المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مساعدة في المشروع الأول لمادة العربية


massinissabay
2011-12-03, 11:24
السلام عليكم
أطلب منكم المساعة فمعضمكم قام بإنجاز الموضوعوعناصره هي
-الحية العقلية في ظل العصر العباسي
2-أثر النزعة العقلية في الأدب ومضاهرها المختلفة
3-الصراع بين القدماء والمحدثين في العصر العباسي وأثره في الشعر الفكري
4- الشخصيات العلمية التي أسهمت في إخراء الفكر الأنساني وهذل العنصر متوفر لدي
أرجو منكم المساعدة في العناصر الثلاثة الأولي و الرابع لدي الشخصيات وأن سأكون شاكرا لكم

بسسمة امل
2011-12-03, 12:42
لقد نزع الشعراء عامة في العصر العباسي للتزود بجميع ألوان المعرفة وما كانوا يجدون في ذلك من لذة عقلية .وقد مضوا يتمثلون كثيرا من هذه الألوان ويحيلونها غذاء شعريا بديعيّا،سواء منها الهندي والفارسي واليوناني،وما لم يحيلوه تأثروا به من قريب أو بعيد،ولنقف قليلا عند الثقافة الهندية في قول أبي نواس في بعض


.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }


المغنيين هاجيا:

وهذا الشعر دليل على نظرة أبي نواس في علم الطبائع،لأنّ الهند تزعم أن الشيئ إذا أفرط في البرد عاد حارا مؤذيا...وكان تأثير الثقافة الفارسية في الشعر والشعراء أشد وأقوى من تأثير الثقافة الهندية ،إذ كان كثير من الشعراء يتقنون اللغة الفهلوية،وقد مضى الشعراء منذ ظهور كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع يتأثرون بما نقله فيهما من تجارب الفرس وحكمهم ووصاياهم في الصداقة والمشورة وآداب السلوك والسياسة ومن يرجع إلى بشار يجده يفرد للمشورة قطعة طويلة في إحدى مدائحه:



.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }


ولا ريب في أنّ الثقافة اليونانية كان تأثيرها في الشعر والشعراء أعمق وأبعد غورا،بما فتحت أمامهم من أبواب الفكر الفلسفي وأبواب المنطق ومقاييسه.
وأدلته ، وما بعثت فيهم من محاولات استكشاف دفائن المعاني واستخراج دقائقها
يتبع................

بسسمة امل
2011-12-03, 12:43
وقد مضى كثير من الشعراء يزيدون محصولهم من تلك الثقافة،بل كان منهم من ألف في المنطق حتى يشحذ ذهنه وأذهان الشعراء من حوله .وكان مما ترجم لهم من تلك الثقافة مراثي فلاسفة اليونان للإسكندر المقدوني عند وفاته وقد نقل منها أبو العتاهية أطرافا إلى مراثيه:


.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }


ولعل أكبر بيئة عنيت بهذه الثقافة بيئة المعتزلة،إذ كانت تقوم من الفكر العباسي في هذا العصر مقام السكان والمجداف من السفينة، فهي تثيره وتدفعه إلى أن يزيد محصوله من جميع المعارف و المعتقدات ، وأن يتمثلها إلى أبعد حد ممكن، وبدأوا بأنفسهم فتثقفوا من كل ما ترجم عن الهنود والفرس واليونان وعكفوا على الفلسفة اليونانية عكوفا جعلهم يقفون على شِعبها ومناحيها في الفكر الدقيق ولم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقل الذي يموج بطرائق الذهن في جميع المعاني الحسية والعقية ، وكانوا يحاورون أصحاب الملل والنحل في المساجد الجامعة ومن حين إلى حين يحاور بعضهم بعضا في غوامض الفلسفة محللين مستنبطين.........واشتقوا لهم آراء جديدة يدعمها العقل الذي شغفوا به وبأدلته وبراهينه، وهو شغف صوّره بشر بن المعتمر:


.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; } يتبع.............

بسسمة امل
2011-12-03, 12:45
وقد سخّر بشر عقله في نظم قصائد تدخل في التاريخ الطبيعي يتحدث فيها عن مشاهد الطبيعة ودلالتها على قدرة الخالق...كما نظم شعراء من المعتزلة شعرا لم يكن بعيدا عن دوائر الشعر المألوف من المديح والغزل والهجاءوالرثاء والوصف بَيدَ أنهم طبعوه بطوابع جديدة من دقة المعاني ومن غرائب الأخيلة والصور.ومن أهم المشاكل التي عالجها الشعراء مشكلة الجبر والإختيار وفكرة التولد (وهو الفعل الذي ينشأ عن فعل آخر دون قصد)،وفكرة الجزء الذي لا يتجزأ وفكرة الجوهر الفرد.
يقول أبو نواس متغزلا ومحاورا ومجادلا نظراءه المعتزلة:



.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }



هكذا كان رقي الحياة العقلية في العصر العباسي ،وأثر نزعتها على القصيدة في تلك الفترة ،وما استحضر من شواهد في هذه الفقرات لقليل جدا نظرا لغزارة مادتها ،وما هيأته الظروف المساعدة لكل ذلك في هذا العصر.
من كتاب العصر العباسي الاول (بتصرف)

بسسمة امل
2011-12-03, 12:46
إن‌ الحضارة‌ الإسلامية‌ التي‌ بُنيت‌ لبناتها الأساسية‌ منذ زمن‌ الرسول‌ (ص‌) لم‌ تلبث‌ أن‌ ازدهرت‌ بشكل‌ لافت‌ للنظر في‌ فترة‌ قصيرة‌ بعده‌ في‌ العصر العباسي‌، و ارتقت‌ بالمجتمع ‌العربي‌ الساذج‌ حيث‌ وصل‌ إلي‌ الرفاهية‌ المادية‌ و العقلانية‌ المعنوية‌، و ذلك‌ بفضل‌ الانفتاح ‌الحضاري‌ و القفزة‌ الثقافية‌ التي‌ رحّبت‌ بهما الأذواق‌ و العقول‌ آنذاك‌.
و إثر هذا المشروع‌ الثقافي‌ الذي‌ عُرض‌ بشكل‌ شامل‌ علي‌ المجتمع‌ أخذت‌ الأمة‌ بمنهج‌ جديد في‌ النظر الي‌ الكون‌ و ما فيه‌ من‌ الأشياء و الأحياء، فرقّت‌ الأذواق‌ و تعقّلت‌ المشاعر و التمعت ‌الأفكار؛ فقد كان‌ ما يترجم‌ ـ لأول‌ مرة‌ في‌ التاريخ‌ ـ يوزن‌ بالذهب‌، و قد كان‌ في‌ شروط‌ الصلح ‌مع‌ الروم‌ أن‌ يسلّموا إلي‌ العرب‌ بعض‌ ما عندهم‌ من‌ الكتب‌ في‌ مختلف‌ الموضوعات‌[1] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn1)، كما أن ‌هناك‌ ظمأ غير مشتف‌ عند كثير من‌ العلماء و المفكرين‌ نحو إصدار العديد من‌ النصوص‌، فإلي‌ جانب‌ هذه‌ الحركات‌ التي‌ أدت‌ إلي‌ صحوة‌ عامة‌ و يقظة شاملة فتأثر الناس‌ بها و تحركت‌ الحياة‌ من‌ خلالها، قام‌ الأدب‌ و أسهم‌ كثيراً في‌ تحضير الأمة‌ و ايقاظ‌ روحها الكامنة ‌مكوناً لها مُثُلاً عليا، منعطفاً بها من‌ النظرة‌ الجلالية‌ إلي‌ النظرة‌ الجمالية‌ كما أنه‌ أدي‌ دوراً بارزاً في‌ نقل‌ الأمة من‌ العالم‌ الصحراوي‌ المترامية الأطراف‌ إلي‌ العوالم‌ الأنيقة‌ الخاصة، و انتقل‌ بها من‌ فترة النتوير و التجديد إلي‌ الكشف‌ و الاختراع‌... و الذي‌ يجب‌ التنبه‌ إليه‌ أن‌ هذا التطور العقلي‌ و الترف‌ المادي‌ لم‌ يكونا بعيدين‌ عن‌ كل‌ الناس‌، بل‌ كان‌ ملكاً لأغلبيتهم‌ دون ‌الاقتصار علي‌ طبقة‌ أو فرقة‌ أو جنس‌ خاص‌.
و في‌ نفس‌ الوقت‌ أن‌ هذا العصر الذي‌ عاش‌ فيه‌ شاعرنا العبقري‌ أبوتمام،‌ كان‌ عصراً مشحوناً بالخطر و الفوضي‌ و روح‌ الإنقسام‌ كما كان‌ عصراً متعدد الرؤي‌ غاصّا بالحاجات‌ الروحية‌ والجسدية‌ المتزايدة‌، و لعل‌ الأهم‌ من‌ هذه‌ كلها كان‌ عصراً جريئاً متحولاً من‌ المحاكاة إلي ‌الابداع‌ و الاختراع‌، معتقداً أن‌ الفن‌ أروع من‌ الواقع‌، و أن‌ التعقيد أفضل‌ من‌ التبسيط‌، و أن ‌الزخرفة‌ ليست‌ مجرد تفطن‌ و طرافة‌[2] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn2)، بل‌ هي‌ نتيجة‌ لظروف‌ حضارية‌ دبّت‌ في‌ صميم‌ البنية ‌الفنية‌ للأدب‌ ساقته‌ إلي‌ الإثراء و التزود، و إلي‌ التجاوز من‌ الثبات‌ إلي‌ الحركة، و من‌ التجديدإلي‌ الجديد...
و كانت‌ البلاد العربية‌ آنذاك‌ محط‌ ازدهار الثقافة‌ الاسلامية‌ التي‌ التقت‌ في‌ تكوينها شعوب‌ متعددة‌، و قد فاضت‌ مظاهر هذه‌ الثقافة‌ علي‌ كل‌ جوانب‌ الحياة و سطعت‌ في‌ كل‌ النفوس‌ حيث‌ أصبح‌ الناس‌ أشبه ما يكونون‌ بزمانهم‌، و من‌ المعروف‌ أن‌ الفن‌ أو الأدب‌ و ليدة‌ عصره‌، فمن‌ الطبيعي‌ أن‌ يتأثر بما تأثرت‌ به‌ الحياة‌ الاجتماعية‌ من‌ التطور و الرقي‌، فامتزج‌ فيه‌ القديم ‌و الجديد، و إن‌ انتهي‌ ذلك‌ إلي‌ خلافات‌ عميقة‌ و تناحرات‌ واسعة‌، لكنها بدورها أفادت‌ حركة ‌النقد الأدبي‌ خير إفادة‌ و تقدمت‌ بها الي‌ الأمام‌ بخطوات‌ بعيدة‌.
و علي‌ كل‌ حال‌ فما نراه‌ الآن‌ من‌ ميزات‌ جمالية‌ و تعقيدات‌ لغوية‌ و زخارف‌ بديعية‌ كان ‌بلا شك‌ يتناسق‌ مع‌ الزمان‌ و المكان‌ و اللغه‌ و الذوق‌ و الخصائص‌ الاجتماعية و الحضارية‌، و بتعبير أدق‌ كان‌ ينسجم‌ مع‌ الروح‌ الحركي‌ الخصب‌ لهذه‌ المرحلة المسبقة‌ من‌ الحضارة الإسلامية‌، كما أن‌ ذلك‌ في‌ نفس‌ الوقت‌ كان‌ يعتبر مثالاً أعلي‌ للشكل‌ التعبيري‌ آنذاك‌. و هكذا بدأ التخطي‌ و التجاوز عن‌ المألوف‌ و السطحية للوصول‌ إلي‌ ماوراء الأشياء يتمثل‌ في‌ كل ‌مظاهر الحياة من‌ الواقع‌ و الفن‌.
و كما قلنا آنفاً أن‌ العصر لم‌ يكن‌ كله‌ يقوم‌ علي‌ التوافق‌ و التناغم‌، بل‌ إنه‌ إلي‌ جانب‌ ذلك‌، كان ‌يقوم‌ في‌ بعض‌ جوانبه‌ علي‌ التناقض‌ و التضاد حيث‌ يلتظي‌ و يرمي‌ بالشرر، و هذا أقرب ‌ما يكون‌ إلي‌ طبيعة‌ الشعر، فإنه‌ لا يتغذي‌ بالخير فإذا دخل‌ فيه‌ الخير ضعف‌ و لان‌ علي‌ نحو ما يقول‌ الأصمعي‌[3] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn3).
و لقد كان‌ أبوتمام‌ خير من‌ يمثل‌ في‌ شعره‌ مظاهر هذه‌ الحضارة‌، إذ شهد تلك‌ الفترة‌ التي ‌اطلع‌ فيها العرب‌ علي‌ كل‌ المنجزات‌ الحضارية‌ السابقة و المعاصرة لهم‌، و التي‌ أخذوا فيها مسلك‌ الإبداع‌ و الإختراع‌، كما شهد تلك‌ الصراعات‌ و الشقاقات‌ التي‌ أخذت‌ طريقها إلي‌ كل ‌شي‌ء: الصراع‌ العنصري‌ بين‌ العرب‌ و الموالي‌، الصراع‌ بين‌ المسلمين‌ و غير المسلمين‌، الصراع‌ المذهبي‌ بين‌ المسلمين‌ أنفسهم‌، الصراع‌ الأدبي‌ بين‌ أصحاب‌ القديم‌ و الجديد، الصراع‌ بين‌ أتباع‌ الفِرَق‌ و...[4] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn4)
والأهم‌ من‌ بين‌ هذه‌ الصراعات‌ في‌ هذه‌ الفترة‌ التي‌ عاصرها أبوتمام‌ هو الصراع‌ الذي‌ كان‌ يقوم‌ علي‌ أسس‌ عقلية‌، و أنه‌ كان‌ يتجدد و يتعمق‌ في‌ ظل‌ الشقاقات‌ و السياسات‌ و الاتجاهات‌ المختلفة و المتناقضة التي‌ تجعل‌ الانسان‌ يحس‌ أنه‌ في‌ شقاق و صراع مع الحياة لشدة‌ وعيه‌ و عمق ‌احساسه‌ بما يدور حوله‌، و من‌ هنا لم‌ يكن‌ له‌ بدّ إلا أن‌ يتسلح‌ - كما فعل‌ أبوتمام‌ ـ بالعديد من‌ أسلحة‌ المعرفة‌. و إذا استقصينا في‌ أنواع‌ المعارف‌ و العلوم‌ السائدة‌ في‌ هذه‌ الفترة نجد أنها مدهشة لافتة‌ للنظر؛ و المهم‌ أنه‌ في‌ هذا الجو المليي‌ء بالأفكار نما و ازدهر أبوتمام‌ وحيداً، فقد كان‌ عليه‌ أن‌ يصنع‌ إطاره‌ الثقافي‌ بنفسه‌ و يتعلم‌ كل‌ شي‌ء بشكله‌ الطبيعي‌ و يلمس‌ بحواسه‌ و عقله‌ كل‌ شي‌ء ليدرك‌ من‌ خلال‌ كل‌ هذه‌ سرَّ المجتمع‌ الذي‌ انتقل‌ من‌ البداوة‌ إالي‌ الحضارة و أن ‌يثبت‌ لنفسه‌ نظرية‌ في‌ الشعر معتقداً بأنه‌ في‌ جوهره‌ خبرة جمالية‌ و تنسيق‌ و صياغه‌.
و لقد ساعده‌ في‌ أخذ جوانب‌ بعيدة‌ من‌ كل‌ هذه‌ المعارف‌ تخفّفُه‌ في‌ البدء من‌ أسرته‌، فبدأ يتنقل‌ بين‌ أقاليم‌ مختلفة‌ من‌ دمشق‌ و مصر و أرمينيا‌ و خراسان‌ و بغداد و... و اصطبغ ‌وجوده‌ بطابع‌ الرحلة فإذا بنفسه‌ يقول‌ إن‌ وطنه‌ «ظهور العيس‌»[5] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn5)، و بالتالي‌ نقول‌ إن‌ أفكاره ‌كذلك‌ لم‌ تعرف‌ الركود بل‌ هي‌ أيضاً كصاحبه‌ كانت‌ علي‌ العيس‌ تتطور و تنمو في‌ كل‌ واحد من ‌أسفاره‌.
اتصل‌ أبوتمام‌ بكثير من‌ الخلفاء و الأمراء، فكان‌ عصره‌ عصر خلافة‌ الرشيد و الأمين‌ والمأمون‌ و المتصم‌ و الواثق‌، و قد تعامل‌ معهم‌ بالسلم‌ تارة‌، و بالحرب‌ تارة أخري‌. إذ كانت‌ له ‌بعض‌ المشاركات‌ في‌ الحروب‌ التي‌ شنتها هؤلاء‌ الخلفاء ضد أعداءهم‌: فهذا العصر و إن‌ بلغ‌ فيه ‌العلم‌ و الثقافة‌ و الفكر أوج‌َ الإتساع‌ و الرقي‌، لكنه‌ كان‌ الشعر فيه‌ مضرجاً بالدم‌؛ و في‌ ضوء هذا يمكن‌ التعرف‌ إلي‌ بعض‌ خصائص‌ الشعر عامة‌ و شعر أبي‌*تمام‌ خاصة‌ حيث‌ اقترن‌ فيه ‌الجمال‌ بالقبح‌ و اختلط‌ فيه‌ الخير بالشر، و قد ساعدت‌ علي‌ هذا حالات التشابك‌ التي‌ كانت‌ بين ‌ظواهر عديدة‌ من‌ ظواهر الحياة نتيجة‌ لوفرة‌ عنصرَي‌ الحرية‌ و العقل‌[6] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn6)؛ إذ كان‌ الإثنان‌ من‌ خلفا، هذا العصر قد أسهما لحد بعيد في‌ تمهيد الأرضية‌ لمثل‌ هذا الجو الحر الطلق‌، و المأمون‌ كان‌‌ من أحدهما، حيث‌ كان‌ يقوم‌ بعملية‌ تعقيل‌ الدولة‌، و ثانيهما المعتصم‌ الذي‌ كان ‌يشجع‌ الفنون‌ و يسمح‌ للتيارات‌ و الفِرَق‌ المختلفة‌ أن‌ تبشّر بأفكارها و مبادئها في‌ الأوسط ‌الاجتماعية‌ مما يزيد علي‌ الصراعات‌ و يحتدمها أكثر فأكثر.
و أما قضية‌ البديع‌ التي‌ دارت‌ من‌ حولها ضجة كبيرة‌ بين‌ أصحاب‌ القديم‌ و الجديد فكانت ‌تقوم علي‌ حقيقة‌ اجتماعية دبّت‌ في‌ صميم‌ البنية‌ الفنية‌ للشعر، حيث‌ أصبح‌ الشعر الي‌ حد كبير أشبه‌ بالعصر و اقترب‌ من‌ النزعة‌ التأملية‌ التي‌ ظهرت‌ إثر المنجزات‌ و المعطيات‌ العقلية ‌في‌ هذه‌ الفترة‌ مما أضفي‌ علي‌ الشعر طابع‌ التأني‌ و ابتعد به‌ عن‌ الارتجال‌ و الانسياب‌، و من ‌ثَمّ‌ و بفضل‌ إكثار الشعراء من‌ البديع‌ قد أخذوا إلي‌ حد كبير يسيطرون‌ علي‌ انفعالاتهم‌ بعد أن ‌كانت‌ انفعالاتهم‌ تسيطر عليهم‌، و لم‌ يعودوا يلوكون‌ الألفاظ‌ كما يُتوهم‌، بل‌ كانوا يكدحون‌ كدحاً شديداً في‌ اختيارها ليكون‌ لها أدق‌ و أحسن‌ دلالة‌ علي‌ ذلك‌ المعني‌ الذي‌ كانوا بصدده‌. و مهما يكن‌ من‌ شي‌ء فلقد كان‌ البديع‌ جزءاً لايتجزأ من‌ الحياة‌ الاجتماعية‌ في‌ هذه‌ الفترة‌، و لم ‌يكن‌ هناك‌ فرق‌ كبير بين‌ البديع‌ في‌ الشعر و بين‌ البديع‌ في‌ القصور و الملابس‌ و المآ كل‌ و الغناء و...، فبديع‌ هذا العصر لم‌ يكن‌ حلية‌ أو زخرفة‌ زائدة‌ علي‌ الأصل‌، بل‌ كان‌ في‌ صميم‌ الحياة[7] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn7)‌. و هكذا و إثر هذه‌ التحولات‌ الاجتماعية‌ قد طرأت‌ تغييرات‌ أساسية‌ علي‌ الشعر العربي‌ في ‌هذا العصر، و ميّزته عن‌ الشعر العربي‌ في‌ العصور السابقة‌، فالشعر العربي‌ في‌ العصرالجاهلي‌ كان‌ كفن‌ العمارة جليلاً هائلاً و يغلب‌ عليه‌ العنصر الحسي‌، و يقوم‌ علي‌ التجاور لا التناغم‌، و إن‌ هذا الشعر بعد ذلك‌ في العصر الإسلامي قد أخذ شكل‌ النحت‌ الذي‌ يبرز فيه‌ الجانب‌ الانساني‌ بحيث‌ يتناسب‌ فيه‌ الشكل‌ مع‌ المضمون‌ إلي‌ حد كبير، فإن‌ الشعر العربي‌ في‌ العصر العباسي‌ أخذ تدريجياً طابع‌ الرسم‌ حيث‌ انتقل‌ الشعر من‌ عوالمه‌ الثابتة‌ العفوية‌ السابقة‌ إلي‌ عوالم‌ أنيقة جديدة تبدو فيه‌ عناصر الجمال‌ و الزمان‌ و الحركة و الايقاع‌ و اللون‌، فأصبح‌ كل‌ ما كان ‌خشنا صحراوياً جامداً يمسّه‌ غطاء من‌ الحرير و بريق‌ من‌ اللؤلؤ و نفخة‌ من‌ الحيوية...
كل‌ هذه‌ الميزات‌ تجعل‌ العصر العباسي‌ درة‌ لامعة بين‌ عصور الأدب‌ العربي‌، فظهرت‌ فيه ‌طائفة‌ من‌ كبار الشعراء استوعبت‌ ثقافة‌ العصر و حضارته‌؛ و كان‌ الشعر العربي‌ حتي‌ هذه ‌الفترة‌ قد مرت‌ عليه‌ حوالي‌ ثلاثة‌ قرون‌ فاتسعت‌ دائرته‌ و تنوعت‌ أغراضه‌، و كأنما الشعرالعربي‌ في هذه‌ الفترة‌‌ بتأثر التحولات‌ الاجتماعيه‌ كان‌ ينتظر تطوراً جديداً أكثر مما حدث‌ فيه ‌في‌ العصور المتقدمة‌ من‌ ناحية التعبير و طريقة‌ الصوغ‌، و قد بدأت‌ ارهاصات‌ هذا التطور علي ‌لسان‌ بشار بن‌ برد و أبي‌ نواس‌ و مسلم‌ بن‌ وليد إلي‌ أن‌ بلغ‌ ذروته‌ علي‌ لسان فتي‌ ناشي‌، أسمر اللون‌ طويل‌ القامة‌ أجش‌ الصوت‌ ذي‌ تمتمة‌ يسيرة من‌ قرية‌ جاسم‌، ألا‌ و هو أبوتمام ‌الطائي[8] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn8)‌.
كانت‌ الحضارة الاسلامية‌ في‌ فترة‌ أبي‌*تمام‌ في‌ أوج‌ التقدم‌ و الرقي‌، و كان‌ عصره‌ عصر خلفاء كبار امتد سلطانهم‌ من‌ الشرق‌ إلي‌ الغرب‌، و قد شاع‌ فيه‌ الترف‌ و الرفاهية‌ كما ازدهرت‌ فيه‌ أنواع‌ العلوم‌ و الثقافة‌ مما أثّر إلي‌ حد بعيد في‌ الشعر و الأدب‌، و كان‌ شاعرنا العبقري‌ من ‌أكبر من‌ تأثر بهذه‌ التحولات‌، و بامكاننا أن‌ نلمس‌ بوضوح‌ مظاهرها في‌ شعره‌؛ فمن‌ ناحية ‌الترف‌ الاجتماعي‌ تأثر بأبهة‌ الحضارة‌ و تفنّن‌ ألوان‌ الحياة‌ التي‌ قضاها في‌ البلاط‌ متصلاً بالخلفاء و الأمراء نائلاً جوائزهم‌، فمن‌ الطبيعي‌ أن‌ يكون‌ شعره‌ محلّيً‌ بأنواع‌ الزينة‌ مزخرفا بأنواع‌ البديع‌ و الصناعة من مثل الجناس‌ فيقول[9] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn9)‌:
يَمدّون‌ مِن‌ أيدٍ عواصٍ‌ عواصم‌ تصول‌ بأسياف‌ قواض‌ قواضب‌
مجانساً بين‌ عواص‌ و عواصم،‌ و بين‌ قواض‌ و قواضب‌ جناساً مذيلاً، و الطباق‌، مثل‌ قوله[10] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn10)‌:
لا تَشجينَّ‌ لها فإن ‌ بكاءها ضحك و إنّ بكاءك استغرام‌
فطابق‌ بين‌ البكاء و الضحك.‌
اما العلم‌ و الثقافة‌ فقد ازدهر في‌ عصره‌، و كانت‌ البلاد العربية‌ إلي‌ أقصي‌ حدودها تعجّ ‌بالعلماء في‌ مختلف‌ مجالات‌ المعرفة‌ من‌ الفقه‌ و الحديث‌ و التفسير و اللغة و النحو و الأدب‌ و... و قد تلمذ أبوتمام‌ علي‌ بعض‌ منهم‌ في‌ دمشق‌ و مصر و بغداد، و أخذ منهم.‌ و لا غرو إذا ظهرت‌ في‌ شعره‌ ثمرات‌ تلك‌ المعارف‌ الواسعة‌ و‌ ملامح‌ تلك‌ الثقافة‌ الراقية‌، فأصبح‌ شعره‌ يشع‌ بها من‌ داخله‌ في‌ موضع‌ بعد موضع‌ مما يسهل‌ العثور عليه‌ عند المطالعه‌، و يمكننا أن‌ نذكر أمثلة‌ متعددة‌ لذلك‌ الغني‌ الفكري‌ و ألوان‌ المعرفة‌ و الثقافة‌ في‌ شعره‌، لكننا نتركه‌ إلي‌ مجال‌ آخر نتطرق‌ إليه‌ عند تناولنا تجليات‌ التناص‌ في‌ شعره‌. و نؤثر هنا أن‌ نبين‌ بعض‌ جوانب‌ الابتكار و عناصر الطرافة في‌ شعره الذي‌ أثار ضجة‌ كبيرة‌ في ساحة النقد الأدبي ‌و جعل‌ القوم‌ أن‌ يتخذوا موقفين‌ متباينين‌ إزاء شعره‌، فمنهم‌ أشاد بشعره‌ و جعل‌ الشاعر رأساً علي‌ المتقدمين‌ منه‌ و المتأخرين‌ من بعده‌، و منهم‌ عاب‌ شعره‌ و حط‌ من‌ شأنه‌، و لايهمنا هنا شي‌، من‌ هذا الصراع‌، إذ الولوج‌ إليه‌ يتطلب‌ منا صفحات‌ طويله‌.
من‌ المعروف‌ منذ القديم‌ أن‌ أباتمام‌ كان‌ رأس‌ مدرسة‌ شعرية‌ جديدة‌ تركت‌ آثاراً واسعة علي‌ الشعر العربي‌، و يقول‌ عنه‌ الصولي‌ الذي‌ جمع‌ أخباره[11] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn11): «رأس‌ في‌ الشعر مبتدي‌، لمذهب‌ سلكه ‌كل‌ محسن‌ بعده‌ فلم‌ يبلغه‌ فيه‌ حتي‌ قيل‌ مذهب‌ الطائي‌. و كل‌ حاذق‌ بعده‌ يُنسب‌ إليه‌ و يقتفي ‌أثره‌». و هذا ظل‌ و لايزال‌ متداولاً متعارفاً عليه‌ معترفاً به‌ عند القدامي‌ و المعاصرين‌. و المهم ‌أن‌ هذه‌ المدرسة‌ بما لها ميزات‌ و خصائص‌ افترقت‌ عن الشعر العربي‌ قبل‌ شاعرنا، بل‌ في ‌زمنه‌. إذن فما هي‌ مواطن‌ الافتراق‌ بين‌ المدرسة التمامية‌ و بين‌ الشعر العربي‌ عند الشعراء السابقين‌ عليه‌ و المعاصرين‌ له‌؟ خاصة‌ إذا قسنا هيكل‌ الفصيدة عنده‌ و عند‌ الآخرين‌، فما نري‌ كبير فرق‌ بينهما، فانه‌ كذلك‌ استهل‌ كثيراً من‌ قصائده‌ بذكر الأطلال‌ و وقف‌ عليها باكيا مستبكياً متذكراً الأيام‌ الخوالي‌ التي‌ كانت‌ له‌ في‌ هذه‌ الاماكن‌. و بهذا الصنيع‌ قد أعاد‌ اليها شاعرنا مقدمة‌ القصيدة‌ الطللية‌ التي‌ خرج‌ عليها أبونواس‌ داعياً فيه‌ إلي‌ معايشة‌ الشعراء حياتهم‌ الجديدة‌، و «أعطي‌ القصيدة العربية‌ شكلها النهائي‌ الذي‌ التزمته‌ الشعراء بعده‌، وسارت‌ عليه‌، فلم‌ تعد القصيدة‌ في‌ افتتاحها تتردد بين‌ الوقوف‌ علي‌ الأطلال‌ أو الوقوف‌ علي ‌غيرها»[12] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn12). و لعل‌ هذا الكلام‌ يبدو متناقضاً مع‌ ما عرفنا من‌ أبي‌*تمام‌ بأنه‌ كان‌ مجدداً في‌ الشعرالعربي‌، فكيف‌ يكون‌ ذلك‌، و قد انتكس‌ هو بالقصيدة‌ إلي‌ الوراء مبطلاً جهود سابقيهِ‌ من‌ الشعراء في‌ مجال‌ التجديد في‌ الشعر؟ فهذا الكلام‌ و إن‌ كان‌ فيه‌ بعض‌ الصحة‌، لكنه‌ ليس ‌بصحيح‌ علي‌ الاطلاق‌، إذ هو لم‌ يلتزم‌ في‌ كل‌ قصائده‌ طريقة‌ واحدة‌ في‌ افتتاحها، فإنه‌ و إن ‌وقف‌ في‌ قصائده‌ علي‌ الأطلال‌ كذلك‌ خرج‌ في‌ عدد غير قليل‌ منها علي‌ الأسلوب‌ المألوف‌ في‌ استهلال‌ القصيدة‌ بمقدمات‌ أخري‌ أو بالولوج‌ إلي‌ الموضوع‌ مباشره‌، و ذلك‌ علي‌ نحو ما نري ‌في‌ مدحه‌ للمعتصم‌ في‌ فتح‌ عموريه[13] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn13)‌، و حسن‌ بن‌ وهب[14] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn14)‌ و مقدمات‌ أخري‌ من‌ الطبيعه‌ صدّر بها القصيدة‌ مادحاً فيه‌ المعتصم‌ و غيره‌، ثم‌ إن‌ ما يجب‌ التنبه‌ إليه‌ أن‌ أبوتمام‌ في‌ مقدماته‌ الطللية ‌التقليدية قام‌ بكثير من‌ التحوير و التعديل‌، فقد حذف‌ منها بعض‌ عناصرها القديمة ‌مضيفاً إليها أشياء جديدة‌ تضفي‌ عليها بعض‌ طابع‌ الابتكار و الجدة[15] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn15)‌، فهو من‌ هذه‌ الناحية‌ يعتبر امتداداً لتيار التجديد الذي‌ أراده‌ أبونواس‌.
اما التجديد الحقيقي‌ عند أبي‌*تمام‌ فيكون‌ في‌ بنية‌ الشعر و تركيبه‌ أو عموده‌ علي‌ حسب‌ ما يقول‌ النقاد القدامي،‌ و هو من‌ هذه‌ الناحية‌ أكبر مجدد في‌ الشعر العربي‌ القديم‌، فقد تناول ‌الأغراض‌ القديمة‌ فوقف‌ حيناً علي‌ الطلول‌ و بكاها، و مدح‌ و رثي‌ و وصف‌ فاستعمل‌ كثيرا من ‌الالفاظ‌ العربية القديمة‌ و أغرب‌ فيها مما أوهم‌ البعض‌ في‌ أن‌ لا يدركوا حركة‌ التجديد العميقة‌ عند هذا الشاعر، و ينسبوا التجديد إلي‌ أبي‌*نواس‌ الذي‌ إنما طرح‌ بعض‌ الأفكار الجديده‌ الخارجة ‌عن‌ العرف‌، و لكنه‌ كان‌ اتباعيا‌ في‌ شعره‌ بخلاف‌ أبي‌*تمام‌ الذي‌ لم‌ يسلك‌ مسلكه‌. و الدليل ‌علي‌ ذلك‌ أن‌ النقاد القدامي‌ كانوا راضين‌ عن‌ أبي‌*نواس‌ إلا في‌ إفحاشه‌ في‌ القول‌ و خروجه‌ عن ‌العادات‌، فلم‌ يبتعد هو عن‌ عمود العشر العربي[16] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn16)‌ الذي‌ كان‌ النقاد يقدسونه‌ مشدين‌ بكل‌ من ‌يحافظ‌ عليه‌. أما أبوتمام‌ فكان‌ القدامي‌ مجمعين‌ علي‌ خروجه‌ عن‌ عمود الشعر العربي‌، هذا مع‌ اطلاعه ‌الواسع‌ علي‌ اللغة‌ و علي‌ أساليب‌ العرب‌ البيانية‌، يروي‌ أن‌ أعربياً سمع‌ قصيدته[17] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn17)‌:
طلل‌ الجميع‌ لقد عفوت‌ حميدا وكفي‌ علي‌ رزئي‌ بذاك‌ شهيدا
و سئل‌ كيف‌ تري‌ هذا الشعر فقال‌: «فيه‌ ما أستحسنه‌ و فيه‌ ما لا أعرفه‌ و لم‌ أسمع‌ بمثله‌، فإما أن‌ يكون‌ هذا الرجل‌ أشعر الناس‌ جميعاً، و إما أن‌ يكون‌ جميع‌ الناس‌ أشعر منه‌»[18] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn18). كما يروي ‌أيضاً أن‌ اللغوي‌ المشهور ابن‌ الأعرابي‌ لما سمع‌ شعره‌ قال‌: «إن‌ كان‌ هذا شعراً فكلام‌ العرب‌ باطل‌»[19] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn19). هذا مع‌ أخبار كثيرة‌ أخري‌ تشير إلي‌ تجديد أبي‌*تمام‌ و إلي‌ تعقيد شعره‌ كتعقيد تلك‌ الحضارة التي‌ امتد سلطانها من‌ الشرق‌ إلي‌ الغرب‌ و التقت‌ في‌ تكوينها شعوب‌ متعدده‌.
لعل‌ من‌ أهم‌ مظاهر التجديد في‌ شعر أبي‌*تمام‌ تجديده‌ في‌ تحميل‌ الألفاظ‌ أكثر من‌ دلالتها بالاعتماد علي‌ المجاز و الاستعاره‌، و إن‌ كان هذان‌ معروفين‌ عند العرب‌ فإن‌ شدة اعتماد أبي‌تمام‌ عليهما قد أخرجت‌ اللفظ‌ عن‌ دلالته‌ الدقيقة و معناه‌ المضبوط‌، و جعلته‌ يوحي‌ من ‌وراءهما بمعني‌ آخر لمجرد علاقة من‌ العلاقات‌ فأصبحت‌ الألفاظ‌ عنده‌ لا تؤدي‌ دلالتها بالضبط‌ بل‌ هي‌ تشير إلي‌ شي‌ء آخر يستنبط‌ من‌ الوراء. و مَثلُ‌ أبي‌تمام‌ في‌ هذا الاسلوب‌ مثل ‌مصور يرسم‌ الخطوط‌ الرئيسة و الأصلية‌ للموضوع‌ دون اهتمام كثير بجزئيات‌ الرسم‌ و الخط، ‌و إنما يكون‌‌ اهتمامه‌ منصباً علي‌ لطخات‌ الألوان‌ و تعادلها و تناسبها و ما تحمله‌ من‌ ايحاء و ايقاع‌، هكذا فعل‌ أبوتمام‌ بالنسبه‌ إلي‌ دلالات‌ الألفاظ‌ في‌ شعره‌، فانها لم‌ تعد تدل‌ علي ‌معانيها الموضوعة‌ بالضبط‌، بل‌ أصحبت‌ تدل‌ عليها عن‌ طريق‌ التناسب‌ و مراعاة‌ النظير أو التضاد و التناقض‌، و لعلنا إذا ضربنا مَثلاً اتضح‌ المقصود تماماً؛ يقول‌ أبوتمام‌ في‌ قصيدة ‌مشهورة‌ في‌ فتح‌ عمورية[20] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn20)‌:
السيف ‌ أصدق‌ إنباء من ‌ الكتب‌ في ‌ حده ‌ الحد بين‌ الجد و اللعب‌
بيض‌ الصفائح‌ لاسود الصحائف‌ في‌ متونهن‌ جلاء الشك‌ و الريب‌
والعلم ‌ في ‌ شهب ‌ الأرماح‌ لامعة بين‌ الخميسين‌ لا في‌ السبعة‌ الشهب‌
فنجد هنا أن‌ أسلوب‌ التعبير يختلف‌ عما عرفناه‌ عند الشعراء الجاهليين‌ و الاسلامين‌، فالألفاظ ‌تحمل‌ أكثر من‌ معانيها، و كل‌ لفظ‌ ليس‌ مستقلا عن‌ الآخر، بل‌ يكون‌ بينه‌ و بين‌ الآخر تناسب ‌و تجانس‌ و تضاد؛ فالسيف‌ هنا رمز للقوة‌ و الحرب‌، و الكتب‌ رمز للتنجيم‌؛ و بين‌ الحد الأول‌ و هو حد السيف‌ و الحد الثاني‌ و هو الفصل‌ بين‌ الشيين‌ مجانسة‌، و لفظ‌ الجد لفظ مضاد للفظ‌ العب‌.
و البيت‌ الثاني‌ توكيد للبيب‌ الأول،‌ جاء في‌ ألفاظه‌ الطباق‌ بين‌ البيض‌ و السود، و الجناس‌ بين ‌الصفائح‌ و الصحائف‌، و البيت‌ الثالث‌ توكيد ثانٍ‌ للفكرة و هي‌ أن‌ العلم‌ الصحيح‌ في‌ الحرب‌ لا في‌ الاستدلال‌ بالنجوم‌ حيث‌ يشوبه‌ الحدس‌ و الظن‌، و قد اختار الشاعر لفظ‌ الشهب‌ للدلالة ‌علي‌ الرماح‌ و النجوم‌ من‌ أجل‌ الزخرفة‌ و التزويق‌ و المجانسة. و هكذا نري‌ أن‌ ألفاظ‌ هذه ‌الأبيات‌ مختارة‌ اختياراً خاصاً يخرجها من‌ دلالتها الدقيقة‌ ليوحي‌ إلي‌ ما بينها من‌ تناسب‌ وتجانس‌ و تضاد مما يضفي‌ عليها ايحاء و ظلالاً قويين‌.
و من‌ مظاهر أخري‌ لتحميل‌ اللفظ‌ أكثرمن‌ معناه‌ اعتماد الشاعر الكثير علي‌ التلميح‌ و الإشارة‌ إلي‌ أيام‌ العرب‌ و حوادث‌ التاريخ‌ والقصص‌ و الأمثال‌، و فيها ما فيها‌ من‌ إشارة‌ إلي‌ ثقافة‌ العصر عامة‌ و ثقافته‌ خاصة. و أشعاره‌ حافلة‌ بها حيث‌ تغنينا عن‌ ضرب‌ الأمثله‌ عليها.
و الميزة‌ البارزة‌ الأخري‌ في‌ شعر أبي‌*تمام‌ هي‌ نزعته‌ الجدلية‌ التي‌ تحققت‌ عن‌ طريق‌ التضاد و التناقض‌ حيث‌ تبوأ حصة‌ كبيرة‌ في‌ شعره‌، و قد سماه‌ علماء البديع‌ طباقاً إذا وقع‌ بين ‌لفظين‌، و مقابلة‌ إذا وقع‌ بين‌ جملتين‌، فقد جمع الشاعر كثيراً‌ في‌ شعره‌ بين‌ الأضداد و العناصرالمتغايره‌ و المتنافره‌، فمثلاً يقول‌ في‌ نفس‌ القصيدة‌ التي‌ سُقنا منها مثلاً فيما سبق[21] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn21)‌:
غادرت‌ فيها بهيم‌ الليل‌ و هو ضحي‌ يشله‌ وسطها صبح‌ من ‌ اللهب‌
حتي‌ كأن‌ جلابيب‌ الدجي ‌ رغبت‌ عن‌ لونها أو كأن‌ الشمس ‌ لم‌ تغب‌
ضوء من‌ النار و الظلماء عاكفة‌ و ظلمة من‌ دخان‌ في‌ ضحي‌ شحب‌
فالشمس‌ طالعة‌ من‌ ذا و قد أفلت‌ و الشمس‌ واجبة‌ من‌ ذا و لم‌ تجب‌
والقصيده‌ بأغلبها اتجه‌ فيها الشاعر نهج‌ هذه‌ الأبيات‌ من‌ الطباق‌ و المقابله،‌ و اعتمد فيها علي ‌اشتباك‌ المعاني‌ و تقابل‌ الصور و الأفكار مع‌ مراعاة‌ النسبة‌ الفنية‌ بينها كما التزم‌ النهج ‌نفسه‌ في‌ قصيدة‌ أخري‌ قائلاً[22] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn22):
و لكنني‌ لم‌ أحو و فراً مجمعاً ففزت‌ به ‌ إلا بشمل‌ مبدّد
و لم‌ تعطيني‌ الأيام نوما مسكناً ألذّ به‌ إلا بنوم‌ مشرد
و طول‌ مقام‌ المرء في‌ الحي‌ مخلق‌ لديباجتيه ‌ فاغترب‌ تتجدد
فإني‌ رأيت‌ الشمس ‌ زيدت‌ محبة‌ إلي‌ الناس‌ أن‌ ليست‌ عليهم‌ بسرمد‌
فالوفر المجمّع‌ و الشمل‌ المبدّد و النوم‌ المسكّن‌ و النوم‌ المشرّد، و الإقامة‌ و الاغتراب‌، والإخلاق‌ و التجدد، كل‌ منها مقابل‌ للآخر، مشتبك‌ بعضها ببعض‌، حتي‌ الشمس‌ من‌ أجل‌ زيادة ‌المحبة‌ لا بدّ لها أن‌ تظهر و تغيب‌، فيُلاحظ‌ أن‌ التضاد هنا أساس‌ التفكير عند الشاعر.
و في‌ الحقيقة‌ لم‌ يخل‌ الشعر العربي‌ في‌ يوم‌ من‌ الأيام‌ من‌ هذه‌ المقابلات‌ المتضادة‌ التي‌ هي ‌من‌ خصائص‌ الفكر، و لكن‌ الفرق‌ كبير بين‌ بروزها في‌ حركة طبيعية‌ عند الآخرين‌ و بين ‌الاعتماد التام‌ عليها عند أبي‌*تمام‌ من خلال‌ صوغ‌ التعابير و عرض‌ الأفكار بغية‌ الوصول‌ إلي‌الغرض‌ الفني‌ الذي‌ يكون‌ بصدده‌.
و لا غرو أن‌ يعتمد أبوتمام‌ علي‌ هذا النهج‌ الشعري‌ الفكري‌ القائم‌ علي‌ الصراع‌ و التضاد في ‌ذلك‌ العصر الذي‌ اشتد فيه‌ الشقاق‌ بين‌ طبقات‌ الشعب‌ علي‌ خلاف‌ ما كان‌ عليه‌ في ‌صدر الاسلام‌، فلقد تكونت‌ في‌ عصره‌ طبقات‌ اجتماعية بعضها متمولة‌ مترفة،‌ و بعضها فقيرة‌ منكوبة‌ كما تكونت‌ العنصرية‌ بين‌ العرب‌ و العجم حيث‌ كانت‌ تتنافس‌ علي‌ الحكم‌ خاصة الفرس‌ و هم‌ الذين‌ كانوا يشكلون‌ غالبية‌ الموظفين‌ في‌ الإدارات‌ والدواوين‌، و يُدخلون‌ في‌الدولة‌ عاداتهم‌ و أزياءهم‌ و تقاليدهم‌ الحكومية التي‌ ورثوها عن‌ أجدادهم‌، ثم‌ كان‌ الأتراك‌ من‌ بعدهم‌ في‌ زمن‌ المعتصم‌ قد تولوا مناصب‌ الجيش‌ و استبدوا بالأمور حتي‌ كان‌ الخليفة ‌ينصب‌ و يعزل‌ علي‌ أيديهم‌.
و لا عجب‌ من‌ أن‌ تنعكس‌ قضايا هذا العصر المعقدة و صوره‌ المتشابكة في‌ فن‌ شاعر كبير عاش‌ عصره‌ و شارك‌ حوادثه‌، فقد أدرك‌ رسالة‌ جديدة‌ للشعر في‌ ذلك‌ المجتمع‌ المعقد، وتَفَهّم‌ له‌ غاية سامية‌ نبيلة‌؛ فالشعر لم‌ يكن‌ عنده‌ مجرد فن‌ اكتملت‌ عناصره‌ و أُتقِنَت‌ أداته‌، وإنما هو وسيلة‌ للتحريض‌ علي‌ اكتساب‌ المعالي‌ و الحث‌ علي‌ تحقيق‌ القيم‌ الرفيعة و الدفاع‌ عن ‌الدولة‌ و التأليف‌ بين‌ أجزاءها و الإشادة بأبطالها الذين‌ يخدمونها، فإنه‌ سراج‌ يوضّح‌ سُبُل‌المكارم‌ علي‌ حد قوله[23] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn23)‌:
و لولا خلال‌ سنّها الشعر ما دري‌ بغاة ‌ العلاء من‌ أين‌ تؤتي‌ المكارم‌
فإنه‌ عندما يدخل‌ غمار المدح‌ أو الرثاء فإنما يصوّر الخصال‌ الحميدة و المآثر الكريمة‌ والصفات‌ الانسانية‌ المجيدة و المناقب‌ العالية‌ لتكون‌ كلها مثالاً أعلي‌ يُحتذي‌ به‌ و أسوة يُقتدي‌ بها و سبيلا يُسلك‌ فيه‌، كما كان‌ شاعراً ملتزما بالدين‌ مهتمّا بالقضايا الاجتماعية‌ متأثراً بالمشاعر العربية‌، فقلما ترك‌ موقعة‌ دخلها العرب‌، و هو دخل‌ معهم‌ بلسانه‌ فأبدع‌ فيها و وهبها صفة‌ الخلود، و من ‌أبرز نماذجها موقعة‌ عمورية‌ حيث‌ خلّدها بشعره‌، أو تأييده‌ للمعتصم‌ في‌ قتل‌ الأفشين‌ عندما ظهرت‌ خيانته‌، أو رثائه‌ لمحمد بن‌ حميد الطوسي‌ رثاء حاراً بعث‌ من‌ خلاله‌ هِمَم‌ القواد في‌ محاربة بابك‌ الخرمي‌ و... كل‌ هذه‌ جعلت‌ منه‌ شاعراً ملتزماً خدم‌ المجتمع‌ و الدولة‌ و حافظ ‌علي‌ الدين‌ و العروبة‌.
يمكن‌ القول‌ أن‌ هذا الشاعر العربي‌ كان‌ أكبر مجدد في‌ تاريخ‌ الشعر العربي‌ القديم‌، فقد جمع‌ ثقافة عصره‌ و تأثر بحوادثه‌ و ناضل‌ في‌ سبيل‌ المقاصد العربية‌ العالية‌ و رفع‌ رسالة‌ الشعر الفنية‌، متعمداً فيها إلي‌ سلوك‌ سبيل‌ جديد في‌ البيان‌ و الصنعة‌ و توليد الأفكار و المعاني‌ عجز عنها من‌ جاء بعده‌ من‌ أمثال‌ البحتري‌ و ابن‌ الرومي‌ و المتنبي‌ و المعري‌، فكلهم‌ كانوا متأثرين ‌إلي‌ حد بعيد بأبي‌*تمام‌.
و قد أتيح‌ له‌ أن‌ يوائم‌ بين‌ وظيفة‌ الشعر و محسناته‌، و بين‌ طريقة‌ صوغ‌ الشعر و فنونه‌ و الظروف‌ المحيطة‌ به‌، فهو لم‌ يقف‌ عند السطحية و الواقعية‌ بل‌ تجاوزها إلي‌ عملية خلق‌ شعر لا ينفصل‌ فيه‌ الشكل‌ عن‌ المضمون‌. فتجاربه‌ المركبة المتداخلة كانت‌ تحتاج‌ إلي‌ محسنات ‌مركبة‌ متداخلة‌ حتي‌ لا يكون‌ هناك‌ خلل‌ بين‌ الشكل‌ و المضمون‌، فقد استوعب‌ الحياة‌ من‌ حوله‌ و خلق‌ منها عالماً خاصا به‌ لم يكن يعرف‌ الهدوء و السكون‌، بل‌ كان‌ دوماً في‌ صراع‌ و جدل‌ تجلّيا بوضوح‌ في‌ شعره‌، فإنه‌ كان‌ شاعراً عصرياً عرف‌ كيف‌ يتناغم‌ مع‌ روح‌ عصره‌، و كيف‌ يقوده‌ من‌ البداوة إلي‌ المدنية‌، و كيف‌ يتصور الحياة‌ لنفسه‌ وطناً لا مراره‌ فيه ‌و لا صعوبه‌.
و مع‌ هذا فقد ظل‌ شعره‌ دائماً عرضة‌ للأحكام‌ الظالمة فهو كان‌ رائداً بشّر بطريقة‌ جديدة‌ في ‌الشعر، و من‌ الطبيعي‌ أن‌ تكون‌ للرائد كبوات‌ و سقطات‌ فأخذها عليه‌ خصومه‌ دون‌ أن ‌يُنصفوا له‌ في‌ قسم‌ كبير من‌ شعره‌ أجاد‌ فيه‌ خير إجادة‌ لم‌ يسبق‌ عليه‌ بعد.
http://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif

محب بلاده
2011-12-03, 12:47
بحوث كل الشعب للسنة 2 ثانوي (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=766082)

جزائرية اصيلة
2011-12-03, 18:41
سيساعدك هذا الموضوع اخي في البحث الثالث
ولكنه في العصر الحديث
http://www.4shared.com/document/Mzxd4XBp/_____________.html

massinissabay
2011-12-06, 16:54
لقد نزع الشعراء عامة في العصر العباسي للتزود بجميع ألوان المعرفة وما كانوا يجدون في ذلك من لذة عقلية .وقد مضوا يتمثلون كثيرا من هذه الألوان ويحيلونها غذاء شعريا بديعيّا،سواء منها الهندي والفارسي واليوناني،وما لم يحيلوه تأثروا به من قريب أو بعيد،ولنقف قليلا عند الثقافة الهندية في قول أبي نواس في بعض


.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }


المغنيين هاجيا:

وهذا الشعر دليل على نظرة أبي نواس في علم الطبائع،لأنّ الهند تزعم أن الشيئ إذا أفرط في البرد عاد حارا مؤذيا...وكان تأثير الثقافة الفارسية في الشعر والشعراء أشد وأقوى من تأثير الثقافة الهندية ،إذ كان كثير من الشعراء يتقنون اللغة الفهلوية،وقد مضى الشعراء منذ ظهور كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع يتأثرون بما نقله فيهما من تجارب الفرس وحكمهم ووصاياهم في الصداقة والمشورة وآداب السلوك والسياسة ومن يرجع إلى بشار يجده يفرد للمشورة قطعة طويلة في إحدى مدائحه:



.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }


ولا ريب في أنّ الثقافة اليونانية كان تأثيرها في الشعر والشعراء أعمق وأبعد غورا،بما فتحت أمامهم من أبواب الفكر الفلسفي وأبواب المنطق ومقاييسه.
وأدلته ، وما بعثت فيهم من محاولات استكشاف دفائن المعاني واستخراج دقائقها
يتبع................






شكرا جزيلاhttp://www.djelfa.info/vb/images/icons/m001.gif

massinissabay
2011-12-06, 16:59
وقد مضى كثير من الشعراء يزيدون محصولهم من تلك الثقافة،بل كان منهم من ألف في المنطق حتى يشحذ ذهنه وأذهان الشعراء من حوله .وكان مما ترجم لهم من تلك الثقافة مراثي فلاسفة اليونان للإسكندر المقدوني عند وفاته وقد نقل منها أبو العتاهية أطرافا إلى مراثيه:


.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }


ولعل أكبر بيئة عنيت بهذه الثقافة بيئة المعتزلة،إذ كانت تقوم من الفكر العباسي في هذا العصر مقام السكان والمجداف من السفينة، فهي تثيره وتدفعه إلى أن يزيد محصوله من جميع المعارف و المعتقدات ، وأن يتمثلها إلى أبعد حد ممكن، وبدأوا بأنفسهم فتثقفوا من كل ما ترجم عن الهنود والفرس واليونان وعكفوا على الفلسفة اليونانية عكوفا جعلهم يقفون على شِعبها ومناحيها في الفكر الدقيق ولم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقل الذي يموج بطرائق الذهن في جميع المعاني الحسية والعقية ، وكانوا يحاورون أصحاب الملل والنحل في المساجد الجامعة ومن حين إلى حين يحاور بعضهم بعضا في غوامض الفلسفة محللين مستنبطين.........واشتقوا لهم آراء جديدة يدعمها العقل الذي شغفوا به وبأدلته وبراهينه، وهو شغف صوّره بشر بن المعتمر:


.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; } يتبع.............
شكرا جزيلا http://www.djelfa.info/vb/images/icons/mh04.gif

massinissabay
2011-12-06, 17:02
وقد سخّر بشر عقله في نظم قصائد تدخل في التاريخ الطبيعي يتحدث فيها عن مشاهد الطبيعة ودلالتها على قدرة الخالق...كما نظم شعراء من المعتزلة شعرا لم يكن بعيدا عن دوائر الشعر المألوف من المديح والغزل والهجاءوالرثاء والوصف بَيدَ أنهم طبعوه بطوابع جديدة من دقة المعاني ومن غرائب الأخيلة والصور.ومن أهم المشاكل التي عالجها الشعراء مشكلة الجبر والإختيار وفكرة التولد (وهو الفعل الذي ينشأ عن فعل آخر دون قصد)،وفكرة الجزء الذي لا يتجزأ وفكرة الجوهر الفرد.
يقول أبو نواس متغزلا ومحاورا ومجادلا نظراءه المعتزلة:



.restore td { border: 0pt none; padding: 0px; }



هكذا كان رقي الحياة العقلية في العصر العباسي ،وأثر نزعتها على القصيدة في تلك الفترة ،وما استحضر من شواهد في هذه الفقرات لقليل جدا نظرا لغزارة مادتها ،وما هيأته الظروف المساعدة لكل ذلك في هذا العصر.
من كتاب العصر العباسي الاول (بتصرف)
شكرا http://www.djelfa.info/vb/images/icons/17.gif

massinissabay
2011-12-06, 17:22
إن‌ الحضارة‌ الإسلامية‌ التي‌ بُنيت‌ لبناتها الأساسية‌ منذ زمن‌ الرسول‌ (ص‌) لم‌ تلبث‌ أن‌ ازدهرت‌ بشكل‌ لافت‌ للنظر في‌ فترة‌ قصيرة‌ بعده‌ في‌ العصر العباسي‌، و ارتقت‌ بالمجتمع ‌العربي‌ الساذج‌ حيث‌ وصل‌ إلي‌ الرفاهية‌ المادية‌ و العقلانية‌ المعنوية‌، و ذلك‌ بفضل‌ الانفتاح ‌الحضاري‌ و القفزة‌ الثقافية‌ التي‌ رحّبت‌ بهما الأذواق‌ و العقول‌ آنذاك‌.
و إثر هذا المشروع‌ الثقافي‌ الذي‌ عُرض‌ بشكل‌ شامل‌ علي‌ المجتمع‌ أخذت‌ الأمة‌ بمنهج‌ جديد في‌ النظر الي‌ الكون‌ و ما فيه‌ من‌ الأشياء و الأحياء، فرقّت‌ الأذواق‌ و تعقّلت‌ المشاعر و التمعت ‌الأفكار؛ فقد كان‌ ما يترجم‌ ـ لأول‌ مرة‌ في‌ التاريخ‌ ـ يوزن‌ بالذهب‌، و قد كان‌ في‌ شروط‌ الصلح ‌مع‌ الروم‌ أن‌ يسلّموا إلي‌ العرب‌ بعض‌ ما عندهم‌ من‌ الكتب‌ في‌ مختلف‌ الموضوعات‌[1] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn1)، كما أن ‌هناك‌ ظمأ غير مشتف‌ عند كثير من‌ العلماء و المفكرين‌ نحو إصدار العديد من‌ النصوص‌، فإلي‌ جانب‌ هذه‌ الحركات‌ التي‌ أدت‌ إلي‌ صحوة‌ عامة‌ و يقظة شاملة فتأثر الناس‌ بها و تحركت‌ الحياة‌ من‌ خلالها، قام‌ الأدب‌ و أسهم‌ كثيراً في‌ تحضير الأمة‌ و ايقاظ‌ روحها الكامنة ‌مكوناً لها مُثُلاً عليا، منعطفاً بها من‌ النظرة‌ الجلالية‌ إلي‌ النظرة‌ الجمالية‌ كما أنه‌ أدي‌ دوراً بارزاً في‌ نقل‌ الأمة من‌ العالم‌ الصحراوي‌ المترامية الأطراف‌ إلي‌ العوالم‌ الأنيقة‌ الخاصة، و انتقل‌ بها من‌ فترة النتوير و التجديد إلي‌ الكشف‌ و الاختراع‌... و الذي‌ يجب‌ التنبه‌ إليه‌ أن‌ هذا التطور العقلي‌ و الترف‌ المادي‌ لم‌ يكونا بعيدين‌ عن‌ كل‌ الناس‌، بل‌ كان‌ ملكاً لأغلبيتهم‌ دون ‌الاقتصار علي‌ طبقة‌ أو فرقة‌ أو جنس‌ خاص‌.
و في‌ نفس‌ الوقت‌ أن‌ هذا العصر الذي‌ عاش‌ فيه‌ شاعرنا العبقري‌ أبوتمام،‌ كان‌ عصراً مشحوناً بالخطر و الفوضي‌ و روح‌ الإنقسام‌ كما كان‌ عصراً متعدد الرؤي‌ غاصّا بالحاجات‌ الروحية‌ والجسدية‌ المتزايدة‌، و لعل‌ الأهم‌ من‌ هذه‌ كلها كان‌ عصراً جريئاً متحولاً من‌ المحاكاة إلي ‌الابداع‌ و الاختراع‌، معتقداً أن‌ الفن‌ أروع من‌ الواقع‌، و أن‌ التعقيد أفضل‌ من‌ التبسيط‌، و أن ‌الزخرفة‌ ليست‌ مجرد تفطن‌ و طرافة‌[2] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn2)، بل‌ هي‌ نتيجة‌ لظروف‌ حضارية‌ دبّت‌ في‌ صميم‌ البنية ‌الفنية‌ للأدب‌ ساقته‌ إلي‌ الإثراء و التزود، و إلي‌ التجاوز من‌ الثبات‌ إلي‌ الحركة، و من‌ التجديدإلي‌ الجديد...
و كانت‌ البلاد العربية‌ آنذاك‌ محط‌ ازدهار الثقافة‌ الاسلامية‌ التي‌ التقت‌ في‌ تكوينها شعوب‌ متعددة‌، و قد فاضت‌ مظاهر هذه‌ الثقافة‌ علي‌ كل‌ جوانب‌ الحياة و سطعت‌ في‌ كل‌ النفوس‌ حيث‌ أصبح‌ الناس‌ أشبه ما يكونون‌ بزمانهم‌، و من‌ المعروف‌ أن‌ الفن‌ أو الأدب‌ و ليدة‌ عصره‌، فمن‌ الطبيعي‌ أن‌ يتأثر بما تأثرت‌ به‌ الحياة‌ الاجتماعية‌ من‌ التطور و الرقي‌، فامتزج‌ فيه‌ القديم ‌و الجديد، و إن‌ انتهي‌ ذلك‌ إلي‌ خلافات‌ عميقة‌ و تناحرات‌ واسعة‌، لكنها بدورها أفادت‌ حركة ‌النقد الأدبي‌ خير إفادة‌ و تقدمت‌ بها الي‌ الأمام‌ بخطوات‌ بعيدة‌.
و علي‌ كل‌ حال‌ فما نراه‌ الآن‌ من‌ ميزات‌ جمالية‌ و تعقيدات‌ لغوية‌ و زخارف‌ بديعية‌ كان ‌بلا شك‌ يتناسق‌ مع‌ الزمان‌ و المكان‌ و اللغه‌ و الذوق‌ و الخصائص‌ الاجتماعية و الحضارية‌، و بتعبير أدق‌ كان‌ ينسجم‌ مع‌ الروح‌ الحركي‌ الخصب‌ لهذه‌ المرحلة المسبقة‌ من‌ الحضارة الإسلامية‌، كما أن‌ ذلك‌ في‌ نفس‌ الوقت‌ كان‌ يعتبر مثالاً أعلي‌ للشكل‌ التعبيري‌ آنذاك‌. و هكذا بدأ التخطي‌ و التجاوز عن‌ المألوف‌ و السطحية للوصول‌ إلي‌ ماوراء الأشياء يتمثل‌ في‌ كل ‌مظاهر الحياة من‌ الواقع‌ و الفن‌.
و كما قلنا آنفاً أن‌ العصر لم‌ يكن‌ كله‌ يقوم‌ علي‌ التوافق‌ و التناغم‌، بل‌ إنه‌ إلي‌ جانب‌ ذلك‌، كان ‌يقوم‌ في‌ بعض‌ جوانبه‌ علي‌ التناقض‌ و التضاد حيث‌ يلتظي‌ و يرمي‌ بالشرر، و هذا أقرب ‌ما يكون‌ إلي‌ طبيعة‌ الشعر، فإنه‌ لا يتغذي‌ بالخير فإذا دخل‌ فيه‌ الخير ضعف‌ و لان‌ علي‌ نحو ما يقول‌ الأصمعي‌[3] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn3).
و لقد كان‌ أبوتمام‌ خير من‌ يمثل‌ في‌ شعره‌ مظاهر هذه‌ الحضارة‌، إذ شهد تلك‌ الفترة‌ التي ‌اطلع‌ فيها العرب‌ علي‌ كل‌ المنجزات‌ الحضارية‌ السابقة و المعاصرة لهم‌، و التي‌ أخذوا فيها مسلك‌ الإبداع‌ و الإختراع‌، كما شهد تلك‌ الصراعات‌ و الشقاقات‌ التي‌ أخذت‌ طريقها إلي‌ كل ‌شي‌ء: الصراع‌ العنصري‌ بين‌ العرب‌ و الموالي‌، الصراع‌ بين‌ المسلمين‌ و غير المسلمين‌، الصراع‌ المذهبي‌ بين‌ المسلمين‌ أنفسهم‌، الصراع‌ الأدبي‌ بين‌ أصحاب‌ القديم‌ و الجديد، الصراع‌ بين‌ أتباع‌ الفِرَق‌ و...[4] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn4)
والأهم‌ من‌ بين‌ هذه‌ الصراعات‌ في‌ هذه‌ الفترة‌ التي‌ عاصرها أبوتمام‌ هو الصراع‌ الذي‌ كان‌ يقوم‌ علي‌ أسس‌ عقلية‌، و أنه‌ كان‌ يتجدد و يتعمق‌ في‌ ظل‌ الشقاقات‌ و السياسات‌ و الاتجاهات‌ المختلفة و المتناقضة التي‌ تجعل‌ الانسان‌ يحس‌ أنه‌ في‌ شقاق و صراع مع الحياة لشدة‌ وعيه‌ و عمق ‌احساسه‌ بما يدور حوله‌، و من‌ هنا لم‌ يكن‌ له‌ بدّ إلا أن‌ يتسلح‌ - كما فعل‌ أبوتمام‌ ـ بالعديد من‌ أسلحة‌ المعرفة‌. و إذا استقصينا في‌ أنواع‌ المعارف‌ و العلوم‌ السائدة‌ في‌ هذه‌ الفترة نجد أنها مدهشة لافتة‌ للنظر؛ و المهم‌ أنه‌ في‌ هذا الجو المليي‌ء بالأفكار نما و ازدهر أبوتمام‌ وحيداً، فقد كان‌ عليه‌ أن‌ يصنع‌ إطاره‌ الثقافي‌ بنفسه‌ و يتعلم‌ كل‌ شي‌ء بشكله‌ الطبيعي‌ و يلمس‌ بحواسه‌ و عقله‌ كل‌ شي‌ء ليدرك‌ من‌ خلال‌ كل‌ هذه‌ سرَّ المجتمع‌ الذي‌ انتقل‌ من‌ البداوة‌ إالي‌ الحضارة و أن ‌يثبت‌ لنفسه‌ نظرية‌ في‌ الشعر معتقداً بأنه‌ في‌ جوهره‌ خبرة جمالية‌ و تنسيق‌ و صياغه‌.
و لقد ساعده‌ في‌ أخذ جوانب‌ بعيدة‌ من‌ كل‌ هذه‌ المعارف‌ تخفّفُه‌ في‌ البدء من‌ أسرته‌، فبدأ يتنقل‌ بين‌ أقاليم‌ مختلفة‌ من‌ دمشق‌ و مصر و أرمينيا‌ و خراسان‌ و بغداد و... و اصطبغ ‌وجوده‌ بطابع‌ الرحلة فإذا بنفسه‌ يقول‌ إن‌ وطنه‌ «ظهور العيس‌»[5] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn5)، و بالتالي‌ نقول‌ إن‌ أفكاره ‌كذلك‌ لم‌ تعرف‌ الركود بل‌ هي‌ أيضاً كصاحبه‌ كانت‌ علي‌ العيس‌ تتطور و تنمو في‌ كل‌ واحد من ‌أسفاره‌.
اتصل‌ أبوتمام‌ بكثير من‌ الخلفاء و الأمراء، فكان‌ عصره‌ عصر خلافة‌ الرشيد و الأمين‌ والمأمون‌ و المتصم‌ و الواثق‌، و قد تعامل‌ معهم‌ بالسلم‌ تارة‌، و بالحرب‌ تارة أخري‌. إذ كانت‌ له ‌بعض‌ المشاركات‌ في‌ الحروب‌ التي‌ شنتها هؤلاء‌ الخلفاء ضد أعداءهم‌: فهذا العصر و إن‌ بلغ‌ فيه ‌العلم‌ و الثقافة‌ و الفكر أوج‌َ الإتساع‌ و الرقي‌، لكنه‌ كان‌ الشعر فيه‌ مضرجاً بالدم‌؛ و في‌ ضوء هذا يمكن‌ التعرف‌ إلي‌ بعض‌ خصائص‌ الشعر عامة‌ و شعر أبي‌*تمام‌ خاصة‌ حيث‌ اقترن‌ فيه ‌الجمال‌ بالقبح‌ و اختلط‌ فيه‌ الخير بالشر، و قد ساعدت‌ علي‌ هذا حالات التشابك‌ التي‌ كانت‌ بين ‌ظواهر عديدة‌ من‌ ظواهر الحياة نتيجة‌ لوفرة‌ عنصرَي‌ الحرية‌ و العقل‌[6] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn6)؛ إذ كان‌ الإثنان‌ من‌ خلفا، هذا العصر قد أسهما لحد بعيد في‌ تمهيد الأرضية‌ لمثل‌ هذا الجو الحر الطلق‌، و المأمون‌ كان‌‌ من أحدهما، حيث‌ كان‌ يقوم‌ بعملية‌ تعقيل‌ الدولة‌، و ثانيهما المعتصم‌ الذي‌ كان ‌يشجع‌ الفنون‌ و يسمح‌ للتيارات‌ و الفِرَق‌ المختلفة‌ أن‌ تبشّر بأفكارها و مبادئها في‌ الأوسط ‌الاجتماعية‌ مما يزيد علي‌ الصراعات‌ و يحتدمها أكثر فأكثر.
و أما قضية‌ البديع‌ التي‌ دارت‌ من‌ حولها ضجة كبيرة‌ بين‌ أصحاب‌ القديم‌ و الجديد فكانت ‌تقوم علي‌ حقيقة‌ اجتماعية دبّت‌ في‌ صميم‌ البنية‌ الفنية‌ للشعر، حيث‌ أصبح‌ الشعر الي‌ حد كبير أشبه‌ بالعصر و اقترب‌ من‌ النزعة‌ التأملية‌ التي‌ ظهرت‌ إثر المنجزات‌ و المعطيات‌ العقلية ‌في‌ هذه‌ الفترة‌ مما أضفي‌ علي‌ الشعر طابع‌ التأني‌ و ابتعد به‌ عن‌ الارتجال‌ و الانسياب‌، و من ‌ثَمّ‌ و بفضل‌ إكثار الشعراء من‌ البديع‌ قد أخذوا إلي‌ حد كبير يسيطرون‌ علي‌ انفعالاتهم‌ بعد أن ‌كانت‌ انفعالاتهم‌ تسيطر عليهم‌، و لم‌ يعودوا يلوكون‌ الألفاظ‌ كما يُتوهم‌، بل‌ كانوا يكدحون‌ كدحاً شديداً في‌ اختيارها ليكون‌ لها أدق‌ و أحسن‌ دلالة‌ علي‌ ذلك‌ المعني‌ الذي‌ كانوا بصدده‌. و مهما يكن‌ من‌ شي‌ء فلقد كان‌ البديع‌ جزءاً لايتجزأ من‌ الحياة‌ الاجتماعية‌ في‌ هذه‌ الفترة‌، و لم ‌يكن‌ هناك‌ فرق‌ كبير بين‌ البديع‌ في‌ الشعر و بين‌ البديع‌ في‌ القصور و الملابس‌ و المآ كل‌ و الغناء و...، فبديع‌ هذا العصر لم‌ يكن‌ حلية‌ أو زخرفة‌ زائدة‌ علي‌ الأصل‌، بل‌ كان‌ في‌ صميم‌ الحياة[7] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn7)‌. و هكذا و إثر هذه‌ التحولات‌ الاجتماعية‌ قد طرأت‌ تغييرات‌ أساسية‌ علي‌ الشعر العربي‌ في ‌هذا العصر، و ميّزته عن‌ الشعر العربي‌ في‌ العصور السابقة‌، فالشعر العربي‌ في‌ العصرالجاهلي‌ كان‌ كفن‌ العمارة جليلاً هائلاً و يغلب‌ عليه‌ العنصر الحسي‌، و يقوم‌ علي‌ التجاور لا التناغم‌، و إن‌ هذا الشعر بعد ذلك‌ في العصر الإسلامي قد أخذ شكل‌ النحت‌ الذي‌ يبرز فيه‌ الجانب‌ الانساني‌ بحيث‌ يتناسب‌ فيه‌ الشكل‌ مع‌ المضمون‌ إلي‌ حد كبير، فإن‌ الشعر العربي‌ في‌ العصر العباسي‌ أخذ تدريجياً طابع‌ الرسم‌ حيث‌ انتقل‌ الشعر من‌ عوالمه‌ الثابتة‌ العفوية‌ السابقة‌ إلي‌ عوالم‌ أنيقة جديدة تبدو فيه‌ عناصر الجمال‌ و الزمان‌ و الحركة و الايقاع‌ و اللون‌، فأصبح‌ كل‌ ما كان ‌خشنا صحراوياً جامداً يمسّه‌ غطاء من‌ الحرير و بريق‌ من‌ اللؤلؤ و نفخة‌ من‌ الحيوية...
كل‌ هذه‌ الميزات‌ تجعل‌ العصر العباسي‌ درة‌ لامعة بين‌ عصور الأدب‌ العربي‌، فظهرت‌ فيه ‌طائفة‌ من‌ كبار الشعراء استوعبت‌ ثقافة‌ العصر و حضارته‌؛ و كان‌ الشعر العربي‌ حتي‌ هذه ‌الفترة‌ قد مرت‌ عليه‌ حوالي‌ ثلاثة‌ قرون‌ فاتسعت‌ دائرته‌ و تنوعت‌ أغراضه‌، و كأنما الشعرالعربي‌ في هذه‌ الفترة‌‌ بتأثر التحولات‌ الاجتماعيه‌ كان‌ ينتظر تطوراً جديداً أكثر مما حدث‌ فيه ‌في‌ العصور المتقدمة‌ من‌ ناحية التعبير و طريقة‌ الصوغ‌، و قد بدأت‌ ارهاصات‌ هذا التطور علي ‌لسان‌ بشار بن‌ برد و أبي‌ نواس‌ و مسلم‌ بن‌ وليد إلي‌ أن‌ بلغ‌ ذروته‌ علي‌ لسان فتي‌ ناشي‌، أسمر اللون‌ طويل‌ القامة‌ أجش‌ الصوت‌ ذي‌ تمتمة‌ يسيرة من‌ قرية‌ جاسم‌، ألا‌ و هو أبوتمام ‌الطائي[8] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn8)‌.
كانت‌ الحضارة الاسلامية‌ في‌ فترة‌ أبي‌*تمام‌ في‌ أوج‌ التقدم‌ و الرقي‌، و كان‌ عصره‌ عصر خلفاء كبار امتد سلطانهم‌ من‌ الشرق‌ إلي‌ الغرب‌، و قد شاع‌ فيه‌ الترف‌ و الرفاهية‌ كما ازدهرت‌ فيه‌ أنواع‌ العلوم‌ و الثقافة‌ مما أثّر إلي‌ حد بعيد في‌ الشعر و الأدب‌، و كان‌ شاعرنا العبقري‌ من ‌أكبر من‌ تأثر بهذه‌ التحولات‌، و بامكاننا أن‌ نلمس‌ بوضوح‌ مظاهرها في‌ شعره‌؛ فمن‌ ناحية ‌الترف‌ الاجتماعي‌ تأثر بأبهة‌ الحضارة‌ و تفنّن‌ ألوان‌ الحياة‌ التي‌ قضاها في‌ البلاط‌ متصلاً بالخلفاء و الأمراء نائلاً جوائزهم‌، فمن‌ الطبيعي‌ أن‌ يكون‌ شعره‌ محلّيً‌ بأنواع‌ الزينة‌ مزخرفا بأنواع‌ البديع‌ و الصناعة من مثل الجناس‌ فيقول[9] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn9)‌:
يَمدّون‌ مِن‌ أيدٍ عواصٍ‌ عواصم‌ تصول‌ بأسياف‌ قواض‌ قواضب‌
مجانساً بين‌ عواص‌ و عواصم،‌ و بين‌ قواض‌ و قواضب‌ جناساً مذيلاً، و الطباق‌، مثل‌ قوله[10] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn10)‌:
لا تَشجينَّ‌ لها فإن ‌ بكاءها ضحك و إنّ بكاءك استغرام‌
فطابق‌ بين‌ البكاء و الضحك.‌
اما العلم‌ و الثقافة‌ فقد ازدهر في‌ عصره‌، و كانت‌ البلاد العربية‌ إلي‌ أقصي‌ حدودها تعجّ ‌بالعلماء في‌ مختلف‌ مجالات‌ المعرفة‌ من‌ الفقه‌ و الحديث‌ و التفسير و اللغة و النحو و الأدب‌ و... و قد تلمذ أبوتمام‌ علي‌ بعض‌ منهم‌ في‌ دمشق‌ و مصر و بغداد، و أخذ منهم.‌ و لا غرو إذا ظهرت‌ في‌ شعره‌ ثمرات‌ تلك‌ المعارف‌ الواسعة‌ و‌ ملامح‌ تلك‌ الثقافة‌ الراقية‌، فأصبح‌ شعره‌ يشع‌ بها من‌ داخله‌ في‌ موضع‌ بعد موضع‌ مما يسهل‌ العثور عليه‌ عند المطالعه‌، و يمكننا أن‌ نذكر أمثلة‌ متعددة‌ لذلك‌ الغني‌ الفكري‌ و ألوان‌ المعرفة‌ و الثقافة‌ في‌ شعره‌، لكننا نتركه‌ إلي‌ مجال‌ آخر نتطرق‌ إليه‌ عند تناولنا تجليات‌ التناص‌ في‌ شعره‌. و نؤثر هنا أن‌ نبين‌ بعض‌ جوانب‌ الابتكار و عناصر الطرافة في‌ شعره الذي‌ أثار ضجة‌ كبيرة‌ في ساحة النقد الأدبي ‌و جعل‌ القوم‌ أن‌ يتخذوا موقفين‌ متباينين‌ إزاء شعره‌، فمنهم‌ أشاد بشعره‌ و جعل‌ الشاعر رأساً علي‌ المتقدمين‌ منه‌ و المتأخرين‌ من بعده‌، و منهم‌ عاب‌ شعره‌ و حط‌ من‌ شأنه‌، و لايهمنا هنا شي‌، من‌ هذا الصراع‌، إذ الولوج‌ إليه‌ يتطلب‌ منا صفحات‌ طويله‌.
من‌ المعروف‌ منذ القديم‌ أن‌ أباتمام‌ كان‌ رأس‌ مدرسة‌ شعرية‌ جديدة‌ تركت‌ آثاراً واسعة علي‌ الشعر العربي‌، و يقول‌ عنه‌ الصولي‌ الذي‌ جمع‌ أخباره[11] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn11): «رأس‌ في‌ الشعر مبتدي‌، لمذهب‌ سلكه ‌كل‌ محسن‌ بعده‌ فلم‌ يبلغه‌ فيه‌ حتي‌ قيل‌ مذهب‌ الطائي‌. و كل‌ حاذق‌ بعده‌ يُنسب‌ إليه‌ و يقتفي ‌أثره‌». و هذا ظل‌ و لايزال‌ متداولاً متعارفاً عليه‌ معترفاً به‌ عند القدامي‌ و المعاصرين‌. و المهم ‌أن‌ هذه‌ المدرسة‌ بما لها ميزات‌ و خصائص‌ افترقت‌ عن الشعر العربي‌ قبل‌ شاعرنا، بل‌ في ‌زمنه‌. إذن فما هي‌ مواطن‌ الافتراق‌ بين‌ المدرسة التمامية‌ و بين‌ الشعر العربي‌ عند الشعراء السابقين‌ عليه‌ و المعاصرين‌ له‌؟ خاصة‌ إذا قسنا هيكل‌ الفصيدة عنده‌ و عند‌ الآخرين‌، فما نري‌ كبير فرق‌ بينهما، فانه‌ كذلك‌ استهل‌ كثيراً من‌ قصائده‌ بذكر الأطلال‌ و وقف‌ عليها باكيا مستبكياً متذكراً الأيام‌ الخوالي‌ التي‌ كانت‌ له‌ في‌ هذه‌ الاماكن‌. و بهذا الصنيع‌ قد أعاد‌ اليها شاعرنا مقدمة‌ القصيدة‌ الطللية‌ التي‌ خرج‌ عليها أبونواس‌ داعياً فيه‌ إلي‌ معايشة‌ الشعراء حياتهم‌ الجديدة‌، و «أعطي‌ القصيدة العربية‌ شكلها النهائي‌ الذي‌ التزمته‌ الشعراء بعده‌، وسارت‌ عليه‌، فلم‌ تعد القصيدة‌ في‌ افتتاحها تتردد بين‌ الوقوف‌ علي‌ الأطلال‌ أو الوقوف‌ علي ‌غيرها»[12] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn12). و لعل‌ هذا الكلام‌ يبدو متناقضاً مع‌ ما عرفنا من‌ أبي‌*تمام‌ بأنه‌ كان‌ مجدداً في‌ الشعرالعربي‌، فكيف‌ يكون‌ ذلك‌، و قد انتكس‌ هو بالقصيدة‌ إلي‌ الوراء مبطلاً جهود سابقيهِ‌ من‌ الشعراء في‌ مجال‌ التجديد في‌ الشعر؟ فهذا الكلام‌ و إن‌ كان‌ فيه‌ بعض‌ الصحة‌، لكنه‌ ليس ‌بصحيح‌ علي‌ الاطلاق‌، إذ هو لم‌ يلتزم‌ في‌ كل‌ قصائده‌ طريقة‌ واحدة‌ في‌ افتتاحها، فإنه‌ و إن ‌وقف‌ في‌ قصائده‌ علي‌ الأطلال‌ كذلك‌ خرج‌ في‌ عدد غير قليل‌ منها علي‌ الأسلوب‌ المألوف‌ في‌ استهلال‌ القصيدة‌ بمقدمات‌ أخري‌ أو بالولوج‌ إلي‌ الموضوع‌ مباشره‌، و ذلك‌ علي‌ نحو ما نري ‌في‌ مدحه‌ للمعتصم‌ في‌ فتح‌ عموريه[13] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn13)‌، و حسن‌ بن‌ وهب[14] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn14)‌ و مقدمات‌ أخري‌ من‌ الطبيعه‌ صدّر بها القصيدة‌ مادحاً فيه‌ المعتصم‌ و غيره‌، ثم‌ إن‌ ما يجب‌ التنبه‌ إليه‌ أن‌ أبوتمام‌ في‌ مقدماته‌ الطللية ‌التقليدية قام‌ بكثير من‌ التحوير و التعديل‌، فقد حذف‌ منها بعض‌ عناصرها القديمة ‌مضيفاً إليها أشياء جديدة‌ تضفي‌ عليها بعض‌ طابع‌ الابتكار و الجدة[15] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn15)‌، فهو من‌ هذه‌ الناحية‌ يعتبر امتداداً لتيار التجديد الذي‌ أراده‌ أبونواس‌.
اما التجديد الحقيقي‌ عند أبي‌*تمام‌ فيكون‌ في‌ بنية‌ الشعر و تركيبه‌ أو عموده‌ علي‌ حسب‌ ما يقول‌ النقاد القدامي،‌ و هو من‌ هذه‌ الناحية‌ أكبر مجدد في‌ الشعر العربي‌ القديم‌، فقد تناول ‌الأغراض‌ القديمة‌ فوقف‌ حيناً علي‌ الطلول‌ و بكاها، و مدح‌ و رثي‌ و وصف‌ فاستعمل‌ كثيرا من ‌الالفاظ‌ العربية القديمة‌ و أغرب‌ فيها مما أوهم‌ البعض‌ في‌ أن‌ لا يدركوا حركة‌ التجديد العميقة‌ عند هذا الشاعر، و ينسبوا التجديد إلي‌ أبي‌*نواس‌ الذي‌ إنما طرح‌ بعض‌ الأفكار الجديده‌ الخارجة ‌عن‌ العرف‌، و لكنه‌ كان‌ اتباعيا‌ في‌ شعره‌ بخلاف‌ أبي‌*تمام‌ الذي‌ لم‌ يسلك‌ مسلكه‌. و الدليل ‌علي‌ ذلك‌ أن‌ النقاد القدامي‌ كانوا راضين‌ عن‌ أبي‌*نواس‌ إلا في‌ إفحاشه‌ في‌ القول‌ و خروجه‌ عن ‌العادات‌، فلم‌ يبتعد هو عن‌ عمود العشر العربي[16] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn16)‌ الذي‌ كان‌ النقاد يقدسونه‌ مشدين‌ بكل‌ من ‌يحافظ‌ عليه‌. أما أبوتمام‌ فكان‌ القدامي‌ مجمعين‌ علي‌ خروجه‌ عن‌ عمود الشعر العربي‌، هذا مع‌ اطلاعه ‌الواسع‌ علي‌ اللغة‌ و علي‌ أساليب‌ العرب‌ البيانية‌، يروي‌ أن‌ أعربياً سمع‌ قصيدته[17] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn17)‌:
طلل‌ الجميع‌ لقد عفوت‌ حميدا وكفي‌ علي‌ رزئي‌ بذاك‌ شهيدا
و سئل‌ كيف‌ تري‌ هذا الشعر فقال‌: «فيه‌ ما أستحسنه‌ و فيه‌ ما لا أعرفه‌ و لم‌ أسمع‌ بمثله‌، فإما أن‌ يكون‌ هذا الرجل‌ أشعر الناس‌ جميعاً، و إما أن‌ يكون‌ جميع‌ الناس‌ أشعر منه‌»[18] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn18). كما يروي ‌أيضاً أن‌ اللغوي‌ المشهور ابن‌ الأعرابي‌ لما سمع‌ شعره‌ قال‌: «إن‌ كان‌ هذا شعراً فكلام‌ العرب‌ باطل‌»[19] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn19). هذا مع‌ أخبار كثيرة‌ أخري‌ تشير إلي‌ تجديد أبي‌*تمام‌ و إلي‌ تعقيد شعره‌ كتعقيد تلك‌ الحضارة التي‌ امتد سلطانها من‌ الشرق‌ إلي‌ الغرب‌ و التقت‌ في‌ تكوينها شعوب‌ متعدده‌.
لعل‌ من‌ أهم‌ مظاهر التجديد في‌ شعر أبي‌*تمام‌ تجديده‌ في‌ تحميل‌ الألفاظ‌ أكثر من‌ دلالتها بالاعتماد علي‌ المجاز و الاستعاره‌، و إن‌ كان هذان‌ معروفين‌ عند العرب‌ فإن‌ شدة اعتماد أبي‌تمام‌ عليهما قد أخرجت‌ اللفظ‌ عن‌ دلالته‌ الدقيقة و معناه‌ المضبوط‌، و جعلته‌ يوحي‌ من ‌وراءهما بمعني‌ آخر لمجرد علاقة من‌ العلاقات‌ فأصبحت‌ الألفاظ‌ عنده‌ لا تؤدي‌ دلالتها بالضبط‌ بل‌ هي‌ تشير إلي‌ شي‌ء آخر يستنبط‌ من‌ الوراء. و مَثلُ‌ أبي‌تمام‌ في‌ هذا الاسلوب‌ مثل ‌مصور يرسم‌ الخطوط‌ الرئيسة و الأصلية‌ للموضوع‌ دون اهتمام كثير بجزئيات‌ الرسم‌ و الخط، ‌و إنما يكون‌‌ اهتمامه‌ منصباً علي‌ لطخات‌ الألوان‌ و تعادلها و تناسبها و ما تحمله‌ من‌ ايحاء و ايقاع‌، هكذا فعل‌ أبوتمام‌ بالنسبه‌ إلي‌ دلالات‌ الألفاظ‌ في‌ شعره‌، فانها لم‌ تعد تدل‌ علي ‌معانيها الموضوعة‌ بالضبط‌، بل‌ أصحبت‌ تدل‌ عليها عن‌ طريق‌ التناسب‌ و مراعاة‌ النظير أو التضاد و التناقض‌، و لعلنا إذا ضربنا مَثلاً اتضح‌ المقصود تماماً؛ يقول‌ أبوتمام‌ في‌ قصيدة ‌مشهورة‌ في‌ فتح‌ عمورية[20] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn20)‌:
السيف ‌ أصدق‌ إنباء من ‌ الكتب‌ في ‌ حده ‌ الحد بين‌ الجد و اللعب‌
بيض‌ الصفائح‌ لاسود الصحائف‌ في‌ متونهن‌ جلاء الشك‌ و الريب‌
والعلم ‌ في ‌ شهب ‌ الأرماح‌ لامعة بين‌ الخميسين‌ لا في‌ السبعة‌ الشهب‌
فنجد هنا أن‌ أسلوب‌ التعبير يختلف‌ عما عرفناه‌ عند الشعراء الجاهليين‌ و الاسلامين‌، فالألفاظ ‌تحمل‌ أكثر من‌ معانيها، و كل‌ لفظ‌ ليس‌ مستقلا عن‌ الآخر، بل‌ يكون‌ بينه‌ و بين‌ الآخر تناسب ‌و تجانس‌ و تضاد؛ فالسيف‌ هنا رمز للقوة‌ و الحرب‌، و الكتب‌ رمز للتنجيم‌؛ و بين‌ الحد الأول‌ و هو حد السيف‌ و الحد الثاني‌ و هو الفصل‌ بين‌ الشيين‌ مجانسة‌، و لفظ‌ الجد لفظ مضاد للفظ‌ العب‌.
و البيت‌ الثاني‌ توكيد للبيب‌ الأول،‌ جاء في‌ ألفاظه‌ الطباق‌ بين‌ البيض‌ و السود، و الجناس‌ بين ‌الصفائح‌ و الصحائف‌، و البيت‌ الثالث‌ توكيد ثانٍ‌ للفكرة و هي‌ أن‌ العلم‌ الصحيح‌ في‌ الحرب‌ لا في‌ الاستدلال‌ بالنجوم‌ حيث‌ يشوبه‌ الحدس‌ و الظن‌، و قد اختار الشاعر لفظ‌ الشهب‌ للدلالة ‌علي‌ الرماح‌ و النجوم‌ من‌ أجل‌ الزخرفة‌ و التزويق‌ و المجانسة. و هكذا نري‌ أن‌ ألفاظ‌ هذه ‌الأبيات‌ مختارة‌ اختياراً خاصاً يخرجها من‌ دلالتها الدقيقة‌ ليوحي‌ إلي‌ ما بينها من‌ تناسب‌ وتجانس‌ و تضاد مما يضفي‌ عليها ايحاء و ظلالاً قويين‌.
و من‌ مظاهر أخري‌ لتحميل‌ اللفظ‌ أكثرمن‌ معناه‌ اعتماد الشاعر الكثير علي‌ التلميح‌ و الإشارة‌ إلي‌ أيام‌ العرب‌ و حوادث‌ التاريخ‌ والقصص‌ و الأمثال‌، و فيها ما فيها‌ من‌ إشارة‌ إلي‌ ثقافة‌ العصر عامة‌ و ثقافته‌ خاصة. و أشعاره‌ حافلة‌ بها حيث‌ تغنينا عن‌ ضرب‌ الأمثله‌ عليها.
و الميزة‌ البارزة‌ الأخري‌ في‌ شعر أبي‌*تمام‌ هي‌ نزعته‌ الجدلية‌ التي‌ تحققت‌ عن‌ طريق‌ التضاد و التناقض‌ حيث‌ تبوأ حصة‌ كبيرة‌ في‌ شعره‌، و قد سماه‌ علماء البديع‌ طباقاً إذا وقع‌ بين ‌لفظين‌، و مقابلة‌ إذا وقع‌ بين‌ جملتين‌، فقد جمع الشاعر كثيراً‌ في‌ شعره‌ بين‌ الأضداد و العناصرالمتغايره‌ و المتنافره‌، فمثلاً يقول‌ في‌ نفس‌ القصيدة‌ التي‌ سُقنا منها مثلاً فيما سبق[21] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn21)‌:
غادرت‌ فيها بهيم‌ الليل‌ و هو ضحي‌ يشله‌ وسطها صبح‌ من ‌ اللهب‌
حتي‌ كأن‌ جلابيب‌ الدجي ‌ رغبت‌ عن‌ لونها أو كأن‌ الشمس ‌ لم‌ تغب‌
ضوء من‌ النار و الظلماء عاكفة‌ و ظلمة من‌ دخان‌ في‌ ضحي‌ شحب‌
فالشمس‌ طالعة‌ من‌ ذا و قد أفلت‌ و الشمس‌ واجبة‌ من‌ ذا و لم‌ تجب‌
والقصيده‌ بأغلبها اتجه‌ فيها الشاعر نهج‌ هذه‌ الأبيات‌ من‌ الطباق‌ و المقابله،‌ و اعتمد فيها علي ‌اشتباك‌ المعاني‌ و تقابل‌ الصور و الأفكار مع‌ مراعاة‌ النسبة‌ الفنية‌ بينها كما التزم‌ النهج ‌نفسه‌ في‌ قصيدة‌ أخري‌ قائلاً[22] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn22):
و لكنني‌ لم‌ أحو و فراً مجمعاً ففزت‌ به ‌ إلا بشمل‌ مبدّد
و لم‌ تعطيني‌ الأيام نوما مسكناً ألذّ به‌ إلا بنوم‌ مشرد
و طول‌ مقام‌ المرء في‌ الحي‌ مخلق‌لديباجتيه ‌ فاغترب‌ تتجدد
فإني‌ رأيت‌ الشمس ‌ زيدت‌ محبة‌ إلي‌ الناس‌ أن‌ ليست‌ عليهم‌ بسرمد‌
فالوفر المجمّع‌ و الشمل‌ المبدّد و النوم‌ المسكّن‌ و النوم‌ المشرّد، و الإقامة‌ و الاغتراب‌، والإخلاق‌ و التجدد، كل‌ منها مقابل‌ للآخر، مشتبك‌ بعضها ببعض‌، حتي‌ الشمس‌ من‌ أجل‌ زيادة ‌المحبة‌ لا بدّ لها أن‌ تظهر و تغيب‌، فيُلاحظ‌ أن‌ التضاد هنا أساس‌ التفكير عند الشاعر.
و في‌ الحقيقة‌ لم‌ يخل‌ الشعر العربي‌ في‌ يوم‌ من‌ الأيام‌ من‌ هذه‌ المقابلات‌ المتضادة‌ التي‌ هي ‌من‌ خصائص‌ الفكر، و لكن‌ الفرق‌ كبير بين‌ بروزها في‌ حركة طبيعية‌ عند الآخرين‌ و بين ‌الاعتماد التام‌ عليها عند أبي‌*تمام‌ من خلال‌ صوغ‌ التعابير و عرض‌ الأفكار بغية‌ الوصول‌ إلي‌الغرض‌ الفني‌ الذي‌ يكون‌ بصدده‌.
و لا غرو أن‌ يعتمد أبوتمام‌ علي‌ هذا النهج‌ الشعري‌ الفكري‌ القائم‌ علي‌ الصراع‌ و التضاد في ‌ذلك‌ العصر الذي‌ اشتد فيه‌ الشقاق‌ بين‌ طبقات‌ الشعب‌ علي‌ خلاف‌ ما كان‌ عليه‌ في ‌صدر الاسلام‌، فلقد تكونت‌ في‌ عصره‌ طبقات‌ اجتماعية بعضها متمولة‌ مترفة،‌ و بعضها فقيرة‌ منكوبة‌ كما تكونت‌ العنصرية‌ بين‌ العرب‌ و العجم حيث‌ كانت‌ تتنافس‌ علي‌ الحكم‌ خاصة الفرس‌ و هم‌ الذين‌ كانوا يشكلون‌ غالبية‌ الموظفين‌ في‌ الإدارات‌ والدواوين‌، و يُدخلون‌ في‌الدولة‌ عاداتهم‌ و أزياءهم‌ و تقاليدهم‌ الحكومية التي‌ ورثوها عن‌ أجدادهم‌، ثم‌ كان‌ الأتراك‌ من‌ بعدهم‌ في‌ زمن‌ المعتصم‌ قد تولوا مناصب‌ الجيش‌ و استبدوا بالأمور حتي‌ كان‌ الخليفة ‌ينصب‌ و يعزل‌ علي‌ أيديهم‌.
و لا عجب‌ من‌ أن‌ تنعكس‌ قضايا هذا العصر المعقدة و صوره‌ المتشابكة في‌ فن‌ شاعر كبير عاش‌ عصره‌ و شارك‌ حوادثه‌، فقد أدرك‌ رسالة‌ جديدة‌ للشعر في‌ ذلك‌ المجتمع‌ المعقد، وتَفَهّم‌ له‌ غاية سامية‌ نبيلة‌؛ فالشعر لم‌ يكن‌ عنده‌ مجرد فن‌ اكتملت‌ عناصره‌ و أُتقِنَت‌ أداته‌، وإنما هو وسيلة‌ للتحريض‌ علي‌ اكتساب‌ المعالي‌ و الحث‌ علي‌ تحقيق‌ القيم‌ الرفيعة و الدفاع‌ عن ‌الدولة‌ و التأليف‌ بين‌ أجزاءها و الإشادة بأبطالها الذين‌ يخدمونها، فإنه‌ سراج‌ يوضّح‌ سُبُل‌المكارم‌ علي‌ حد قوله[23] (http://www.odabasham.net/show.php?sid=13644#_edn23)‌:
و لولا خلال‌ سنّها الشعر ما دري‌ بغاة ‌ العلاء من‌ أين‌ تؤتي‌ المكارم‌
فإنه‌ عندما يدخل‌ غمار المدح‌ أو الرثاء فإنما يصوّر الخصال‌ الحميدة و المآثر الكريمة‌ والصفات‌ الانسانية‌ المجيدة و المناقب‌ العالية‌ لتكون‌ كلها مثالاً أعلي‌ يُحتذي‌ به‌ و أسوة يُقتدي‌ بها و سبيلا يُسلك‌ فيه‌، كما كان‌ شاعراً ملتزما بالدين‌ مهتمّا بالقضايا الاجتماعية‌ متأثراً بالمشاعر العربية‌، فقلما ترك‌ موقعة‌ دخلها العرب‌، و هو دخل‌ معهم‌ بلسانه‌ فأبدع‌ فيها و وهبها صفة‌ الخلود، و من ‌أبرز نماذجها موقعة‌ عمورية‌ حيث‌ خلّدها بشعره‌، أو تأييده‌ للمعتصم‌ في‌ قتل‌ الأفشين‌ عندما ظهرت‌ خيانته‌، أو رثائه‌ لمحمد بن‌ حميد الطوسي‌ رثاء حاراً بعث‌ من‌ خلاله‌ هِمَم‌ القواد في‌ محاربة بابك‌ الخرمي‌ و... كل‌ هذه‌ جعلت‌ منه‌ شاعراً ملتزماً خدم‌ المجتمع‌ و الدولة‌ و حافظ ‌علي‌ الدين‌ و العروبة‌.
يمكن‌ القول‌ أن‌ هذا الشاعر العربي‌ كان‌ أكبر مجدد في‌ تاريخ‌ الشعر العربي‌ القديم‌، فقد جمع‌ ثقافة عصره‌ و تأثر بحوادثه‌ و ناضل‌ في‌ سبيل‌ المقاصد العربية‌ العالية‌ و رفع‌ رسالة‌ الشعر الفنية‌، متعمداً فيها إلي‌ سلوك‌ سبيل‌ جديد في‌ البيان‌ و الصنعة‌ و توليد الأفكار و المعاني‌ عجز عنها من‌ جاء بعده‌ من‌ أمثال‌ البحتري‌ و ابن‌ الرومي‌ و المتنبي‌ و المعري‌، فكلهم‌ كانوا متأثرين ‌إلي‌ حد بعيد بأبي‌*تمام‌.
و قد أتيح‌ له‌ أن‌ يوائم‌ بين‌ وظيفة‌ الشعر و محسناته‌، و بين‌ طريقة‌ صوغ‌ الشعر و فنونه‌ و الظروف‌ المحيطة‌ به‌، فهو لم‌ يقف‌ عند السطحية و الواقعية‌ بل‌ تجاوزها إلي‌ عملية خلق‌ شعر لا ينفصل‌ فيه‌ الشكل‌ عن‌ المضمون‌. فتجاربه‌ المركبة المتداخلة كانت‌ تحتاج‌ إلي‌ محسنات ‌مركبة‌ متداخلة‌ حتي‌ لا يكون‌ هناك‌ خلل‌ بين‌ الشكل‌ و المضمون‌، فقد استوعب‌ الحياة‌ من‌ حوله‌ و خلق‌ منها عالماً خاصا به‌ لم يكن يعرف‌ الهدوء و السكون‌، بل‌ كان‌ دوماً في‌ صراع‌ و جدل‌ تجلّيا بوضوح‌ في‌ شعره‌، فإنه‌ كان‌ شاعراً عصرياً عرف‌ كيف‌ يتناغم‌ مع‌ روح‌ عصره‌، و كيف‌ يقوده‌ من‌ البداوة إلي‌ المدنية‌، و كيف‌ يتصور الحياة‌ لنفسه‌ وطناً لا مراره‌ فيه ‌و لا صعوبه‌.
و مع‌ هذا فقد ظل‌ شعره‌ دائماً عرضة‌ للأحكام‌ الظالمة فهو كان‌ رائداً بشّر بطريقة‌ جديدة‌ في ‌الشعر، و من‌ الطبيعي‌ أن‌ تكون‌ للرائد كبوات‌ و سقطات‌ فأخذها عليه‌ خصومه‌ دون‌ أن ‌يُنصفوا له‌ في‌ قسم‌ كبير من‌ شعره‌ أجاد‌ فيه‌ خير إجادة‌ لم‌ يسبق‌ عليه‌ بعد.
http://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif

شكراhttp://www.djelfa.info/vb/images/icons/m001.gif

massinissabay
2011-12-06, 17:27
بحوث كل الشعب للسنة 2 ثانوي (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=766082)



شكرا
http://www.djelfa.info/vb/images/icons/m001.gif

massinissabay
2011-12-06, 17:29
سيساعدك هذا الموضوع اخي في البحث الثالث
ولكنه في العصر الحديث
http://www.4shared.com/document/Mzxd4XBp/_____________.html
شكرا شكرا:mh92:

بومرداية
2011-12-06, 17:36
مظاهر الحياة العقلية في العصر الجاهلي
المقـدمة :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإنّ الارتباط الوثيق ، والاتصال العميق بالتراث الأدبي في عصور ازدهاره ، وإدامة الاطلاع والتنقيب في كنوز ذلك التراث وجواهره من أعظم الأمور التي تسهم بشكل كبير في بناء قاعدة متينة يقف عليها طالب الأدب والمتخصص فيه ، وتؤثر تأثيراً بالغاً في تكوين شخصيته العلمية ؛ ذلك أنها تمده بالمعرفة الأصيلة ، وتأخذ بيده إلى حيث المنابع الأولى ، التي تدفقت منها جداول الأدب زاخرة قوية .
ومن صور هذا الاتصال الجميل بالتراث البحث في أشعار القبائل العربية جمعاً وتحقيقاً ؛ ذلك أنه يتيح للباحث الاطلاع على معظم مصادر الأدب العربي ، والتعرف إليها عن كثب ، بل يتعدى ذلك إلى كتب التاريـخ والسير والتراجم والأنساب ، ومعاجم البلدان وغيرها ، وبالتالي يمكن الباحث من الإلمام بقدر لا بأس به من أخبار العرب ، ووقائعها ، وأنسابها ، وأيامها ، ومنازل القبائل ، وما إلى ذلك ، كما تقتضي طبيعة هذا اللون من البحوث أن يكون الباحث على اتصال مستمر بمعاجم اللغة لشرح مفردات هذا الشعر ، وتفسير غامضه ، وبالتالي تزداد ثروته اللغوية ويشدو شيئاً من غريب اللغة ، إضافة إلى أن مداومة الاطلاع والقراءة في النماذج الأصيلة الجيدة من الشعر العربي مما يرتقي بأسلوب الباحث ويزيده فصاحة وقدرة على التعبير ، ويجنبه الركاكة والضعف والهجنة ، كما أن في جمع أشعار القبائل ودراستها تنويهاً ببعض الشعراء الذين لم ينالوا حظهم من الشهرة ، مع أن لهم أشعاراً كثيرة على جانب من الجودة والإتقان ، وتنويها ببعض القصائد والمقطعات المتميزة لبعض الشعراء المقلّين ، ثم إن وضع هذا الشعر مجموعاً بين دفتي كتاب يعد إنجازاً يخدم الباحثين في تاريخ هذه القبائل والمهتمين بأعلامها وأدبها .
وقد وقع اختياري على شعر بني عمرو بن تميم من الجاهلية وحتى منتصف القرن الثاني الهجري ؛ لأني رأيت هذا الشعر جديراً بالجمع والدراسة ؛ ذلك أن معظم شعراء هذه القبيلة مقلّون أو مغمورون ، ولبعضهم أشعار تستحق الإشادة والتنويه بها ، ولا أزعم أن هذه القبيلة تتميز عن غيرها من قبائل العرب بكثرة الشعراء السابقين المبرزين ، ولكني وجدت في هذا الشعر سمات وخصائص مشتركة مما يجعله جديراً بالدراسة لمعرفة هذه الخصائص والسمات ، ثم إن أهمية هذا الشعر تنبع من الأهمية ذاتها التي يتميز بها شعر القبائل والتي تحدثنا عنها آنفاًَ وقد جعلت المدة الزمنية لهذا البحث من العصر الجاهلي حتى منتصف القرن الثاني الهجري ، بالرغم من أن الدكتور عبدالحميد المعيني قد جمع أشعار بني تميم في العصر الجاهلي ، إلا أنني عثرت على أشعار لبني عمرو ببطونهم المختلفة لم يجمعها الدكتور المعيني فيما جمع من شعر بني تميم ضمن بحثه المشار إليه ، ثم إن الدكتور المعيني لم يدرس هذا الشعر ، وإنما جمعه فقط ، وبالتالي فجميع هذا الشعر مجال للدراسة والتعرف على خصائصه .
نبذة مختصرة عن العصر الجاهلي :
في العصر الجاهلي
أمرؤ القيس :
هو حندج بن حجر (497-545) ميلادي من أشهر شعراء العرب . كان أبوه ملك أسد وغطفان، وأمه أخت المهلهل الزير الشاعر البطل المشهور. أشتهر بلقبه"امرؤ القيس" وبـ "الملك الضليل" لاضطراب أمره طول حياته، وبــ"ذي القروح" لما أصابه في مرض موته. كان محبا للهو واللعب ، مولعا بمغازلة النساء ومفاكهتهن . ومن جميل شعره في الغزل نقتطف الابيات التالية :
عنتر بن شداد: ؛؛؛
أحد أبطال العرب وشعرائهم المشهورين (نحو 600) م كانت أمه أمة حبشية ، فسرى إليه السواد منها . كان أحسن العرب شيمة وأعزهم نفسا . يوصف بالحلم على شدة بطشه . أحب عبلى ابنة عمه ، ولاقى في سبيلها ضروبا من المرارة والعذاب ، بسبب لونه ، وعدم تمتعه بحريته في بداية حياته ، والأسباب عائلية اجتماعية . قال في حبها قصائد غزلية خالدة.
المنحل اليشكري :
هو المنحل بن مسعود بن عامر (نحو 603 )م أشهر شعره رائيتتها . قالها في "هند" بنت عمرو بن هند ، فلما عرف أبوها بأمره قتله . وضرب العرب به المثل في الغائب الذي لا يرجى إيابه ، يقولون :" لا أفعله حتى يؤوب المنحل "
مظاهر الحياة العقلية في العصر الجاهلي :
ثم تحدث عن مظهر عن آخر من مظاهر العربية، لاحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه، هو: إن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العلم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، و جاس بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي.
وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها،
و إذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب - حتى في العصور الإسلامية - من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعاً في أثناء سيرها إلى الكمال،
نشاً من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم، لكان لها مثل عقليتهم،
و أكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحارى، كان لهم شبه كبير بسكان الصحارى في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق".
أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وانهار وصحراء وغير ذلك،
والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية.
وحصر أحمد أمين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه.
والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة، جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين.
وقد كونها ورسمها من دراساته لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري" "وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية،
ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية،
وهي مثلها أيضا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فأنني لا أستطيع أن أقول أكر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية الساميّة، من وجوب التريث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام.
وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس إنها حاصل شيئين وخلاصة عاملين، أثرا مجتمعين في العرب وكوّنا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة.
والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعياً من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك،
وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وهما معاً مجتمعين غير منفصلين، أثّرا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها.
وخطاً من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "Heagel"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات،
لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابليتهم ولا ثقافتهم.
وردّ "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحاً لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه،
و ينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول".
وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، آلا كَلأً مبعثراً هنا وهناك،
وأنواعاً من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجوّ الجاف، فهزلت حيواناتهم، وتحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل،
فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجار ضيقة معوجة عن طرق مختلفة".
وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجهاً لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزروعات واسعة ولا أشجار باسقة،
تطلع الشمس فلا ظل لها، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبر لبّه، وتتألق النجوم في السماء فتمتلك عليه نفسه، وتعطف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه.
أمام هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، والى بارئ مصور والى حفيظ مغيث- إلى الله-. ولعل هذا هو السر في الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهودية والنصرانية والإسلام نبعث من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب.

والبيئة الطبيعية أيضاً، هي التي أثرت-على رأيه-في طبع العربي فجعلته كثيباُ صارماً يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ، إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانينه تقاليد القبيلة وعرف الناس، وهي التي جعلته كريماً على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته.
كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعاً خاصاً ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.
وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية،
أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعية في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات، فلم يتحدث عنه ولم يشر إلى فعله،
ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي: "ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل،
بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه انه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية - على حد قوله - إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثر عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين.

وأعتقد إن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية، لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدٌل حتماً في حدود تعريفه للعقلية العربية،
ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما بحب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز
اللغة العربية في العصر الجاهلي:
لا يختلف إثنان في أنّ اللغة العربية كانت معروفة في العصر الجاهلي , وأنّ لغتنا الجميلة كانت تشغل بال كثير من المفكرين والشعراء والخطباء , يلتمسون ودّها , وينظمون دررها , ويغترفون من نبع معانيها الثرّ أجمل القصائد , وأعذب الألحان . ومن يراجع معجم مفرداتها في ذلك العصر , يجدهُ من أغنى المعاجم من حيث وفرة الكلمات وكثرة التشابيه , وتعدد الاسماء للمسمى الواحد .
ومن حسن الحظ أن يحفظ لنا التاريخ شيئاً غير يسير من آداب تلك الفترة وأشعارها , لعل أهمها تلك القصائد الطويلة التي تسمى بالمعلقات , وقد ذهب بعض الرواة إلى أنها قصائد كُتبت في القباطيّ بماء الذهب وعُلّقت على أستار الكعبة . إضافةً إلى العديد من أشعارهم وخطبهم , وأمثالهم , وأخبار حروبهم ووقائعهم التي تحفظها لنا أُمهات الكتب من كتب الأدب القديمة .
وبرغم وفرة ما وصل الينا من أدب الجاهليين وشعرهم , إلا أن الضياع قد أتى على الكثير من آدابهم وأخبارهم , وخاصةً القديمة منها , ويقول أبو عمرو بن العلاء : " ما انتهى اليكم مما قالته العرب إلا أقلّه , ولو جاءكم وافراً , لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير " .
ويقدّر الباحثون عمر الأدب المدوّن الذي وصل الينا من الجاهليين بقرنين من الزمان قبل الإسلام . ولعلّ من الدليل على شيوع الكتابة في العصر الجاهلي , إننا نجد شعراءهم يصفون الأطلال كثيراً بنقوش الكتابة , فها هو المرقَّش في فاتحة قصيدةٍ له يقول :
الدار قفر والرسوم كما رَقَّشَ في ظَهرِ الأديمِ قَلَم
ويقول لبيد في مطلع معلقته :
عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبَّدَ غولُها فرجامُهـــا
فمدافع الريان عري رسمها خلقاً كما ضَمِنَ الوُحيَّ سِلامُها
والوحي : ( الكتابة , والسِّلام : الحجارة البيض التي كانوا يكتبون عليها وكانوا يكتبون أيضاً في الأدم , أو الأديم الذي مرّ في بيت المرقّش , وهو الجلد المدبوغ يُكتب عليه , كما كانوا يكتبون في عسب النخل , ويستمر لبيد في معلقته فيقول:
وجلا السيولُ عن الطلولِ كأنها زُبُرٌ تجدُّ مُتونَها أقلامُها
والزبر جمع زبور وهو الكتاب .
ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي :
لإبنةِ حِطَّان بن عوفٍ منازلُ كما رَقَّشَ العنوان في الرَّقِّ كاتبُ
والرَّقّ : الجلد الرقيق يُكتب عليه .
ويقول سلامة بن جندل وهو فارس جاهليّ معروف :
لمن طللٌ مثل الكتابِ المنمّقِ خلا عهدُهُ بين الصُّلَيبِ فمُطرِقِ
والصليب ومطرق : إسمان لمكانين .
كذلك نجدهم يذكرون الصحف والصحائف والكتب التي تعني الرسائل , كما ورد في قصة مقتل طرفة بن العبد :
رُوي أنَّ طَرَفَة بن العبد الذي كان يمدح الملك عمرو بن هند , أحد ملوك المناذرة ( الذين تأسست دولتهم حول عام 240 م وإستمر حكمها حتى سنة 633م حين فتح عاصمتهم الحيرة خالد بن الوليد ) قد انقلب على الملك وهجاه , فصمّم عمرو بن هند على التخلّص من طرفة ومن خاله الشاعر المتلمّس , وما كان منه إلا أن حمّل كلا منهما كتاباً إلى عامله على البحرين , وفي كل كتاب أمر بقتل حامله , بينما الشاعران يظنّان أن فيهما أمراً بجائزة لهما , وفيما هما في الطريق ساور الشك صدر المتلمّس فارتاب في أمر كتابه , ففك ختمه , وجاء إلى غلام من أهل الحيرة فقال له : أتقرأ يا غلام ؟
فقال : نعم , فاعطاه الصحيفة فقرأها فقال الغلام : أنت المتلمّس ؟ قال : نعم , قال : النجاة ! فقد أمر بقتلك , فأخذ الصحيفة وقذفها في جدول إسمه كافر ثم أنشأ يقول :
والقيتُها بالثني من جنبِ كافرٍ كذلك ألقي كلَّ رأيٍ مضلّــل
رضيتُ لها بالماءِ لما رأيتُهــا يجولُ بها التيّارُ في كلِّ جـدولِ
وهرب المتلمّس الى الشام وعند وصوله أنشأ يقول :
من مبلغُ الشعراءِ عن أخويهـمُ نبأً فَتَصْدُقُهم بذاكَ الأنفُــسُ
أودى الذي عَلِقَ الصحيفةَ منهما ونجا حذار حياتِهِ المُتَلَمِّـــسُ
أما طرفة الذي لم يشكّ في أمر صحيفته , فقد مضى إلى حتفه .
وقد ردّد الشعراء مثل هذه الصور كثيراً في اشعارهم ، وما من ريب في إنّ ذلك يؤكد أنّ الكتابة كانت معروفةً في العصر الجاهلي , كذلك كانوا يكتبون عهودهم السياسية , وكانوا يسمون تلك العهود المكتوبة " مهارق " وقد جاء ذكر هذه المهارق في معلقة الحارث بن حلّزة مشيراً بها إلى ما كُتب من عهود بين بكر وتغلب إذ يقول :
واذكروا حِلْفَ ذي المجازِ وما قُدّمَ فيه العهودُ والكُفـــلاءُ
حذر الجورِ والتعدّي وهــل ينقضُ ما في المهارق الأهــواءُ
فالعرب اذن , استخدموا الكتابة في العصر الجاهلي لأغراض سياسية وتجارية , إضافة الى الأغراض الأخرى المذكورة , وكانوا يجلبون الورق من الصين , وورق البرديّ من مصر . وبهذا نكون قد ألقينا بصيصاً من نور على هذه الفترة والتي تمتد حتى بداية القرن الثالث الميلادي , ووجدنا أنّ اللغة العربية كانت تتمتع بقدر كبير من العناية والاهتمام , تكلماً , وقراءة , وكتابة , أما عن أحوالها في فترة منسية من التاريخ لم تلقَ عليهاإلا أضواء خافتة ضئيلة ، فهذا ما سنتناوله في مقال قادم إن شاء الله ....


الشعر الجاهلي :
لما اقترب "بشامة بن عمرة" منالموت وهو شاعر جاهلي مجيد وزَّع ماله على أبنائه، فجاءه ابن أخته فحل الشعراء (زهير بن أبي سلمى) وقال: لو قَسَمْت لي من مالك فقال: والله يا ابن أختي، لقد قسمتلك أفضل ذلك وأجزله، فقال: وما هو؟ قال: شعري ورثتنيه دون أبنائي!
ورحلةالشعر العربي طويلة موغلة..
والناس في بدايته مذاهب شتَّى، فمنهم من يقول: إنه وُجد من بدء الخليقة مع تعلم آدم الكلام!! ومنهم من يقول: إن بدايته كانت منذمائتي عام قبل الإسلام (وهذا تاريخ أقدم ما ورد إلينا من أشعار)، والمنصفون على أنالشعر بدأ كأي تطور ورقي إنساني في وقت "ما" لا يمكن تحديده بدقة نظرًا لعواملعديدة سنتحدث عنها فيما بعد، ثم تطور ونَمَا حتى وصل إلى ذروة فنية راقية فيما وصلإلينا من أعمال قبل الإسلام.. واستمرت رحلته بعد ذلك صعودًا وهبوطًا، تقدمًاوتقهقرًا.
والمشكلة التي تواجهنا عند التصدي لروائع الشعر الجاهلي تكمن فيضياع كثير من أشعار تلكم الفترة، ويرجع ذلك لعوامل عدة:
(1) الاعتماد علىالرواية الشفهية للشعر، وهي بالطبع ليست أكثر الطرق أمانًا وحفظًا.
(2) ماجمع من الشعر الجاهلي، تم جمعه بداية من عصر الأمويين أي بعد 200 : 300 عامًا منتاريخ ورود الشعر إلينا، ولا شك أن ما نُسِي في هذه الفترة غير قليل.
(3) إعراض كثير من المسلمين عن الخوض في مسألة الشعر زهدًا أو خوفًا أو تقوى، ونستطيعأن نتفهم ذلك حين ندلف إلى أغراض الشعر، ونرى بعضًا مما فيها مما قد يصادم فكر منكره الجاهلية كلها وملابساتها وما تعلق بها من حلال أو حرام ومن ذلكالشعر.
(4) ويأتي العامل الأهم والأفدح وهو تعرض التراث الإسلامي لحملاتشرسة من أعداء الحضارة الإسلامية: الشعوبية من جهة والتتر في مذبحتهم الشهيرةللمكتبة الإسلامية العامرة من جهة أخرى (يذكر أنهم حين عبروا نهر الفرات وضعواكميات الكتب الهائلة التي حوتها مكتبة بغداد في النهر كي تعبر عليها خيولهم حتىتحول النهر سوادًا لأيام طوال)، مما أدى إلى دمار المخزون الثقافي الهائل الذي كانتتحويه عاصمة الخلافة العباسية آنذاك.
أغراض الشعر العربيالجاهلي
أولاً: الوصف:
لقد أحاط الشاعر الجاهلي في أوصافه بجميعمظاهر البيئة، فوصف كل ما يخطر على باله وما يتراءى أمامه من مولدات شعورية، فحينيصف "عميرة بن جُعل" ديار الحبيبة الداثرة يبدع فيقول:
قِفارٌ مَروراةٌيَحَارُ بهـا القطـا
يظلّ بها السبعـان يعتركـان
يثيران من نسجالتراب عليهما
قميصيـن أسماطًا ويرتديـان
وبالشَّرف الأعلى وحوشكأنها
على جانب الأرجاء عُوذُ هجان
فهذه الصورة الكلية الرائعة التيرسم فيها الشاعر كيف تحولت ديار نبضت بالحياة والحب وصبوة الشباب إلى ديار آوتالوحوش والسباع حتى أن الطيور تتوه فيها، وتلكم الضواري تصطرع والأتربة تتصاعدبينهما فتحيل المروج الخضراء قفارًا لا تعني إلا الموت والخراب، والخلفية الدراميةالمفجعة لوحوش تشاهد الصراع وهي فوق الجبال، وقد بلغت لضخامتها مبالغمذهلة.
ثانيًا: الغزل:
وقد اختص الشاعر قصائد بعينها وأوقفها علىالغزل وذكر النساء، وفي أحيان أخرى كان يجعل الغزل في مقدمة القصيدة بمثابةالموسيقى التمهيدية للأغنية، توقظ مشاعر المبدع والسامع فتلهب الأحاسيس، وتؤججالعواطف، ورغم السمة العامة للغزل وهو الغزل الصريح المكشوف الذي يسعى للغريزة أولما يسعى، فإن المثير أن يعجب بعض الشعراء الصعاليك (الشنفرى) بحسن أدب المرأةوأخلاقها العالية فيصفونها:
"لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعهـا * إذا ذكرت ولابذات تلفت
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه * على أمها وإن تكلمكتبلَّت
تبيت بُعيد النوم تهدي غبوقهـا * لجارتها إذا الهدية قلت
فهو يعجبه فيها حرصهاعلى حجابها أنها لا تلتفت في مشيتها لشدة أدبها، وهي من شدة نظرها في الأرض وخجلهاكأن لها شيئًا مفقودًا تبحث عنه، وإذا تحدثت إلى غريب ضاع منها الكلام وتعثر، وإذاما أجدب الخير أهدت طعامها لجاراتها؛ ولذا فزوجها يثق فيها ويفخر حين تُذكر نساءالحي، فالبيوت إذا ذمت لنسائها ينجو بيته من اللوم لجلال أدبزوجته.
ثالثـًا: الرثاء:
وعاطفة الشاعر البدوية الفطرية كانت شديدةالتوهج، فإن أحب هام وصرَّح وما عرف للصبر سبيلاً، وإن حزن فبكاء ونحيب حتى يملأالدنيا عويلاً، وكلما جفت الدموع من عينيه استحثها لتسح وتفيض.
ومضرب المثلفي الرثاء صخر أخو الخنساء الذي رثته أبياتًا، وبكته أدمعًا ودماءً، تقولالخنساء:
أعيني جـودا ولا تجمـدا ألا تبكيان لصخر الندى؟
ألا تبكيانالجريء الجميل؟ ألا تبكيان الفتى السيـدا؟
وهي ترجو (صخرًا) ألا يشعر بألمتجاه عينيها الذابلتين من البكاء وتلتمس لهما العذر:
ألا يا صخر إن بكَّيتعينـي لقد أضحكتني زمنًا طويـلاً
دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي فمن ذا يدفعالخطب الجليلا؟
إذا قبح البكـاء علـى قتيـل رأيت بكاءك الحسنالجميلا
رابعًا: الفخر:
كان الجاهلي إذا فخر فجر … هكذاقالوا…
فانتماء الجاهلي لعشيرته وعائلته أمر مقدس، وعوامل ذلك متعددة منها: طبيعة الحياة القاسية التي عاناها العربي مما جعله يعتصم بقوة أكبر منه ويتحد معها؛ليتحصن من صراع الحياة البدائية المريرة، مما جعل عمرو بن كلثوم يقول بملءفيه:
وأنـا المنعمون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا أتينا
وأنـاالحاكمون بما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا
وأنـا النازلـون بكل ثغـر يخافالنازلون به المنونا
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًاوطينًا
ألا لا يجلهن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ملأنا البرحتى ضاق عنا كذاك البحر نملؤه سفينًا
خامسًا: الهجاء:
والهجاء المقذع عندهم يزكم الأنوف،ويعشو العيون، ولكنَّ لهم هجاء طريفًا ومنه التهديد والوعيد بقول الشعر الذيتتناقله العرب، فيتأذى منه المهجو أكثر من التهديد بالقتل، وكان الهجاء سلاحًاماضيًا في قلوب الأعداء فهم يخافون القوافي والأوزان أكثر من الرماحوالسنان.
يقول مزرد بن ضرار:
فمن أرمه منها ببيت يَلُح به كشامة وجه،ليس للشام غاسلُ
كذاك جزائي في الهدى وإن أقل فلا البحر منزوح ولا الصوتصاحل
فهو يشبه قصيدته بالشام في الوجه لا يُتخلص منه، وهذا طبعه في الهدايا،وإن الشعر عنده لا ينفد كما أن البحر لا ينفد، والصوت لا يُبح ولاينقطع.
والأدهى من ذلك أن كان غلام لخالد الذبياني يرعى الإبل فغصبها (آلثوب) منه فرجع يبكي إلى سيده فذهب خالد إلى مزرد بن ضرار الذبياني، فقال: إني أضمنلك إبلك أن تُرد عليك بأعيانها وأنشأ هجاءً يقول:
فإن لم تردوها فإنسماعها
لكم أبدًا من باقيات القلائد
فيا آل ثوب إنما ظلمخالد
كنار اللظى لا خير في ظلم خالد
فما لبث (آل ثوب) أن ردوا الإبلقائلين:
لئن هجانا مزرد لقد هجتنا العرب أبد الدهر.
سادسًا: المدح:
ومن رواده زهير بن أبي سلمى وكان لا يمدح إلا بالحق، وكذا النابغةالذبياني الذي تخصص في مدح العظماء والملوك راغبًا في العطاء السخي، ومنهم "الأعشى" وكان سكيرًا مغرمًا بالنساء لا يهمه من يمدح ما دام يعطيه، وقد أنفق كل ما أعطى علىخمره ونسائه.
قال زهير في مدح حصن بن حذيفة:
وأبيض فياض يداه غمامـةعلى معتفيه ما تغب فواضـله
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يهلك المالنائلــه
تراه إذا ما جئتـه متهلـلاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ومنطرائف أشعارهم شكوى النساء وحدة ألسنتهن – ويبدو أنها شكوى الأدباء والمفكرينوالناس دومًا - فهذا الشنفرى الأزدي يرجع لبيته، وقد مات كلبا صيد كانا يقتنصانالطعام له فقال:
وأيقـن إذا ماتا بجـوع وخيبة وقال له الشيطان إنكعائـل
فطوَّف في أصحابه يستثيبهـم فآب وقد أكدت عليه المسائـل
إلىصبية مثل المغالي وخرمل رواد ومن شر النساء الخرامل
فقال لها: هل من طعـامفإننـي أذم إليك النـاس أمـك هابـل
فقالت: نعم هذا الطوي ومـاؤه ومحترق منحائل الجلد قاحل
تغشى يريد النوم فضل ردائـه فأعيا على العين الرقادالبلابل
فالشيطان يعيره بفقره وأصحابه لا يعطونه شيئًا ، فيعود إلى صبيةضعاف وزوجة سليطة اللسان فسألها الطعام وهو يشكو الناس لها.
فأجابته بغيظوضيق: نعم لتأكل ماء البئر أمامك وجلدًا كان حذاءً قديمًا لك.. كله هنيئًا مريئًا.. فهرب صاحبنا إلى النوم عله يحل مشاكله في الأحلام، فصعب على عينه النوم وظل مؤرقًاوحيدًا..
سابعًا: المعلقات:
وهي أعظم نتاج الشعر الجاهلي كتبهاالفحول العظماء؛ وسميت كذلك لأنهم علقوها على جدران الكعبة، وقيل: لأنها كاللآلئالثمينة بين باقي القصائد، وقيل غير ذلك وتتميز بطولها وجزالة ألفاظها وتماسكأفكارها.
ويعتقد د. علي الجندي أستاذ الأدب الجاهلي بجامعة القاهرة أن منأسباب خلود المعلقات أن كلاً منها تشبع غريزة من غرائز النفس البشرية..
فحبالجمال في معلقة امرئ القيس، الطموح وحب الظهور في معلقة طرفة، والتطلع للقيم فيمعلقة زهير، وحب البقاء والكفاح في الحياة عند لبيد، والشهامة والمروءة لدى عنترة،والتعالي وكبرياء المقاتل عند عمرو بن كلثوم، والغضب للشرف والكرامة في معلقةالحارث ابن حلزة.
والمعلقات كلها تبدأ بالحديث عن الأطلال وموكب الارتحالعدا ابن كلثوم الذي طلب الخمر كأنما يريد أن يذهل عن الوجود الذي سيطعنه بارتحالالحبيب، والعربي منذ الأزل ارتبط بأرضه ووطنه، فالمكان لديه أخ وأب وصاحبة،والارتحال يفرق بين قلوب إلى مدى لا يُعرف، والتأثر يكون أقوى إن كان للمكان ذكرىحلوة، ولا عجب إن فرَّج عن نفسه بالبكاء لعل الدموع تطفئ نار الوجد، والعجيب أنهموإن اتفقوا في الفكرة إلا أن جانب الشعور لديهم كان مختل
المثل والحكم :
للمثل أو الحكمة مكانة في الأدب العربي سواء ما نتج عن قصة فأصبح مثل متداول أو ما نتج عن تجارب و عصارة خبرات عقلية أو حياتية فخرجت حكمة يتداولها الناس .
بهذا الخروج إلى محيط الناس و كثرة التناقل أصبح المدلول للمثل أو الحكمة كأنة الفيصل في أي حدث من حيث حيثيات الوجهة التي يراد الاستدلال بها ، ليكون المثل أو الحكمة عبارة عن جواب قاطع يجزي عن كلام كثير ، لتكرار الشيء المراد الاستدلال به ، فلا حاجة لكثرة الكلام ، يكفي أن تقول حكمة أو مثل لتكون قد قطعت شوط كبير لما تريد أن توضيحه ، هذا هو احد الأساسات التي أخرجت المثل أو الحكمة .
لا أريد صرف الموضوع بإتجاة الدين فما خرج من الكتاب و السنة من حكمة أو مثل لا جدال فيه ، و إنما ما أخرجه البشر على مر العصور و كأن تلك الأمثال و الحكم وثائق تاريخية محملة بعقول و تجارب و قصص الغير فمن حيث انتهى المثل أو الحكمة و جب علينا أن نبتدئ .
و أن نأخذ تلك الأمثال و الحكمة بشيء من الجدية الصارمه فهي توجه و تحكم و تنزل الحدث موقع الواقع في ظن الكثير و تقود السلوك إلى الخضوع و التصديق لما قيل
( فاقد الشيء لا يعطيه )
هنا حكم بالإعدام و لكن بطريقة ليست فيزيائية .
عندما نقول تلك المقولة عن شخص عدواني أو بخيل أو غبي أو متكبر أو فقير
يكون الحكم بأن العدواني فاقد للتسامح و البخيل فاقد للكرم و الغبي فاقد للذكاء و المتكبر فاقد للتواضع و الفقير فاقد للمال ، فهذه العينات لا تعطي الشيء المطلوب سواء كان الشيء محسوس و ملموس او معنوي .
هذا الحكم بالإعدام في هذه المقولة تبرمج الدماغ بأن الأمل مفقود نحو التغيير ، إذا أصبح العدواني متسامح هل سنقول ( من أستملك الشيء يعطيه ) ؟
و من الأقوال المشهورة و التي تأتي في نفس هذا السياق ( إذا كان الكلام من فضة ، فالسكوت من ذهب )
هذه المقولة دائما تقال لمن هم في مقتبل العمر ، لكي لا يقعوا في المحضور أو لكي لا ينطق ( بالعيب ) ، حتى أصبح السكوت ميزة للكثير من الأطفال و تربوا على هذا الشيء و كبروا على السكوت ، لا يسأل و لا يستفسر و لا يحاور و لا يتحدث ، الكلام مقنن لا يطالب بحقوقه بطريقة مدنية ، بل حتى اذا خرج من سكوته نطق الكفر في كثير من كلامه لأن الذي أخرجه من صمته بعد تلك البرمجة هو الغضب .
الأمثلة كثيره جدا و الحكم كذلك و لكم أن تروا اثر تلك الأقوال على مجريات حياة الناس .
و للفرع الأخر من المثل و الحكمة وقع اشد برمجة الا و هو المثل الشعبي
الذي يعكس حياة الناس في أي مقولة يتم تداولها .


بقي أن أضيف شي
المثل أو الحكمة ليست كتاب منزل ، المثل أو الحكمة جميلة من حيث سماعها و تطبيق بعض جوانبها حسب الحالة المرادفه لتلك المقولة
المثل أو الحكمة ليست مرآة ثابتة لأي مجتمع يتم تعليقها في لبنات المجتمع لتكون وسيلة من وسائل البرمجة
القصص:
ومن فنون النثر الجاهلي القصص وما يتصل منها بسبب، كالأسمار،والحكايات، والأساطير، التي تتناثر في كتب الأدب والتاريخ والأمثال، والتفسير، وكتبالشواهد النحوية والبلاغية، ومؤلفات الشرَّاح مما يؤلف ذخيرة قصصية غزيرة، تمثل فيمضمونها جوانب من المجتمع العربي في العصر الجاهلي، أو ما هو قريب منه، إذا صحتنسبتها إلى ذلك العصر.
وقد بقي الناس يتداولون هذه القصص عن طريق الروايةالشفوية، حتى بدأ تدوين بعضها في العصر الأموي، ولكن لم يصل إلينا شيء منه، بل وصلما دُوَّن في أوائل العصر العباسي، وما بعد ذلك، بعد أن تنقلت روايته في المجالس،وزيد فيه، ونقص منه، ولا يعرف مدونه ولا راويه، وإن حمل بعضه على الأصمعي وغيره،سواء في ذلك ما كان فيه إطالة وتفصيل، أو قصر وإيجاز. وقد كانت هذه القصص الجاهليةالمتداولة نواة للقصص الشعبي الذي ازدهر في العصرين: العباسي والمملوكي.
ولهذا كله، يقع الشك في صحة نصوص القصص التي ترفع إلى العصر الجاهلي، منحيث الصياغة على الأقل. ذلك أنها لم تدون في ذلك العصر قط، ولا فيما هو قريب منه،بل صيغت بأساليب العباسيين، ومن بعدهم، الذين تصرفوا فيها صيغة ومضموناً، ولاسيماالطويلة منها. وتكفي الإشارة إلى أن أيام العرب وملامحهم الحربية تؤلف ينبوعاًقوياً لتلك القصص، وقد دونها أبو عبيدة في شرحه لنقائض جرير والفرزدق. ومن هذاالتراث القصصي أيضاً ما يتصل بملوك المناذرة والغساسنة والدولة الحميرية، وغيرهمممن سبقوهم أو عاصروهم، كالزباء أو زنوبية. ومنه أيضاً قصص العشاق وأخبارهم، وبعضالأساطير عن الحيوانات كقصة الحية والفأس في خبر المثل: «كيف أعاودك وهذا أثرفأسك؟».
هذا، إلى قصص أخرى متناثرة في كتاب الأغاني وغيره عن عمرو بن كلثوموربيعة بن مكدم، وعبد الله بن جدعان، وغيرهم. وكل ذلك من موروثنا النثري، ولكنه لايمثل أسلوب الجاهليين ولا صياغتهم.

بومرداية
2011-12-06, 17:40
لعصر العباسي خصائصه الأدبية وتأثير ذلك على تاريخ الأدب العربي.ومسألة الصراع بين القديم والحديث


الحمد لله ، نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد :

فلقد اهتم الإسلام منذ أيامه الأولى بالشعر والشعراء ، وأحـَّل الرسول صلى الله عليه وسلم الشعراء مكانا مرموقا.

ولقد كان الرسول الكريم يقول عندما يستمع إلى شعر أو نثر جميل.

" إن من الشعر لحكمة ، وإن من البيان لسحرا "

وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول :

"ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم ".

ولا عجب ولاريب أن يهتم الإسلام بالشعر والشعراء.وكيف لا وقد كان القوم صناعا حادقين للكلمة.وكان الشعر عندهم بمثابة السجل الذي يسجلون فيه تاريخهم و مفاخرهم وأنسابهم.

وقد عرف العرب على مر تاريخهم طبقات من الشعراء بدءا بشعراء العصر الجاهلي,مرورا بطبقة الشعراء المخضرمين.ثم شعراء العصر الإسلامي.فالشعراء المولدين....

وسنحاول أن نركز في مبحثنا هذا على العصر العباسي بإعتباره العصر الذي عرف صراعا بين مايعرف بطبقة الشعراء القدامى و بين مايعرف بالشعراء المحدثين أو المولدين.

لذلك سنحاول تقسيم مبحثنا هذا إلى ثلاث محاور أساسية :



المحور الأول : العصر العباسي من الخصوصية السياسية إلى الخصوصية الأدبية.

المحور الثاني : تأثير العصر العباسي في تاريخ الأدب.

المحور الثالث : الصراع بين القدامى والمحدثين في العصر العباسي.

عرف العصر العباسي تنوعا عقديا حيث ظهرت إبان تلك الفترة عدة فرق أو بالأحرى تقوى نفوذها كالشيعة والصوفية والإباضية.وظهرت فرق كلامية كالمعتزلة والمرجئة.أضف إلى ذلك أن العصر العباسي عرف أحداثا سياسية خطيرة كالصراع على السلطة.وهذا ماأثر بشكل مباشر على الحقل الأدبي حيث كان للتجاذبات السياسية ولهذا التنوع العقدي والمذهبي وحتى العرقي (عرب-فرس) أثره البارز على الأدب بحيث إمتزج الفكر العربي بالفكر الفارسي ماولد طفرة علمية وأدبية مهمة وقد أصبحت هذه المرحلة تعرف بالعصر الذهبي للأدب العربي عموما و إنتشر فيه التصنيف حيث شهدت هذه الفترة تصنيف الإمام مالك " للموطأ " وإبن إسحاق "لكتب السيرة" كما عرفت هذه المرحلة إنتشار الترجمة من اللغات الأجنبية ولعل من أبرز المترجمين "إبن المقفع" الذي ترجم كتاب " كليلة ودمنة"

كما تأسس في هذه الفترة "بيت الحكمة" والذي يعتبر أول جامعة في التاريخ.وقد كانت مركزا للترجمة حيث ترجمت فيه كتب.و ازدهربذلك الأدب العربي في العصر العباسي في بغداد في نصف القرن الثامن;.بلغ العصر الذهبي للثقافة الإسلامية أبهى عصوره في عهد هارون الرشيد وابنه الخليفة المأمون. وقد نبغ في هذه الفترة عدد من الشعراء أمثال أبو نواس و المتنبي وإبن الرومي و الخليل بن أحمد وأبو فراس الحمداني و أبو تمام و بشار بن برد.وقد كان للشعراء في هذه الفترة منزلة عظيمة حيث كان جل الشعراء أشد قربا من البلاط العباسي وهو ماولد نوعا من الشعر يمكن أن نطلق عليه إسم "الشعر الرسمي" وقد كان غرضه مدح الخلفاء بدافع التكسب والتزلف.

كقول المتنبي :

ياذا المعالي ومعدن الأدب سيدنا وإبن سيد العرب

وبالمقابل ظهر مايمكن تسميته "بالشعر الشعبي" وكان من أغراضه الغزل وقد بلغ حدودا من الفحش و المجون.

ومنها قول أبو منصور الثعالبي :

ريق الحبيب كريق المزن والعنب أذاقني ثمرات اللهو والطرب

وقد سبت مني الأيام صفوتها فكيف أهرب منها وهي في طلبي

إضافة إلى التغني بالخمر.

كقول أبي نواس:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني باللتي كانت هي الداء

صفراء لاتنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء



ومن الشعراء من جره تأثره بالفلسفة إلى الإلحاد في شعره.

ومنها قول الحلاج :

أنا من أهوى,ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

إذا أبصرتني,أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا

وقد ظهر أيضا مايعرف "بشعر الحكمة"

ومنها قول الإمام الشافعي :

دع الأيام تفعل ماتشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء

ولاتجزع لنازلة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء.



بالإضافة إلى الشعر إزدهر في العصر العباسي النثر.خاصة مع الجاحظ الذي ألف عدة كتب نثرية. ومن أهم مؤلفاته كتاب الحيوان الذي يتضمن مقتطفات من

نوادر الحيوانات و كتاب البخلاء والذي يعتبر دراسة للنفسية البشرية.

وفي النصف الثاني من القرن العاشر الهجري-العصر العباسي دائما-ظهر نوع جديد من الأدب يسمى "أدب المقامة" مع بديع الزمان الهمذاني و الحريري. كما عرف العصر العباسي القصص الاجتماعية والغرامية والبطولية ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وقصص العذريين، وسيرة عنتر، وحمزة البلوان، وسواها ومنها القصص التاريخية التي تناولت سير الخلفاء والملوك والأمراء

والمتتبع للحركة الأدبية في العصر العباسي سيلاحظ انها قد تأثرت بالأحداث السياسية والإختلافات العقدية التي كانت سائدة أنذاك.وهو مايعكسه تعدد الأغراض الشعرية والإتجاهات الفكرية لدى الشعراء خصوصا و الأدباء بشكل عام.لكن السؤال المطروح هو هل إقتصر هذا التأثير على الحقبة العباسية فقط أم أن تأثيره شمل العصور التابعة للعصر العباسي.؟وهل يمكن إعتبار العصر العباسي مرحلة مفصلية في في تاريخ الأدب؟

يعتبر العصر العباسي بحق محطة مفصلية في تاريخ الأدب حيث ظهر التدوين ونشطت حركة الترجمة ماولد نوعا من الزخم الفكري والإبداعي لا من حيث الشعر أو النثر أو باقي الفنون الأدبية الأخرى.ويرجع الفضل لأدباء هذا العصر في أنهم كانو السباقين لإبداع أنواع أدبية لم تعهدها العرب سابقا.كأدب المقامة والذي كان من أهم رواده بديع الزمان الهمذاني.( والمقامات مجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم جمعت بين النثر والشعر بطلها رجل وهمي يدعى أبو الفتح الإسكندري وعرف بخداعه ومغامراته وفصاحته وقدرته على قرض الشعر وحسن تخلصه من المآزق إلى جانب أنه شخصية فكاهية نشطة تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الأعماق. ويروي مغامرات هذه الشخصية التي تثير العجب وتبعت الإعجاب رجل وهمي يدعى عيسى بن هشام.)1

وقد ساهمت المقامات بنصيب وافر في الأدب العربي من حيث أنها كانت :

وسيلة للتمرن على الإنشاء والوقوف على مذاهب النثر والنظم.)

رصيد لثروة معجمية هائلة

مستودعً للحكم والتجارب عن طريق الفكاهة

وثيقة تاريخية تصور جزءاً من حياة العصر العباسي وإجلال رجاله)2

إضافة إلى المقامات فإن العصر العباسي قد عرف تأسيس علم النحو على يد أبي الأسود الدؤلي و الخليل بن أحمد الفراهدي هذا الأخير أسس أيضا لعلم العروض.وكذلك عرف هذا العصر تصنيف عدد كبير من المصادر اللغوية "كلسان العرب" لإبن منظور.و"القاموس المحيط" لمجد الدين الفيروز آبادي.

ومن خلال هذا الجرد البسيط لبعض ماميز العصر العباسي من تطور لعلوم يتبين لنا الدور الكبير الذي لعبه أدباء هذا العصر في النهضة الفكرية العربية حيث أصبح للعرب بعد هذا العصر ألوان أدبية أخرى غير تلك الألوان النمطية التي عهدوها.وأصبح للعرب أيضا مؤلفات عظييمة في النحو إستفاد منها العرب أيما إستفادة على مر العصور والأزمان.حيث قل اللحن في اللغة العربية وأصبحت اللغة بذلك قوية مقننة بقواعد صارمة تحكمها.وقد بني على هذا العلم عدة علوم أخرى.

يقسم العلماء والمتتبعون لتاريخ الأدب عموما والشعر خصوصا الشعراء إلى طبقات._طبقة شعراء الجاهلية _ طبقة الشعراء المخضرمين _ طبقة شعراء الإسلام _ طبقة الشعراء المولدين أو المحدثين.وإنما كان هذا التقسيم بعد أن كثر الخلاف بشأن الإحتجاج بالشعر في القواعد النحوية.فإتفق العلماء على الإحتجاج بالطبقات الثلاث الأولى وعدم الإحتجاج بالرابعة لأنه على حسب تقديرهم قد خالط اللحن ألسنتهم وتأثروا بالثقافات الأجنبية.وذلك واضح من تسميتهم بالمولدين لأن المولد في اللغة هو المحدث الذي لم يكن معروفا فيما مضى.

جاء في لسان العرب :

المُوَلٌد :المحدث من كل شيء ومنه المُوَلًدون من الشعراء: إنما سموا بذلك لحدوثهم.

وفي مقاييس اللغة

المُوَلٌد : الذي لاأصل له



والشعراء المولدون أو المحدثون نذكر منهم بشّار بن برد وأبي نوّاس فهما من الطّبقة المولَّدةِ أي طبقة الشّعراء الذي أحدثوا في العربية ألفاظاً ومواضيع شعريةً ليست أصيلةً في تقاليد الشعر العربي القديم، ومنهم الشعراء الفرس الذين أشاعوا استخدام الألفاظ الفارسية.وقد إهتم الشعراء المولدون بالتجديد في الشعر فإتجهوا نحو الصنعة والتكلف في شعرهم.وإيراد كلمات غريبة في أشعارهم.والخروج على عمود الشعر المألوف عند العرب.وهو ماأعتبر تمردا على القصيدة النمطية.

وقد عرف العصر العباسي صراعا محتدما بين القدامى والمحدثين حول مسألة الأغراض و الشكل.فقد إعتبروا أن كل من نظم قصيدته وفق النموذج المحتدى "العصر الجاهلي" غرضا وشكلا فقد أصاب.وأن من خرج على هذا النموذج فقد خسر وخاب.
ارجوووووووووووووووووووو الردوووووووووووووووود

mimi_h
2011-12-06, 17:43
بالتوفــــــيـــق لكم