فمن كان رجاؤه هاديًا إلى الطاعة وزاجرًا عن
المعصية؛ فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً، ورجاؤه بطالة وتفريطًا فهو
المغرور».
وقال رحمه الله: وسر المسألة: أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان
بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره، وثوابه وكرامته، فيأتي العبد
بها ثم يحسن ظنه بربه، ويرجوه ألا يكله إليها، وأن يجعلها موصولة لما ينفعه
ويصرف عنه ما يعارضها ويبطل أثرها». اهـ.
وبعد فإن من تتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار ومن تبعهم
بإحسان وجدهم على ذلك فإنهم أحسنوا العمل ومع ذلك أساءوا الظن بأنفسهم وقال
قائلهم: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي
مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». [متفق عليه]
وهذا علَّمه خير نبي لخير ولي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي
الله عنه يقوله في صلاته، هذا وقد خلفت خلوف أساؤوا العمل وأحسنوا الظن بأنفسهم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والحمد لله رب
العالمين