تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : عوامل هزيمة الأمة


karim h
2011-11-10, 23:06
الكاتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات

بسم الله الرحمن الرحيم

مما لا شك فيه أن هذه الأمة أمة منتصرة بنصر الله سبحانه لها، وهي ظاهرة على غيرها من الأمم، ولن تفقد هذه الأمة خيريتها أو تنهزم انهزاماً مطلقاً مهما أصابها الوهن وظن الكافر الحاقد أنها قد تودع منها، أو لم يعد يرجى برؤها، وهذه حقيقة دلت عليها النصوص الشرعية من وجهين:

الأول: وعد الله سبحانه لها بالنصر، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وقال سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

والحديث المتواتر الذي جاء عن واحد وعشرين صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خافهم، إلا ما يصيبهم من اللأواء، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس).

الثاني: حفظ الله سبحانه لهذه الأمة وعدم تسلط الكافرين عليها، قال تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)، وقال سبحانه: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ).

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) [رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير وصححه الذهبي والألباني].

وهذه النصوص تدل على بقاء الأمة وعدم هلاكها،ونجاتها في الدنيا والآخرة، إلا أن هذا البقاء وإن تحقق لها، فلا يعني أنها ستكون منتصرة تحت أي ظرف إذ لا بد من التفريق بين بقائها وعدم هلاكها، وبين انتصارها وثباتها على النصر، إذ أتاها وعد الله بالنصر مقيداً بقيامها على طاعة ربها ونصر دينه قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وقال سبحانه: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)، وبهذا يُعلم بأن نصر الله لهذه الأمة منوط بأمرين:

1) نصر الأمة لدينها.
2) تحققها على التقوى والصبر.

فإن فقدت الأمة هذين الأمرين فستكون النتيجة انهزامها وتسلط الأعداء عليها وقد أحببت في هذه العجالة أن ألقى الضوء على أبرز الأمور التي إن وقعت فيها الأمة أذاقها الله سبحانه لباس الهزيمة والخزي، ومنها ما هو عام، ومنها ما هو متفرع عن العام تم درجه تحت نقطة منفصلة للتنبيه على خطورته، وقد راعيت بذلك الترتيب وقد جاء وفق الاجتهاد لا النص، والله سبحانه ولي التوفيق.

أولاً: الإعراض عن ذكر الله تعالى:

قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)، فالإعراض عن ذكر الله سبحانه من أعظم الذنوب التي يستحق عليها الناس عقاب الله سبحانه، وقد بين الله سبحانه أن المعرضين عن الذكر من أظلم الناس، وقد قرنهم الله سبحانه بالمكذبين بدينه الكاذبين عليه، وبالصادين عن سبيله قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ثم بين سبحانه أنه منتقم من المجرمين، وهم المعرضون عن الذكر، ولا ريب بأن المعرض عن الذكر لا ينتظر النصر من الله، بل عليه أن ينتظر انتقام الله سبحانه منه.

ثانياً: مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) [سبق تخريجه]، فمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من اعظم ما يستحق عليه المسلمون العقاب من الله سبحانه، وقد أوضحت الآية الكريمة أنه يترتب على كل من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصيبه فتنة، أي في دينه كالبدعة أو الشرك وغير ذلك، أو يصيبه عذاب أليم، كالقتل أو الحبس وما إلى ذلك، كما أوضح الحديث الشريف أن الذي يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يُجعل عليه الذل والصغار، فأي عقاب أعظم من ذلك ؟!

ثالثاُ: مخالفة سبيل المؤمنين:

قال تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)، وهذه الآية الكريمة تربط ما بين مشاققة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإتباع غير سبيل المؤمنين،فكل من أتبع غير سبيل المؤمنين، يكون قد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم لذا استحق الوعيد من الله سبحانه، والمقصود بسبيل المؤمنين سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن تبعهم بإحسان، وهم أهل السنة والجماعة، قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصور كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي. وفي رواية: قال: هي الجماعة) [رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وهو حديث صحيح].

رابعاً: ترك الجهاد في سبيل الله:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) [صححه الألباني].

فترك الجهاد في سبيل الله سبحانه إثم عظيم، وخطر كبير يترتب على المتخلفين عنه العذاب الأليم والهلاك، فالعذاب الأليم واضح من قوله تعالى: (يعذبكم عذاباً أليما) والهلاك متضمن من قوله تعالى: (ويستبدل قوماً غيركم). وأما الحديث فهو صريح بوقوع الذل على المتخاذلين، وأن رفع الذل عنهم منوط برجوعهم إلى دينهم وفي مقدمة أعمال الدين، الجهاد في سبيل الله، وقد بينت النصوص أيضاً أن نصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين يكون من خلال الجهاد في سبيل الله سبحانه قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)، وعليه فإن ترك الجهاد في سبيل الله من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى فشل المسلمين وضرب الذل عليهم.

خامساً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ).

وفي الحديث عن حذيفة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) [رواه التِّرمذيُّ وقال حديث حسن].

وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) [البخاري].

فالآية الكريمة تدل على أن بني إسرائيل لعنوا، أي خرجوا من رحمة الله سبحانه لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يقع على بني إسرائيل، يقع على غيرهم إذا أتوا بمثل ما أتى به بنو إسرائيل، فالعبرة بمعصية الله وليست متعلقة بقوم معينيّن، وأما الحديث فهو صريح الدلالة بأن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحق العقاب من الله سبحانه، وعليه فإن تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عاقبها الله سبحانه، ومن أنواع العقاب أنه يسلط أعداءها عليها. ويذلهم بسبب ذنوبهم.

سادساً: التمسك بالدنيا والإعراض عن الطاعة:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال سبحانه: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

وفي الحديث عن عمرو بن عوف قال: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رآهم ثم قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ. قالوا أجل يا رسول اللّه. قال فأبشروا أو أملوا ما يسركم، فواللّه ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) [رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح].

وفي الحديث عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله: فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) [رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني].

فإن التمسك بالدنيا وتقديمه على الدين سبب مباشر في وقوع الذل والهوان على الأمة.

سابعاً: التفرق والإختلاف:

قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقال سبحانه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رجلا قرأ آية، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (كلاكما محسن. قال شعبة: أظنه قال: لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) [البخاري].

وهذا الخلاف شامل لأمور الدين والدنيا، بل الواجب على المسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد معتصمين بحبل الله جمعياً من غير تفرق أو اختلاف، وإلا فإن مصيرهم إلى الهلاك.

ثامناً: العدواة والبغضاء:

قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ).

وفي الحديث عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم: أفشوا السلام بينكم) [رواه الترمذي وحسنه الألباني].

فالآية صريحة بأن الشيطان يريد أن تدب العداوة والبغضاء في الأمة، وذلك لإفسادها الذي يترتب عليه هلاكها، والحديث واضح الدلالة بان الحسد والبغضاء مما يفسد على الناس دينهم فيستحقوا عليه العقاب، وإن أعظم ما يولد العداوة والبغضاء والتحاسد في الأمة:

أولاً: الجدال في الدين: فعن رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون قوم من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى قال قلت جعلت فداك يا رسول الله وكيف ذاك قال يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعضه قال قلت ثم ما يقولون قال يقولون الخير من الله والشر من إبليس فيقرون على ذلك كتاب الله ويكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة فما يلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة في زمانهم يكون ظلم السلطان فينالهم من ظلم وحيف وأثرة ثم يبعث الله عز وجل طاعونا فيفني عامتهم ثم يكون الخسف فما أقل ما ينجو منهم المؤمن يومئذ قليل فرحه شديد غمه ثم يكون المسخ فيمسخ الله عز وجل عامة أولئك قردة وخنازير ثم يخرج الدجال على أثر ذلك قريبا ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بكينا لبكائه قلنا ما يبكيك قال رحمة لهم الأشقياء لأن فيهم المتعبد ومنهم المجتهد مع أنهم ليسوا بأول من سبق إلى هذا القول وضاق بحمله ذرعا إن عامة من هلك من بني إسرائيل بالتكذيب بالقدر قلت جعلت فداك يا رسول الله فقل لي كيف الإيمان بالقدر قال تؤمن بالله وحده وإنه لا يملك معه أحد ضرا ولا نفعا وتؤمن بالجنة والنار وتعلم أن الله عز وجل خالقهما قبل خلق الخلق ثم خلق خلقه فجعلهم من شاء منهم للجنة ومن شاء منهم للنار) [رواه الطبراني في المعجم الكبير].

الثاني: الحرص على الدنيا: فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما أتي عمر بكنوز كسرى قال له عبد الله بن أرقم الزهري: ألا تجعلها في بيت المال؟ فقال عمر: لا نجعلها في بيت المال حتى نقسمها، وبكي عمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح، فقال عمر: إن هذا لم يعطه الله قوما قط إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء) [رواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة].

تاسعاً: كثرة المعاصي:

قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال سبحانه: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً).

وفي الحديث عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه). وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) [متفق عليه].

وما يحمل على المعصية الجهل، والكبر وغير ذلك، ومن أبرز المعاصي التي إذا تفشت في الأمة هلكت الربا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)، وكذلك موالاة الكافرين قال تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)، وغير ذلك من المعاصي التي حذر الله سبحانه المؤمنين من الوقوع فيها لئلا يهلكوا.

عاشراً: الامتناع عن فعل الخير ومن ذلك الصدقة:

قال تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة ما نقله القرطبي رحمه الله تعالى قال: روى البخاري عن حذيفة: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: "وأنفقوا في سبيل الله" الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.

الحادي عشر: ترك الحكم بما أنزل الله سبحانه:

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنيَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)، ففي هذه الآية الكريمة يتضح أن المنافقين تقع عليهم المصائب بسبب إعراضهم عن الحكم بما أنزل الله سبحانه، وهذه المصائب تتمثل بالهزيمة والذل والتعذيب وغير ذلك.

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم،وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) [أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن وحسنه الألباني].

وقد يؤخذ علي أن أخرت هذا الأمر عن غيره رغم شيوعه وأهميته، ولكن كما ذكرت فالمسألة لا تتعلق بالترتيب، إنما بذكر بعض الأسباب التي تستحق عليها الأمة الهزيمة إن وقعت فيها، كما أنه هنالك الكثير من الأمور إذا فعلتها الأمة عذبت، ولكنها تدخل ضمناً تحت عموم هذه الأسباب.

وأسأل الله تعالى أن يهدينا جمعياً للعمل بما يحبه ويرضاه،ويرزقنا اجتناب ما نستحق عليه العقاب منه، كما أساله سبحانه أن ينفعني وإخواني بهذه الرسالة الموجزة المختصرة، وأن يجعلها في ميزان حسناتي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

[وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز | 2 /ربيع الأول /1425 هـ]

النيلية
2011-11-11, 21:37
بارك الله فيك اخي وجزاك الله خيرا

bfat
2011-11-12, 14:31
السلام عليكم اخي
بارك الله فيك على الموظوع طرح قوي وموجز ولا كن هل من مستمع وواع يا اهل التبديع والخنوع والانبطاح

هامتارو
2012-01-29, 17:48
بارك الله فيك اخي كريم....

karim h
2012-02-06, 10:35
بارك الله فيك اخي كريم....


وفيك بارك الله اخي همتارو جعلك الله ذخرا للاسلام والمسلمين

طارق العائد
2012-02-06, 10:39
الكاتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات

بسم الله الرحمن الرحيم

مما لا شك فيه أن هذه الأمة أمة منتصرة بنصر الله سبحانه لها، وهي ظاهرة على غيرها من الأمم، ولن تفقد هذه الأمة خيريتها أو تنهزم انهزاماً مطلقاً مهما أصابها الوهن وظن الكافر الحاقد أنها قد تودع منها، أو لم يعد يرجى برؤها، وهذه حقيقة دلت عليها النصوص الشرعية من وجهين:

الأول: وعد الله سبحانه لها بالنصر، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وقال سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

والحديث المتواتر الذي جاء عن واحد وعشرين صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خافهم، إلا ما يصيبهم من اللأواء، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس).

الثاني: حفظ الله سبحانه لهذه الأمة وعدم تسلط الكافرين عليها، قال تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)، وقال سبحانه: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ).

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) [رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير وصححه الذهبي والألباني].

وهذه النصوص تدل على بقاء الأمة وعدم هلاكها،ونجاتها في الدنيا والآخرة، إلا أن هذا البقاء وإن تحقق لها، فلا يعني أنها ستكون منتصرة تحت أي ظرف إذ لا بد من التفريق بين بقائها وعدم هلاكها، وبين انتصارها وثباتها على النصر، إذ أتاها وعد الله بالنصر مقيداً بقيامها على طاعة ربها ونصر دينه قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وقال سبحانه: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)، وبهذا يُعلم بأن نصر الله لهذه الأمة منوط بأمرين:

1) نصر الأمة لدينها.
2) تحققها على التقوى والصبر.

فإن فقدت الأمة هذين الأمرين فستكون النتيجة انهزامها وتسلط الأعداء عليها وقد أحببت في هذه العجالة أن ألقى الضوء على أبرز الأمور التي إن وقعت فيها الأمة أذاقها الله سبحانه لباس الهزيمة والخزي، ومنها ما هو عام، ومنها ما هو متفرع عن العام تم درجه تحت نقطة منفصلة للتنبيه على خطورته، وقد راعيت بذلك الترتيب وقد جاء وفق الاجتهاد لا النص، والله سبحانه ولي التوفيق.

أولاً: الإعراض عن ذكر الله تعالى:

قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)، فالإعراض عن ذكر الله سبحانه من أعظم الذنوب التي يستحق عليها الناس عقاب الله سبحانه، وقد بين الله سبحانه أن المعرضين عن الذكر من أظلم الناس، وقد قرنهم الله سبحانه بالمكذبين بدينه الكاذبين عليه، وبالصادين عن سبيله قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ثم بين سبحانه أنه منتقم من المجرمين، وهم المعرضون عن الذكر، ولا ريب بأن المعرض عن الذكر لا ينتظر النصر من الله، بل عليه أن ينتظر انتقام الله سبحانه منه.

ثانياً: مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) [سبق تخريجه]، فمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من اعظم ما يستحق عليه المسلمون العقاب من الله سبحانه، وقد أوضحت الآية الكريمة أنه يترتب على كل من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصيبه فتنة، أي في دينه كالبدعة أو الشرك وغير ذلك، أو يصيبه عذاب أليم، كالقتل أو الحبس وما إلى ذلك، كما أوضح الحديث الشريف أن الذي يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يُجعل عليه الذل والصغار، فأي عقاب أعظم من ذلك ؟!

ثالثاُ: مخالفة سبيل المؤمنين:

قال تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)، وهذه الآية الكريمة تربط ما بين مشاققة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإتباع غير سبيل المؤمنين،فكل من أتبع غير سبيل المؤمنين، يكون قد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم لذا استحق الوعيد من الله سبحانه، والمقصود بسبيل المؤمنين سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن تبعهم بإحسان، وهم أهل السنة والجماعة، قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصور كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي. وفي رواية: قال: هي الجماعة) [رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وهو حديث صحيح].

رابعاً: ترك الجهاد في سبيل الله:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) [صححه الألباني].

فترك الجهاد في سبيل الله سبحانه إثم عظيم، وخطر كبير يترتب على المتخلفين عنه العذاب الأليم والهلاك، فالعذاب الأليم واضح من قوله تعالى: (يعذبكم عذاباً أليما) والهلاك متضمن من قوله تعالى: (ويستبدل قوماً غيركم). وأما الحديث فهو صريح بوقوع الذل على المتخاذلين، وأن رفع الذل عنهم منوط برجوعهم إلى دينهم وفي مقدمة أعمال الدين، الجهاد في سبيل الله، وقد بينت النصوص أيضاً أن نصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين يكون من خلال الجهاد في سبيل الله سبحانه قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)، وعليه فإن ترك الجهاد في سبيل الله من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى فشل المسلمين وضرب الذل عليهم.

خامساً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ).

وفي الحديث عن حذيفة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) [رواه التِّرمذيُّ وقال حديث حسن].

وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) [البخاري].

فالآية الكريمة تدل على أن بني إسرائيل لعنوا، أي خرجوا من رحمة الله سبحانه لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يقع على بني إسرائيل، يقع على غيرهم إذا أتوا بمثل ما أتى به بنو إسرائيل، فالعبرة بمعصية الله وليست متعلقة بقوم معينيّن، وأما الحديث فهو صريح الدلالة بأن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحق العقاب من الله سبحانه، وعليه فإن تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عاقبها الله سبحانه، ومن أنواع العقاب أنه يسلط أعداءها عليها. ويذلهم بسبب ذنوبهم.

سادساً: التمسك بالدنيا والإعراض عن الطاعة:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال سبحانه: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

وفي الحديث عن عمرو بن عوف قال: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رآهم ثم قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ. قالوا أجل يا رسول اللّه. قال فأبشروا أو أملوا ما يسركم، فواللّه ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) [رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح].

وفي الحديث عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله: فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) [رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني].

فإن التمسك بالدنيا وتقديمه على الدين سبب مباشر في وقوع الذل والهوان على الأمة.

سابعاً: التفرق والإختلاف:

قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقال سبحانه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رجلا قرأ آية، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (كلاكما محسن. قال شعبة: أظنه قال: لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) [البخاري].

وهذا الخلاف شامل لأمور الدين والدنيا، بل الواجب على المسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد معتصمين بحبل الله جمعياً من غير تفرق أو اختلاف، وإلا فإن مصيرهم إلى الهلاك.

ثامناً: العدواة والبغضاء:

قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ).

وفي الحديث عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم: أفشوا السلام بينكم) [رواه الترمذي وحسنه الألباني].

فالآية صريحة بأن الشيطان يريد أن تدب العداوة والبغضاء في الأمة، وذلك لإفسادها الذي يترتب عليه هلاكها، والحديث واضح الدلالة بان الحسد والبغضاء مما يفسد على الناس دينهم فيستحقوا عليه العقاب، وإن أعظم ما يولد العداوة والبغضاء والتحاسد في الأمة:

أولاً: الجدال في الدين: فعن رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون قوم من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى قال قلت جعلت فداك يا رسول الله وكيف ذاك قال يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعضه قال قلت ثم ما يقولون قال يقولون الخير من الله والشر من إبليس فيقرون على ذلك كتاب الله ويكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة فما يلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة في زمانهم يكون ظلم السلطان فينالهم من ظلم وحيف وأثرة ثم يبعث الله عز وجل طاعونا فيفني عامتهم ثم يكون الخسف فما أقل ما ينجو منهم المؤمن يومئذ قليل فرحه شديد غمه ثم يكون المسخ فيمسخ الله عز وجل عامة أولئك قردة وخنازير ثم يخرج الدجال على أثر ذلك قريبا ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بكينا لبكائه قلنا ما يبكيك قال رحمة لهم الأشقياء لأن فيهم المتعبد ومنهم المجتهد مع أنهم ليسوا بأول من سبق إلى هذا القول وضاق بحمله ذرعا إن عامة من هلك من بني إسرائيل بالتكذيب بالقدر قلت جعلت فداك يا رسول الله فقل لي كيف الإيمان بالقدر قال تؤمن بالله وحده وإنه لا يملك معه أحد ضرا ولا نفعا وتؤمن بالجنة والنار وتعلم أن الله عز وجل خالقهما قبل خلق الخلق ثم خلق خلقه فجعلهم من شاء منهم للجنة ومن شاء منهم للنار) [رواه الطبراني في المعجم الكبير].

الثاني: الحرص على الدنيا: فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما أتي عمر بكنوز كسرى قال له عبد الله بن أرقم الزهري: ألا تجعلها في بيت المال؟ فقال عمر: لا نجعلها في بيت المال حتى نقسمها، وبكي عمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح، فقال عمر: إن هذا لم يعطه الله قوما قط إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء) [رواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة].

تاسعاً: كثرة المعاصي:

قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال سبحانه: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً).

وفي الحديث عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه). وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) [متفق عليه].

وما يحمل على المعصية الجهل، والكبر وغير ذلك، ومن أبرز المعاصي التي إذا تفشت في الأمة هلكت الربا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)، وكذلك موالاة الكافرين قال تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)، وغير ذلك من المعاصي التي حذر الله سبحانه المؤمنين من الوقوع فيها لئلا يهلكوا.

عاشراً: الامتناع عن فعل الخير ومن ذلك الصدقة:

قال تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة ما نقله القرطبي رحمه الله تعالى قال: روى البخاري عن حذيفة: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: "وأنفقوا في سبيل الله" الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.

الحادي عشر: ترك الحكم بما أنزل الله سبحانه:

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنيَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)، ففي هذه الآية الكريمة يتضح أن المنافقين تقع عليهم المصائب بسبب إعراضهم عن الحكم بما أنزل الله سبحانه، وهذه المصائب تتمثل بالهزيمة والذل والتعذيب وغير ذلك.

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم،وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) [أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن وحسنه الألباني].

وقد يؤخذ علي أن أخرت هذا الأمر عن غيره رغم شيوعه وأهميته، ولكن كما ذكرت فالمسألة لا تتعلق بالترتيب، إنما بذكر بعض الأسباب التي تستحق عليها الأمة الهزيمة إن وقعت فيها، كما أنه هنالك الكثير من الأمور إذا فعلتها الأمة عذبت، ولكنها تدخل ضمناً تحت عموم هذه الأسباب.

وأسأل الله تعالى أن يهدينا جمعياً للعمل بما يحبه ويرضاه،ويرزقنا اجتناب ما نستحق عليه العقاب منه، كما أساله سبحانه أن ينفعني وإخواني بهذه الرسالة الموجزة المختصرة، وأن يجعلها في ميزان حسناتي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

[وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز | 2 /ربيع الأول /1425 هـ]


بارك الله فيك اخي وجزاك الله خيرا أخي كريم