تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : فهرس سلسة الرد على شبهات الصوفية


ليتيم الشافعي
2008-11-22, 17:58
الرد شبهة إيجابهم اتخاذ الشيخ عند الصوفية

الشبهة (1) : إيجابهم اتخاذ الشيخ

ومن أقوالهم ( أي الصوفية ) :

وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم

فما نبتت أرض بغير فــلاحة

ومن أقوالهم في ذلك: الدين إطاعة رجل.

ومن أقوالهم : قول قائلهم «الغوث»: لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله.

وستكون مناقشة هذه الشبهة بعرض أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم على القرآن والسنة قبل كل شيء:


1- يقول سبحانه في كتابه العزيز: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.

واضح من الآية الكريمة كل الوضوح، ودون لَبْس أو إشكال أو غموض، أن من يردُّ ما يُتنازع فيه إلى غير الله ورسوله، فهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.

وردُّ الشيء إلى الله والرسول، يعني عرضه على الكتاب والسنة، فالقرآن كلام الله، والسنة كلام رسوله المُوحَى معناه من الله سبحانه.

والصوفية يردون كل شيء إلى شيوخهم، ويطلبون من الآخرين أن يردوه إليهم، ويكفي إيراد قولٍ واحدٍ لأحد أقطابهم:

«... وإن قال (قائل) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه... وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه؛ لأنه في حال تهمة لارتداده عن طريق شيخه».

- السؤال: أيها المسلم المؤمن! ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟

إن الآية الكريمة تضع الجواب الكريم: ... [ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ]، التي يُستنبَط منها: إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر، فردوه إلى الشيخ أو إلى من تريدون.

2- ويقول سبحانه: [ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] .

فكل شرع في الدين، كائنًا ما كان، لم يأذن به الله فهو شرك.

والشيوخ في الصوفية يشرعون في دينهم كل ما لم يأذن به الله، ونكتفي بإيراد قول قطبهم المدَّرك:

من يذكر الله تعالى بلا شيخ، لا الله حصل ولا نبيه ولا شيخه.

فمن أين أتى بهذا التشريع؟ وما هو حكم من يأخذ بهذا التشريع الوثني؟

ونعود للسؤال؟ ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟

والآية الكريمة تقرر الجواب: [ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] .

3- يقول سبحانه في وصف أهل الكتاب: [ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ] .

يورد ابن كثير: سَمِعَ عدي بن حاتم الطائي (وكان نصرانيًّا فأسلم) هذه الآية من رسول الله r ما معناه: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.

وقد فعل الصوفية ذلك واتخذوا شيوخهم أربابًا من دون الله. ونكتفي بقولٍ لحجتهم الغزالي:

«... فالعلم بحدود هذه الأمور (أي المجاهدات والمقامات)... هو علم الآخرة، وهو فرض عَيْن في فتوى علماء الآخرة...».

وهو كلام واضح صريح، لا يُحتاج معه إلى غيره؛ لأنه كلام من يسمونه «حجة الإسلام»، مع أن غيره يملأ الكتب، على أنهم يُحلِّون ويُحرِّمون ويفرضون الفروض ويسنون السنن.

والسؤال: قل لنا أيها المسلم المؤمن، ما هو حكم الشريعة الإسلامية فيمن يقول مثل هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟

وفي الآية الكريمة الجواب: [ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ].

4- ويقول سبحانه: [ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ.. ] .

وقد اتخذ المتصوفة من شيوخهم أندادًا يحبونهم كحبِّ الله، بل أشد حبًّا، حتى كأن الآية أنزلت فيهم خاصة، وهذا قول مَرَّ معنا لأحد أقطابهم العظام:

«حقيقة حب الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها من أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل».

وقول الآخر: الطريق ذكر الله ومحبة الشيخ.

والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟

إن الآية الكريمة تعطينا الجواب الكريم: [ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ] .

5- قال ربعي بن عامر لكسرى: «بعث الله إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة الناس إلى عبادة ربّ الناس».

وجاءت الصوفية لتعكس الآية وتعيد الشرك إلى مساره، فتخرج الناس من عبادة رب الناس إلى عبادة المشايخ وعبادة قبور المشايخ!

والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على هؤلاء؟ بل ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يتوقف في الحكم عليهم؟

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 17:59
الرد شبهة إيجابهم اتخاذ الشيخ عند الصوفية
6- سيقول لك المتصوفة وشيوخهم وكثير من الغافلين والمغفلين: «معاذ الله، الصوفية لا يعدون الشيوخ، لا يعدون إلا الله..» وقد يقدِّمون بعض الأمثلة الموهمة والمتداولة بينهم.

فنجيب: لا، بل يعدون الشيوخ، وهذه أقوالهم وأقوال عارفيهم وأقطابهم الذين يتبركون بالركوع أمام قبورهم ولثم حجارتها والاستغاثة بما فيها من رِمَم، وأمثلهم طريقة ذلك الذي يعتقد أنهم يقربونه إلى الله زُلفى وحسن مآب، وهذه أفعالهم كلها شاهدة عليهم بوضوح كوضوح الشمس في رائعة نهار مشمس، على أنهم يؤلهون الشيوخ ويعدونهم. ولو جمعت أقوال عارفيهم في تأليه الشيوخ لملأت ألوف الصفحات.

وإنكارهم هذا، يُسمى في الشريعة الإسلامية وفي اللغة العربية وفي جميع ما تعارف عليه البشر من أخلاق «الفجور».

- وسيقول بعضهم، متحرفًا لقتالٍ (وفي لغة العصر مناورة): هذا واقع كثير من المتصوفة، وهو من الدخن والانحراف الذي أصاب التصوف كما أصاب غيره من أمور الشريعة. والتصوف الحق بريء من ذلك.

فنقول: «شنشنة نعرفها من أخزم». إن واقع المتصوفة منذ أن وجدت الصوفية وفي كل الأمم، لا في المسلمين وحدهم، هو تأليه الشيخ وعبادته، وهي الطريق التي توصل المريد أو السالك إلى استشعار الألوهية، أما من يصل إلى الجذبة دون شيخ فيسمونه هم: «المراد»، ويعنون بها أن الله أراده فجذبه إليه. وهذا افتراء على الله الكذب؛ لأن القرآن ينفي على لسان المسيح صلوات الله عليه أن يعرف أحد ما يريده الله: ]... إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ[، ونقول لهم: هذه صورة من مراوغاتكم (للالتفاف حول الهدف)، أتقنتموها أنتم وأشياخكم تظهرونها وتخفونها حسب الظروف المحيطة، وهي من أساليب التقية الواجبة في عقيدتكم الصوفية كما قال الغزالي:

وإن كان قد صح الخلاف فواجــب على كل ذي عقل لزوم التقيــة

7- وقد يأتي من لا يستحي من أن يقول: إن كلام العارفين هذا له تأويل!!

فنقول له: لقد انتهينا من خرافة التأويل، وأحبولة التأويل، ومغالطة التأويل، وخدعة التأويل، [ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ]؛ لأنهم إذ يقولون هذا له تأويل، فهم يخادعون ويكذبون ويدجِّلون ويمكرون لجر المسلمين إلى زندقاتهم.

8- يدَّعون حب الله، وما أكثر أقوالهم في ذلك وفي العشق الإلهي. ومن المقامات التي يدعيها بعضهم في السلوك إلى الجذبة ما يسمونه «المحبة والشوق» إلى الله.

والله سبحانه وتعالى يقول آمرًا رسوله أن يعلمنا: [ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ]. فالله سبحانه يأمرنا إن كنا نحبه، أن نتبع رسوله، وهذا يعني أن اتباع الرسول r هو الدليل على حب الله، وعدم اتباعه دليل على عدم حب الله، وهؤلاء القوم يتبعون المشايخ الذين يأمرونهم بتأليه الرسول لا باتباعه. فهل هم بعد ذلك صادقون بادعائهم حب الله؟

الجواب: هو ما تقرره الآية الكريمة، بأنهم لا يحبون الله، وهذا هو واقعهم، فهم يحبون الجذبة واللذة التي يجدونها أثناء الجذبة والتي تستغرق كل خلية في كيانهم، وهي لذة تحشيشية جنسية يتوهمون أنها إلهية، ثم بعد أن يقعوا في الجذبة عددًا كافيًا من المرات، يُصابون بمرض الإدمان، مثل الإدمان الذي يصيب متعاطي الأفيون تمامًا، حتى إذا ما امتنعت عليهم الجذبة في بعض الأحيان لسببٍ ما، أصيبوا بنفس الأعراض التي تصيب مدمن الأفيون عندما ينقطع عنه، من وله قاتل وصداع وما يشبه الجنون. وهذا هو ما يسمونه «العشق الإلهي» الذي يظهر في بولهم.

النتيجة: الذين يتبعون المشايخ لا يحبون الله، إذ لو كانوا يحبونه لاتبعوا رسوله.

ويقول سبحانه: { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء}، هذا أمر من الله، يكفر من يخالفه.

وهؤلاء القوم يتبعون من دونه المشايخ، يأمرونهم بكل ما لم ينزل به الله سلطانًا فيأتمرون به! يأمرونهم بالركوع للشيخ فيركعون! يأمرونهم بالرابطة التي يسمونها «شريفة» فيطيعون! يأمرونهم بالرقص فيرقصون! يأمرونهم بأوهام كشوفهم في العقائد والعبادات فيأتمرون! فهل يكونون بعد ذلك من أهل القرآن؟!

إن أهل القرآن هم الذين يعملون بأوامره وينتهون عن نواهيه.

9- يقول سبحانه: [ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ] . فهل يتبعها هؤلاء القوم؟ طبعًا لا؛ لأنهم عندما يتبعون مشايخهم فقد خرجوا من اتباع الشريعة. وقد مَرَّ معنا قول أقطابهم للخادم: «كُلْ ولك أجر صوم شهر، وكُلْ ولك أجر صوم سنة»، وموافقة عالمهم القطب القشيري على ذلك.

فهل هذا هو اتباع للشريعة الإسلامية؟ طبعًا لا!

10- رأينا قول أبي مدين المغربي في الشيخ:

ففي رضاه رضا الباري وطاعتــه

يرضى عليك فكن من تركها حـذرًا

وقول عبد القادر الجيلاني: إذا لم تفلح على يدي لا فلاح لك قط.

وقوله: والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب.

وغيرها، وغيرها من الأقوال التي تملأ ألوف الصفحات. فما هو حكم الإسلام في ذلك؟

يقول سبحانه: [ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ] .

إن المتصوفة هم أول من تنطبق عليهم أحكام هذه الآية باتخاذهم أولياء من دون الله ليقربوهم إلى الله زلفى..

- والسؤال: لم إذن يقدسون الشيخ هذا التقديس؟ وما هي فائدته؟

- إن للخضوع الكامل للشيخ ولعبادته وتقديسه فائدتين عظيمتين:

أ‌- خرق العادة: فمن القواعد المقررة أن الشياطين لا تقدم خدماتها للساحر إلاَّ بعد أن يكفر: [ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ] ، والسحر هو الكهانة، وهي الصوفية؛ فكلما ازداد المريد غلوًّا في إشراكه الشيخ بالله، كلما ازدادت أمامه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها «كرامات»، ويعزونها إلى المدد المفاض عليهم من الشيخ!

ب‌-التحقق أثناء الجذبة بالفناءات في الله: «الفناء في صفات الله وفي أسمائه وفي ذاته»، أو «التحقق بالألوهية»، وذلك أن المجذوب يرى في أحلام جذبته، صورًا هي خليط من انطباعات قديمة وحديثة مستقرة في أعماق لاشعوره، تختلط مع أماني وطموحات تسربت إلى أعماق نفسه من المحيط الذي يعيش فيه، وهذا هو نفس ما يراه متعاطي الحشيش والأفيون وعقار الهلوسة، ومن دون الشيخ تكون رؤى المجذوب مثل رؤى الحشاش، تدور حول الجنس واللهو واللذة أو الحقد والحسد، لكن الشيخ، بخبرته التي استقاها هو أيضًا من شيخه، يغرس في نفس المجذوب طموح العروج إلى السماوات والعرش والجلوس مع الله (جل الله)، ثم الفناء فيه بحيث يرى نفسه أنه جرء منه (سبحانه)، أو أنه هو هو بكامل أسمائه وصفاته (سبحانه وتعالى عما يصفون)، ويرى في أحلام جذبته أنه يتصرف بالكون، ويقول للشيء: كن، فيكون. ولا ينجح الشيخ بهذه المهمة إلا إذا كان المريد قد عجن عقله وعواطفه ونفسه كلها بحب الشيخ وتقديسه وطاعته، بحيث تغدو كلمة الشيخ جزءً من كيان المريد لدى التلفظ بها.

ويجب أن لا ننسى أن قوة شخصية الشيخ وجاذبيته تلعبان دورًا هامًّا في استقطاب قلوب مريديه وعواطفهم حوله وتساعدان على تهيئتهم لرؤى (تحشيشهم الروحاني) التي يسمونها «الكشف».

وفي هذا يقول الغزالي:

«... فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسُبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سُبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه، وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها... فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد.. أهـ.

ولذلك قالوا أيضًا: «من لا شيخ له فشيخه الشيطان»؛ لأن رؤاه تكون مثل رؤى الحشاشين تمامًا.

- وأخيرًا، لنقرأ قوله سبحانه: [ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ] .

ولم يقل سبحانه: قد أفلح الذين يتمسكون بالشيخ، أو لا فلاح إلا باتباع شيخ، أو من لا شيخ له فشيخه الشيطان.. أو بقية الشركيات.

- وهنا يقف المسلم الصادق أمام أمرين لا ثالث لهما، إمّا أن يؤمن بالقرآن الكريم ويكفر بهؤلاء القوم وبعقيدتهم، وإمّا أن يؤمن بهم وبعقيدتهم ويكفر بالقرآن الكريم، وأي طريق آخر لا وجود له إلا بالمراوغة والدجل .

( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 603 – 611 بتصرف يسير ) .

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:02
تبرك الشافعي بقميص الإمام أحمد

يورد بعض الصوفية غفر الله لنا ولصالحيهم ، بعض القصص ويستدلون بها على بعض المسائل والعقائد ، ومن هذه القصص ، قصة تبرك الإمام الشافعي بقميص الإمام أحمد رحمهما الله تعالى.

وقد جاءت هذه القصة بعدة أسانيد:

الإسناد الأول:

روى ابن الجوزي وابن عساكر من طريق أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان سمعت أبا القاسم بن صدقة سمعت علي بن عبد العزيز الطلحي قال لي الربيع إن الشافعي خرج إلى مصر وأنا معه فقال لي يا ربيع خذ كتابي هذا فامض به وسلمه إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وائتني بالجواب قال الربيع فدخلت بغداد ومعي الكتاب فلقيت أحمد بن حنبل صلاة الصبح فصليت معه الفجر فلما انفتل من المحراب سلمت إليه الكتاب وقلت له هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر فقال أحمد نظرت فيه قلت لا فكسر أبو عبد الله الختم وقرأ الكتاب وتغرغرت عيناه بالدموع فقلت إيش فيه يا أبا عبد الله قال يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام وقل إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم فسيرفع الله لك علما إلى يوم القيامة قال الربيع فقلت البشارة فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده ودفعه إلي فأخذته وخرجت إلى مصر وأخذت جواب الكتاب فسلمته إلى الشافعي ، فقال لي الشافعي: يا ربيع إيش الذي دفع إليك.؟ قلت: القميص الذي يلي جلده قال الشافعي: ليس نفجعك به ولكن بله وادفع إلي الماء حتى أشركك فيه.

تاريخ دمشق لابن عساكر (5ـ312) ، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (صفحة: 609) ومن طريق ابن الجوزي رواها المقدسي في كتابة محنة الإمام أحمد (صفحة: 7)

وفي هذا الإسناد فيه محمد بن الحسين أبو عبد الرحمن السلمي ، متهم بالوضع ، ومن فوقه فيهم من لم أجد ترجمة له.

الإسناد الثاني:

روى ابن عساكر حدثنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري نا عبد الواحد بن عبد الكريم أبو سعيد القشيري أنا الحاكم أبو جعفر محمد بن محمد الصفار أنا عبد الله بن يوسف سمعت محمد بن عبد الله الرازي سمعت جعفر بن محمد المالكي قال الربيع بن سليمان ...

تاريخ دمشق لابن عساكر (5ـ312) ومن طريقه رواها السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (2 ـ35).


وقد وقع تصحيف في السند بين تاريخ ابن عساكر ففيه: جعفر بن محمد المالكي ، و في الطبقات أبو جعفر محمد الملطي ، وفي هذا الإسناد من لم يترجم لهم ، ومن لم أعرفه ، والله أعلم.

الإسناد الثالث:

روى ابن الجوزي أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي قال وجدت في كتاب أبي حدثنا أبو بكر أحمد بن شاذان حدثنا أبو عيسى يحي بن سهل العكبري إجازة قال البرمكي وكتبت من مدرجة أبي إسحاق بن شاقلا قالا: حدثنا أبو القاسم حمزة بن الحسن الهاشمي حدثنا أبو بكر بن عبد الله النيسابوري حدثنا الربيع بن سليمان .......

منافب الإمام أحمد (صفحة: 610)

وفي هذا الإسناد من لم يترجم له ، ومن لم أعرفه.

قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة الربيع في كتابه سير أعلام النبلاء: ((ولم يكن صاحب رحلة ، فأما مايروى أن الشافعي بعثه إلى بغداد بكتابه إلى أحمد بن حنبل فعير صحيح))

سير أعلام النبلاء (12ـ587)

ومما يؤكد قول الذهبي رحمه الله أن الربيع لم يكن صاحب رحلة ، وأنه لم يرد بغداد أن أحدا من محدثي العراق لم ينقل عنه أنه سمع الربيع بالعراق وهو ممن اشتهر بالتحديث ، كذلك فإن الخطيب البغدادي لم يترجم له في كتابه تاريخ بغداد ، مع شهرته ومكانته. والله أعلم.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:03
الرد على شبهة الحضرة الصوفية هل هي شرعية ؟

: الحضرة الصوفية هل هي شرعية ؟


الحضرة الصوفية تكون: جالسة صامتة، أو جالسة صائتة، أو راقصة (بنقص أو من دون نقص).

1- الجالسة الصامتة:

في الرد عليها يكفي حكم عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه رسول الله r (كما يرويه الحافظ الذهبي في «التذكرة»): «خذوا عهدكم عن ابن أم عبد».

نجد حكم عبد الله بن مسعود هذا في «سنن الدارمي»:

... عند عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة (أي الفجر)، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخَرَجَ عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أرَ والحمد لله إلا خيرًا. قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه.. رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة مرة، فيُكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة مرة، فيُهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة مرة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكُم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله! يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله r حدثنا أن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله، لا أدري، لعل أكثرهم منكم...

- الرجاء ملاحظة أن الجلسة النقشبندية هي مثل هذه الجلسة.[/align]

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:04
2- الحضرة الجالسة الصائتة:

في الرد عليها نذكر ما يلي:

- الآية الكريمة: ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ... )، وهؤلاء يجهرون بذكرهم، كما يخلو ذكرهم من التضرع والخيفة.

- الحضرة بجميع أنواعها، ومثلها هذه، بدعة تنطبق عليها كل الأحاديث الواردة في البدعة، والتي رأيناها قبل قليل.

- حديث ابن مسعود السابق هو رد عليها كما هو رد على الجالسة الصامتة.

- قول حذيفة بن اليمان: «كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبدوها»، رد عليها وعليهم.

وبالتالي، هذه الحضرة«الجالسة الصائتة» هي مثل غيرها، بدعة، فهي مردودة عليهم.

3- الحضرة الراقصة ( وكلها صائتة ) :

إن جميع الردود على البدعة وعلى أساليبهم في الذكر، وعلى الجالسة الصامتة، وعلى الجالسة الصائتة، هي ردود على الحضرة الراقصة، يضاف إليها:

- هي نفس صلاة اليهود!

جاء في المزمور (149) عدد (3): «ليسبحوا اسمه برقص، بدُف وعود، ليرنموا له..».

وفي المزمور (150): «سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوج التصويت، سبحوه بصنوج الهتاف...».

- وثنيو إفريقيا السوداء «الفيتيشيون» عباداتهم كلها رقص وسماع.

- الهندوس، صلاتهم لأصنامهم مثل الحضرة الراقصة، يتوسطهم الكاهن أمام الصنم، يرقصون ويهزجون، أي إن صلاتهم هي رقص وسماع وقرع أجراس.
الخلاصــة:-

الحضرة الصوفية بجميع أشكالها، بدعة، ونقض للآيات والأحاديث، وتَشبُّه كامل بالطقوس اليهودية والوثنية، (فيتيشية وهندوسية وجينية وطاوية..).

- أما كونها نقضًا للآيات والأحاديث؛ فهي كفر وزندقة ورِدة.

- وأما كونها تشبه الطقوس الوثنية واليهودية؛ فالرسول r يقول: «من تَشبَّه بقوم فهو منهم».

ولا حاجة للزيادة.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:10
شبهة التقاء النبي بالخضر عليهما الصلاة والسلام
التقاء النبي بالخضر عليهما الصلاة والسلام


الحمد لله الذي إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ . والصلاة والسلام على المخصوص بالسيادة والشرف المصون . والمنـزل عليه وحياً في الكتاب المكنون . {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} . وعلى آله وصحبه المصدقين له والمؤمنين به وبالآخرة هم يوقنون . {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وبعد ..

وشبيه بهذا ، ما يفترونه من سماع النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضر ، وبعثه أنس يسأله أن يدعو له ولأمته . وهذا من أبشع الكذب والافتراء والجهل بمقام سيد المرسلين صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ومما أوردوا فيه من الواهيات الموضوعات حديثين:

[ الأول ] حديث أنس بن مالك ، وله ثلاث طرق

[ الطريق الأولى ] قال أبو الحسين بن المنادي كما في ((الزهر النضر في نبأ الخضر)) (ص40): أخبرني أبو جعفر أحمد بن النضر العسكري أن محمد بن سلام المنبجي حدثهم قال حدثنا وضاح بن عباد الكوفي حدثنا عاصم بن سليمان الأحول حدثني أنس بن مالك قال: ((خرجت ليلة من الليالي ، أحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطهور ، فسمع مناديا ينادي ، فقال لي: يا أنس صه ، قال: فسكت ، فاستمع ، فإذا هو يقول: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال أختها معها ، فكأن الرجل لقن ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس ضع الطهور ، وائت هذا المنادي ، فقل له: ادع لرسول الله أن يعينه الله على ما ابتعثه به ، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم بالحق ، قال: فأتيته ، فقلت: رحمك الله ! اِدْعُ الله لِرَسُولِ الله أن يُعِيْـنَهُ على مَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ ، واِدْعُ لأمَّتِهِ أن يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ بالحقِّ ، فقال لي: ومَنْ أرسلكَ ؟ ، فكرهتُ أن أخبره ولم استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له: رحمك الله ! ما يضرك من أرسلني ، ادع بما قلت لك ، فقال: لا أو تخبرني بمن أرسلك ، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله ! أبى أن يدعو لك بما قلت له حتى أخبره بمن أرسلني ، فقال: ارجع إليه ، فقل له: أنا رسول رسول الله ، فرجعت إليه ، فقلت له ، فقال لي: مرحبا برسول الله رسول الله ، أنا كنت أحق أن آتيه ، اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام ، وقال له: يا رسول الله الخضر يقرأ عليك السلام ورحمة الله ، ويقول لك: يا رسول الله إن الله فضَّلك على النبيِّين كما فضَّل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضَّل أمَّتك على الأمم كما فضَّل يوم الجمعة على سائر الأيام ، قال: فلما وليت سمعته يقول: اللهمَّ اجعلني من هذه الأمَّة المرشدة المرحومة ، المتوب عليها)) .

وأخرجه ابن الجوزي ((الموضوعات))(1/194) تعليقاً عن ابن المنادى به مثله .

وأخرجه الطبراني ((الأوسط))(3071) عن بشر بن علي بن بشر العجلي ، وابن عساكر ((تاريخ دمشق))(16/423:422) عن محمد بن الفضل بن جابر ، كلاهما عن محمد بن سلام المنبجي بنحو حديث ابن النضر العسكري .

وقال أبو القاسم: ((لم يروه عن أنس إلا عاصم ، ولا عنه إلا وضاح ، تفرد به محمد بن سلام)).

وقال أبو الحسين بن المنادى: ((هذا حديث واهٍ بالوضاح وغيره ، وهو منكر الإسناد سقيم المتن ، ولم يراسل الخضر نبَّينا صلى الله عليه وسلم ، ولم يلقه)) .

قـلت: صدق أبو الحسين . ما أسمجَه وأبردَه من خبرٍ ! ، كيف جهل واضعُه مقامَ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرامتَه على ربِّه ، ولم يستحيي منه حتى تجرأ عليه ، فوضع على لسانه هذا المقال ((اِدْعُ الله لِرَسُولِ الله أن يُعِيْـنَهُ على مَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ ، واِدْعُ لأمَّـتِهِ أن يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ بالحقِّ)) !! .

وقد قال إمام المحدثين ((كتاب العلم)) (106): حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). ولا يستحل مثل هذا الادعاء ، أعني طلب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخضر أن يدعو له ولأمَّتِه ، إلا الزنادقة الذين يزعمون كذباً وافتراءاً ؛ أن مقام الولاية أعلى من النُّبوة والرسالة !! . فقد تزندق قائلهم ، وأعظم على الله الفرية حين قال: مقامُ النُّـبُّوةِ في بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرسُولِ وَدُونَ الوليْ.

[ الطريق الثانية ] قال ابن عساكر ((التاريخ)) (16/424:423): أخبرناه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه أنا القاضي أبو الحسن علي بن عبيد الله بن محمد الهمداني بمصر أنا أبو الحسن علي بن محمد بن موسى التمار الحافظ نا أحمد بن محمد بن سعيد نا الحسين بن ربيع نا الحسين بن يزيد السلولي نا إسحاق بن منصور نا أبو خالد مؤذن بني مسلمة نا أبو داود عن أنس بن مالك قال: ((كان رسول الله يتوضأ من الليل إلى الليل ، فخرجت معه ذات ليلة في بعض طرق المدينة ، ومعي الطهور ، فسمع صوت رجل يدعو: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني ، ......)) فذكره بنحو حديث الوضاح السالف .

قلت: والمتهم بهذا الحديث أبو داود ، وهو نفيع بن الحارث الهمداني الكوفي القاص الأعمى ، مجمع على تركه ، وكذبه قتادة .

وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات توهماً ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا الرواية عنه إلا على جهة الاعتبار .

[ الطريق الثالثة ] قال أبو حفص بن شاهين كما في ((الزهر النضر فى نبأ الخضر))(ص42): حدثنا موسى بن أنس بن خالد بن عبد الله بن أبي طلحة بن موسى بن أنس بن مالك ثنا أبي ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا حاتم بن أبي رواد عن معاذ بن عبيد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أنس قال: ((خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة لحاجةٍ ، فخرجت خلفه ، فسمعنا قائلاً يقول: اللهم إني أسألك شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا لها دعوة لو أضاف إليها أختها ، فسمعنا القائل وهو يقول: اللهم إني أسألك أن تعينني بما ينجيني مما خوفتني منه ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجبت ورب الكعبة ، يا أنس ! ائت الرجل ، فاسأله أن يدعو لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرزقه الله القبول من أمَّته ، والمعونة على ما جاء به من الحق والتصديق ، قال أنس: فأتيت الرجل ، فقلت: يا عبد الله ادع لرسول الله ، فقال لي: ومن أنت ، فكرهت أن أخبره ولم أستأذن ، وأبى أن يدعو حتى أخبره ، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأخبرته ، فقال لي: أخبره ، فرجعت ، فقلت له: أنا رسول الله إليك ، فقال مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله ، فدعا له ، وقال: اقرأه مني السلام ، وقل له: أنا أخوك الخضر ، وأنا كنت أحق أن آتيك ، قال: فلما وليت سمعته يقول: اللهم اجعلني من هذه الأمة المرحومة المتاب عليها)) .

وأخرجه كذلك الدارقطني ((الأفراد)) من طريق أنس بن خالد عن محمد بن عبد الله الأنصاري بمثله .

وقال الحافظ ابن حجر: ((ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، هو أبو سلمة البصري ، وهو واهي الحديث جداً ، وليس هو شيخ البخاري قاضى البصرة ، ذاك ثقة ، وهو أقدم من أبي سلمة)) .

قلت: أبو سلمة هذا ممن يسرق الأحاديث ويركبه على أسانيد أهل البصرة ، ترجمه أبو جعفر العقيلى ((الضعفاء))(4/95) قال: ((محمد بن عبد الله أبو سلمة الأنصاري عن مالك بن دينار منكر الحديث . حدثنا محمد بن موسى بن حماد البربري ثنا محمد بن صالح بن النطاح ثنا أبو سلمة محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: ((كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من جبال مكة ، إذ أقبل شيخ متوكئا على عكازه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مشية جني ونغمته ، فقال: أجل ، فقال: من أي الجن أنت ؟ ، قال: أنا هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس ....)) فذكر حديثاً طويلاً باطلاً ، لا يتابعه عليه إلا مثله أو أكذب منه .

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:12
[ الثانى ] حديث عمرو بن عوف المزني

أخرجه ابن عدى ((الكامل))(6/62) ، ومن طريقه البيهقى ((دلائل النبوة))(5/423) ، وابن الجوزى ((الموضوعات))(1/193) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: ((أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في المسجد ، فسمع كلاما من ورائه ، فإذا هو بقائل يقول: اللهمَّ أعني على ما ينجيني مما خوفتني ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع ذلك: ألا تضم إليها أختها ، فقال الرجل: اللهم ارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: اذهب يا أنس إليه ، فقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم تستغفر لي ، فجاءه أنس ، فبلَّغه ، فقال الرجل: يا أنس أنت رسول رسول الله إليَّ ، فارجع فاستثبته ، فقال النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل له: نعم ، فقال له: اذهب فقل له: إن الله فضَّلك على الأنبياء مثل ما فضَّل به رمضان على الشهور ، وفضَّل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام ، فذهب ينظر إليه ، فإذا هو الخضر)).

قلت: والمتهم بهذا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني ، ركن من أركان الكذب ، قاله الإمام الشافعي . وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً ، يروى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة ، لا يحل ذكرها في الكتب ، ولا الرواية عنه .

وهذه المناكير والموضوعات مما يحتج بها غلاة الصوفية والشيعة على حياة إلياس والخضر ، وأنهما أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى ، وأنهما يجتمعان كل عامٍ بالموسم ، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل ، وأن إلياس موكل بالفيافي ، والخضر موكل بالبحر . ولله درُّ من قال: ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان ! .

وفى ((المنار المنيف)) (1/67) للحافظ الجهبذ ابن القيم: ((فصل: من الأحاديث الموضوعة أحاديث حياة الخضر عليه السلام ، وكلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد:

كحديث ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد ، فسمع كلاما من ورائه فذهبوا ينظرون ، فإذا هو الخضر)) .

وحديث ((يلتقي الخضر وإلياس كل عام)) .

وحديث ((يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر)) الحديث المفترى الطويل .

سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر ، وأنه باق ؟ ، فقال: من أحال على غائبٍ لم ينتصف منه ، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان)) .

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:14
أحاديث الأبدال والأقطاب

الحمد لله المعز لأوليائه. المذل لأعدائه. حمداً يوجب رضوانه. ويستوهب إحسانه. والصلاة والسلام على موضح آياته. ومبلِّغ كلماته. وبعد...

فإن من موجبات الرحمة والغفران ، كشف أباطيل أهل الزيغ والبهتان. وبيان أكاذيبهم على رسولنا الكريم. وما حرفوه من أصول وفروع شرعنا القويم. إعلاءاً لكلمة الحق. وتصديقاً بوعد الصدق. {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره}.

قال الحافظ ابن القيم "رحمه الله" في فصل عقده لأحاديث مشهورة باطلة من ((نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول)) (صفحة: 127): ((ومن ذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرب ما فيها حديث "لا تسبوا أهل الشام ، فإن فيهم البدلاء ، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر" ذكره أحمد ، ولا يصح أيضا فإنه: منقطع)) اهـ.

وأما قول السيوطي "رحمه الله" في ((النكت)): ((خبر الأبدال صحيح فضلا عما دون ذلك ، وإن شئت قلت متواتر ، وقد أفردته بتأليف استوعبت فيه طرق الأحاديث الواردة في ذلك)) فمن مراكب الإعتساف ، والمباعدة عن مواقع الإنصاف ، إذ ليس فيما ذكره حديثاً واحداً تنتهض به الحجة لما ادَّعاه.

وأنا ذاكر بعون الله وتوفيقه جملة من الأحاديث التي ذكرَها ، ومبين آفاتِها وعللَها:


(الأول) حديث عوف بن مالك

أخرجه الطبراني ((الكبير)) (18/65/120) ، وابن عساكر ((التاريخ)) (1/290) كلاهما من طريق عمرو بن واقد نا يزيد بن أبي مالك عن شهر بن حوشب قال: لما فتحت مصر سبوا أهل الشام ، فأخرج عوف بن مالك رأسه من برنسه ، ثم قال: يا أهل مصر ، أنا عوف بن مالك لا تسبوا أهل الشام ، فإني سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فيهم الأبدال ، وبهم تنصرون ، وبهم ترزقون)).

هذا الحديث كذب كأنه موضوع ، وإنما يعرف بعمرو بن واقد أبي حفص الدمشقي ؛ مولى بنى أمية ، وهو هالك تالف. قال أبو مسهر علي بن مسهر: ليس بشيء كان يكذب. وقال البخاري والترمذي: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. وقال يعقوب بن سفيان عن دحيم: لم يكن شيوخنا يحدثون عنه. قال: وكأنه لم يشك أنه كان يكذب. وقال الدارقطني والنسائي والبرقاني: متروك الحديث. وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك.

ومن مناكيره ، بل أباطيله وموضوعاته ، ما أخرجه الطبراني((الكبير)) (20/35/162) ، وابن عدى (5/118) والبيهقي ((شعب الإيمان)) (6/479/8974) جميعا عن عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((من أطعم مؤمنا حتى يشبعه من سغب أدخله الله بابا من أبواب الجنة ، لا يدخله إلا من كان مثله)).

قال ابن أبي حاتم ((علل الحديث)) (2/179/2031): ((سألت أبي عن حديث رواه هشام بن عمار عن عمرو بن واقد ثنا يونس بن ميسرة بن حليس عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشبع جائعا)) الحديث بنحوه. قال أبي: هـذا حديث كأنه موضوع. ولا أعلم روى أبو إدريس عن معاذ إلا حديثا واحدا ، وعمرو ضعيف الحديث)) اهـ.
(الثانى) حديث عبادة بن الصامت
وله طريقان:

[ الطريق الأولى ] أخرجها أحمد (5/322) قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء أنا الحسن بن ذكوان عن عبد الواحد بن قيس عن عبادة بن الصامت عن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الأَبْدَالُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاثُونَ ، مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلاً)).

قال عبد الله بن أحمد: ((قَالَ أَبِي رَحِمَه الله: حَدِيث عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا مُنْكَرٌ)).

وأخرجه كذلك الهيثم بن كليب ((المسند)) ، والخلال ((كرامات الأولياء)) (2) ، وأبـو نعيم ((أخبار أصبهان)) (1/180) والخطيب ((تالي تلخيص المتشابه)) (1/248) ، وابن عساكر (1/292) جميعا من طريق الحسن بن ذكوان به.

قلت: وهذا حديث منكر كما قال الإمام أحمد ، وله ثلاث آفات:

(الأولى) عبد الواحد بن قيس ، وإن وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة الدمشقي ، لكنه لا يُعتبر برواية الضـعفاء عنه. قال أبو حاتم: يكتب حديـثه وليس بالقوى. قال البخاري: عبد الواحد بن قيس قال يحيى القطان: كان الحسن بن ذكوان يحدث عنه بعجائب.

وقال ابن حبان في ((المجروحين)): عبد الواحد بن قيس شيخ يروي عن نافع روى عنه الأوزاعي والحسن بن ذكوان ، ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير ، فلا يجوز الاحتجاج بما خالف الثقات ، فإن اعتبر معتبر بحديثه الذي لم يخالف الأثبات فيه فحسن.

وقال في ((الثقات)): لا يعتبر بمقاطيعه ولا بمراسيله ولا برواية الضعفاء عنه ، وهو الذي يروي عن أبي هريرة ولم يره.

(الثانية) الانـقطاع ، فإن عبد الواحد بن قيس إنما أدرك عـروة ونـافع ، وروايته عن أبي هريرة مرسلة ، كما قال البخاري وابن حبان. فعلى هذا فهو لم يدرك عبادة بن الصامت ولم يره.

(الثالثة) الحسن بن ذكوان يحدث عن عبد الواحد بن قيس بعجائب ، كما قال يحيى القطان وعلى بن المدينى والبخاري. وقال ابن معين: كان صاحب أوابد. وقال الأثرم: ((قـلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في الحسن بن ذكوان ؟ ، قال: أحاديثه أباطيل ! يروى عن حبيب بن أبي ثابت ولم يسمع من حبيب ، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطى)).

ولما كان الحسن بـن ذكوان موسوماً بالتدليس مشهوراً به ، فـقد أورد له ابـن عـدى في ((كامله)) (5/125) أربعة أحاديث دلَّسها عن عمرو بن خالد الواسطى الكذاب الوضاع.

وواحدة من هذا العلل الثلاث تكفي في الحكم على حديث عبادة بنفي ثبوته فضلا عن صحته ، ومنه تعلم أن قول الهيثمى ((مجمع الزوائد)) (10/62): ((رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد بن قيس ، وقد وثقه العجلي وأبو زرعة وضعفه غيرهما)) ، وأقره السيوطي والمُناوي وغيرهما ، أبعد شيء عن الصواب !! ، وذلك لما ذكرناه آنفاً.

وأما قوله الحسن بن ذكوان من رجال الصحيح ، فالجواب عنه ما وصفه به الإمام أحمد من التدليس عن الكذابين ورواية الأباطيل. فإن قيل: قد أخرج البخاري له في ((كتاب المناقب)) من ((صحيحه)) (4/139. سندي) قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ـ يعنى القطان ـ عن الحسن بن ذكوان حدثنا أبو رجاء حدثنا عمران بن حصين عـن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ)).

فربما يكتفي بعضهم بما ذكره الحافظ ابن حجر في ((هدى الساري)) بقوله: ((والحسن بن ذكوان تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما ، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث برواية القطان عنه مع تعنته في الرجال ، ومع ذلك فهو متابعة)) !.

وأقـول: وتمام هذا التوجيه وكماله أن نقول:

(1) أن الحسن بن ذكوان قد صرَّح في الحديث بالسماع ، فانتفت تهمة تدليسه.

(2) أن كون الحديث من رواية يحيى القطان عنه ، وهو أعرف الناس بما يصح من حديثه ، وما ينكر ، فهو من صحاح حديثه. وقد قال أبو أحمد بن عدى: ((أن يحيى القطان حدَّث عنه بأحرفٍ ، ولم يكن عنده بالقوي)).

ومما يفيده هذا التوجيه: أن انتقاء الصحيح من أحاديث الضعفاء والمجروحين هو مما توافرت عليه همم الجهابذة النقاد أمثال: يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بـن مهدي ، ويحيى بـن معين ، والبخاري ، وأبي حاتم وغيرهم من أئمة هذا الشأن.

[ الطريق الثانية ] أوردها ابن كثير ((التفسير)) (1/304) من طريق ابن مردويه قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن جرير بن يزيد حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمرو البزار عن عنبسة الخواص عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأبدال في أمتي ثلاثون ، بهم ترزقون ، وبهم تمطرون ، وبهم تنصرون)) ، قال قتادة: إني لأرجو أن يكون الحسن منهم.

قال الهيثمى ((مجمع الزوائد)) (10/63): ((رواه الطبراني من طريق عمرو البزار عن عنبسة الخواص ، وكلاهما لم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح)).

قلت: ومع جهالة رواته عن قتادة ، فقد خولفوا على رفعه. رواه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: لن تخلو الأرض مـن أربعين ، بهم يغاث الناس ، وبهم تنصرون ، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه رجلاً.

أخرجه هكذا ابن عساكر ((التاريخ)) (1/298) من طريق عمران بن محمد الخيزراني عن عبد الوهاب به.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:17
(الثالث) حديث أنس بن مالك

وله أربع طرق:

[ الطريق الأولى ] أخرجها ابن عدى (5/220) حدثنا محمد بن زهير بن الفضل الأبلي ثنا عمر بن يحيى الأبلي ثنا العلاء بن زيدل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البدلاء أربعون اثنان وعشرون بالشام ، وثمانية عشر بالعراق ، كلما مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر ، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم ، فعند ذلك تقوم الساعة)).

وأخرجه كذلك ابن عساكر ((التاريخ)) (1/291) ، وابن الجوزي ((الموضوعات)) (3/151) كلاهما من طريق ابن عدى به.

قلت: هذا إسناد مظلم وحديث موضوع ، لا يحل ذكره إلا تعجباً ولا كتابته إلا تحذيراً.

قال الحافظ الذهبى ((الميزان)) (5/123): ((العلاء بن زيدل الثقفي بصري روى عن أنس بن مالك كنيته أبو محمد تالف. قال ابن المديني: كان يضع الحديث. وقال أبو حاتم والدارقطني: متروك الحديث. وقال البخاري وغيره: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن أنس بن مالك بنسخة موضوعة لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل التعجب)). وذكر هذا الحديث من مناكيره ، وقال: ((وهذا باطل)).

[الطريق الثانية] أخرجها ابن عدى (6/289) من طريق محمد بن عبد العزيز الدينوري ثنا عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بسخاء الأنفس وسلامة الصدور)).

قال أبو أحمد: ((وهذا الحديث بهذا الإسناد ليس يعرف إلا بابن عبد العزيز الدينوري ، وهو من الأحاديث التي أنكرت عليه)).

قـلت: والدينورى ليس بثقة ولا مأمون ، ينفرد عن الثقات بالمقلوبات ، ويأتى بالبلايا والطامات ، كأنه المتعمد لها. وهذا الحديث رواه جماعة من الضعفاء عن الحسن البصرى ، واختلفوا عليه ، فمرة عـن أنس ، وثانـية عن أبي سعيد الخدرى ، وثالثة عن الحسن مرسلاً ، ولا يصح منها كبير شئٍ.

[الطريق الثالثة] أخرجها الخلال ((كرامات الأولياء)) ، وابن الجوزى ((الموضوعات)) (3/152) من طريق أبي عمر الغدانى عن أبي سلمة الحرانى عن عطاء عن أنس قال قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة ، كلما مات رجل بدل الله مكانه رجلاً ، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة)).

قال أبو الفرج: ((وفي إسناده مجاهيل)) يعنى أبا سلمة وأبا عمر لا يعرفان !!.

[الطريق الرابعة] أخرجها ابن عساكر ((التاريخ)) (1/292) من طريق نوح بن قيس الحداني عن عبد الله بن معقل عن يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((دعائم أمتي عصائب اليمن ، وأربعون رجلاً من الأبدال بالشام. كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً ، أما إنهم لم يبلغوا ذلك بكثرة صلاةٍ ، ولا صيامٍ ، ولكن بسخاوة الأنفس ، وسلامة الصدور ، والنصيحة للمسلمين)).

قلت: هذا إسناد واهٍ بمرة. قال الحافظ الذهبي ((الميزان)) (4/204): ((عبد الله بن معقل بصري عن يزيد الرقاشي. لا يدرى مـن ذا ؟!. روى عنه نوح بن قيس فقط)). وأما يزيد بن أبان الرقاشي فمتروك الحديث ذاهب الحديث. قال ابن حبان: ((كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو لا يعلم ، فلما كثر في روايته ما ليس من حديث أنس وغيره من الثقات بطل الاحتجاج به ، فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب ، وكان قاصا يقص بالبصرة ، ويبكي الناس ، وكان شعبة يتكلم فيه بالعظائم)).
حديث عبد الله بن عمر

أخـرجه أبو نعيم ((الحلية)) (1/8) ، وابـن عساكر((تاريخ دمشق)) (1/303،302) ، وابن الجوزى ((الموضوعات)) (3/151) سعيد بن أبي زيدون ثنا عبد الله بن هارون الصوري ثنا الأوزاعي عن الزهري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيار أمتي في كل قرن خمسمائة ، والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ، ولا الأربعون ، كلما مات رجل أبدل الله من الخمسمائة مكانه ، وأدخل من الأربعين مكانهم)) ، قالوا: يا رسول الله دلنا على أعمالهم ؟ ، قال: ((يعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساءهم، ويتواسون فيما آتاهم الله)).

قال أبو الفرج: ((موضوع ، وفيه مجاهيل)) ، يعني الصوري ، وابن أبي زيدون لا يعرفان.

وقال الحافظ الذهبى ((الميزان)) (4/217): ((عبد الله بن هارون الصوري عن الأوزاعي. لا يعرف. والخبر كذب في أخلاق الأبدال)) ، وأقرَّه الحافظ ابن حجر في ((لسان الميزان)) (3/369).


الخامس) حديث أبي هريرة

أخرجه ابن حبان ((المجروحين)) (2/61) ، وابن الجوزي ((الموضوعات)) (3/151) من طريق عبد الرحمن بن مرزوق الطرسوسي عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لن تخلو الأرض من ثلاثين مثل إبراهيم خليل الرحمن ، بهم تغاثون ، وبهم ترزقون ، وبهم تمطرون)).

قال أبو حاتم بن حبان: ((هذا كذب. عبد الرحمن بن مرزوق بن عوف أبو عوف ؛ شيخ كان بطرسوس يضع الحديث لا يحل ذكره إلا علي سبيل القدح فيه)) .

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:18
السادس) حديث أبي سعيد الخدري

أخرجه البيهقي ((شعب الإيمان)) (7/439/10893) من طريق محمد بن عمران بن أبي ليلى أنا سلمه بن رجاء عن صالح المري عن الحسن عن أبي سعيد الخدري أو غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالأعمال ، ولكن إنما دخلوها برحمة الله ، وسخاوة الأنفس وسلامة لجميع المسلمين)).

قلت: وهذا حديث منكر ، وله ثلاث آفات:

(الأولى): صالح بن بشيرٍ المري القاص ، منكر الحديث جداً يحدث عن قوم ثقات أحاديث مناكير. قـال أحمد: كان صاحب قصص يقص ليس هو صاحب آثار وحديث ولا يعرف الحديث. وقال عمرو بن علي الفلاس: هو رجل صالح منكر الحديث جداً ، يحدث عن الثقات بالأباطيل والمنكرات. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب الحديث. وقال السعدي: واهي الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث.

(الثانية): الانقطاع ، فإن الحسن البصري لم يسمع أبا سعيد الخدري. قال الحافظ أبو سعيد العلائى ((جامع التحصيل)) (1/163): ((قال علي بن المديني: رأى الحسن أم سلمة ، ولم يسمع منها ، ولا من أبي موسى الأشعري ، ولا من الأسود بن سريع ، ولا من الضحاك بن سفيان ، ولا من جابر ، ولا من أبي سعيد الخدري ، ولا من ابن عباس ، ولا من عبد الله بن عمر ، ولا من عمرو بن تغلب ، ولم يسمع مـن أبي برزة الأسلمي ، ولا من عمران بن حصين ، ولا من النعمان بن بشير ، ولم يسمع من أسامة بن زيد شيئا ، ولا من عقبة بن عامر ، ولا من أبي ثعلبة الخشني)).

قـلت: وهذا كما قال ؛ إلا سماعه من عمرو بن تغلب. ففي ((كـتاب الجهاد)) مـن ((صحيح البخاري)) (2/157. سندي): حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمرو بن تغلب قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ)).

(الثالثة) المخالفة ، فقد رواه جماعة عن صالح المري عن الحسن مرسلاً ، وسلمة بن رجاء التيمي الكوفي صدوق يغرب ، ويتفرد بما لا يتابع عليه.

فقد أخرجه البيهقي ((شعب الإيمان)) (7/439) من طريق يحيى بن يحيى أنا صالح المري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بدلاء أمتي..)) بنحوه ، هكذا مرسلاً.السابع) حديث عبد الله بن مسعود

أخرجه أبو نعيم ((الحلية)) (1/8) ، ومن طريقه ابن الجوزي ((الموضوعات)) (3/150) من طريق محمد بن السري القنطري ثنا قيس بن إبراهيم بن قيس السامري ثنا عبد الرحمن بن يحيى الأرمني ثنا عثمان بن عمارة ثنا المعافي بن عمران عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله قال: قال رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن لله عزَّ وجلَّ في الخلق ثلاثمائة ، قلوبهم على قلب آدم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق أربعون ، قلوبهم على قلب موسى عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق سبعة ، قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق خمسة ، قلوبهم على قلب جبريل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق ثلاثة ، قلوبهم على قلب ميكائيل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق واحد ، قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام ، فاذا مات الواحد أبدل الله عز وجل مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله تعالى مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله تعالى مكانه من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله تعالى مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله تعالى مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله تعالى مكانه من العامة ، فبهم يحيي ويميت ، ويمطر وينبت ، ويدفع البلاء)) ، قيل لعبد الله بن مسعود: كيف بهم يحيي ويميت ؟ ، قال: ((لأنهم يسألون الله عز وجل إكثار الأمم فيكثرون ، ويدعون على الجبابرة فيقصمون ، ويستسقون فيسقون ، ويسألون فتنبت لهم الأرض ، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء)).

قال أبو الفرج: ((إسناده مظلم ، كثير من رجاله مجاهيل ليس فيهم معروف)).

قلت: وبقية أحاديث الأبدال مراسيل لا تنتهض بمثلها الحجة ، كيف وقد بان أن المرفوعات كلها واهية بمرة.

والذي ندين الله به ، ونعتقده واجباً لازما ، بعد قيام الدلالة بمقتضى ما بيناه من بطلان الأحاديث الآنفة الذكر ، أن هذه الألفاظ ((الأبدال)) و ((الأوتاد)) و ((الأقطاب)) و ((الغوث الفرد)) ، وغيرها مما تتهوعها قلوب المؤمنين الموقنين ، لم تكن تدور قطعاً على ألسنة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولم ترد بها أحاديث صحاح تؤكد صحة مدلولاتها ، على مقتضى كلام مَنْ أكثرَ استعمالها ، ولهجَ بذكرِها ، وأجراها على وفق قوانين وقواعد مبتدعة ، ضاهت عند بعضهم الشرك الأكبر ، وأكثرُهم من المنتمين إلى الشيعة ، والرافضة ، والصوفية.

وما اُستعمل منها على ألسنة أكابر أئمة السنة والجماعة ، كالإمام ابن المبارك والأوزاعي والشافعي وأحمد وابن معين والبخاري وغيرهم من رفعاء أهل السنة ، وخاصةً لفظ ((الأبدال)) ، فمحمول على معانٍ محمودة ، ومدائح جائزة. وربما وقع الاشتباه في دلالات هذه الألفاظ ، من جهة المعهود الذهني لمعانيها عند المخالفين من أهل الطوائف المبتدعة ، كالشيعة الباطنية ، والصوفية الإتحادية. وأما مع المجانبة والحذر من مشابهتهم ، فلا مشاحة في استعمال هذه الألفاظ حبنئذٍ ، على المعانى الجائزة مما تبيحه أدلة الكتاب والسنة.

فلا يظن أحدٌ أن قول الإمام أبي عبد الله الشافعي عن شيخه يحيى بن سليم الطائفي: كنا نعده من الأبدال ، أنَّه يعنى أن شيخه الطائفي أحد الأربعين أشباه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ، الذين كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلاً ، ولا يعنى أن شيخه أحد من يستغاث بهم ، ويستنـزل بهم القطر والرزق. وهذا مما لا ينبغي الإسهاب في بيان بطلان اعتقاده ، وحمل كلام أئمتنا عليه.

ألا تراهم يقولون في المديح ما لا يسعهم فعله ، فضلاً عن اعتقاده ، كقولهم ((فلان كعبة المحتاج لا كعبة الحُجَّاج ، ومَشْعَر الكرم لا مشعر الحَرَم ، ومِنَى الضيف لا مِنَى الخَيْف ، وقِبْلَة الصِّلاتِ لا قِبْلَة الصَّلاة)) ، وهذا كثير دائر على ألسنة الأدباء الأبيناء البلغاء من أهل السنة.

وعليه فقولهم عن رجل ((فلان من الأبدال)) ، محمول على معانٍ من الثناء والمديح والمحامد الجائزة ، مما لا مساس معها بالمحظورات العقائدية. وما كان منها على خلاف هذه الدلالة ، فمردود على قائله أو متأوله ، فمن ذلك قول شهاب بن معمر البلخي عن الإمام حماد بن سلمة: كان يُعد من الأبدال ، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له. ألا ترى أن مسحة الصوفية قد أذهبت رونق المدح والثناء ، فأحالت المدح قدحاً ، والثناء هجاءاً. وقارن ذلك بقول ابن المبارك عنه: ما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأوائل من حماد بن سلمة ، تجد بينهما بوناً شاسعاً ، تستلطف معه كلام ابن المبارك ، وتلقي إليه سمعك ، بينما تستغرب ما صدر عن البلخي.

فإذا وضحت هذه اللمعة ، فلنذكر طرفاً من الاستعمالات الجائرة لهذه الألفاظ عند الصوفية.

فهذا الشيخ عبد الرؤوف المناوي الصوفي يوضح حقيقة البَدَل على اعتقادهم ، فيقول في (فيض القدير): ((وإذا رحل البدلُ عن موضعٍ ترك بدله فيه حقيقة روحانية ؛ يجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي ، فإن ظهر شوقٌ من أناس ذلك الموطن شديد لهذا الشخص ، تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدلُه ، فكلمتهم ، وكلموها ، وهو غائب عنهم ، وقد يكون هذا من غير البدل ، لكن الفرق بينهما أن البدل يرحلُ ويعلمُ أنه ترك غيره ، وغيرُ البدل لا يعرفُ ذلك وإن تركه)).

ولا أظنك وأنت تقرأ هذا الغثاء ، إلا تعوذت بالله من هذه الأباطيل ، وقلت مسارعاً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} ، ودعوت عائذاً {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}.

وها هو يقول ما تقشعر منها الجلود ، وتشمئز منه الأفئدة: ((الأَبدال ـ بفتح الهمزة ـ جمع بَدَل بفتحتين ، خصهم الله تعالى بصفات: منها أنهم ساكنون إلى الله بلا حركة ، ومنها حسن أخلاقهم في هذه الأمة ، (ثلاثون رجلا) قيل سموا أبدالا ، لأنهم إذا غابوا تبدل في محلهم صور روحانية تخلفهم ، (قلوبهم على قلب إبراهيم) خليل الرحمن عليه السلام ، أي انفتح لهم طريق إلى الله تعالى على طريق إبراهيم عليه السلام ، وفي رواية (قلوبهم على قلب رجل واحد) قال الحكيم الترمذي: إنما صارت هكذا ، لأن القلوب لهت عن كل شيء سواه ، فتعلقت بتعلق واحد ، فهي كقلب واحد. قال في ((الفتوحات)): قوله هنا (على قلب إبراهيم) ، وقوله في خبر آخر (على قلب آدم) ، وكذا قوله (على قلب شخص من أكابر البشر أو من الملائكة) معناه: أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية بقلب ذلك الشخص ، إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب ، فكل علم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول ، يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه ، وربما يقول بعضهم: فلان على قدم فلان ، ومعناه ما ذكر.

وقال القيصري الرومي عن العارف ابن عربي: إنما قال (على قلب إبراهيم عليه السلام) لأن الولاية مطلقة ومقيدة ، والمطلقة هي الولاية الكلية التي جميع الولايات الجزئية أفرادها ، والمقيدة تلك الأفراد ، وكل من الجزئية والكلية تطلب ظهورها ، والأنبياء قد ظهر في هذه الأمة جميع ولاياتهم على سبيل الإرث منهم ، فلهذا قال هنا (على قلب إبراهيم عليه السلام) ، وفي حديث آخر (على قلب موسى عليه السلام) ، وفلان ، وفلان ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الولاية الكلية من حيث أنه صاحب دائرة الولاية الكلية ، لأن باطن تلك النبوية الكلية الولاية المطلقة الكلية ، ولما كان لولاية كل من الأنبياء في هذه الأمة مظهراً ، كان من ظرائف الأنبياء أن يكون في هذه الأمة من هو على قلب واحد من الأنبياء. (كلما مات رجل) منهم ، (أبدل الله مكانه رجلا) فلذلك سموا أبدالا ، أو لأنهم أبدلوا أخلاقهم السيئة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم.

وظاهر كلام أهل الحقيقة ؛ أن الثلاثين مراتبهم مختلفة. قال العارف المرسي: جُلْتُ في الملكوت ، فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش ، رجل أشقر أزرق العين ، فقلت له: ما علومك ومقامك ؟ ، قال: علومي أحد وسبعين علما ، ومقامي رابع الخلفاء ، ورأس الأبدال السبعة ، قلت: فالشاذلي ! ، قال: ذاك بحر لا يحاط به. قال العارف المرسي: كنت جالسا بين يدي أستاذي الشاذلي ، فدخل عليه جماعة ، فقال: هؤلاء أبدال ، فنظرت ببصيرتي ، فلم أرهم أبدال ، فتحيرت ، فقال الشيخ: من بدلت سيئاته حسنات ، فهو بدل ، فعلمت أنه أول مراتب البدلية. وأخرج ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل: ما تقول في بشر الحافي بن الحارث ؟ ، قال: رابع سبعة من الأبدال)) اهـ بنصه من غير تحريف ولا تصرف.

وألقِ سمعك هذه الخرافة المأثورة عن شيخِهم الأكْبر ، ذي المآثر التي تخبلُ العقول وتَـبْهَر ـ أعني ابن عربي الحاتمي ـ حيث يقول عن نفسه ((الأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالم أربعة فقط ، وهم أخص من الأبدال ، والإمامان أخص منهم ، والقطب أخص الجماعة. ولكل وتد من الأوتاد الأربعة ركن من أركان البيت ، ويكون على قلب نبي من الأنبياء ، فالذي على قلب عيسى له اليماني ، والذي على قلب آدم له الركن الشامي ، والذي على قلب إبراهيم له العراقي ، والذي على قلب محمد له ركن الحجر الأسود ، وهو لنا ـ يعنى نفسه ـ)) كذا حكاه المناوي عنه.

وكتب القوم طافحة بهذه التعبيرات الجائرة عن طريق الاستقامة ، أعاذنا الله من الزيغ بعد الهداية. والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:20
السادس) حديث أبي سعيد الخدري

أخرجه البيهقي ((شعب الإيمان)) (7/439/10893) من طريق محمد بن عمران بن أبي ليلى أنا سلمه بن رجاء عن صالح المري عن الحسن عن أبي سعيد الخدري أو غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالأعمال ، ولكن إنما دخلوها برحمة الله ، وسخاوة الأنفس وسلامة لجميع المسلمين)).

قلت: وهذا حديث منكر ، وله ثلاث آفات:

(الأولى): صالح بن بشيرٍ المري القاص ، منكر الحديث جداً يحدث عن قوم ثقات أحاديث مناكير. قـال أحمد: كان صاحب قصص يقص ليس هو صاحب آثار وحديث ولا يعرف الحديث. وقال عمرو بن علي الفلاس: هو رجل صالح منكر الحديث جداً ، يحدث عن الثقات بالأباطيل والمنكرات. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب الحديث. وقال السعدي: واهي الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث.

(الثانية): الانقطاع ، فإن الحسن البصري لم يسمع أبا سعيد الخدري. قال الحافظ أبو سعيد العلائى ((جامع التحصيل)) (1/163): ((قال علي بن المديني: رأى الحسن أم سلمة ، ولم يسمع منها ، ولا من أبي موسى الأشعري ، ولا من الأسود بن سريع ، ولا من الضحاك بن سفيان ، ولا من جابر ، ولا من أبي سعيد الخدري ، ولا من ابن عباس ، ولا من عبد الله بن عمر ، ولا من عمرو بن تغلب ، ولم يسمع مـن أبي برزة الأسلمي ، ولا من عمران بن حصين ، ولا من النعمان بن بشير ، ولم يسمع من أسامة بن زيد شيئا ، ولا من عقبة بن عامر ، ولا من أبي ثعلبة الخشني)).

قـلت: وهذا كما قال ؛ إلا سماعه من عمرو بن تغلب. ففي ((كـتاب الجهاد)) مـن ((صحيح البخاري)) (2/157. سندي): حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمرو بن تغلب قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ)).

(الثالثة) المخالفة ، فقد رواه جماعة عن صالح المري عن الحسن مرسلاً ، وسلمة بن رجاء التيمي الكوفي صدوق يغرب ، ويتفرد بما لا يتابع عليه.

فقد أخرجه البيهقي ((شعب الإيمان)) (7/439) من طريق يحيى بن يحيى أنا صالح المري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بدلاء أمتي..)) بنحوه ، هكذا مرسلاً.السابع) حديث عبد الله بن مسعود

أخرجه أبو نعيم ((الحلية)) (1/8) ، ومن طريقه ابن الجوزي ((الموضوعات)) (3/150) من طريق محمد بن السري القنطري ثنا قيس بن إبراهيم بن قيس السامري ثنا عبد الرحمن بن يحيى الأرمني ثنا عثمان بن عمارة ثنا المعافي بن عمران عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله قال: قال رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن لله عزَّ وجلَّ في الخلق ثلاثمائة ، قلوبهم على قلب آدم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق أربعون ، قلوبهم على قلب موسى عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق سبعة ، قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق خمسة ، قلوبهم على قلب جبريل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق ثلاثة ، قلوبهم على قلب ميكائيل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق واحد ، قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام ، فاذا مات الواحد أبدل الله عز وجل مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله تعالى مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله تعالى مكانه من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله تعالى مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله تعالى مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله تعالى مكانه من العامة ، فبهم يحيي ويميت ، ويمطر وينبت ، ويدفع البلاء)) ، قيل لعبد الله بن مسعود: كيف بهم يحيي ويميت ؟ ، قال: ((لأنهم يسألون الله عز وجل إكثار الأمم فيكثرون ، ويدعون على الجبابرة فيقصمون ، ويستسقون فيسقون ، ويسألون فتنبت لهم الأرض ، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء)).

قال أبو الفرج: ((إسناده مظلم ، كثير من رجاله مجاهيل ليس فيهم معروف)).

قلت: وبقية أحاديث الأبدال مراسيل لا تنتهض بمثلها الحجة ، كيف وقد بان أن المرفوعات كلها واهية بمرة.

والذي ندين الله به ، ونعتقده واجباً لازما ، بعد قيام الدلالة بمقتضى ما بيناه من بطلان الأحاديث الآنفة الذكر ، أن هذه الألفاظ ((الأبدال)) و ((الأوتاد)) و ((الأقطاب)) و ((الغوث الفرد)) ، وغيرها مما تتهوعها قلوب المؤمنين الموقنين ، لم تكن تدور قطعاً على ألسنة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولم ترد بها أحاديث صحاح تؤكد صحة مدلولاتها ، على مقتضى كلام مَنْ أكثرَ استعمالها ، ولهجَ بذكرِها ، وأجراها على وفق قوانين وقواعد مبتدعة ، ضاهت عند بعضهم الشرك الأكبر ، وأكثرُهم من المنتمين إلى الشيعة ، والرافضة ، والصوفية.

وما اُستعمل منها على ألسنة أكابر أئمة السنة والجماعة ، كالإمام ابن المبارك والأوزاعي والشافعي وأحمد وابن معين والبخاري وغيرهم من رفعاء أهل السنة ، وخاصةً لفظ ((الأبدال)) ، فمحمول على معانٍ محمودة ، ومدائح جائزة. وربما وقع الاشتباه في دلالات هذه الألفاظ ، من جهة المعهود الذهني لمعانيها عند المخالفين من أهل الطوائف المبتدعة ، كالشيعة الباطنية ، والصوفية الإتحادية. وأما مع المجانبة والحذر من مشابهتهم ، فلا مشاحة في استعمال هذه الألفاظ حبنئذٍ ، على المعانى الجائزة مما تبيحه أدلة الكتاب والسنة.

فلا يظن أحدٌ أن قول الإمام أبي عبد الله الشافعي عن شيخه يحيى بن سليم الطائفي: كنا نعده من الأبدال ، أنَّه يعنى أن شيخه الطائفي أحد الأربعين أشباه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ، الذين كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلاً ، ولا يعنى أن شيخه أحد من يستغاث بهم ، ويستنـزل بهم القطر والرزق. وهذا مما لا ينبغي الإسهاب في بيان بطلان اعتقاده ، وحمل كلام أئمتنا عليه.

ألا تراهم يقولون في المديح ما لا يسعهم فعله ، فضلاً عن اعتقاده ، كقولهم ((فلان كعبة المحتاج لا كعبة الحُجَّاج ، ومَشْعَر الكرم لا مشعر الحَرَم ، ومِنَى الضيف لا مِنَى الخَيْف ، وقِبْلَة الصِّلاتِ لا قِبْلَة الصَّلاة)) ، وهذا كثير دائر على ألسنة الأدباء الأبيناء البلغاء من أهل السنة.

وعليه فقولهم عن رجل ((فلان من الأبدال)) ، محمول على معانٍ من الثناء والمديح والمحامد الجائزة ، مما لا مساس معها بالمحظورات العقائدية. وما كان منها على خلاف هذه الدلالة ، فمردود على قائله أو متأوله ، فمن ذلك قول شهاب بن معمر البلخي عن الإمام حماد بن سلمة: كان يُعد من الأبدال ، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له. ألا ترى أن مسحة الصوفية قد أذهبت رونق المدح والثناء ، فأحالت المدح قدحاً ، والثناء هجاءاً. وقارن ذلك بقول ابن المبارك عنه: ما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأوائل من حماد بن سلمة ، تجد بينهما بوناً شاسعاً ، تستلطف معه كلام ابن المبارك ، وتلقي إليه سمعك ، بينما تستغرب ما صدر عن البلخي.

فإذا وضحت هذه اللمعة ، فلنذكر طرفاً من الاستعمالات الجائرة لهذه الألفاظ عند الصوفية.

فهذا الشيخ عبد الرؤوف المناوي الصوفي يوضح حقيقة البَدَل على اعتقادهم ، فيقول في (فيض القدير): ((وإذا رحل البدلُ عن موضعٍ ترك بدله فيه حقيقة روحانية ؛ يجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي ، فإن ظهر شوقٌ من أناس ذلك الموطن شديد لهذا الشخص ، تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدلُه ، فكلمتهم ، وكلموها ، وهو غائب عنهم ، وقد يكون هذا من غير البدل ، لكن الفرق بينهما أن البدل يرحلُ ويعلمُ أنه ترك غيره ، وغيرُ البدل لا يعرفُ ذلك وإن تركه)).

ولا أظنك وأنت تقرأ هذا الغثاء ، إلا تعوذت بالله من هذه الأباطيل ، وقلت مسارعاً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} ، ودعوت عائذاً {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}.

وها هو يقول ما تقشعر منها الجلود ، وتشمئز منه الأفئدة: ((الأَبدال ـ بفتح الهمزة ـ جمع بَدَل بفتحتين ، خصهم الله تعالى بصفات: منها أنهم ساكنون إلى الله بلا حركة ، ومنها حسن أخلاقهم في هذه الأمة ، (ثلاثون رجلا) قيل سموا أبدالا ، لأنهم إذا غابوا تبدل في محلهم صور روحانية تخلفهم ، (قلوبهم على قلب إبراهيم) خليل الرحمن عليه السلام ، أي انفتح لهم طريق إلى الله تعالى على طريق إبراهيم عليه السلام ، وفي رواية (قلوبهم على قلب رجل واحد) قال الحكيم الترمذي: إنما صارت هكذا ، لأن القلوب لهت عن كل شيء سواه ، فتعلقت بتعلق واحد ، فهي كقلب واحد. قال في ((الفتوحات)): قوله هنا (على قلب إبراهيم) ، وقوله في خبر آخر (على قلب آدم) ، وكذا قوله (على قلب شخص من أكابر البشر أو من الملائكة) معناه: أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية بقلب ذلك الشخص ، إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب ، فكل علم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول ، يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه ، وربما يقول بعضهم: فلان على قدم فلان ، ومعناه ما ذكر.

وقال القيصري الرومي عن العارف ابن عربي: إنما قال (على قلب إبراهيم عليه السلام) لأن الولاية مطلقة ومقيدة ، والمطلقة هي الولاية الكلية التي جميع الولايات الجزئية أفرادها ، والمقيدة تلك الأفراد ، وكل من الجزئية والكلية تطلب ظهورها ، والأنبياء قد ظهر في هذه الأمة جميع ولاياتهم على سبيل الإرث منهم ، فلهذا قال هنا (على قلب إبراهيم عليه السلام) ، وفي حديث آخر (على قلب موسى عليه السلام) ، وفلان ، وفلان ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الولاية الكلية من حيث أنه صاحب دائرة الولاية الكلية ، لأن باطن تلك النبوية الكلية الولاية المطلقة الكلية ، ولما كان لولاية كل من الأنبياء في هذه الأمة مظهراً ، كان من ظرائف الأنبياء أن يكون في هذه الأمة من هو على قلب واحد من الأنبياء. (كلما مات رجل) منهم ، (أبدل الله مكانه رجلا) فلذلك سموا أبدالا ، أو لأنهم أبدلوا أخلاقهم السيئة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم.

وظاهر كلام أهل الحقيقة ؛ أن الثلاثين مراتبهم مختلفة. قال العارف المرسي: جُلْتُ في الملكوت ، فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش ، رجل أشقر أزرق العين ، فقلت له: ما علومك ومقامك ؟ ، قال: علومي أحد وسبعين علما ، ومقامي رابع الخلفاء ، ورأس الأبدال السبعة ، قلت: فالشاذلي ! ، قال: ذاك بحر لا يحاط به. قال العارف المرسي: كنت جالسا بين يدي أستاذي الشاذلي ، فدخل عليه جماعة ، فقال: هؤلاء أبدال ، فنظرت ببصيرتي ، فلم أرهم أبدال ، فتحيرت ، فقال الشيخ: من بدلت سيئاته حسنات ، فهو بدل ، فعلمت أنه أول مراتب البدلية. وأخرج ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل: ما تقول في بشر الحافي بن الحارث ؟ ، قال: رابع سبعة من الأبدال)) اهـ بنصه من غير تحريف ولا تصرف.

وألقِ سمعك هذه الخرافة المأثورة عن شيخِهم الأكْبر ، ذي المآثر التي تخبلُ العقول وتَـبْهَر ـ أعني ابن عربي الحاتمي ـ حيث يقول عن نفسه ((الأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالم أربعة فقط ، وهم أخص من الأبدال ، والإمامان أخص منهم ، والقطب أخص الجماعة. ولكل وتد من الأوتاد الأربعة ركن من أركان البيت ، ويكون على قلب نبي من الأنبياء ، فالذي على قلب عيسى له اليماني ، والذي على قلب آدم له الركن الشامي ، والذي على قلب إبراهيم له العراقي ، والذي على قلب محمد له ركن الحجر الأسود ، وهو لنا ـ يعنى نفسه ـ)) كذا حكاه المناوي عنه.

وكتب القوم طافحة بهذه التعبيرات الجائرة عن طريق الاستقامة ، أعاذنا الله من الزيغ بعد الهداية. والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:21
(الثامن) حديث على بن أبي طالب

أخرجه الإمام أحمد (1/112) قال: حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان حدثني شريح يعني ابن عبيد قال ذكر أهل الشام عند علي بن أبي طالب وهو بالعراق فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين ، قَالَ: لا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((الأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلاً ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً ، يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ)).

أخرجه كذلك أحمد في ((فضـائل الصحابة)) (1727) ، وابن عساكر (1/289) ، والمقدسى ((المختارة)) (2/110/484) جميعا بهذا الإسناد مثله.

قلت: وهذا الإسناد منقطع ، فإن شريح بن عبيد الشامي لم يسمع من علي بن أبي طالب.

وقد روى بإسنادين آخرين مرفوعا:

(الأول)

أخرجه ابن أبي الدنيا ((الأولياء)) (8): نا أبو الحسين الواسطي خلف بن عيسى نا يعقوب بن محمد الزهري نا مجاشع بن عمرو عن ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن عبد الله بن زرير عن علي قال: سألت رسول الله عن الأبدال ، قال: ((هم ستون رجلا)) ، قلت: يا رسول الله جلهم لي ؟ ، قال: ((ليسوا بالمتنطعين ، ولا بالمبتدعين ، ولا بالمتعمقين ، لم ينالوا ما نالوا بكثرة صيام ، ولا صلاة ، ولا صدقة ، ولكن بسخاء النفس وسلامة القلوب والنصيحه لأئمتهم ، إنهم يا علي من أمتي أقل من الكبريت الأحمر)).

قلت: وهذا حديث كذب من وضع مجاشع بن عمرو ، فإنه أحد الكذابين. قال ابن حبان: كان ممن يضع الحديث على الثقات ويروي الموضوعات عن أقوام ثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار للخواص.

(الثاني)

أخرجه الطبراني ((الأوسط)) (4/176/3905) ، وابن عساكر (1/334) من طريقين عن الوليد بن مسلم وزيد بن أبي الزرقاء عن ابن لهيعة نا عياش بن عباس القتباني عن عبد الله بن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يكون في آخر الزمان فتنة يحصَّل فيها الناس كما يحصَّل الذهب في المعدن ، فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبُّوا شرارهم ، فان فيهم الأبدال ، يوشك أن يُرسل على أهل الشام سيب من السماء ، فيغرق جماعتهم ، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم ، فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات ، المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً ، والمقل يقول هم اثنا عشر ألفاً ، أمارتهم: أمت أمت ، يلقون سبع رايات ، تحت كل راية منها رجل يطلب الملك ، فيقتلهم الله جميعا ، ويرد الله إلى المسلمين إلفتهم ونعمتهم وقاصيهم ودانيهم)).

قلت: وهذا وهم وخطأ ، إذ رواه ابن لهيعة حال اضطرابه واختلاطه ، فخالف الثقات الأثبات. فقد رواه الحارث بن يزيد الحضرمي ـ أحد أثبات ثقات المصريين ـ عن عبد الله بن زرير عن على موقوفا ، ولم يرفعه.

أخرجه ابن عساكر (1/335) من طريـق أحمد بن منصور الرمادي نا عبد الله بن صالح حدثني أبو شريح عبد الرحمن بن شريح المعافري أنه سمع الحارث بن يزيد ثنى عبد الله بن زرير أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: لا تسبوا أهل الشام ، فإن فيهم الأبدال.

وما صحَّ من أسانيده موقوفا على علي بن أبي طالب ، ليس فيه ذكر عددهم ولا أوصافهم ، وهو بها أثبت وأصحَّ منه مرفوعاً.

فقد أخرج ابن المبارك ((الجهاد)) (192) عن معمر عن الزهري قال أخبرني صفوان بن عبد الله بن صفوان أن رجلا قال يوم صفين: اللهم العن أهل الشام ، فقال علي: لا تسبوا أهل الشام جمعاً غفيرا ، فإن فيهم قوماً كارهون لما ترون ، وإن فيهم الأبدال.

وأخرجه الضياء ((المختارة)) (2/112) من طريق صالح بن كيسان عن الزهري حدثني صفوان بن عبد الله بن صفوان أن عليا قام بصفين وأهل العراق يسبون أهل الشام فقال: فذكر نحوه.

والحديث يروى من غير وجهٍ عن علي موقوفاً ، والحديث موقوفا عن علي بن أبي طالب أصح وأشهر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.


نقلاً عن الشيخ أبي محمد الألفي بتصرف يسير.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 18:24
شبهة توسل آدم بالنبي عليهما الصلاة والسلام


وأورد صاحب كنز العمال طريقاً آخر فقال: عن علي رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {فتلقى آدم من ربه كلمات} فقال: إن الله أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة وإبليس بميسان، والحية بأصبهان، وكان للحية قوائم كقوائم البعير ومكث آدم بالهند مائة سنة باكيا على خطيئته، حتى بعث الله تعالى إليه جبريل وقال: يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ ألم أنفخ فيك من روحي؟ ألم أسجد لك ملائكتي؟ ألم أزوجك حواء أمتي؟ قال بلى، قال: فما هذا البكاء؟ قال: وما يمنعني من البكاء وقد أخرجت من جوار الرحمن، قال فعليك بهذه الكلمات، فإن الله قابل توبتك وغافر ذنبك قل: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، سبحانك، لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقى آدم.

ثم قال: رواه (الديلمي) وسنده واه وفيه حماد بن عمرو النصيبي عن السري بن خالد واهيان.

وهذه بعض ما قيل في حماد النصيبي

قال عنه الحافظ ابن حجر: "متروك" وفي موضع آخر: "مذكور بوضع الحديث"

وقال يحيى بن معين: هو ممن يكذب ويضع الحديث.

وقال عمرو بن علي الفلاس، وأبو حاتم: منكر الحديث ضعيف جداً.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان يكذب.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال أبو زرعة: واهي الحديث.

وقال النسائي: متروك.

وقال ابن حبان: يضع الحديث وضعاً.

وأورد صاحب اللآلئ المصنوعة طريقاً آخر فقال: قال الدارقطني: حدثنا أبو ذر أحمد بن محمد بن أبي بكر الواسطي حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار حدثنا حسين الأشقر حدثنا عمرو بن ثابت عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فقال: قال سأل بحق محمد وعلي وفاطمة.

تفرد به عمرو عن أبيه أبي المقدام ، وتفرد به حسين عنه.

أما عمرو بن ثابت فقد قال عنه يحيى: لا ثقة ولا مأمون.

وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الإثبات.

وكذلك أورده صاحب تذكرة الموضوعات وقال: فيه حسين بن حسن اتهمه ابن عدي.

وأما حسين الأشقر:

فقد قال عنه البخارى: فيه نظر. وقال في موضع آخر: عنده مناكير.

وقال أبو زرعة: منكر الحديث.

وقال أبو حاتم: ليس بقوى.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجانى: غال من الشتامين للخيرة.

وقال أبو أحمد بن عدى: وليس كل ما يروى عنه من الحديث فيه الإنكار يكون من قبله ، و ربما كان من قبل من يروى عنه ، لأن جماعة من ضعفاء الكوفيين يحيلون بالروايات على حسين الأشقر ، على أن حسينا هذا في حديثه بعض ما فيه.

وذكره ابن حبان في كتاب " الثقات "

قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/336:

وذكره العقيلي في " الضعفاء " ، و أورد عن أحمد بن محمد بن هانيء قال: قلت لأبى عبد الله ـ يعنى ابن حنبل ـ: تحدث عن حسين الأشقر ! قال: لم يكن عندي ممن يكذب وذكر عنه التشيع ، فقال له العباس بن عبد العظيم: أنه يحدث في أبى بكر و عمر. وقلت أنا: يا أبا عبد الله إنه صنف بابا في معائبهما. فقال: ليس هذا بأهل أن يحدث عنه.

وذكر ابن عدي له أحاديث مناكير ، وقال في بعضها: البلاء عندي من الأشقر.

وقال النسائي و الدارقطني: ليس بالقوي.

وقال الأزدي: ضعيف ، سمعت أبا يعلى قال: سمعت أبا معمر الهذلي يقول: الأشقر كذاب.

وقال ابن الجنيد: سمعت ابن معين ذكر الأشقر ، فقال: كان من الشيعة الغالية.

وأما عمرو بن ثابت:

فقد قال المزي عنه في "تهذيب الكمال":

قال على بن الحسن بن شقيق: سمعت ابن المبارك يقول: لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت ، فإنه كان يسب السلف.

وقال الحسن بن عيسى: ترك ابن المبارك حديث عمرو بن ثابت.

وقال هناد بن السري: مات عمرو بن ثابت ، فلما مر بجنازته فرآها ابن المبارك دخل المسجد وأغلق عليه بابه حتى جاوزته.

وقال أبو موسى محمد بن المثنى: ما سمعت عبد الرحمن يحدث عن عمرو بن ثابت.

وقال عمرو بن على: سألت عبد الرحمن بن مهدى عن حديث عمرو بن ثابت ، فأبى أن يحدث عنه ، وقال: لو كنت محدثا عنه لحدثت بحديث أبيه عن سعيد بن جبير في التفسير.

وقال عباس الدوري ، عن يحيى بن معين: ليس بثقة ، و لا مأمون ، لا يكتب حديثه. و قال في موضع آخر: ليس بشيء.

وقال أبو داود ، عن يحيى: هو غير ثقة.و قال معاوية بن صالح ، عن يحيى: ضعيف.

وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث.

وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ، يكتب حديثه ، كان رديء الرأي ، شديد التشيع.

وقال البخاري: ليس بالقوى عندهم.

وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن عمرو بن ثابت بن أبى المقدام ،فقال: رافضي خبيث.

وقال في موضع آخر: رجل سوء ، قال هناد: لم أصل عليه ; قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كفر الناس إلا خمسة. و جعل أبو داود يذمه.

وقال النسائي: متروك الحديث.

وقال في موضع آخر: ليس بثقة ، و لا مأمون.

وقال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الأثبات".

قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 8/10:

وقال ابن سعد: كان متشيعا مفرطا ، ليس هو بشيء في الحديث ، و منهم من لا يكتب حديثه لضعفه و رأيه ، وتوفي في خلافة هارون.

وقال عبد الله بن أحمد ، عن أبيه: كان يشتم عثمان ، ترك ابن المبارك حديثه.

وقال الساجي: مذموم ، و كان ينال من عثمان و يقدم عليا على الشيخين.

وقال العجلي: شديد التشيع غال فيه ، واهي الحديث.

وبهذا يظهر لنا أن الحديث باطل ، لا تجوز روايته.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 19:18
الاستدلال بآية {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية على جواز الاستغاثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعد وبعد

يستدل الصوفية بقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [النساء : 64] على جواز الاستغاثة بغير الله تعالى وهنا في نذكر رد العلماء المحدث محمد بشير السهسواني الهندي على هذه الاستدلال من كتابه صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان [ ص 26 فما بعدها ] الذي يريد فيه على الشيخ أحمد زيني دحلان وهذا نص الرد :

وقوله: "أما الكتاب فقوله تعالى:  وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ . الخ.

أقول: في هذا الاستدلال فساد من وجوه:

(الأول) : إن قوله دلت الآية على حث الأمة على المجيء إليه صلى الله عليه وسلم، ماذا أراد به ؟ إن أراد حث جميع الأمة فغير مسلم، فإن الآية وردت في قوم معينين كما سيأتي، وليس هناك لفظ عام حتى يقال العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد، بل الألفاظ الدالة على الأمة الواقعة في هذه الآية كلها ضمائر، وقد ثبت في مقره أن الضمائر لا عموم لها ، ولذا لم يتشبث أحد من المستدلين بهذه الآية على القربة من التقي السبكي والقسطلاني وابن حجر المكي بعموم اللفظ، حتى إن صاحب الرسالة( 12) أيضاً لم يذكره. وأما ما قال صاحب الرسالة تبعاً للتقي السبكي والقسطلاني وابن حجر المكي من أن الآية تعم بعموم العلة ففيه أنه على هذا التقدير لا يكون الدليل كتاب الله بل القياس، وقد فرض أن الدليل كتاب الله، على أن المعتبر عند من يقول بحجة القياس قياس المجتهد الذي سلم اجتهاده الجامع للشروط المعتبرة فيه المذكورة في علم الأصول، وتحقق كلا الأمرين فيما نحن فيه ممنوع، كيف وصاحب الرسالة من المقلدين، والمقلد لا يكون من أهل الاجتهاد، مع أن الاجتهاد عند المقلدين قد انقطع بعد الأئمة الأربعة، بل المقلد لا يصلح لأن يستدل بواحد من الأدلة الشرعية، وما له وللدليل ؟ فإن منصبه قبول قول الغير بلا دليل، فذكرُ صاحب الرسالة الأدلة الشرعية هناك خلاف منصبه، وإن أراد حث بعض الامة فلا يتم التقريب.

و(الثاني) : أن صاحب الرسالة جعل المجيء إليه صلى الله عليه وسلم الوارد في الآية عاماً شاملاً للمجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وللمجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم بعد مماته، ولم يدر أن اللفظ العام لا يتناول إلا ما كان من أفراده، والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا، فإن ادعى مدع فهم ذلك الأمر الزائد من هذا اللفظ فنقول له: هل يفهم منه كل أمر زائد، أو كل أمر زائد يصح إضافته إلى الرجل، أو الأمر الخاص أي القبر ؟

والشق الأول مما لا يقول به أحد من العقلاء.

فإن اختير الشق الثاني يقال: يلزم على قولك الفاسد أن يطلق المجيء إلى الرجل على المجيء إلى بيت الرجل وإلى أزواجه وإلى أولاده وإلى أصحابه وإلى عشيرته وإلى أقاربه وإلى قومه وإلى أتباعه وإلى أمته وإلى مولده وإلى مجالسه، وإلى آباره وإلى بساتينه، وإلى مسجده وإلى بلده وإلى سككه وإلى دياره، وإلى مهجره، وهذا لا يلتزمه إلا جاهل غبي، وإن التزمه أحد فيلزمه أن يلتزم أن الآية دالة على قربة المجيء إلى الأشياء المذكورة كلها، وهذا من أبطل الأباطيل.

وإن اختير الشق الثالث فيقال: ما الدليل على هذا الفهم ؟ ولن تجد عليه دليلاً من اللغة والعرف والشرع، أما ترى أن أحداً من الموافقين والمخالفين لا يقول في قبر غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أحد أنه جاء ذلك الرجل، ولا يفهم أحد من العقلاء من هذا القول أنه جاء قبر ذلك الرجل.

فتحصل من هذا أن المجيء إلى الرجل أمر، والمجيء إلى قبر الرجل أمر آخر، كما أن المجيء إلى الرجل أمر، والمجيء إلى الأمور المذكورة أمور أخر، ليس أحدها فرداً للآخر.

إذا تقرر هذا فالقول بشمول المجيء إلى الرسول: المجيء إلى الرسول والمجيء إلى قبر الرسول، كالقول بشمول الإنسان الإنسان والفرس، وهذا هو تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهو باطل بإجماع العقلاء، وهكذا جعل الاستغفار عنده عاماً شاملاً للاستغفار عند القبر بعد مماته، مع أن الاستغفار عند قبره ليس من أفراد الاستغفار عنده.

فإن قلت: لا نقول إن المجيء إليه صلى الله عليه وسلم شامل للمجيء إليه في حياته وللمجيء إلى قبره بعد مماته حتى يرد ما أوردتم، بل نقول إن المجيء إليه شامل للمجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة والمجيء إليه في حياته البرزخية، ولما كان المجيء إليه في حياته البرزخية مستلزماً للمجيء إلى قبره ثبت من الآية المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو المسمى بزيارة القبر.

قلنا: لا سبيل إلى إثبات الحياة البرزخية من لغة ولا عرف، فلا يفهم من هذا اللفظ – بحروف اللغة والعرف – إلا المجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة، فلا يكون المجيء إليه في حياته البرزخية فرداً للمجيء إليه بحسب اللغة والعرف، إنما تثبت الحياة البرزخية ببيان الشرع، لكن يبقى الكلام في أن كون المجيء إليه في حياته البرزخية فرداً من المجيء إليه هل يثبت من الشرع أم لا ؟ وعلى مدعي الثبوت البيان، وفي أن المجيء إلى قبره هو عين المجيء إليه في حياته البرزخية أو مستلزم له أم لا ؟ وعلى المدعي الدليل، لم لا يحوز أن لا يكون المجيء إلى قبره عين المجيء إليه في حياته البرزخية ولا مستلزماً له بل يتوقف المجيء إليه في حياته البرزخية على أن يموت الجائي وينتقل إلى عالم البرزخ، فلابد من نفي هذا الاحتمال بدليل من الشرع، ويؤدي هذا أنا إذا قلنا جئنا زيداً، إنما نريد به أنا جئنا إلى مكان يُرى منه زيد ويسمع كلامه بحسب العادة، والمجيء إلى القبر ليس مجيئاً إلى مكان يُرى منه المقبور ويسمع كلامه، ويسمع المقبور كلام الجائي، أما تعلم أن الحي لو دفن في القبر كما يدفن الميت لن يرى أصلاً ولن يسمع كلامه، ولا هو يسمع كلام الجائي، وأما سماع الموتى خفق نعالنا وغير ذلك مما ثبت في الأحاديث فليس بحسب العادة، إنما هو بإسماع الله تعالى، يخلق قوة فيه هي خارجة عن العادة، أو بطريق آخر لا علم لنا بتعيينه، إنما نجزم أنه بطرق غير عادي.

يرشدك إلى هذا أن الزوار لا يرون المقبور ولا يسمعون كلامه، والمقبور يرى الزائر ويسمع كلامه، وهذا أدل دليل وأوضح برهان على أن رؤية المقبور وسماعه ليس بطريق عادي بل بطريق غير عادي، وإلا لسمع الزائر أيضاً كلام المقبور ورآه، على أن المجيء إليه قد انقطع بعد موته كما انقطع سائر الأحكام التي سيأتي ذكرها في الوجه الثالث، والفرق بين المجيء إليه وسائر الأحكام لا يقبل بغير بيان فارق شرعي، وأنى لك ذلك ! وأما ما قال السبكي في تعليله وتبعه القسطلاني تعظيماً له فيرد عليه أنه على هذا يلزم أن لا تنقطع جميع الأحكام المذكورة أيضاً تعظيماً له، على أنه ما الدليل على أن التعظيم يوجب عدم انقطاع هذا الحكم بالموت من كتاب وسنة ؟!

و(الثالث) : أن قوله "وهذا لا ينقطع بموته" قول لا دليل عليه، فإن انقطاع هذا الحكم لا استبعاد فيه، كما أن سائر الأحكام – من الإمامة الصغرى والكبرى، والجهاد، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريض المؤمنين على القتال، والمشاورة،وتجهيز الجيوش، وحفظ الثغور – قد انقطعت بعد موته، فإن زعم زاعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره فما معنى انقطاعه بعد الموت ؟ إن الحياة البرزخية هل هي مساوية للحياة الدنيوية في كل الأحكام عندكم أم لا ؟ والأول بديهي البطلان لإطباق الأمة على انقطاع الأحكام المذكورة من الإمامة الصغرى وغيرها، وعلى الثاني فلا استبعاد في انقطاع حكم المجيء إليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 19:19
(الرابع) قوله : "فأما استغفاره صلى الله عليه وسلم فهو حاصل لجميع المؤمنين بنص قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ . فاسد.

بيانه أن المراد باستغفار الرسول الواقع في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ } . الاستغفار بعد وقوع الظلم استغفاراً مستأنفاً، فإن "استغفر" [ في قوله ] { وَاسْتَغْفَرَ لَهُـمُ الرَّسُولُ }. معطوف على {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ }. وهو الظاهر، أو على{جَاءُوكَ } كما زعم السبكي في شفاء السقام، وعلى كلا التقديرين يكون بعد وقوع الظلم، أما على المعطوف عليه، فيكون استغفر لهم الرسول متأخراً عن جاءوك، وجاءوك متأخراً عن الظلم، والمتأخر عن المتأخر عن الشيء متأخر عن ذلك الشيء، وأما على الثاني فلأن استغفر لهم الرسول على هذا التقدير معطوف على جاءوك والمعطوف في حكم المعطوف عليه، وجاءوك متأخر عن الظلم فاستغفار الرسول متأخر عن الظلم، فعلم بذلك أن الاستغفار العام المأمور به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } لا يكفي فيما هنالك، وتدل عليه الآية الأخرى والسنة:

أما الآية فقوله تعالى في سورة الممتحنة: { إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فعلم أن الاستغفار العام المأمور به صلى الله عليه وسلم لا يكفي بل كان صلي الله عليه وسلم مأموراً باستغفار آخر وقت أخذ البيعة والتوبة من الشرك والمعاصي.

وقوله تعالى في سورة الفتح: {سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا }. وقوله تعالى في سورة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } .

فإن هاتين الآيتين تدلان على أن المسلمين كانت عادتهم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله فعلتُ كذا وكذا فاستغفر لي، وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين، وهذا الاستغفار كان غير ما أُمر به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:  { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }.

وأما السنة فما روى عن كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك في حديث طويل فيه: فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً – وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس – فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وفي ذلك الحديث: وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الحديث قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه. رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري، فعلم من هناك أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءه مذنب وتاب واستغفر يستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم استغفاراً مستأنفاً، ولا يقنع بالاستغفار العام.

على أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }. بالاستغفار لأهل الإيمان، وآية أخرى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ }. الآية. وردت في شأن المنافقين، فالاستغفار الذي فعله صلى الله عليه وسلم بامتثال قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }. لا يكون شاملاً للاستغفار لأهل النفاق، بل قد نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عنالاستغفار للمنافقين فقال تعالى : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وقال تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }. وقال تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ } . فلابد من أن يراد باستغفار الرسول – الذي ورد في شأن المنافقين – غير ما ورد في قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . فإن المنافقين داخلون في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ }. دخولاً أولياً، وإن سلم دخول غيرهم فيها بعموم العلة وما ضاهاه دخولاً ثانوياً.

وههنا نظر وعنه جواب فتأمل. وهكذا فهم جمهور أهل التفسير من الاستغفار الاستغفار الخاص ولم يقل أحد منهم إن الاستغفار العام يكفي هاهنا، قال الشوكاني رحمه الله في فتح القدير: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ }. بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك جاءوك  متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم  فاستغفروا الله . لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً فاستغفرت لهم.

وقال الإمام الرازي في مفاتيح الغيب: يعني أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاءوا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسال الله أن يغفر لهم عند توبتهم: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }. انتهى.

وقال أيضاً (المسألة الثانية) لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة ؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم ؟
(قلنا) الجواب عنه من وجوه : (الأول) أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله، وكان أيضاً إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإدخالاً للغم في قلبه، ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب كغيره، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم. (الثاني) : أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمرد، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار.اه‍.

وقال أبو السعود: جاءوك من غير تأخير، كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك في التنصل عن جناياتهم القديمة والحادثة، ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها بالاعتذار الباطل، والأيمان الفاجرة، فاستغفروا الله بالتوبة والإخلاص، وبالغوا في التضرع إليك حتى انتصبت شفيعاً لهم إلى الله تعالى واستغفرت لهم. اه‍.

وقال في المدارك(13) : ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول لوجدوا الله تواباً. اه‍. وقال البيضاوي: فاستغفروا الله بالتوبة والإخلاص، واستغفر لهم الرسول واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعاً. اه‍.

وقد علم من تلك العبارات أن عامة أهل التفسير قد فهموا من الآية أن استغفار الرسول يكون بعد استغفارهم. وأما ما قال السبكي في شفاء الأسقام: وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم بل هي محتلمة والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء تقدم أم تأخر فإن المقصود إدخالهم بمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور، إذا جعلنا {واستغفر لهم الرسول }. معطوفاً على {فاستغفروا الله }  أما إن جعلناه معطوفاً على  { جاءوك } لم يحتج إليه. هذا آخر ما في الشفاء(14)، ففيه نظر من وجوه :

( الأول ) أن عامة المفسرين قد فهموا من الآية أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، فالقول بأن ليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم تخطئة للجمهور ومخالفة لهم.

( الثاني ) أن تقديم استغفارهم على استغفار الرسول في الآية يستدعي أن يكون استغفارهم قبل استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن الشافعية استدلوا على وجوب الترتيب في الوضوء بالترتيب المذكور في الآية والسبكي أيضاً منهم، ويقويه ما ورد عن جابر بن عبدالله في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "ابدءوا بما بدأ الله به". أخرجه النسائي.

و (الثالث) أنه لو سلم أنه ليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، فلا شك أن في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد وقوع الظلم منهم، وهذا القدر يكفي لإثبات مرامنا، فإنه يدل دلالة واضحة على أن الاستغفار العام غير كاف فيما هنالك.

و (الرابع) أن في قوله (15)أما إن جعلناه معطوفاً على { جاءوك } لم يحتج إليه اه‍ فإن ذا العطف لا يضرنا أصلاً، فإنه يدل على أن استغفار الرسول بعد وقوع الظلم منهم إذا المعطوف في حكم المعطوف عليه، ولا شك أن جاءوك بعد وقوع الظلم منهم.

(الخامس) من وجوه: الأصل أن قوله(16) "فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم فقد تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته". مردود بأنا لا نسلم أنه إذا وجد المجيء إلى القبر واستغفارهم عنده وجدت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، فإن الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته هي المذكورة في الآية، وإنما هي المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الحياة بعد الظلم، واستغفارهم عنده في الحياة بعد الظلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحياة بعد الظلم، وفي زيارة القبر لا يوجد واحد منها.

(السابع) قوله: "وقد علم من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربه، ظن محض وتخمين صرف ليس عليه أثارة من كتاب ولا سنة فلا يسمع، على أن لنا أن نعارض فنقول: إنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد موته ممكناً أو مشروعاً لكان كمال شفقته ورحمته يقتضي ترغيبهم في ذلك وحضهم عليه، ومبادرة خير القرون إليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغب في ذلك، ولم يبادر خيرُ القرون إليه، فتبين أن الاستغفار بعد موته صلى الله عليه وسلم ليس ممكناً أو مشروعاً، وهذا التقرير مستفاد من الصارم(17).

(الثامن) قوله: "والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات.

قلت: الأمر كما أقر به الخصم في هذا المقام من أن الآية وردت في قوم معينين من أهل النفاق، يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }. وورد نظر ذلك في حقهم في سورة المنافقين: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }. ولكن عمومها بعموم العلة قد تقدم ما فيه في الوجه الأول، وبعد تسليم ذلك العموم يقال: إن الآية تعم ما وردت فيه وما كان مثله، فهي عامة في كل منافق قيل له تعالى إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فصد عن الرسول صدوداً، وتحاكم إلى الطاغوت، ثم جاء الرسول في حياته فاستغفر الله واستغفر له والرسول في حياته وأما المؤمن الذي عصى فجاء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فليس مثله.

(التاسع) قوله: "ولذلك فهم العلماء منها العموم للجائين واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وسلم أن يقرأها مستغفراً الله تعالى، واستحبوها للزائر ورأوها من آدابه التي ليس(18) له فعلها، وذكرها المصنفون في المناسك من أهل المذاهب الأربعة.

قلت: هذا مما أورده السبكي في الشفاء ورد عليه العلامة ابن عبدالهادي رحمه الله ف الصارم، فلنذكر هنا عبارة الصارم بلفظها، قال في الصارم "وقوله: ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين" فيقال له: من فهم هذا من سلف الأمة وأئمة الإسلام ؟ فاذكر لنا عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين أو الأئمة الأربعة أو غيرهم من الأئمة أو أهل الحديث والتفسير أنه فهم العموم بالمعنى الذي ذكرته أو عمل به أو أشد إليه، فدعواك على العلماء بطريق العموم هذا الفهم دعوى باطلة ظاهرة البطلان. اه‍.

ومن عجائب فهم صاحب الرسالة(19) أنه زعم أن ضمير "حكاها" في الشفاء راجع إلى الآية فقال: وذكر المصنفون. مع أن مرجعه حكاية العتبى، ولفظ الشفاء هكذا: ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى إلى قبره صلى الله عليه وسلم أن يتلوا هذه الآية ويستغفر الله تعالى. وحكاية العتبى في ذلك مشهورة، وقد حكاها المنصفون في المناسك من جميع المذاهب. اه‍.

لا يقال إن الغمام مالكاً من الأئمة الأربعة فهم العموم كما سيأتي في حكاية مناظرة الخليفة المنصور والإمام مالك، لأنا نقول: هذه الرواية ليست مما يعتمد عليه كما سيأتي، على أن من فهم العموم فمناطه حكاية الأعرابي وهي ليست بثابتة، كما ستطلع عليه عن قريب(20)

-------------
(13) هو تفسير النسفي.
(14) أي شفاء السقام للسبكي.
(15) أي السبكي في شفائه.
(16) أي المردود عليه دحلان تبعاً للسبكي في شفائه.
(17) يعني الصارم المنكى في الرد على السبكي للحافظ ابن عبدالهادي رحمه الله.
(18) كذا، وصوا به ينبغي بالإثبات لا بالنفي.
(19) أي الشيخ دحلان المردود عليه.
(20) وانظر (التوسل والوسيلة) لابن تيميه طبع السلفية ص67-82 و 154 الخ.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 19:21
(العاشر) قوله: "ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الجائي بين أن يكن مجيئه بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم.

قلت: هذا ذكره ابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وهو فاسد. بيانه أن عموم الفل الواقع في حيز الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع الشرط. قال الإمام المحلى في شرحه على جمع الجوامع: لتضمن الفعل المنفي لمصدر منكر. وقال السعد في حاشيته على العضدي: والمحققون من النحاة على أن المراد بتنكير الجملة أن المفرد الذي يسبك منها نكرة، وعموم الفعل المنفي ليس من جهة تنكيره بل من جهة ما يتضمنه من المصدر نكرة، فمعنى "لا يستوي زيد وعمرو" لا يثبت استواء بينهما. اه‍.
وعموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي، قال السعد في التلويح: يريد أن الشرط في مثل "إن فعلت فعبده حر أو امرأته طالق، لليمين على تحقق نقيض الشرط إن كان الشرط فيها مثل "إن ضربت رجلاً فكذا" فهو يمين للمنع، بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، وإن كان منفياً مثل "إن لم أضرب رجلاً فكذا" فهو يمين للحمل بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، ولا شك أن النكرة في الشرك المثبت خاص يفيد الإيجاب الجزئي فيجب أن يكون في جانب النقيض للعموم والسلب الكلي، والنكرة المنفية عام يفيد السلب الكلي فيجب أن يكون في جانب النقيض للخصوص والإيجاب الجزئي، فظهر أن عموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي. اه‍.

فتحصل من هذا أن عموم الفعل في سياق الشرط لا يكون إلا في موضع يحصل فيه نكرة في سياق النفي، وهذا لا يحصل إلا في مثل شرط يكون لليمين التي للمنع، ولذا قال السعد في حاشيته على العضدي: قوله "أو في معناه" يعني النكرة الواقعة في الشرط المستعمل موضع اليمين التي للمنع، مثل "إن أكلت فأنت طالق" فإنه للمنع عن الأكل، إذ انتفاء الطلاق مطلوب وذلك بانتفاء الأكل، فهو في معنى لا آكل البتة، وهذا معنى قوله: "إذا ينتفي الطلاق بأن لا يأكل". اه‍.

وقال في التوضيح: والنكرة في موضع الشرط إذا كان مثبتاً عام في طرف النفي، وإنما قيد بقوله إذا كان الشرط مثبتاً، حتى لو كان الشرط منفياً لا يكون عاماً كقوله إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر، فمعناه أضرب رجلاً، فشرط البر ضرب واحد من الرجال، فيكون للإيجاب الجزئي. اه‍.

وفي الآية الكريمة كون الشرط لليمين التي للمنع غير مسلم، وأيضاً قد علم أن في قوله "إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر" الفعل واقع في سياق الشرط مع أنه ليس عاماً، فالقول بعموم الفعل الواقع ف سياق الشرط عموماً فاسد.

(الحادي عشر) : أن جميع الأمة عصاة مذنبون، وخطّاء ظالمون، ورد في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار"ز رواه مسلم من حديث أبي ذر، وفيه "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته". وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون" رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي، وعن ابن عباس في قوله تعالى:  إلا اللمم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن تغفر اللهم تغفر جما = وأي عبد لك لا ألما " ؟

رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وفي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مذنب إلا من عافيت". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي حديث ابن مسعود قال: "لما نزلت:  الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذاك، إنما هو الشرك". رواه البخاري ومسلم.

فلو كانت الآية تعم كل ظالم سواء كان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وسواء كانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لم تكن، وسواء كان يدعي أو لا يدع، وسواء كان مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو إلى قبره بعد وافته كما زعم صاحب الرسالة(21) يلزم أن يكون مجيء كل أحد من أمته بعد كل ظلم ومعصية صغيرة كانت أو كبيرة إليه صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده قربة مطلوبة بالكتاب، وهذا مما لم يقل به أحد من المسلمين، ولا يطيقه أحد، وأيضاً يلزم أن يكون جميع مسلمي زمانه صلى الله عليه وسلم الذين لم يجيئوا إليه صلى الله عليه وسلم بعد كل ظلم تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن لا يكون المجيء إلى القبر مرة كافياً، بل يكون المجيء بمرات غير محصورة على قدر ذنوبهم قربة مطلوبة، كيف وذنوبنا غير محصورة ولا واقفة عند حد، وأيضاً يلزم مزية زيارة القبر على الحج، فإن حج بيت الله فرض في العمر مرة وتكون زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قربة في كل سنة بل في كل شهر بل في كل أسبوع بل في كل ساعة بل في كل لمحة، فإنا لا نخلو في لمحة من اللمحات من الذنوب، بل يلزم سكنى المدينة فيلزم أن يكون جميع الأكابر الذين لم يقيموا في المدينة من السلف والخلف تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن يكون الزاد والراحلة غير مشروط في الزيارة مع أنهما شرطان في الحج، وهذه المفاسد مما لا يلتزمها إلا جاهل غبي.

(الثاني عشر) أن في الآية تقبيحاً لضرب من المجيء، أي إتيانهم حالفين بالله حلفاً كاذباً كما جاء المنافقون، وتحسيناً لضرب آخر منه وهو أن يجيء مستغفراً فالمقصود الحث على تقدير المجيء على المجيء مستغفراً، فالثابت منها أنه على تقدير المجيء الإتيان مستغفراً قربة، لا أن نفس المجيء مع الاستغفار قربة، والمطلوب الثاني لا الأول فلا يتم التقريب.

(الثالث عشر) أنه لو صح الاستدلال المذكور بالآية المذكورة لصح بالأولى الاستدلال بالآية الواقعة في سورة الحجرات: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . على عدم كون زيارة القبر المعهودة في زماننا قربة الذي هو نقيض مطلوب صاحب الرسالة(22) فإن الآية دلت على ذم نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له كما قال الخصم في تقرير الآية بل هو أولى، فإن النداء من وراء الحجرات بعد الموت بيارسول الله وغيره من الألفاظ فرد من أفراد نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات بلا ريب ولا شبهة، بخلاف المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم، فإن كونه فرداً من أفراد المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاسد كما تقدم، ودلت أيضاً على تعليق ثبوت الخيرية لهم بالصبر على النداء من وراء الحجرات، والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين ف حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات كما قرر الخصم في الآية، بل عمومه أولى بالنسبة إلى الآية التي استدل بها الخصم فإن في هذه الآية  الذين  لفظ موصول وهو من الألفاظ العامة، بخلاف الآية المتقدمة فإن فيها ضميراً وهو ليس من العموم في شيء، ولذلك فهم العلماء منها العموم للمنادين.

قال القاضي عياض في الشفا: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال:  {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }. ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ } . وبأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان له أبو جعفر اه‍. وهذه الرواية وإن كان فيها مقال كثير ولكنها من مسلمات الخصم.

وأيضاً قال القاضي فيه: ولما كثر على مالك الناس قيل له: لو جعلت مستملياً يسمعهم، فقال: قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } . وحرمته حياً وميتاً سواء. اه‍.

وقال القطسلاني في المواهب: روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إنه لا ينبغي رفع الصوت على نبي حياً ولا ميتاً، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقياً لذلك، نقله ابن زبالة. اه‍.

ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الصابر بين أن يكون صبره بحيث تكون بينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لا لوقوع "صبروا" في حيز الشرط الدال على العموم كما قرر الخصم، على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا ؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }. وعن أبي هريرة قال: لما نزلت: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله . قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار(23) حتى ألقى الله، أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه، وفي صحيح البخاري: قال ابن الزبير فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر. قال القسطلاني: وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلا كأخي السرار. اه‍.

وبما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال: ممن أنتما، ومن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن مالك قال: بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. رواه في الموطأ، كذا في المشكاة، وعن أبي هريرة في حديث مرفوع في أشراط الساعة فيه "وظهرت الأصوات في المساجد"، وفي رواية "وارتفعت الأصوات في المساجد". وعن مكحول في حديث في أشراط الساعة "وأن تعلو أصوات الفسقة في المساجد". رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً، هكذا في الترغيب والترهيب للمنذري. ففي هذا الشق يلزم ثلاث محذورات: (الأول) رفع الصوت في المسجد، و(الثاني) رفع الصوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، و(الثالث) رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القسطلاني في المواهب: ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً }. أي لا تجعلوا دعاءه وتسميته كدعاء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت. اه‍. قال الزرقاني بحرمة رفعه عليه، والظرف أي "بينكم" متعلق بتجعلوا لا حال من الرسول، لأنه يوهم أنه لا يحرم نداؤه باسمه بعد وفاته مع أن الحرمة ثابتة مطلقاً. اه‍.

وقال القسطلاني في المواهب أيضاً: ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }. اه‍، قال الزرقاني: أي خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر. لما قدم وفد بني تميم قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ – قول قوله – عَظِيمٌ . قال ابن أبي مليكة عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر اه‍.

وقال القسطلاني في المواهب: وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: { لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ }. كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار. اه‍.

وقال في المواهب: وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصداً في سلامه بين الجهر والإسرار اه‍. وأيضاً في المواهب: ثم يقول الزائر بحضور قلب وغض طرف وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله .. الخ.

وقال ابن حجر في الجوهر المنظم: إذا وقت أو جلس ثم سلم لا يرفع صوته، بل يقتصد فيقول: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته .. الخ. وقال السيوطي في (موجز اللبيب في خصائص الحبيب) : ويحرم التقدم بين يديه، ورفع الصوت فوق صوته،والجهر له بالقول، ونداؤه من وراء الحجرات، والصياح به من بعيد اه‍.

والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لابد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلم عليه حتى يرده على المسلم.
قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بان يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة اه‍. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبعد ما عداه وإن كان بالمسجد اه‍. ولما سدت حجرة عائشة رضي الله عنها التي هي مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله ثم بنى عليه جدران من ركني القبر الشماليين تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه، فكيف يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عليه ولو سلم حياته صلى الله عليه وسلم في القبر ؟ فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة ؟ فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة ؟ ومجرد الإمكان العقلي لا يغني من شيء، على أنه هل لذلك تحديد أم لا ؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي وابن حجر المكي، وعلى الأول فلابد من بيانه بدليل شرعي، وأنى له ذلك ؟

(الرابع عشر) أنه لو صح الاستدلال بالآية المذكورة لجاز أن يستدل على جواز بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الموت، لقوله تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. وبقوله تعالى في سورة الفتح: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }. وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له صلى الله عليه وسلم كما قال الخصم، ودلت الآية على أنه لا فرق في الجائية بين أن يكون مجيئها بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم كما قال الخصم، ولكون "الذين" من الأسماء الموصولة وهي من ألفاظ العموم، مع أن أحداً من الأمة لم يقل بجواز بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت، ولم يفعلها أحد من السلف والخلف.

(الخامس عشر) أنه لو دلت الآية على كون زيارة القبر قربة، وعلى أنه شرع لكل مذهب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين وأجلها، وهذه مضادة صريحة لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا قبري عيداً".

(السادس عشر) أن أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه وهم سلف الأمة لم يفهم منهم أحد إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، ولم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقثول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى عطل الصحابة والتابعون – وهم خير القرون على الإطلاق – هذا الواجب الفرية التي ذم الله سبحانه من تخلف عنها وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم(24). ويالله العجب ! أكان ظلم الأمة لأنفسها – ونبيها حي بين أظهرها – موجوداً وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له، وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة، ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة(25). وهذان الوجهان الأخيران مأخوذان من الصارم.


------------
(21) أي المردود عليها وهو دحلان.
(22) أي دحلان.
(23) هي المسارَّ، أي كصاحب السرار أو كمثل المساررة، لخفض صوته، والكاف صفة مصدر محذوف. اه‍ مجمع البحار.
(24) زاد في الصارم المنكى هنا ما نصه: وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام، وهداة الأنام، من أهل الحديث والفقه و التفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك، الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية، ولما كان هذا المنقول شجي في حلوق البغاة، وقذى في عيونهم وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيى منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاند، فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء. اه‍.
(25) يعني أن أحكام العبادات العملية المنصوصة في القرآن لا يعقل أن يجهلها أو يترك العمل بها الصحابة والتابعون وسائر علماء السلف، ثم ينفرد بعملها وفهمهها مثل السبكي وابنحجر المكي بعدهم ببضعة قرون، وليس معناه أنه ليس لأحد بعد الصدر الأول أن يفهم من علوم القرآن وحكمه ما لم ينقل عنهم، فإن هذا باطل لم يقل به أحد، فعلوم القرآن وحكمه كدرر البحار لا تنفد، ولا تفتأ تتجدد، وكتبه محمد رشيد رضا.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 19:22
(العاشر) قوله: "ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الجائي بين أن يكن مجيئه بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم.

قلت: هذا ذكره ابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وهو فاسد. بيانه أن عموم الفل الواقع في حيز الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع الشرط. قال الإمام المحلى في شرحه على جمع الجوامع: لتضمن الفعل المنفي لمصدر منكر. وقال السعد في حاشيته على العضدي: والمحققون من النحاة على أن المراد بتنكير الجملة أن المفرد الذي يسبك منها نكرة، وعموم الفعل المنفي ليس من جهة تنكيره بل من جهة ما يتضمنه من المصدر نكرة، فمعنى "لا يستوي زيد وعمرو" لا يثبت استواء بينهما. اه‍.
وعموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي، قال السعد في التلويح: يريد أن الشرط في مثل "إن فعلت فعبده حر أو امرأته طالق، لليمين على تحقق نقيض الشرط إن كان الشرط فيها مثل "إن ضربت رجلاً فكذا" فهو يمين للمنع، بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، وإن كان منفياً مثل "إن لم أضرب رجلاً فكذا" فهو يمين للحمل بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، ولا شك أن النكرة في الشرك المثبت خاص يفيد الإيجاب الجزئي فيجب أن يكون في جانب النقيض للعموم والسلب الكلي، والنكرة المنفية عام يفيد السلب الكلي فيجب أن يكون في جانب النقيض للخصوص والإيجاب الجزئي، فظهر أن عموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي. اه‍.

فتحصل من هذا أن عموم الفعل في سياق الشرط لا يكون إلا في موضع يحصل فيه نكرة في سياق النفي، وهذا لا يحصل إلا في مثل شرط يكون لليمين التي للمنع، ولذا قال السعد في حاشيته على العضدي: قوله "أو في معناه" يعني النكرة الواقعة في الشرط المستعمل موضع اليمين التي للمنع، مثل "إن أكلت فأنت طالق" فإنه للمنع عن الأكل، إذ انتفاء الطلاق مطلوب وذلك بانتفاء الأكل، فهو في معنى لا آكل البتة، وهذا معنى قوله: "إذا ينتفي الطلاق بأن لا يأكل". اه‍.

وقال في التوضيح: والنكرة في موضع الشرط إذا كان مثبتاً عام في طرف النفي، وإنما قيد بقوله إذا كان الشرط مثبتاً، حتى لو كان الشرط منفياً لا يكون عاماً كقوله إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر، فمعناه أضرب رجلاً، فشرط البر ضرب واحد من الرجال، فيكون للإيجاب الجزئي. اه‍.

وفي الآية الكريمة كون الشرط لليمين التي للمنع غير مسلم، وأيضاً قد علم أن في قوله "إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر" الفعل واقع في سياق الشرط مع أنه ليس عاماً، فالقول بعموم الفعل الواقع ف سياق الشرط عموماً فاسد.

(الحادي عشر) : أن جميع الأمة عصاة مذنبون، وخطّاء ظالمون، ورد في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار"ز رواه مسلم من حديث أبي ذر، وفيه "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته". وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون" رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي، وعن ابن عباس في قوله تعالى:  إلا اللمم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن تغفر اللهم تغفر جما = وأي عبد لك لا ألما " ؟

رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وفي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مذنب إلا من عافيت". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي حديث ابن مسعود قال: "لما نزلت:  الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذاك، إنما هو الشرك". رواه البخاري ومسلم.

فلو كانت الآية تعم كل ظالم سواء كان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وسواء كانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لم تكن، وسواء كان يدعي أو لا يدع، وسواء كان مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو إلى قبره بعد وافته كما زعم صاحب الرسالة(21) يلزم أن يكون مجيء كل أحد من أمته بعد كل ظلم ومعصية صغيرة كانت أو كبيرة إليه صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده قربة مطلوبة بالكتاب، وهذا مما لم يقل به أحد من المسلمين، ولا يطيقه أحد، وأيضاً يلزم أن يكون جميع مسلمي زمانه صلى الله عليه وسلم الذين لم يجيئوا إليه صلى الله عليه وسلم بعد كل ظلم تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن لا يكون المجيء إلى القبر مرة كافياً، بل يكون المجيء بمرات غير محصورة على قدر ذنوبهم قربة مطلوبة، كيف وذنوبنا غير محصورة ولا واقفة عند حد، وأيضاً يلزم مزية زيارة القبر على الحج، فإن حج بيت الله فرض في العمر مرة وتكون زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قربة في كل سنة بل في كل شهر بل في كل أسبوع بل في كل ساعة بل في كل لمحة، فإنا لا نخلو في لمحة من اللمحات من الذنوب، بل يلزم سكنى المدينة فيلزم أن يكون جميع الأكابر الذين لم يقيموا في المدينة من السلف والخلف تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن يكون الزاد والراحلة غير مشروط في الزيارة مع أنهما شرطان في الحج، وهذه المفاسد مما لا يلتزمها إلا جاهل غبي.

(الثاني عشر) أن في الآية تقبيحاً لضرب من المجيء، أي إتيانهم حالفين بالله حلفاً كاذباً كما جاء المنافقون، وتحسيناً لضرب آخر منه وهو أن يجيء مستغفراً فالمقصود الحث على تقدير المجيء على المجيء مستغفراً، فالثابت منها أنه على تقدير المجيء الإتيان مستغفراً قربة، لا أن نفس المجيء مع الاستغفار قربة، والمطلوب الثاني لا الأول فلا يتم التقريب.

(الثالث عشر) أنه لو صح الاستدلال المذكور بالآية المذكورة لصح بالأولى الاستدلال بالآية الواقعة في سورة الحجرات: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . على عدم كون زيارة القبر المعهودة في زماننا قربة الذي هو نقيض مطلوب صاحب الرسالة(22) فإن الآية دلت على ذم نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له كما قال الخصم في تقرير الآية بل هو أولى، فإن النداء من وراء الحجرات بعد الموت بيارسول الله وغيره من الألفاظ فرد من أفراد نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات بلا ريب ولا شبهة، بخلاف المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم، فإن كونه فرداً من أفراد المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاسد كما تقدم، ودلت أيضاً على تعليق ثبوت الخيرية لهم بالصبر على النداء من وراء الحجرات، والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين ف حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات كما قرر الخصم في الآية، بل عمومه أولى بالنسبة إلى الآية التي استدل بها الخصم فإن في هذه الآية  الذين  لفظ موصول وهو من الألفاظ العامة، بخلاف الآية المتقدمة فإن فيها ضميراً وهو ليس من العموم في شيء، ولذلك فهم العلماء منها العموم للمنادين.

قال القاضي عياض في الشفا: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال:  {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }. ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ } . وبأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان له أبو جعفر اه‍. وهذه الرواية وإن كان فيها مقال كثير ولكنها من مسلمات الخصم.

وأيضاً قال القاضي فيه: ولما كثر على مالك الناس قيل له: لو جعلت مستملياً يسمعهم، فقال: قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } . وحرمته حياً وميتاً سواء. اه‍.

وقال القطسلاني في المواهب: روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إنه لا ينبغي رفع الصوت على نبي حياً ولا ميتاً، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقياً لذلك، نقله ابن زبالة. اه‍.

ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الصابر بين أن يكون صبره بحيث تكون بينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لا لوقوع "صبروا" في حيز الشرط الدال على العموم كما قرر الخصم، على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا ؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }. وعن أبي هريرة قال: لما نزلت: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله . قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار(23) حتى ألقى الله، أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه، وفي صحيح البخاري: قال ابن الزبير فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر. قال القسطلاني: وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلا كأخي السرار. اه‍.

وبما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال: ممن أنتما، ومن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن مالك قال: بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. رواه في الموطأ، كذا في المشكاة، وعن أبي هريرة في حديث مرفوع في أشراط الساعة فيه "وظهرت الأصوات في المساجد"، وفي رواية "وارتفعت الأصوات في المساجد". وعن مكحول في حديث في أشراط الساعة "وأن تعلو أصوات الفسقة في المساجد". رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً، هكذا في الترغيب والترهيب للمنذري. ففي هذا الشق يلزم ثلاث محذورات: (الأول) رفع الصوت في المسجد، و(الثاني) رفع الصوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، و(الثالث) رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القسطلاني في المواهب: ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً }. أي لا تجعلوا دعاءه وتسميته كدعاء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت. اه‍. قال الزرقاني بحرمة رفعه عليه، والظرف أي "بينكم" متعلق بتجعلوا لا حال من الرسول، لأنه يوهم أنه لا يحرم نداؤه باسمه بعد وفاته مع أن الحرمة ثابتة مطلقاً. اه‍.

وقال القسطلاني في المواهب أيضاً: ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }. اه‍، قال الزرقاني: أي خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر. لما قدم وفد بني تميم قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ – قول قوله – عَظِيمٌ . قال ابن أبي مليكة عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر اه‍.

وقال القسطلاني في المواهب: وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: { لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ }. كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار. اه‍.

وقال في المواهب: وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصداً في سلامه بين الجهر والإسرار اه‍. وأيضاً في المواهب: ثم يقول الزائر بحضور قلب وغض طرف وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله .. الخ.

وقال ابن حجر في الجوهر المنظم: إذا وقت أو جلس ثم سلم لا يرفع صوته، بل يقتصد فيقول: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته .. الخ. وقال السيوطي في (موجز اللبيب في خصائص الحبيب) : ويحرم التقدم بين يديه، ورفع الصوت فوق صوته،والجهر له بالقول، ونداؤه من وراء الحجرات، والصياح به من بعيد اه‍.

والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لابد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلم عليه حتى يرده على المسلم.
قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بان يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة اه‍. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبعد ما عداه وإن كان بالمسجد اه‍. ولما سدت حجرة عائشة رضي الله عنها التي هي مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله ثم بنى عليه جدران من ركني القبر الشماليين تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه، فكيف يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عليه ولو سلم حياته صلى الله عليه وسلم في القبر ؟ فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة ؟ فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة ؟ ومجرد الإمكان العقلي لا يغني من شيء، على أنه هل لذلك تحديد أم لا ؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي وابن حجر المكي، وعلى الأول فلابد من بيانه بدليل شرعي، وأنى له ذلك ؟

(الرابع عشر) أنه لو صح الاستدلال بالآية المذكورة لجاز أن يستدل على جواز بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الموت، لقوله تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. وبقوله تعالى في سورة الفتح: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }. وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له صلى الله عليه وسلم كما قال الخصم، ودلت الآية على أنه لا فرق في الجائية بين أن يكون مجيئها بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم كما قال الخصم، ولكون "الذين" من الأسماء الموصولة وهي من ألفاظ العموم، مع أن أحداً من الأمة لم يقل بجواز بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت، ولم يفعلها أحد من السلف والخلف.

(الخامس عشر) أنه لو دلت الآية على كون زيارة القبر قربة، وعلى أنه شرع لكل مذهب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين وأجلها، وهذه مضادة صريحة لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا قبري عيداً".

(السادس عشر) أن أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه وهم سلف الأمة لم يفهم منهم أحد إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، ولم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقثول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى عطل الصحابة والتابعون – وهم خير القرون على الإطلاق – هذا الواجب الفرية التي ذم الله سبحانه من تخلف عنها وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم(24). ويالله العجب ! أكان ظلم الأمة لأنفسها – ونبيها حي بين أظهرها – موجوداً وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له، وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة، ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة(25). وهذان الوجهان الأخيران مأخوذان من الصارم.


------------
(21) أي المردود عليها وهو دحلان.
(22) أي دحلان.
(23) هي المسارَّ، أي كصاحب السرار أو كمثل المساررة، لخفض صوته، والكاف صفة مصدر محذوف. اه‍ مجمع البحار.
(24) زاد في الصارم المنكى هنا ما نصه: وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام، وهداة الأنام، من أهل الحديث والفقه و التفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك، الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية، ولما كان هذا المنقول شجي في حلوق البغاة، وقذى في عيونهم وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيى منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاند، فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء. اه‍.
(25) يعني أن أحكام العبادات العملية المنصوصة في القرآن لا يعقل أن يجهلها أو يترك العمل بها الصحابة والتابعون وسائر علماء السلف، ثم ينفرد بعملها وفهمهها مثل السبكي وابنحجر المكي بعدهم ببضعة قرون، وليس معناه أنه ليس لأحد بعد الصدر الأول أن يفهم من علوم القرآن وحكمه ما لم ينقل عنهم، فإن هذا باطل لم يقل به أحد، فعلوم القرآن وحكمه كدرر البحار لا تنفد، ولا تفتأ تتجدد، وكتبه محمد رشيد رضا.

ليتيم الشافعي
2008-11-22, 19:23
للإفادة وللرفع
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته