مشاهدة النسخة كاملة : مختصر سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام
intissarat
2008-11-25, 19:09
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
قمت باختيار هذا الكتاب القيّـم الذي يحتوي على سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مولده إلى وفاته ومابين ذلك منذ كلف بالرسالة ودعوته وجهاده وغزواته ومن بعده الخلفاء الراشدين الأربعة
أبي بكر الصديق وعمربن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبي طالب رضوان الله عليهم جميعا وكذلك أعمالهم ومدة خلافتهم مختصرة والحوادث التي وقعت أيام خلافتهم ومابعد ذلك إلى بدء الخلافة العباسية بدء تأليف الكتب
هذا الكتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري
قام بتجديده وأضاف إليه الكاتب / محمد حامد الفقي سنة 1375 في 15 شوال 0
أرجو تثبيت الكتاب إن أمكن لأهميته وشموله على نواحي متعددة من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام - والقرار يرجع للإداره في ذلك بعد الإطلاع عليه
بســـــــــــــــــــــــــــــم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الأول ( 1 )
نسب النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنافة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان. إلى هنا معلوم الصحة. وما فوق عدنان مختلف فيه ولا خلاف أن عدنان: من ولد إسماعيل. وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب. والقول بأنه إسحاق باطل.
ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل. وكانت وقعة الفيل تقدمة قدما الله لنبيه وبيته، وإلا فأهل الفيل نصارى أهل كتاب، دينهم خير من دين أهل مكة. لأنهم عباد أوثان فنصرهم الله نصراً لا صنع للبشر فيه، تقدمة للنبي الذي أخرجته قريش من مكة، وتعظيماً للبلد الحرام.
قصة الفيل: وكان سبب قصة أصحاب الفيل ـ على ما ذكر محمد بن إسحاق ـ أن أبرهة بن الصباح كان عاملاً للنجاشي ملك الحبشة على اليمن فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة ـ شرفها الله ـ فبنى كنيسة بصنعاء. وكتب إلى النجاشي " إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به رجل من بني كنافة فدخلها ليلاً. فلطخ قبلتها بالعذرة. فقال أبرهة: من الذي أجترأ على هذا؟ قيل: رجل من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت. فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمه وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، فسأله أن يبعث إليه بفيله وكان له فيل يقال له: محمود، لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة سائراً إلى مكة. فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوا جهاده حقاً عليهم. فخرج ملك من ملوك اليمن، يقال له: ذو نفر. فقاتله. فهزمه أبرهة وأخذ أسيراً، فقال: أيها الملك استبقني خيراً لك، فاستحياه وأوثقه.
وكان أبرهة رجلاً حليماً. فسار حتى إذا دنا من بلاد خثم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي، ومن اجتمع إليه من قبائل العرب. فقاتلوهم فهزمهم أبرهة. فأخذ نفيلا. فقال له: أيها الملك، إنني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة. فاستبقني خيراً لك فاستبقاه وخرج معه يدله على الطريق.
فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف. فقال له: أيها الملك. نحن عبيدك. ونحن نبعث معك من يدلك. فبعثوا معه بأبي رغال مولى لهم. فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره. وبعث أبرهة رجلاً من الحبشة ـ يقال له: الأسود بن مفصود ـ على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نعم الناس. فجمع الأسود إليه أموال الحرم. وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.
ثم بعض رجلاً من حمير إلى أهل مكة، فقال: أبلغ شريفها أنني لم آت لقتال، بل جئت لأهدم البيت. فانطلق، فقال لعبد المطلب ذلك.
فقال عبد المطلب: ما لنا به يدان. سنخلي بينه وبين ما جاء له. فإن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم. فإن يمنعه فهو بيته وحرمه. وإن يخلى بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوة.
قال: فانطلق معي إلى الملك ـ وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب ـ فأتاه، فقال يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك.
فأرسل إليه، فقال لأبرهة: إن هذا سيد قريش يستأذن عليك. وقد جاء غير ناصب لك، ولا مخالف لأمرك، وأنا أحب أن تأذن له.
وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً. فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه. وكره أن يجلس معه على سريره، وأن يجلس تحته. فهبط إلى البساط، فدعاه فأجلسه معه. فطلب منه أن برد عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله.
فقال أبرهة لترجمانه، قل له: إنك كنت أعجبتني حين رأيتك. ولقد زهدت فيك. قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت ـ هو دينك ودين آبائك، وشرفكم وعصمتكم ـ لأهدمه. فلم تكلمي فيه، وتكلمني في مائتي بعير؟ قال: أنا رب الإبل. والبيت له رب يمنعه منك.
فقال: ما كان ليمنعه مني.
قال: فأنت وذاك. فأمر بإبله فردت عليه.
ثم خرج وأخبر قريشاً الخبر. وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب؛ ويتحرزوا في رؤوس الجبال؛ خوفاً عليهم من معرة الجيش.
ففعلوا. وأتى عبد المطلب البيت. فأخذ بحلقة الباب؛ وجعل يقول:
يا رب؛ لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهمو حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
فامنعهمو أن يخربوا قراكا
وقال أيضاً:
لا هم إن المرء يمنع رحله
وحلاله. فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدواً محالك
جروا جموعهم وبلادهم
والفيل؛ كي يسبوا عيالك
إن كنت تاركهم
وكعبتنا فأمر ما بدالك
ثم توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه. وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه. وهيأ فيه. فأقبل نفيل إلى الفيل. فأخذ بأذنه؛ فقال: أبرك محمود. فإنك في بلد الله الحرام. فبرك الفيل. فبعثوه فأبى. فوجهوه إلى اليمن؛ فقام يهرول. ووجهوه إلى الشام فعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل ذلك. فصرفوه إلى الحرام فبرك. وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل. فأرسل الله طيراً من قبل البحر، مع كل طائر ثلاثة أحجار. حجرين في رجليه وحجراً في منقاره. فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم. فلم تصب تلك الحجارة أحد إلا هلك، وليس كل القوم أصابت. فخرج البقية هاربين يسألون عن نفيل، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فماج بعضهم في بعض، يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعلت تساقط أنامله، حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
***
رجعنا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم.
وفاة عبد الله والد رسول الله:
قد اختلف في وفاة أبيه: هل توفي بعد ولادته أو قبلها؟ الأكثر: على أنه توفي وهو حمل، ولا خلاف أن أمة ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء، منصرفها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك ست سنين.
فكفله جده عبد المطلب، ورق عليه رقة لم يرقها على أولاده، فكان لا يفارقه، وما كان أحد من ولده يجلس على فراشه ـ إجلالاً له ـ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد مكة قوم من بني مُدْلج من القافة، فلما نظروا إليه قالوا لجده: احتفظ به. فلم نجد قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه، فقال لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، واحتفظ به.
وتوفي جده في السنة الثامنة من مولده، وأوصى به إلى أبي طالب، وقيل إنه قال له:
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بمفرد بعد أبيه فرد
وكنت كالأم له في الوجد
تُدْنيه من أحشائها والكبد
فأنت من أرجى بني عندي
لرفع ضيم ولشد عضد
عبد المطلب جد رسول الله: قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب من سادات قريش، محافظاً على العهود. متخلقاً بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم في خدمة الحجيج، ويطعم في الأزمات، ويقمع الظالمين، وكان يطعم الوحوش والطير في رؤوس الجبال، وكان له أولاد أكبرهم الحارث، توفي في حياة أبيه، وأسلم من أولاد الحارث عبيدة، قتل ببدر، وربيعة، وأبو سفيان، وعبد الله.
ومنهم: الزبير بن عبد المطلب شقيق عبد الله، وكان رئيس بني هاشم وبني المطلب في حرب الفجار، شريفاً شاعراً، ولم يدرك الإسلام، وأسلم من أولاده: عبد الله، واستشهد بأجنادين، وضُباعة، ومجل، وصفية، وعاتكة.
وأسلم منهم حمزة بن عبد المطلب، والعباس.
ومنهم: أبو لهب مات عقيب بدر، وله من الولد: عتيبة الذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقله السبع، وله عتبة، ومعتب، أسلما يوم الفتح، ومن بناته: أروى، تزوجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فولدت له عامراً وأروى، فتزوج أروى عفان بن أبي العاص بن أمية، فولدت له عثمان، ثم خلف عليها عقبة ابن أبي مُعَيْط، فولدت له الوليد بن عقبة، وعاشت إلى خلافة ابنها عثمان.
ومنهن: برة بنت عبد المطلب، أم أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
ومنهن: عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية، وهي صاحبة المنام قبل يوم بدر، اختلف في إسلامها.
ومنهن: صفية أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت.
وأروى أم آل جحش ـ عبد الله، وأبي أحمد، وعبيد الله، وحَمنة.
وأم عبد المطلب: هي سلمى بنت زيد من بني النجار، تزوجها أبوه هاشم بن عبد مناف فخرج إلى الشام ـ وهي عند أهلها، قد حملت بعبد المطلب ـ فمات بغزة. فرجع أبورُهْم بن عبد العزى وأصحابه إلى المدينة بتركته، وولدت امرأته سلمى: عبد المطلب، وسمته شيبة الحمد، فأقام في أخواله مكرماً، فبينما هو يناضل الصبيان، فيقول: أنا ابن هاشم، سمعه وجل من قريش، فقال لعمه المطلب: إني مررت بدور بني قيلة، فرأيت غلاماً يعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة، فرحل إلى المدينة في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه إليه، وأنشد شعراً:
عرفت شيبة والنجار قد جعلت
أبناءها حوله بالنبل تنتضل
عرفت أجلاده فينا وشيمته
ففاض مني عليه وابل هطل
فأردفه على راحلته، فقال: يا عم، ذلك إلى الوالدة، فجاء إلى أمه، فسألها أن ترسل به معه، فامتنعت، فقال لها: إنما يمضي إلى ملك أبيه، وإلى حرم الله، فأذفت له فقدم به مكة، فقال الناس: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم.
فأقام عنده حتى ترعرع، فسلم إليه ملك هاشم: عن أمر البيت، والرفادة، والسقاية، وأمر الحجيج، وغير ذلك.
وكان المطلب شريفاً جواداً، وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه، وهو الذي عقد الحلف بين قريش وبين النجاشي، وله من الولد: الحارث، ومخرمة، وعباد، وأنيس، وأبو عمر، وأبو رهم، وغيرهم.
ولما مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح(1) شيبة فغصبه إياها، فسأل رجال من قريش النصرة على عمه، فقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتاً، منها:
يا طول ليلي لأحزاني وإشغالي
هل من رسول إلى النجار أخوالي؟
بني عدي ودينار ومازنها
ومالك عصمة الحيران عن حالي
قد كنت فيهم وما أخشى ظلامة ذي
ظلم، عزيزاً منيعا ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي، وأزعجني
لذاك مُطلب عمي بترحالي
فغاب مطلب في قعر مظلمة
ثم انبرى نوفل يعدو على مالي
لما رأى رجلا غابت عمومته
وغاب أخواله عنه بلا والي
فاستنفروا وامنعواضيم ابن أختكم
لا تخذلوه، فما أنتم بخذالي
فلما وقف خاله أبو سعد بن عدوي بن النجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكباً، حتى قدم مكة، فنزل بالأبطح، فتلقاه عبد المطلب، وقال: المنزل يا خال، فقال: لا والله حتى ألقي نوفلا: تركته بالحجر جالسا في مشايخ قومه، فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائماً، فقال: يا أبا سعد، أنعم صباحاً، فقال: لا أنعم الله لك صباحاً، وسل سيفه وقال: ورب هذا البيت لئن لم ترد على ابن أختي أركاحه لأمكنن منك هذا السيف، فقال: رددتها عليه، فاشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على شيبة، فأقام عنده ثلاثاً. ثم اعتمر ورجع إلى المدينة، فقال عبد المطلب.
ويأبى مازن وأبو عدي
ودينار بن تيم الله ضيمي
بهم رد الإله عليّ ركحي
وكانوا في انتساب دون قومي
فلما جرى ذلك: حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم، وحالفت بنوها هاشم: خزاعة على بني عبد شمس نوفل، فكان ذلك سبباً لفتح مكة، كما سيأتي.
فلما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب، قالوا: نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره، وذلك أن أم عبد مناف منهم، فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وكتبوا بينهم كتاباً.
عبد الله والد رسول الله:
وأما عبد الله، والد النبي صلى الله عليه وسلم: فهو الذبيح.
وسبب ذلك: أن عبد المطلب أمر في المنام بحفر زمزم، ووصف له موضعها، وكانت جُرْهم قد غلبت آل إسماعيل على مكة، وملكوها زمناً طويلاً، ثم أفسدوا في حرم الله فوقع بينهم وبين خزاعة حرب، وخزاعة من قبائل اليمن، من أهل سبأ، ولم يدخل بينهم بنو إسماعيل، فغلبتهم خزاعة، ونفت جرهما من مكة، وكانت جرهم قد دفنت الحجر الأسود، والمقام وبئر زمزم، وظهر ذلك قصي بن كلاب على مكة، ورجع إليه ميراث قريش، فأنزل بعضهم داخل مكة ـ وهم قريش الأباطح ـ وبعضهم خارجها ـ وهم قريش الظواهر ـ فبقيت زمزم مدفونة إلى عصر عبد المطلب، فرأى في المنام موضعها، فقام يحفر، فوجد فيها سيوفاً مدفونة وحلياً، وغزالاً من ذهب مُشَنَّفاً بالدر، فعلقه عبد المطلب على الكعبة، وليس مع عبد المطلب إلا ولده الحارث، فنازعته قريش، وقالوا له: أشركنا، فقال: ما أنا بفاعل. هذا أمر خصصت به، فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.
فنذر حينئذ عبد المطلب: لئن آتاه الله عشرة أولاد، وبلغوا أن يمنعوه: لينحرن أحدهم عن الكعبة، فلما تموا عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، كتب كل منهم اسمه في قدح، وأعطوا القداح قَيِّم هُبَل ـ وكان الذي يُجيل القداح ـ فخرج القدح على عبد الله، وأخذ عبد المطلب المدية ليذبحه، فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه، فقال: كيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه: أن ينحر عشراً من الإبل؟ فأقرع بين عبد الله وبينها، فوقعت القرعة عليه؟ فاغتم عبد المطلب، ثم لم يزل يزيد عشراً عشراً، ولا تقع القرعة إلا عليه، إلى أن بلغ مائة فوقعت القرعة على الإبل؛ فنحرت عنه. فجرت سنة.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أنا ابن الذبيحين" يعني إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله.
ثم ترك عبدُ المطلب الإبل لا يرد عنها إنساناً ولا سبعاً، فجرت الدية في قريش والعرب مائة من الإبل، وأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. وقالت صفية بنت عبد المطلب.
نحن حفرنا للحجيج زمزم
سُقيا الخليل وابنه المكرم
جبريل الذي لم يذمم
شفاء سُقْم وطعام مطعم
أبو طالب عم رسول الله:
وأما أبو طالب: فهو الذي تولى تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد جده كما تقدم، ورق عليه رقة شديدة، وكان يقدمه على أولاده.
قال الواقدي: قام أبو طالب ـ من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة ثلاث وأربعين ـ يحوطه ويقوم بأمره، ويذب عنه، ويلطف به.
وقال أبو محمد بن قدامة: كان يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وله في ذلك أشعار منها:
ألا أبلغاً عني على ذاتِ بيننا
لؤياً وخصاً من لؤي بني كعب
بأنا وجدنا في الكتاب محمداً
نبيا كموسى، خُطّ في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة
ولا خير ممن خصه الله بالحب
ومنها:
تعلم خيار الناس أن محمداً
وزيراً لموسى والمسيح ابن مريم
فلا تجعلوا لله ندا. وأسلموا
فإن طريق الحق ليس بمظلم
ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار، ولما حضرته الوفاة: دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية ـ فقال " يا عم عبد المطلب؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه وهما يرددان عليه حتى كان آخر كلمة قالها " هو على ملة عبد المطلب " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك" فأنزل الله تعالى ( 9: 113 ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين، ولو كانوا أول قُرْبَى من بعد ما تبين لهم: أنهم أصحاب الجحيم) ونزل قوله تعالى ( 28 : 56 إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ـ الآية).
قال ابن إسحاق: وقد رثاه ولده عليّ بأبيات، منها:
أرقت لطير آخر الليل غردا
يذكرني شجواً عظيماً مجددا
أبا طالب، مأوى الصعاليك، ذا
الندى جواداً إذا ما أصدر الأمر أوردا
فأمست قريش يفرحون بموته
ولست أرى حيا يكون مخلدا
أرادوا أموراً زيفتها حلومهم
ستوردهم يوماً من ألغى موردا
يرجون تكذيب النبي وقتله
وأن يفترى قدما عليه ويجحدا
كذبتم وبيت الله، حتى نذيقكم
صدور العوالي والحسام المهندا
خلّف أبو طالب أربعة ذكور وابنتين. فالذكور: طالب، وعقيل، وجعفر وعلي، وبين كل واحد عشر سنين. فطالب أسنهم، ثم عقيل، ثم جعفر، ثم علي.
فأما طالب: فأخرجه المشركون يوم بدر كرها، فلما انهزم الكفار طلب، فلم يوجد في القتلى، ولا في الأسرى، ولا رجع إلى مكة، وليس له عقب.
وأما عقيل: فأسر ذلك اليوم، ولم يكن له مال، ففداه عمه العباس، ثم رجع إلى مكة، فأقام بها إلى السنة الثامنة. ثم هاجر إلى المدينة، فشهد مؤتة مع أخيه جعفر. وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " وهل ترك لنا عقيل من منزل؟".
واستمرت كفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكرنا ـ فلما بلغ اثنتي عشرة سنة ـ وقيل: تسعاً ـ خرج به أبو طالب إلى الشام في تجارة فرآه بحيري الراهب، وأمر عمه أن لا يقدم به الشام خوفاً عليه من اليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة.
ووقع في الترمذي " أنه بعث معه بلالاً" وه غلط واضح فإن بلالاً إذ ذاك لعله لم يكن موجوداً.
خروجه إلى الشام وزواجه خديجة:
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، خرج إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها، ومعه ميسرة غلامها، وفوصل بصرى.
ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد، وهي أول امرأة تزوجها وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريل " أن يقرأ عليها السلام من ربها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب".
منقول بطلب من صاحبة الموضوع
intissarat
2008-11-25, 19:21
تحنثه في غار حراء:
ثم حبب إليه الخلاء، والتعبد لربه، فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه(1) وبغضب إليه الأوثان ودين قومه، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك، وأنبته الله نباتاً حسناً حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماص وأصدقهم حديثاً، وأحفظهم لأمانة. حتى سماه قومه " الأمين" لما جمع الله فيه من الأحوال الصالحة، والخصال الكريمة المرضية.
بناء الكعبة:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة: قامت قريش في بناء الكعبة حين تضعضت.
قال أهل السير: كان أمر البيت ـ بعد إسماعيل عليه السلام ـ إلى ولده، ثم غلبت جرهم عليه، فلم يزل في أيديهم حتى استحلوا حرمته، وأكلوا ما يهدي إليه. وظلموا من دخل مكة، ثم وليت خزاعة البيت بعدهم، إلا أنه كان إلى قبائل من مضر ثلاث خلال:
الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة، يجيزهم صوفة.
والثانية: الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، وكان ذلك إلى يزيد بن عدوان وكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة.
والثالثة إنساء الأشهر الحرم، وكان إلى رجل من بني كنانة يقال له حذيفة ثم صار إلى جنادة بن عوف.
قال ابن إسحاق: ولما بلغ رسول صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، جمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن قوماً سرقوا كنز الكعبة، وكان في بئر في جوف الكعبة، وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها.
وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم بعض ما كان يضلحه، وكانت حية يخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيه ما يهدي لها كل يوم فتتشرق على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منه أحد إلا احزاْلّثْ وكشت وفتحت فاها، فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجوا أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو بن عائد المخزومي فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بَغِيٍّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة.
فكان شق الباب: لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الأسود واليماني: لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضافت إليهم، وكان ظهر الكعبة: لبني جمح وبني سهم وكان شق الحِجْر: لبني عبد الدار، ولبني أسد بن عبد العزي؛ ولبني عدي وهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لا تَُرعْ ـ أو: نزغ ـ اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: إن أصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإلا فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه.
حتى إذا انتهى الهدم إلى الأساس ـ أساس إبراهيم عليه السلام ـ أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة، آخذ بعضها بعضاً، فأدخل بعضهم عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر: انتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عند ذلك الأساس.
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه: حتى تحاوروا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة، ومملوءة دماً، تعاهدوا ـ هم وبنو عدي بن كعب ـ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، فسموا " لَعَقَةَ الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال، أو خمساً.
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي ـ وكان يومئذ أسن قريش كلهم ـ قال: اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب المسجد، ففعلوا، فكان أول من دخل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه، قالوا "هذا الأمين" رضينا به، هذا محمد " فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم: " هلمّ إلٍيّ ثوباً" فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعاً" ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه: وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة، وكانوا يرفعون أزُرَهم على عواتقهم ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبُط به ـ أي طاح على وجهه ـ ونودي " أستر عورتك " فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
فلما بلغوا خمسة عشر ذراعاً سقفوه على ستة أعمدة.
وكان البيت يكسى القباطى، ثم كسي البرود، وأول من كساه الديباج: الحجاج بن يوسف.
وأخرجت قريش الحجر لقلة نفقتهم، ورفعوا بابها عن الأرض، لئلا يدخلها إلا من أرادوا وكانوا إذا أرادوا أن لا يدخلها أحد لا يريدون دخوله: تركوه حتى يبلغ الباب، ثم يرمونه.
فلما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: بعثه الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
بعض ما كان عليه أهل الجاهلية: ونذكر قبل ذلك شيئاً من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: ذكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله نوحاً عليه السلام، وكان أول رسول إلى أهل الأرض، قال ابن عباس: في قوله تعالى ( 2: 213 كان الناس أمة واحدة) قال: على الإسلام كلهم، وكان أول ما كادهم به الشيطان: هو تعظيم الصالحين وذكر الله ذلك في كتابه في قوله ( 71: 23 وقالوا: لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً، ولا يغوث، ويعوق ونسراً) قال ابن عباس: كان هؤلاء قوماً صالحين، فلما ماتوا في شهر: جزع عليهم أقاربهم، فصوروا صورهم.
وفي غير حديثه " قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة " قال: فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه، حتى ذهب ذلك القرن، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من الأول، ثم جاء القرن الثالث، فقالوا: ما أعظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم.
فلما بعث الله إليهم نوحاً ت وغرق من غرق ـ أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء بقيت على الشط، فسفت الريح عليها التراب، حتى وارتها.
عمرو بن لحى أول من غير دين إبراهيم:
وكان عمرو بن لحى سيد خزاعة كاهناً وله رئى من الجن فأتاه فقال " عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، إئت جُدّة، تجد أصناماً معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، وادع العرب إلى عبادتها تجب" فأتى جدة فاستثارها، ثم حملها حتى أوردها تهامة.
وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها، فأجابه عوف بن عذرة، فدفع إليه وَدّاً فحمله، فكان بوادي القرى بدومة الجندل، وسمي ابنه: عبدوَدٍّ، فهو أول من سمي به، فلم يزل بنوه يسدنونه، حتى جاء الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبينهه بنو عُذْرة، وبنو عامر، فقالتهم فقتلهم، ثم هدمه وجعله جُذاذاً.
وأجابت عمرو بن لحى مضر بن نزار، فدفع إلى رجل من هذيل سُواعاً، فكان بأرض يقال لها: وهاط، من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر، وفي ذلك قيل:
تراهم حول قبلتهم عكوفاً
كما عكفت هذيل على سواع
وأجابته مذحج، فدفع إلى نعيم بن عمر المرادي يغوث، وكان بأكمة باليمن تعبده مدحج ومن والاها.
وأجابته همدان فدفع إليهم يعوق، فكان بقرية يقال لها خيوان، تعبده همدان ومن والاها من اليمين.
وأجابته حمير، فدفع إليهم نسراً، فكان بموضع بسبا، تعبده حمير ومن والاها.
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فكسرها.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت عمرو ابن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، فكان أول من سيّب السوائب" وفي لفظ " وغير دين إبراهيم" وفي لفظ عن ابن إسحاق " فكان أول من غير دين إبراهيم، ونصب الأوثان".
وكان أهل الجاهلية على ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن. وكانت فزار تقول في إهلالها "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فأنزل الله (30: 28 ضرب لكم مثلاً من أنفسكم : هل لكم مما ملكت إيمانكم من شركاء فيما رزقناكم، فأنتم سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم؟ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون).
ومن أقدم أصنامهم: مناة، وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين مكة والمدينة وكانت العرب تعظمه قاطبة، ولم يكن أحد أشد تعظيماً له من الأوس والخزرج، وبسبب ذلك أنزل الله تعالى ( 2: 158 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ـ الآية) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فهدمهاً عام الفتح.
صنم اللات:
ثم اتخذوا اللات في الظائف، قيل: إن أصل ذلك رجل يلُت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره، وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها ثقيف، وكانوا قد بنو عليها بيتاً، فكان جميع العرب يعظمونها، وكانت العرب تسمى زيد اللات، وتيم اللات. وهي في موضع منارة مسجد الطائف.
فلما أسلمت ثقيف، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها، وحرقها بالنار.
صنم العزى:
ثم اتخذوا العُزى، وهي أحدث من اللات، وكانت بوادي نخلة، فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتاً، وكانوا يسمعون منها الصوت، وكانت قريش تعظمها، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها، وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة: فإذا هو بحبشية ناهشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها، تضرب بأنيابها، وخلفها سادنها، فقال خالد:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة، ثم قتل السادن.
صنم هبل:
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وأعظمها: هبل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان، وكانوا إذا اختصموا، أو أرادوا سفراً: أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده، وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد " أعل هبل" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قولوا: الله أعلى وأجل".
وكان لهم إساف ونائلة، قيل: أصلهما أن إسافاً رجل من جرهم، ونائلة امرأة منهم، فدخلا البيت، ففجر بها فيه، فمسخهما الله فيه حجرين، فأخرجوهما فوضعوهما ليتعظ بهما الناس، فلما طال الأمد وعبدت الأصنام: عبدا.
ذو الخلصة:
وكان لخثعم وبجيلة صنم يقال له: ذو الخلصة، بين مكة والمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي " ألا تريحني من ذل الخلصة"؟ فسار إليه بأحمس، فقاتلته همدان، فظفر بهم وهدمه.
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام.
وكان لأهل كل واد بمكة صنم، إذا أراد أحدهم سفراً كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به.
صنم عم أنس: قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم يقال له: عم أنس، وفيهم أنزل الله ( 6: 136 وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله ـ بزعمهم ـ وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون).
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، قالت قريش ( 38: 5 أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب).
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة: وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً فجعل يطعن في وجوهها وعيونها، ويقول ( 17: 81 جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً) وهي تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت رجعنا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم فنقول:
بدء الوحي:
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت " أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم، حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك. فقال: اقرأن فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال لي في الثالثة: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم 96: 1 ـ3) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ـ وأخبرها الخبر لقد جنيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك والله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ـ ابن عم خديجة ـ وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى، فقالت له خديجة يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك؟ قال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً".
ثم أنشد ورقة:
لججتَ، وكنت في الذكرى لجوجاً
لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قُسِ
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمداً سيسود قوماً
ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية: أن تموجا
فيلقى من يحاربه خساراً
ويلقى من يسالمه فلوجا
فياليتي إذا ما كان ذاكم
شهدت، وكنت أولهم ولوجا
ولو جا بالذي كرهت قريش
ولو عجّت بمكتها عجيجا
أرَجّى بالذي كرهوا جميعاً
إلى ذي العرشـ إن سفلوا ـ عروجا
وهل أمر السفالة غير كفر
بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبقى تكن أمور
يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك، فكل فتى سيلقى
من الأقدار متلفة خروجا
intissarat
2008-11-26, 19:12
أنواع الوحي:
وكان الوحي الذي يأتيه صلى الله عليه وسلم أنواعاً:
أحدها: الرؤيا، قال عبيد بن عمر " رؤيا الأنبياء وحي" ثم قرأ (37: 102 إني أرى في المنام أني أذبحك).
الثاني: ما كان الملك يلقيه في روعه ـ أي قلبه ـ من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم " إن روح القدس فَفَثَ في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته".
الثالث: أن الملك يتمثل له رجلاً فيخاطبه، وفي هذه المرتبة: كان يراه الصحابة أحياناً.
الرابع: أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، فيلتبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض، وجاءه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فكادت ترضُّ.
الخامس: أن يأتيه الملك في الصورة التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله، وهذا وقع مرتين، كما ذكر الله سبحانه في سورة النجم.
السادس: ما أوحاه الله له فوق السموات ليلة المعراج، من فرض الصلاة وغيرها.
قال ابن القيم رحمه الله: أول ما أوحي إليه ربه: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتبليغ. ثم أنزل الله عليه (يأيها المدثر، قم فأنذر) فنبأه باقرأ، وأرسله: بيا أيها المدثر. ثم أمره: أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين.
فأقام بضعة عشر سنة ينذر بالدعوة من غير قتال ولا جزية، ويأمره الله بالكف والصبر، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن لم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين، حتى يكون الدين كله لله.
أول من آمن:
ولما دعا إلى الله: استجاب له عباد الله من كل قبيلة، فكان حائز السبق: صديق الأمة أبا بكر رضي الله عنه، فوازره في دين الله، ودعا معه إلى الله، فاستجاب لأبي بكر عثمان وطلحة وسعد رضي الله عنهم.
وبادر إلى استجابته أيضاً صديقة النساء خديجة رضي الله عنها، وبادر إلى الإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان ابن ثمان سنين، وقيل: أكثر، إذ كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذه من عمه.
شأن زيد بن حارثة:
وبادر زيد بن حارثة رضي الله عنه، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، وقدم أبوه حارثة وعمه في فدائه. فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عبدك، فأحسن لنا في فدائه، فقال صلى الله عليه وسلم " فهل غير ذلك؟ " قالوا: وما هو؟ قال أدعوه فأخبره فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني: فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني" قالوا: قد زدتنا على النصف، وأحسنت، فدعاه فقال " هل تعرف هؤلاء قال: نعم، أبي وعمي، قال " فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبي لك، فاخترني، قال: نعم، أبي وعمي، قال " فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني، أو اخترهما فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان أبي وعمي فقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، خرج إلى الحجر، فقال" أشهدكم أن زيداً ابني أرثه ويرثني" فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما، فانصرفا. ودعي: زيد ابن محمد، حتى جاء الله بالإسلام فنزلت ( 33: 5 أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) قال الزهري: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد.
وأسلم ورقة بن نوفل، وفي جامع الترمذي " أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة".
ودخل الناس في دين الله واحداً بعد واحد، وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم وسب آلهتهم(1)، وأنها لا تضر ولا تنفع، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفاً معظماً وكان من حكمة أحكم الحاكمين: بقاؤه على دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها.
وأما أصحابه: فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب، منهم: عمار بن ياسر، وأمه سمية، وأهل بيته، عذبوا في الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم ـ وهم يعذبون ـ يقول " صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة".
سمية أول شهيدة:
ومر أبو جهل بسمية ـ أم عمار رضي الله عنها ـ وهي تعذب، وزوجها وابنها، فطعنها بحربة في فرجها وفقتلها.
وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه وأعتقه، منهم بلال فإنه عذب في الله أشد العذاب، ومنهم عامر بن فهيرة، وجارية لبني عدي، كان عمر يعذبها على الإسلام، فقال أبو قحافة ـ عثمان بن عامر ـ لابنه أبي بكر: يا بني، أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أعتقت قوماً جلداً يمنعونك؟ فقال: إني أريد، وكان بلال كلما اشتد به العذاب يقول: أحد، أحد.
ابتداء الدعوة: وقال الزهري: لما ظهر الإسلام أتى جماعة من كفار قريش إلى من آمن من عشائرهم؛ فعذبوهم وسجنوهم؛ وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم، قال الترمذي حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمرو بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهم، قالوا " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين مستخفياً، ثم أعلن في الرابعة، فدعا الناس عشر سنين؛ يوافي المواسم كل عام؛ يتبع الناس في منازلهم، وفي المواسم بعكاظ ومجنة؛ وذي المجاز: يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، ولهم الجنة فلا يجد أجداً ينصره ويحميه، حتى ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيقول: أيها الناس، قولوا " لا إله إلا الله" وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه، فإنه صابئي كذاب فيردون على رسول الله صلى الله عليه سلم أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون: عشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، وهو يقول: " اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا" ولما نزل عليه قوله تعالى ( 214:36 وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد الصفا فنادى " واصباحاه" فلما اجتمعوا إليه قال " لو أخبرتكم أن خيلاً تريد أن تخرج عليكم من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جرينا عليك كذباً، قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب" تباً لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ فأنزل الله قوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب).
قال ابن القيم رحمه الله: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله مستخفياً ثلاث سنين ثم نزل عليه (94:15 فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين).
أول دم أهرق:
وفي السنة الرابعة: ضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين فشجه، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها فرآهم رجل من الكفار، ومعه جماعة من قريش، فسبوهم وضرب سعد ابن أبي وقاص رجلاً منهم، فسال دمه فكان أول دم أهرق في الإسلام.
استهزاء المشركين:
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه ـ مثل عمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وصهيب الرومي، وبلال، وأشباههم ـ فإذا مرت بهم قريش استهزأوا بهم، وقالوا: أهؤلاء ـ جلساؤه ـ قد من الله عليهم من بيننا فأنزل الله (53:6 أليس الله بأعلم بالشاكرين؟) وفيهم نزل (41:16) والذين هاجروا في الله، من بعد ما ظلموا لنبؤأنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) وقال أبو جهل: والله لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على رقبته، فبلغه أن رسول الله يصلي، فأتاه، فقال: ألم أنهك عن الصلاة؟ فانتهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتنتهرني، وأنا أعز أهل البطحاء؟ فنزل قوله تعالى ( 9:96، 10أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟) وفي بعض الروايات، أنه قال: ألم أنهك؟ فو الله ما في مكة أعز من نادي.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل " يعفر محمد وجهه بين أظهركم فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وزعم ليطأنّ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، وقال: بيني وبينه ـ خندق من نار وهول وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" فأنزل الله تعالى ـ لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه (6:96، 7 كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى.
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
وفي السنة الخامسة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد عليهم العذاب والأذى، وقال " إن فيها رجلا لا يظلم الناس عنده".
وكانت الحبشة متجر قريش، وكان أهل هذه الهجرة الأولى: اثنى عشر رجلاً وأربع نسوة، وكان أول من هاجر إليها: عثمان بن عفان رضي اله عنه، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستر قوم إسلامهم.
وممن خرج: الزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وأبو سلمة وامرأته رضي الله عنهم، خرجوا متسللين سراً، فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار. فحملوهم إلى الحبشة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر، فلم يدركوا منهم أحداً، وكان خروجهم في رجب، فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان ثم رجعوا إلى مكة في شوال، لما بلغهم: أن قريشاً صافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفوا عنه.
وكان سبب ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، فلما بلغ (19،18:53 أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى ( ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعنهن لترتجى" فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وقد علمنا أن الله يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ولكن آلهتنا تشفع عنده، فلما بلغ السجدة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون كلهم، إلا شيخاً من قريش، رفع إلى جبهته كفاً من حصى فسجد عليه، وقال: يكفيني هذا(1)، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً عظيماً، فأنزل الله (52:22ـ55 وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ـ الآيات)،
ولما استمر النبي صلى الله عليه وسلم على سب آلهتهم، عادوا إلى شر مما كانوا عليه، ازدادوا شدة على من أسلم.
الهجرة الثانية إلى الحبشة:
فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة، وبلغهم أمرهم، توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش، ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، فخرجوا.
وكان عدة من خرج في المرة الثانةي: ثلاثة وثمانين رجلاً ـ إن كان فيهم عمار ابن ياسر ـ ومن النساء تسعة عشر امرأة.
فلما سمعوا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثمان، ومات منهم رجلان بمكة، وحبس سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً.
كتاب رسول الله إلى النجاشي يزوجه أم حبيبة:
فلما كان شهر ربيع سنة سبع من الهجرة: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وكتب إليه: أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة مع زوجها عبد الله بن جحش، فتنصر هناك ومات نصرانياً وكتب إليه أيضاً: أن يبعث إليه من بقي من أصحابه، فلما قرأ الكتاب أسلم وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته، وزوجه أم حبيبة، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وحمل بقية أصحابه في سفينتين، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقدفتحها.
بعث قريش إلى النجاشي تطلب إرجاع المسلمين: ولما كان بعد بدر: اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي ثأراً، فاجمعوا مالا، وأهدوا إلى النجاشي، لعله يدفع إليكم من عنده ولننتدب لذلك رجلين من أهل رأيكم، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد(2) مع الهدية، فركبا البحر، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، وسلما عليه، وقالا: قومنا لك ناصحون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم اتبعوا رجلاً كذاباً، خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتبعه إلا السفهاء فضيقنا عليهم، وألجأناهم إلى شعب بأرضنا، لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد، فقتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليهم الأمر، بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك، فاحذرهم، وأدفعهم إلينا لنكفيكهم، وآية ذلك: أنهم إذا دخلوا لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي تحي بها، رغبة عن دينك.
فدعاهم النجاشي فلما حضروا، صاح، جعفر بن أبي طالب بالباب، يستأذن عليك حزب الله" فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل، قال: نعم. فليدخلوا بإذن الله وذمته، فدخلوا ولم يسجدوا له، فقال: ما منعكم أن تسجدوا لي؟ قالوا: إنما نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبياً صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله، وهي " السلام " تحية أهل الجنية فعرف النجاشي أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل.
فقال: أيكم الهاتف يستأذن؟ فقال جعفر: أنا، فقال: فتكلم.
قال: إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي فأمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما، فتسمع محاورتنا.
فقال عمرو لجعفر: تكلم فقال جعفر للنجاشي: سله، أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال عمرو: بل أحرار كرام.
فقال: هل أهرقنا دماً بغير حق فيقتص منا؟ قال عمرو: ولا قطرة.
فقال: هل أخذنا أموال الناس بغير الحق، فعلينا قضاؤها؟
فقال عمرو: ولا قيراط.
فقال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال: كنا نحن وهم على أمر واحد، على دين آبائنا، فتركوا ذلك واتبعوا غيره.
فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه، وما الذي اتبعتموه؟ قل: وأصدقني.
فقال جعفر: أما الذي كنا عليه: فتركناه، وهو دين الشيطان، كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه: فدين الله الإسلام، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقًا له.
فقال: تكلمت بأمر عظيم، فعلى رِسْلك.
ثم أمر بضرب الناقوس، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فقال لهم: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً؟ قالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى، فقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي.
فقال النجاشي لجعفر رضي الله عنه: ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟
فقال: يقرأ علينا كتاب اللهن ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بحسن الجوار، وصلة الرحم، وبر اليتيم، ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له.
فقال: اقرأ مما يقرأ عليكم. فقرأ سورتي العنكبوت والروم، ففاضت عينا النجاشي من الدمع، قال: زدنا من هذا الحديث الطيب، فقرأ عليهم سورة الكهف.
فأراد عمرو أن يغضب النجاشي، فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه.
فقال: ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على ذلك عيسى وأمه: رفع النجاشي بقشة من سواكه قدر ما يقذي العين. فقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون نقيراً.
وفيه نزل قول الله تعالى ( 83:5 ـ 75 وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترىأعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق؟ ـ الآيات).
فأقبل النجاشي على جعفر، ثم قال:اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ـ والسيوم الآمنون ـ من سبكم غرم، فلا هوادة(1) اليوم على حزب إبراهيم.
موت النجاشي:
ولما مات النجاشي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه كما يصلي على الجنائز، فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة، فأنزل الله تعالى (199:3 وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ـ الآية).
وقيل: إن إرسال قريش في طلبهم كان قبل الهجرة إلى المدينة.
وفي سنة خمس من النبوة استتر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ابن أبي الأرقم.
إسلام حمزة بن عبد المطلب:
وفي السنة السادسة: أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر.
قال ابن إسحاق: مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصفا، تسمع ما يقول أبو جهل، وأقبل حمزة من القنص متوشحاً قوسه، وكان يسمى: أعز قريش، فأخبرته مولاة ابن جدعان بما سمعت من أبي جهل، فغضب، ودخل المسجد ـ وأبو جهل جالس في نادي قومه ـ فقال له حمزة: يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه ثم ضربه بالقوس فشجه شجة موضحة، فثار رجال من بني مخزوم، وثار بنو هاشم، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، فعلمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز، فكفوا عنه بعض ما كانوا ينالون منه.
إسلام عمر رضي الله عنه: وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: أما عمر بن الخطاب، أو أبي جهل نب هشام" فكان أحبهما إلى الله: عمر رضي الله عنه.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال لعمر رضي الله عنه " لم سميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام، وأول شيء سمعته من القرآن ووقر في صدري ( 8:20 الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) فما في الأرض نسمة أحب إلى من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عنه؟ فقيل لي: هو في دار الأرقم، فأتيت الدار ـ وحمزة في أصحابه جلوساً في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت ـ فضربت الباب، فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: مالكم؟ فقالوا: عمر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بمجامع ثيابي، ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي، فقال: ما أنت بمنته يا عمر؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، فقلت: يا رسول الله، السنا على الحق، إن متنا أو حيينا؟ قال: بلى، فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فخرجنا في صفين، حمزة في صف، وأنا في صف ـ له كديد ككديد الطحن ـ حتى دخلنا المسجد، فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاروق".
وقال صهيب: لما أسلم عمر رضي الله عليه جلسنا حول البيت حلقاً، فطفنا واستنصفنا ممن غلظ علينا.
حماية أبي طالب لرسول الله: ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد أمره ويقوى، ورأوا ما صنع أبو طالب به، مشوا إليه بعمارة بن الوليد، فقالوا: يا أبا طالب، هذا أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينك ودين آبائك فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: بئسما تسومونني، تعطوني ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه فقال المطعم بن عدي بن نوفل: يا أبا طالب، قد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص منك بكل طريق، قال: والله ما أنصفتموني، ولكنك أجمعت على خذلاني، فاصنع ما بدا لك.
وقال أشراف مكة لأبي طالب: إما أن تخلي بينا وبينه فنكفيله، فإنك على مثل ما نحن عليه، أو أجمع لحربنا، فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك على هذا، حتى نهلكه أو يكف عنا، فقد طلبنا التخلص من حربك بكل ما نظن أنه يخلص.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا ابن أخي إن قومك جاءوني وقالوا كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملن ما لا أطيف أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فقال صلى الله عليه وسلم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك في طلبه" فقال: امض على أمرك، فوالله لا أسلمك أبداً.
ودعا أبو طالب أقاربه إلى نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب، غير أبي لهب وقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر وقر بذاك منك عيوناً
ودعوتني، وعرفت أنك ناصحي
ولقد صدقت، وكنت ثم أميناً
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
intissarat
2008-11-26, 19:15
حصار بني هاشم في الشعب:
ولما اجتمعوا ـ مؤمنهم وكافرهم ـ على منع رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتمعت قريش، فأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة، فيها عهود ومواثيق "أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل" فأمرهم أبو طالب أن يدخلوا شعبه فلبثوا فيه ثلاث سنين. واشتد عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركون طعاماً يدخل مكة، ولا بيعاً إلا بادروا فاشتروه، ومنعوه أن يصل شيء منه إلى بني هاشم، حتى كان يسمع أصوات نسائهم يتضاغون من وراء الشعب، فأوثقوهم، وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديداً، وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى: أن ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتي أحد فرشهم.
وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة التي قال فيها:
ولما رأيت القوم لاود فيهمو
وقد قطعوا كل العري والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طلوعوا أمر العدو المزايل
intissarat
2008-11-26, 19:16
نقض الصحيفة:
ثم بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكان يصل بني هاشم في الشعب خفية بالليل بالطعام ـ مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: أنا. قال. ابغنا ثالثاً. قال. أبو البختري ابن هشام، قال: ابغتا رابعاً، قال: زمعة بن الأسود، قال: ابغتا خامساً، قال: المطعم ابن عدي، قال: فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة.
فقال زهير: أنا أبدأ بها، فجاءوا إلى الكعبة ـ وقريش محدقة بها ـ فنادى زهير ـ يا أهل مكة، إنا نأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقال أبو جهل: كذبت، والله لا تشق، فقال زمعة: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت.
وقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقار عليه.
فقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو: نحو ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قد قضى بليل، تشوور فه بغير هذا المكان.
وبعث الله على صحيفتهم الأرضة، فلم تترك اسماً إلا لحسته، وبقي ما فيها من شرك وظلم وقطيعة، وأطلع الله رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك لعمه، فقال: لا والثواقب ما كذبتني.
فانطلق يمشي بعصاه من بني عبد المطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش فلما رأوهم ظنوا أنهم خرجوا من شدة الحصار، وأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم أبو طالب، فقال: قد حدث أمر، لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحاً، فأتوا بصحيفتكم ـ وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فلا يأتوا بها، فأتوا بها معجبين، لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم، قالوا: قد آن لكم أن تفيئوا وترجعوا خطراً لهلكة قومكم، فقال أبو طالب: لأعطيتكم أمراً فيه نصف، إن ابني أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أن الله عز وجل برئ من هذه الصحيفة التي في أيديكم، وأنه محا كلاسم له فيها، وترك فيها غدركم، وقطيعتكم، فإن كان ما قال حقاً، فو الله لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلاً، دفعناه إليكم فقتلتموه، أو استحييتموه.
قالوا: قد رضينا، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر، فقالوا: هذا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا إلى شر ما هم عليه.
فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا ـ كما تقدم ـ وفال أبو طالب شعراً يمدح النفر الذين تعاقدوا على نقض الصحيفة، ويمدح النجاشي، منه:
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا
على ملأ، يهدي بحزم ويرشد
أعان عليها كل صقر كأنه
إذا ما مشى في رفرف الدرع أجرد
قعوداً لدى جنب الحجون كأنهم
مقاولة، بل هم أعز وأمجد
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح.
وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس وكان خروجهم في سنة عشرة من النبوة ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر.
موت خديجة وأبو طالب:
وماتت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بأيام، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه بعد موت خديجة وعمه، وتجرأوا عليه، وكاشفوه بالأذى، وأرادوا قتله، فمنعهم الله من ذلك.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " حضرتم، وقد اجتمع أشرافهم في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سَفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وفرق جماعتنا، فبينما هم في ذلك، إذ أقبل، فاستلم الركن فلما مر بهم غمزوه".
وفي حديث: أنه قال لهم في الثانية " لقد جئتكم بالذبح" وأنهم قالوا له: يا أبا القاسم: ما كنت جهولاً، فانصرف راشداً.
فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم، حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم، فقالوا: قوموا إليه وئبة رجل واحد، فلقد رأيت عقبة بن أبي معيط آخذاً بمجامع ردائه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي، يقول: اتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟.
وفي حديث أسماء " فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقالوا: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع، فخرج وهو يقول: ويلكم اتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا يمس شيئاً من غدائر إلا رجع معه" ومرة كان يصلي عند البيت، ورهط من أشرافهم يرونه، فأتى أحدهم بسلا جزور، فرماه على ظهره.
وكانوا يعلمون صدقه وأمانته، وأن ما جاء به هو الحق، لكنهم كما قال الله تعالى (33:6 فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).
وذكر الزهري: أن أبا جهل، وجماعة معه، وفيهم الأخنس بن شريق، استمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: اطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطو فأعطينا، حتى إذا تجائينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذا؟ والله لا نسمع له أبداً، ولا نصدقه أبداً".
وفي رواية " إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة فقلنا: نعم، قالوا: وفينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، وذكره نحوه.
سؤالهم عن الروح وأهل الكهف:
وكانوا يرسلون إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمره؟
قال ابن إسحق عن ابن عباس: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، فإنهم أهل الكتاب، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألاهم عنه؟ ووصفا لهم أمره، فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فهو رجل متقول. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟
فأقبلا حتى قدما مكة، فقالوا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد أخبرنا أحبار يهود: أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فجاءوا رسول الله، فسألوه عما أخبرهم أحبار يهود، فجاءه جبريل بسورة الكهف فيها خبر ما سألوه عنه، من أمر الفتية، والرجل والطواف، وجاءه بقوله ( 85:17 وسألونك عن الروح ـ الآية).
قال ابن إسحاق: فافتتح السورة بحمده وذكر نبوة رسوله لما أنكروا عليه من ذلك، فقال (1:18 الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) يعني أنك رسول مني، أي تحقيق ما سألوا عنه من نبوتك ( ولم يجعل له عوجاً) أي أنزله معتدلاً لا خلاف فيه ـ وذكر تفسير السورة ـ إلى أن قال ( 9:18 أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) أي: ما رأوا من قدرتي في أمر الخلائق، وفيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك وأعجب.
وعن ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنة أعظم من شأن أصحاب الكهف، قال ابن عباس: والأمر على ما ذكروا، فإن مكثهم فياماً ثلاثمائة سنة: آية دالة على قدرة الله ومشيئته، وهي آية على معاد الأبدان، كما قال تعالى ( 21:18 وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها) وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم، هل تعاد الأرواح وحدها؟ أم الأرواح والأبدان؟ فجعلهم الله آية ولله على معاد الأبدان، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقصتهم، من غير أن يعلمه بشر، آية دالة على نبوته، فكانت قصتهم آية دالة على الأصول الثلاثة: الإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، ومع هذا: فمن آيات الله ما هو أعجب من ذلك.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سؤالهم عن هذه الآيات التي سألوه عنها ليعلموا: هل هو نبي صادق، أو كاذب؟ فقال (83:18 ـ 100 ويسألونك عن ذي القرنين قل: سأتلو عليكم منه ذكراً) وقوله ( 7:12 ـ 02 لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ـ إلى قوله ـ إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون).
والقرآن مملوء من إخباره بالغيب الماضي، الذي لا يعلمه أحد من البشر، إلا من جهة الأنبياء، لا من جهة الأولياء، ولا من جهة غيرهم، وقد عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم لا يتعلم هذا من بشر، ففيه آية وبرهان قاطع على صدقه ونبوته.
قول الوليد بن المغيرة في القرآن: سحر: وعن ابن عباس قال: " إن الوليد بن المغيرة، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ علي، فقرأ عليه (90:16 إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ـ الآية) فقال: أعد، فأعاد، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر".
وفي رواية " وبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا ما لك مالاً، قال: ولم؟ قال: أتيت محمداً لتعوض مما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك: أنك منكر له، قال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم أعلم بالأشعار مني... الخ".
وفي رواية أن الوليد بن المغيرة قال لهم ـ وقد حضر الموسم ـ " ستقدم عليكم وفود العرب من كل جانب، وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فاجمعوا فيه رأياً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، فقالوا: فأنت فقل، فقال: بل قولوا وأنا أسمع، قالوا: نقول: كاهن، قال: ما هو بزمرة الكهان، ولا سجعهم، قالوا نقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون لقدر أينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخالجه قالوا: نقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر: رجزه، وهزجه وقريضه، ومقبوضه، وميسوطه، قالوا: نقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم، فما بعقدهم ولا نفثهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال ما نقول من شيء من هذا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول، أن تقولوا: ساحر، يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس، لا يمر بهم إلا حذروه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في الوليد بن المغيرة ( 11:74 ـ 26 ذرني ومن خلقت وحيداً ـ إلى قوله ـ سأصليه سقر).
ونزل في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول الله، وفيما جاء به من عند الله (91:15 الذين جعلوا القرآن عضين) أي أصنافا.
وكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات، فمنها ما يأتيهم الله به، لحكمه أرادها الله سبحانه.
انشقاق القمر:
فمن ذلك أنهم سألوه: أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، وأنزل قوله ( 1:54 ـ 3 اقتربت الساعة وانشق القمرـ الآيات ـ إلى قوله: وكل أمر مستقر) فقالوا: سحركم، انظروا إلى السفّار، فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، فقدموا من كل وجه، فقالوا: رأينا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما طلب من الآيات ـ التي يقترحون ـ رغبة منه في إيمانهم، فيجاب بأنها: لا تستلزم الهدى، بل توجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها.
سؤالهم بالآيات:
والله سبحانه قد يظهر الآيات الكثيرة، مع طبعه على قلب الكافر، كفرعون قال تعالى: (109:6 ـ111 وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ـ إلى قوله ـ ولكن أكثرهم يجهلون) وقال تعالى ( 59:17 وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ـ الآية).
بين سبحانه وتعالى: أنه إنما منعه أن يرسل بها إلا أن كذب بها الأولون، فإذا كذب هؤلاء كذلك: استحقوا عذاب الاستئصال.
وروى أهل التفسير، وأهل الحديث عن ابن عباس، قال " سأله أهل مكة أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنَحّى عنهم الجبال حتى يزرعوا، فقيل له: إن شئت نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا، كما هلك من قبلهم، فقال: بل استأني بهم، فأنزل الله ( ومت منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الألون ـ الآية).
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: رحمة لكم أيها الأمة، إنا لو أرسلنا بالآيات، فكذبتم بها: أصابكم ما أصاب من قبلكم، وكانت الآيات تأتيهم آية بعد آية، فلا يؤمنون بها، قال تعالى ( 4:6 ـ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ـ الآيات).
أخبر سبحانه بأن الآيات تأتيهم فيعرضون عنها، وأنهم سيرون صدق ما جاءت به الرسل، كما أهلك الله من كان قبلهم بالذنوب التي هي تكذيب الرسل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول (59:38 وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ـ الآية) وأخبر بشدة كفرهم بأنهم لو أنزل عليه كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لكذبوا به، وبين سبحانه أنه لو جعل الرسول ملكاً لجعله على صورة رجل، إذ كانوا لا يستطيعون أن يروا الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها، وحينئذ يقع اللبس عليهم، لظنهم الرسول بشراً لا ملكاً، وقال تعالى ( 90:17ـ96 وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ـ الآيات).
وهذه الآيات لو أجيبوا إليها، ثم لم يؤمنوا: لأتاهم عذاب الاستئصال، وهي لا توجب الإيمان، بل إقامة للحجة، والحجة قائمة بغيرها، وهي أيضاً مما لا يصح فإن قولهم "حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً " يقتضي تفجيرها بمكة، فيصير وادياً ذا ذرع والله سبحانه وتعالى قضى بسابق حكمته: أن جعل بيته بواد غير ذي ذرع، لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا، فيكون حجهم للدنيا.
وإذا كان له جنة من نخيل وعنب كان في هذا من التوسع في الدنيا ما يقتضي نقص درجته.
وكذلك إذا كان له قصر من زخرف، وهو الذهب.
أما إسقاط السماء كسفاً، فهذا لا يكون إلا يوم القيامة.
وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا: فهذا لما سأل قوم موسى ما هو دونه: أخذتهم الصاعقة، وقال تعالى: ( 153:4 ـ161 يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء ـ الآيات).
بين سبحانه: أن المشركين وأهل الكتاب سألوه إنزال كتاب من السماء، وبين أن الطائفتين لا يؤمنون إذا جاءهم ذلك، وأنهم إنما سألوه تعنتاً، فقال عن المشركين (7:6 ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس ـ الآية).
وقال عن أهل الكتاب ( 153:4 فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ـ إلى قوله ـ ميثاقاً غليظاً) فهم ـ مع هذا ـ نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين، فكان فيه من الاعتبار: أن الذين لا يهتدون إذا جاءتهم الآيات المقترحة لم يكن في مجيئها منفعة لهم، بل فيها وجوب عقوبة عذاب الاستئصال إذا لم يؤمنوا، وتغليظ الأمر عليهم كما قال تعالى: (160:4 فبظلم من الذين هادوا ـ الآية). فكان في إنزال مثل هذه: أعظم رحمة وحكمة.
ولما طلب الحواريون من المسيح المائدة، كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذاباً، لم يعذب الله به أحداً من العالمين، وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين بالرسل بعذاب الاستئصال عاجلاً، وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها في الأرض، إذ كن بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، كما قال تعالى (43:28 ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) بل كان بنو إسرائيل لما كانوا يفعلون ما يفعلون ـ من الكفر والمعاصي ـ يعذب الله بعضهم ويبقى بعضهم، إذ كانوا لا يتفقون على الكفر، ولم يزل في الأرض منهم أمة باقية على الصلاح قال تعالى: (167:7 وقطعانهم في الأرض أمماً منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك ـ الآية) وقال (114،113:3 من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل. وهم يسجدون ـ الآيتين).
وكان من حكمته تعالى ورحمته ـ لما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين ـ أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كالمستهزئين الذين قال الله فيهم ( 96،95:15 إنا كفيناك المستهزئين ـ الآيات).
والذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلط عليه كلباً من كلابه فافترسه الأسد، كما قال تعالى ( 52:9 قل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده؟ ـ الآية).
فأخبر سبحانه أن يعذب الكفار تارة بأيدي المؤمنين بالجهاد والحدود، وتارة بغير ذلك. فكان ذلك مما يوجب إيمان أكثرهم، كما جرى لقريش وغيرهم، فإنه لو أهلكهم لبادوا وانقطعت المنفعة بهم، ولم يبق لهم ذرية تؤمن، بخلاف ما عليهم به من الإذلال والقهر، فإن في ذلك ما يوجب عجزهم، والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها فلا تكاد تنصرف عنها بخلاف عجزها عنها، فإنه يدعوها إلى التوبة، كما قيل: من العصمة أن لا تقدر، ولهذا آمن عامتهم.
وقد ذكر الله في التوراة لموسى " إني أُقسَّى قلب فرعون، فلا يؤمن بك لتظهر أياتي وعجائبي".
بين أن في ذلك من الحكمة: انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض إذ كان موسى أخبر بتكليم الله له، وبكتابة التوراة له فأظهر له من الآيات ما يبقى ذكره في الأرض، وكان في ضمن ذلك: من تقسية قلب فرعون ما أوجب هلاكه وهلاك قومه. وفرعون كان جاحداً للصانع. فلذلك أوتي مصر من الآيات ما يناسب حاله.
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir