المثابر120
2008-11-14, 11:23
العلاقة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية
ميلتون فريدمان
إنه من السائد كثيرًا بأن السياسة والاقتصاد أمران منفصلان ولا علاقة لأحدهما بالآخر؛ وأن الحرية الفردية مسألة سياسية بينما أن الرفاهية المادية مسألة اقتصادية، وبأنه من الممكن ضم أي نوع من الأنظمة السياسية إلى أي نوع من الأنظمة الاقتصادية، والتطبيق المعاصر الأوضح لهذه الفكرة هو الدفاع عن "الاشتراكية الديمقراطية " من قبل العديد من الذين يدينون في الوقت ذاته القيود التي تفرضها "الاشتراكية الديكتاتورية " على الحرية الفردية في روسيا، و كذلك هؤلاء المؤمنين بأنه من الممكن أن تقوم دولة بتبني الخصائص الأساسية للأنظمة الاقتصادية الروسية وفي الوقت ذاته ضمان الحرية الفردية من خلال تلك الأنظمة السياسية . إن الفكرة التي يتناولها هذا الفصل تتمثل في أن مثل تلك الرؤية مضللة، وبأن هناك علاقة جوهرية بين السياسة والاقتصاد بحيث أنه بالإمكان الجمع فقط بين أنظمة سياسية واقتصادية محددة دون غيرها، وأنه على وجه الخصوص لا يمكن لمجتمع اشتراك في أن يكون في الوقت ذاته ديمقراطيًا ضمن مفهوم ضمان الحرية الفردية.
إن الأنظمة الاقتصادية تلعب دورًا مزدوجًا في تأسيس مجتمع حر؛ فمن ناحية، فإن الحرية في الأنظمة الاقتصادية هي بذاتها جزء من الحرية بمفهومها الأوسع، وهي هدف نهائي بحد في الأنظمة الاقتصادية هي بذاتها جزء من الحرية بمفهومها الأوسع، وهي هدف نهائي بحد ذاتها.
أما في المرتبة الثانية فإن الحرية الاقتصادية كذلك وسيلة لا يستغنى عنها في سبيل تحقيق الحرية السياسية.
إن أولى تلك الأدوار للحرية الاقتصادية تتطلب تأكيدًا خاصًا لأن للمفكرين على وجه الخصوص ميلٌ قوي لعدم اعتبار هذه السمة للحرية على أنها مهمة؛ فهم ينزعون إلى التعبير عن ازدرائهم لما يعتبرونه مظاهر مادية للحياة، وإلى اعتبار سعيهم وراء قيمهم السامية المزعومة على أنه على مستوى أعلى من الأهمية، وعلى أنه يستحق اهتمامًا خاصًا. ولكنه لمعظم مواطني الدولة — وإن لم يكن ذلك للمفكرين — فإن الأهمية المباشرة للحرية الاقتصادية هي على الأقل بمثل أهميتها غير المباشرة كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
فالمواطن البريطاني الذي لم يسمح له بعد الحرب العالم ية الثانية بقضاء إجازته في الولايات المتحدة بسبب نظام الرقابة على الصرف وتحويل العملات الأجنبية قد تم تجريده من حرية أساسية بما لا يقل عن المواطن الأمريكي الذي حرم من فرصته في قضاء عطلته في روسيا بسبب آرائه السياسية . فالحالة الأولى كانت في الظاهر تقييدًا اقتصاديًا للحرية بينما كانت الثانية تقييدًا سياسيًا لها؛ ومع ذلك فإنه لا يوجد فرق جوهري بين كلتيهما.
إن المواطن الأمريكي الذي يجبره القانون على تخصيص ما يقارب 10% من دخله من أجل شراء نوع معين من عقود التقاعد الذي تقدمه الحكومة؛ فإنه يتم تجريده بالقدر ذات ه من حريته الشخصية. إن شدة الشعور بهذا التجريد ومقدار شبهه بالتجريد من الحرية الديني ة — والتي سيعتبرها الجميع كحرية "مدنية" أو "سياسية" بدًلا عن اقتصادية — قد تمثل من خلال حدث متعلق بجماعة من مزارعي طائفة أميش؛ فعلى أساس المبدأ، اعتبرت هذه الجماعة البرامج الفيدرالية الإجبارية للشيخوخة كانتهاك لحريتهم الشخصية الفردية ورفضوا دفع الضرائب أو قبول الإعانات؛ و نتيجة لذلك تم بيع بعض مواشيهم في مزاد علني لدفع استحقاقات ضرائب الضمان الاجتماعي. إنه صحيح بأن أعداد المواطنين الذين يعتبرون ضمان الشيخوخة الإجباري كتجريد للحرية قد تكون قليلة؛ لكن المؤمن بالحرية لا يحصي الأنوف أبدًا.
إن المواطن الأمريكي الذي لا يمتلك — ضمن تشريعات العديد من الولايا ت — حرية الالتحاق بالمهنة التي هي من اختياره الخاص إلا إذا حصل على ترخيص لذلك؛ هو كذلك يتم حرمانه من جزء أساسي من حريته . وكذلك الشخص ا لذي يريد استبدال بعضٍ من بضائعه بساعة سويسرية مثًلا لكنه يمنع من ذلك بسبب حصة نسبية ما (كوتا). وهكذا أيضًا الرجل من كاليفورنيا الذي قد بسعر أقل من ذاك الذي فرضته الجهة Alka Seltzer (زج به في السجن لبيعه ) ألكا سيلتزرالصانعة تحت ما يطلق عليه اسم قوانين "التجارة العادلة ". وأيضًا كذلك المزارع الذي لا يستطيع زراعة كمية القمح التي يرغب بها، وهكذا دواليك . إنه من الواضح بأن الحرية الاقتصادية وبحد ذاتها جزء مهم للغاية من الحرية بمفهومها الشامل.
باعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية السياسية؛ فإن الأنظمة الاقتصادية مهمة بسبب تأثيرها على تركيز أو توزيع السلطة؛ فذاك النوع من النظام الاقتصادي الذي يوفر الحرية الاقتصادية بشكل مباشر، وأعني النظام الرأسمالي التنافسي، يشجع كذلك الحرية السياسية لأنه يفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية وبذلك يمكن أحدهما من أن يوازن الآخر.
إن الدليل التاريخي يتحدث بصوت واحد عن العلاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة. فلا أعلم عن أي مثال في أي مكان أو زمان لمجتمع تميز بقدر كبير من الحرية السياسية ، وفي الوقت ذاته لم يستخدم شيئًا شبيهًا بالسوق الحرة لتدبير معظم نشاطه الاقتصادي.
ولأننا نعيش في مجتمع يتمتع بحرية كبيرة فإننا نميل إلى نسيان كم هو محدودٌ الزمن والجزء من العالم الذي قد تواجد فيه مطلقًا شيء شبيه بالحرية السياسية، فغالبًا ما كان حال البشر الاستبداد والعبودية والشقاء؛ إلا أنه قد أبرز القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في العالم الغربي استثناءات لافتة للنظر للمنحى العام للتطور التاريخي؛ فقد تحققت الحرية السياسية في هذه المرحلة بشكل واضح بمعية السوق الحرة وتطور المؤسسات الرأسمالية، كالذي حققته الحرية السياسية في العصور الذهبية لليونان وفي العهود الأولى للعصر الروماني.
ويقترح التاريخ بأن الرأسمالية تكفي كشرط أساسي للحرية السياسية؛ لكنه من الواضح بأن ذلك ليس كافيًا؛ فإيطاليا الفاشية وإسبانيا الفاشية، و ألمانيا خلال العديد من الفترات في السبعين سنة الماضية، واليابان قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، وروسيا القيصرية في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى؛ جميعها مجتمعات لا يمكن تصورها على أنها حرة سياسيًا؛ ومع ذلك كانت المشاريع الخاصة هي الشكل السائد للنظام الاقتصادي في كل منها. ولذلك من الممكن وبشكل واضح أن تتواجد أنظمة اقتصادية والتي هي رأسمالية في الأساس مع أنظمة سياسية غير حرة.
حتى في تلك المجتمعات السالفة الذكر كان للمواطنين حرية أفضل من هؤلاء في دولة ديكتاتورية حديثة كروسيا أو ألمانيا النازية، والتي جمعت بين الديكتاتورية الاقتصادية والديكتاتورية السياسية . حتى في روسيا تحت الحكم القيصري كان ممكنًا لبعض المواطنين في بعض الأحوال تغيير وظائفهم دون أخذ تصريح من السلطة السياسية بذلك حيث وفرت الرأسمالية ووجود الملكية الخاصة بعض الكبح على السلطة المركزية للدولة.
إن العلاقة ما بين الحريتين السياسية والاقتصادية معقدة وليست بأي شكل من الأشكال أحادية الجانب؛ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان لبنثام والراديكاليين الفلسفيين ميًلا لاعتبار الحرية السياسية كوسيلة نحو الحرية الاقتصادية، وقد آمنوا بأنه يتم كبح الطبقة العاملة عن طريق القيود التي تفرض عليهم، وبأنه إن أعطى الإصلاح السياسي عامة الشعب حق التصويت لعملوا ما في صالحهم والذي كان التصويت لسياسة عدم التدخل (مبدأ يقاوم التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية إلا بمقدار ما يكون ذلك ضروريًا لصيانة الأمن وحقوق الملكية الشخصية ). وبتأمل الأحداث الماضية لا يستطيع أحد القول بأنهم قد كانوا مخطئين في ذلك . ولقد كانت هناك إجراءات عظيمة من الإصلاح السياسي والذي رافقه إصلاح اقتصادي في توجه نحو تحقيق سياسة عدم التدخل تلك. وقد تبع هذا التغيير في الأنظمة الاقتصادية زيادة هائلة في رفاهية الطبقة العاملة.
إن انتصار الليبرتارية البنثمايتية في بريطانيا القرن التاسع عشر تبعه ردة فعل نحو زيادة التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية. وقد تسارعت هذه النزعة نحو الجماعية (مبدأ اشتراكي قائل بسيطرة الدولة — أو الشعب ككلّ — على جميع وسائل الانتاج أو النشاطات الاقتصادية ) بشكل كبير في بريطانيا وغيرها خلال الحربين العالميتين، وأصبحت دولة الرفاه بدًلا عن الحرية السمة المميزة للدول الديمقراطية. وبإدراك الخطر الضمني على الفردانية (نظرية تنادي بأن المبادرة والمصالح الفردية يجب ألا تخضع لسيطرة الحكومة أو المجتمع أو رقابتهما) خشي المفكرون المنحدرون عن الراديكاليين الفلسفيين —على سبيل الذكر : دايسي وميزس وهايك وسايمنز — بأن التقدم المستمر نحو السيطر ة المركزية على النشاط الاقتصادي سوف يثبت الطريق إلى الرق كما أطلق هايك على تحليله النافذ لهذه العملية، ولقد كان تركيزهم على الحرية الاقتصادية كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
لقد أظهرت الأحداث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علاقة جديدة مختلفة بين الحريت ين الاقتصادية والسياسية؛ حيث أن التخطيط الاقتصادي الجماعي قد تعارض فعًلا مع الحرية الفردية، لكنه في بعض الدول على الأقل لم ينتهِ الأمر بقمع الحرية بل بتحول السياسة الاقتصادية فيها. وتقدم بريطانيا مرة أخرى المثال الأبرز على ذلك : ولربما كانت نقطة التحول ف يها تكمن في نظام "ضبط الالتزامات " الذي وجد حزب العمال من الضروري فرضه — على الرغم من المخاوف الكبيرة — لتنفيذ سياسته الاقتصادية . وإن كان قد تم تنفيذه بالشكل الكامل لتضمن هذا القانون توزيعًا مركزيًا للأفراد على المهن، الأمر الذي كان متعارضًا جدًا مع الحرية الشخصية، بحيث أنه قد تم تنفيذه على عدد لا يذكر من الحالات، ثم تم إلغاؤه بعد أن كان ساري المفعول لمدة قصيرة فقط، وقد قاد إلغاؤه هذا نقلة واضحة في السياسة الاقتصادية تميزت باعتماد أقل على "الخطط" و"البرامج" المركزية من خلال تفكيك العديد من القيود، وعن طريق زياد ة التركيز على السوق الخاصة . وقد حدث تحول مشابه في السياسة الاقتصادية في معظم الدول الديمقراطية الأخرى.
إن التفسير الأقرب لهذه النقلات في السياسة الاقتصادية هو النجاح المحدود للتخطيط المركزي أو فشله الكامل في تحقيق الأهداف المعلنة . ومن ناحية أخرى فإن هذا الفشل الذي يعزى في ذاته — لدرجة ما على الأقل — للمضامين السياسية للتخطيط المركزي ولانعدام الرغبة في متابعة منطقه عند تنفيذه، يتطلب وطئًا شديدًا على الحقوق الخاصة المحفوظة . ومن المحتمل أن تكون هذه النقلة مجرد صدعًا مؤقتًا في الاتجاه الجماعي لهذا القرن؛ وحتى إن كان كذلك؛ فإنه يوضح العلاقة الوطيدة بين الحرية السياسية والأنظمة الاقتصادية.
إن الدليل التاريخي لوحده لن يكون مقنعًا بشكل كافٍ، ولربما كانت تلك صدفة محضة بأن حدث انتشار الحرية في الوقت ذاته مع نمو المؤسسات الرأسمالية والسوق الحر، فلماذا يجب أن تكون هناك علاقة بينهما؟ وما هي الروابط المنطقية بين الحريات الاقتصادية والسياسية؟ من خلال البحث في هذه التساؤلات سوف نمعن النظر أوًلا في السوق كعنصر مباشر للحرية، ومن ثم سنتناول العلاقة غير المباشرة بين أنظمة السوق والحرية السياسية، وكنتيجة ثانوية لذلك ستكون بالتوصل إلى موجز للأنظمة الاقتصادية المثالية في مجتمع يتمتع بالحرية.
كليبراليين؛ إننا نتخذ حرية الفرد أو ربما العائلة كهدف نهائي لنا في الحكم على الأنظمة الاجتماعية. إن للحرية كقيمة ضمن هذا المفهوم علاقة بالروابط المتبادلة بين الناس، وليس لها أي معنى مهمًا كان لروبنسون كروزو على جزيرة معزولة — من دون غلامه فرايدي — حيث أن كروزو على جزيرته تلك عرضة لـ "التقييد"، ويمتلك "سلطة" محدودة، ولديه فقط عدد محدود من الخيارات، لكن لا توجد عنده مشكلة الحرية بالمفهوم الذي نعنيه بنقاشنا هذا. وبشكل مماثل، في مجتمع ما ليس للحرية علا قة بما يفعله المرء بحريته، فهي ليست بصفة أخلاقية شاملة لكافة الجوانب. وبالفعل؛ فإن هدفًا أساسيًا للليبرالي هو ترك المسألة الأخلاقية للفرد ليتصارع معها. إن المسائل الأخلاقية الهامة "حقًا" هي تلك التي تواجه الفرد في مجتمع حر: ما الذي يجب عليه أن يفعله بحريته، وبالتالي فإن هنالك مجموعتان من القيم سيؤكد الليبرالي عليها: القيم المتعلقة بالعلاقات بين الناس، والذي هو السياق الذي يحدده من خلاله الأولوية الأولى للحرية، والقيم ذات الصلة بالفرد في ممارسته لحريته، والذي هو مجال الأخلاقيات والفلسفة الفردية.
يصور الليبرالي البشر على أنهم كائنات ناقصة، ويعتبر مسألة النظام الاجتماعي كونها مشكلة سلبية متمثلة في منع "الأشرار" من التسبب بالأذى بالقدر ذاته من تمكين "الأخيار " من عمل الخير، وبالطبع فإن "الأشرار" و"الأخيار" قد يكونوا الأشخاص ذاتهم وذلك اعتمادًا على من يقو م بالحكم عليهم.
إن المشكلة الأساسية للنظام الاجتماعي هي كيفية تنسيق النشاطات الاقتصادية لأعداد كبيرة من الناس؛ فحتى في المجتمعات الرجعية نسبيًا لا بدلا من تقسيم شامل للعمل والتخصص في الوظائف من أجل الاستغلال الفعال للموارد المتوفر ة. أما في المجتمعات المتقدمة فإن المعيار الذي يجب أن يكون عليه النظام من أجل الاستغلال الأمثل للفرص التي يقدمها العلم والتكنولوجيا الحديثة هو أكبر بكثير . ففي الواقع ينخرط الملايين من الناس في توفير الخبز اليومي لبعضهم البعض، ناهيك عن سياراتهم السنوية . إن التحدي الذي يواجهه المؤمن بالحرية هو التوفيق بين اعتماد الناس بعضهم على بعض بالشكل الكبير هذا وبين الحرية الفردية.
يوجد هنالك بشكل أساسي طريقتان للتنسيق بين النشاطات الاقتصادية لملايين الناس : إحداهما هي التوجيه المركزي المتضمن استخدام القهر أي تقنية القوة العسكرية والدولة الديكتاتورية الحديثة. أما الطريقة الثانية فهي التعاون الطوعي للأفراد، أي تقنية ميدان السوق.
إن إمكانية التنسيق من خلال التعاون الطوعي يعتمد على القضية الأساسية — والتي على الرغم من ذلك كثيرًا ما لا تؤخذ بعين الاعتبار — بأن ينتفع كلا الطرفين في المعاملات الاقتصادية منها، شرط أن تكون الصفقة اختيارية من كلا الجانبين ومعلن عنها.
لذلك يمكن للتبادل التجاري إحداث ذاك التنسيق دون إجبا ر . وكنموذج عملي لمجتمع منظم من خلال التبادل الطوعي هو اقتصاد تبادل المشاريع الحرة الخاصة والذي قد أطلقنا عليه اسم الرأسمالية التنافسية.
في أبسط أشكاله يتألف مثل ذاك المجتمع من عدد من الأسر المستقلة — مجموعة من عائلة روبنسون كروزو إن جاز التعبير — بحيث تستخدم كل أسرة منها الموارد التي تحت تصرفها لانتاج السلع والخدمات التي تقوم بمبادلتها بسلع وخدمات تنتجها أسرٌ أخرى، وفق شروط مقبولة بشكل تباد لي لكل من طرفي الصفقة؛ وبذلك تتمكن من تلبية احتياجاتها بشكل غير مباشر من خلال انتاج السلع والخدمات للآخرين بدًلا عن الطريقة المباشرة في انتاج البضائع لاستخدامها الفوري الخاص بها. إن الحافز من وراء تبني هذا المسلك غير المباشر هو بالطبع الانتاج الزائد الذي و فره تقسيم العمل والتخصص في الوظائف؛ فكون أن للأسرة دومًا الخيار في الانتاج المباشر لذاتها؛ فإنها لا تحتاج الدخول في أية عمليات مبادلة إلا إذا كانت منتفعة منها، وهكذا لن يحدث أي تبادل ما لم ينتفع كلا الطرفين منه، وبذلك يتحقق التعاون من دون إجبار.
إن التخصص في الوظائف وتقسيم العمل ما كان ليحقق نجاحًا عظيمًا لو كانت الوحدات الانتاجية الأساسية مقتصرة على الأسر . ففي المجتمع الحديث قد ذهبنا إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث قمنا بإدخال المشاريع المتوسطة بين الأفراد ، في قدراتهم كمزودين للخدمات، و كونهم المشترين للبضائع . وبشكل مماثل، ما كان للتخصص في الوظائف وتقسيم العمل ليحقق النجاح إذا كان علينا الاستمرار في الاعتماد على مقايضة منتجٍ ما مقابل آخر، ونتيجة لذلك تم إدخال النقود كوسيلة لتسهيل عمليات التبادل، وليصبح في الإمكان تقسيم عمليات الشراء والبيع إلى نوعين.
بالرغم من الدور المهم الذي تلعبه المشاريع والأموال في اقتصادنا الفعلي، وبالرغم من المشاكل الكثيرة والمعقدة التي تثيرها تلك المشاريع والأموال؛ فإن السمة الرئيسية لتقنية السوق في تحقيق التنسيق تظهر بشكل تام في الاقتصاد التبادلي البسيط الذي لا يشتمل على مشاريع ولا على أموال؛ بحيث أنه في مثل ذاك النموذج البسيط — وكذلك في الاقتصاد المعقد لتبادل الأموال والمشاريع — يكون التعاون فرديًا واختياريًا بشكل تام بشرط
: (أ) أن تكون المشاريع خاصة بحيث تكون الأطراف النهائية المتعاقدة أفرادًا؛ و (ب) أن يكون الأفراد أحرارًا بشكل فعال في الد خول أو عدم الدخول في أية عمليات تبادلية بعينها، وبذلك تكون كل صفقة اختياريًة بشكل تام.
إنه من السهل بكثير وضع هذه الشروط بلغة عامة بدًلا عن شرحها بالتفصيل، أو بدًلا عن التخصيص بدقة تلك الأنظمة المؤسساتية الأكثر فاعلية في المحافظة عليها. وبالفعل، فإن ا لكثير مما كتب في الاقتصاد التطبيقي يهتم بهذه التساؤلات على وجه الخصو ص . إن الضرورة الأساسية هي المحافظة على القانون والنظام لمنع القهر الجسدي على أي فرد من الأفراد من قبل آخر، وكذلك فرض تعاقدات يتم الدخول فيها اختياريًا؛ وبالتالي إعطاء حرية التصرف بالمال للخاصة . بالإضافة لذلك؛ فإنه لربما تظهر المشكلات الأكثر صعوبة بسبب الاحتكا ر — الذي يثبط الحرية الفعالة عن طريق حرمان الأفراد من خياراتهم في تبادلات تجارية بعينها — وبسبب "تأثيرات الجوار" والتي هي التأثيرات على الطرف الثالث الذي هو من غير المناسب تكليفه أو مكافأته.
طالما أنه تمت المحافظة على الحرية الفعالة في التباد ل التجاري، فإن السمة الرئيسية لنظام السوق للنشاط الا قتصادي ستكون منع الفرد من التدخل بشؤون الآخر فيما يتعلق بمعظم نشاطاته : فيصان المستهلك من القهر من قبل البائع بسبب وجود باعة آخرين يستطيع التعامل معهم، ويصان البائع من الإجبار من قبل المستهلك بسبب وجود مستهلكين آخرين في إمكانه البيع لهم، ويصان العامل من أن يقهره صاحب العمل بسبب توفر غيره يستطيع العمل عندهم، وهلم جرا، بحيث يحقق السوق ذلك بطريقة موضوعية وبدون سلطة مركزية.
وفي الحقيقة؛ فإن أحد الأسباب الأساسية لمعارضة الاقتصاد الحر هو على وجه الخصوص أداؤه لهذه المهمة بفاعلية؛ فهو يقدم للناس ما يرغبون به بدًلا عما تعتقده جماعة محددة بالذي يجب عليهم أن يرغبوا به، وإن معظم الآراء المعادية للسوق الحرة مبنية على عدم إيمان بالحرية ذاتها.
يتبع >
__________________
ميلتون فريدمان
إنه من السائد كثيرًا بأن السياسة والاقتصاد أمران منفصلان ولا علاقة لأحدهما بالآخر؛ وأن الحرية الفردية مسألة سياسية بينما أن الرفاهية المادية مسألة اقتصادية، وبأنه من الممكن ضم أي نوع من الأنظمة السياسية إلى أي نوع من الأنظمة الاقتصادية، والتطبيق المعاصر الأوضح لهذه الفكرة هو الدفاع عن "الاشتراكية الديمقراطية " من قبل العديد من الذين يدينون في الوقت ذاته القيود التي تفرضها "الاشتراكية الديكتاتورية " على الحرية الفردية في روسيا، و كذلك هؤلاء المؤمنين بأنه من الممكن أن تقوم دولة بتبني الخصائص الأساسية للأنظمة الاقتصادية الروسية وفي الوقت ذاته ضمان الحرية الفردية من خلال تلك الأنظمة السياسية . إن الفكرة التي يتناولها هذا الفصل تتمثل في أن مثل تلك الرؤية مضللة، وبأن هناك علاقة جوهرية بين السياسة والاقتصاد بحيث أنه بالإمكان الجمع فقط بين أنظمة سياسية واقتصادية محددة دون غيرها، وأنه على وجه الخصوص لا يمكن لمجتمع اشتراك في أن يكون في الوقت ذاته ديمقراطيًا ضمن مفهوم ضمان الحرية الفردية.
إن الأنظمة الاقتصادية تلعب دورًا مزدوجًا في تأسيس مجتمع حر؛ فمن ناحية، فإن الحرية في الأنظمة الاقتصادية هي بذاتها جزء من الحرية بمفهومها الأوسع، وهي هدف نهائي بحد في الأنظمة الاقتصادية هي بذاتها جزء من الحرية بمفهومها الأوسع، وهي هدف نهائي بحد ذاتها.
أما في المرتبة الثانية فإن الحرية الاقتصادية كذلك وسيلة لا يستغنى عنها في سبيل تحقيق الحرية السياسية.
إن أولى تلك الأدوار للحرية الاقتصادية تتطلب تأكيدًا خاصًا لأن للمفكرين على وجه الخصوص ميلٌ قوي لعدم اعتبار هذه السمة للحرية على أنها مهمة؛ فهم ينزعون إلى التعبير عن ازدرائهم لما يعتبرونه مظاهر مادية للحياة، وإلى اعتبار سعيهم وراء قيمهم السامية المزعومة على أنه على مستوى أعلى من الأهمية، وعلى أنه يستحق اهتمامًا خاصًا. ولكنه لمعظم مواطني الدولة — وإن لم يكن ذلك للمفكرين — فإن الأهمية المباشرة للحرية الاقتصادية هي على الأقل بمثل أهميتها غير المباشرة كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
فالمواطن البريطاني الذي لم يسمح له بعد الحرب العالم ية الثانية بقضاء إجازته في الولايات المتحدة بسبب نظام الرقابة على الصرف وتحويل العملات الأجنبية قد تم تجريده من حرية أساسية بما لا يقل عن المواطن الأمريكي الذي حرم من فرصته في قضاء عطلته في روسيا بسبب آرائه السياسية . فالحالة الأولى كانت في الظاهر تقييدًا اقتصاديًا للحرية بينما كانت الثانية تقييدًا سياسيًا لها؛ ومع ذلك فإنه لا يوجد فرق جوهري بين كلتيهما.
إن المواطن الأمريكي الذي يجبره القانون على تخصيص ما يقارب 10% من دخله من أجل شراء نوع معين من عقود التقاعد الذي تقدمه الحكومة؛ فإنه يتم تجريده بالقدر ذات ه من حريته الشخصية. إن شدة الشعور بهذا التجريد ومقدار شبهه بالتجريد من الحرية الديني ة — والتي سيعتبرها الجميع كحرية "مدنية" أو "سياسية" بدًلا عن اقتصادية — قد تمثل من خلال حدث متعلق بجماعة من مزارعي طائفة أميش؛ فعلى أساس المبدأ، اعتبرت هذه الجماعة البرامج الفيدرالية الإجبارية للشيخوخة كانتهاك لحريتهم الشخصية الفردية ورفضوا دفع الضرائب أو قبول الإعانات؛ و نتيجة لذلك تم بيع بعض مواشيهم في مزاد علني لدفع استحقاقات ضرائب الضمان الاجتماعي. إنه صحيح بأن أعداد المواطنين الذين يعتبرون ضمان الشيخوخة الإجباري كتجريد للحرية قد تكون قليلة؛ لكن المؤمن بالحرية لا يحصي الأنوف أبدًا.
إن المواطن الأمريكي الذي لا يمتلك — ضمن تشريعات العديد من الولايا ت — حرية الالتحاق بالمهنة التي هي من اختياره الخاص إلا إذا حصل على ترخيص لذلك؛ هو كذلك يتم حرمانه من جزء أساسي من حريته . وكذلك الشخص ا لذي يريد استبدال بعضٍ من بضائعه بساعة سويسرية مثًلا لكنه يمنع من ذلك بسبب حصة نسبية ما (كوتا). وهكذا أيضًا الرجل من كاليفورنيا الذي قد بسعر أقل من ذاك الذي فرضته الجهة Alka Seltzer (زج به في السجن لبيعه ) ألكا سيلتزرالصانعة تحت ما يطلق عليه اسم قوانين "التجارة العادلة ". وأيضًا كذلك المزارع الذي لا يستطيع زراعة كمية القمح التي يرغب بها، وهكذا دواليك . إنه من الواضح بأن الحرية الاقتصادية وبحد ذاتها جزء مهم للغاية من الحرية بمفهومها الشامل.
باعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية السياسية؛ فإن الأنظمة الاقتصادية مهمة بسبب تأثيرها على تركيز أو توزيع السلطة؛ فذاك النوع من النظام الاقتصادي الذي يوفر الحرية الاقتصادية بشكل مباشر، وأعني النظام الرأسمالي التنافسي، يشجع كذلك الحرية السياسية لأنه يفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية وبذلك يمكن أحدهما من أن يوازن الآخر.
إن الدليل التاريخي يتحدث بصوت واحد عن العلاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة. فلا أعلم عن أي مثال في أي مكان أو زمان لمجتمع تميز بقدر كبير من الحرية السياسية ، وفي الوقت ذاته لم يستخدم شيئًا شبيهًا بالسوق الحرة لتدبير معظم نشاطه الاقتصادي.
ولأننا نعيش في مجتمع يتمتع بحرية كبيرة فإننا نميل إلى نسيان كم هو محدودٌ الزمن والجزء من العالم الذي قد تواجد فيه مطلقًا شيء شبيه بالحرية السياسية، فغالبًا ما كان حال البشر الاستبداد والعبودية والشقاء؛ إلا أنه قد أبرز القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في العالم الغربي استثناءات لافتة للنظر للمنحى العام للتطور التاريخي؛ فقد تحققت الحرية السياسية في هذه المرحلة بشكل واضح بمعية السوق الحرة وتطور المؤسسات الرأسمالية، كالذي حققته الحرية السياسية في العصور الذهبية لليونان وفي العهود الأولى للعصر الروماني.
ويقترح التاريخ بأن الرأسمالية تكفي كشرط أساسي للحرية السياسية؛ لكنه من الواضح بأن ذلك ليس كافيًا؛ فإيطاليا الفاشية وإسبانيا الفاشية، و ألمانيا خلال العديد من الفترات في السبعين سنة الماضية، واليابان قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، وروسيا القيصرية في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى؛ جميعها مجتمعات لا يمكن تصورها على أنها حرة سياسيًا؛ ومع ذلك كانت المشاريع الخاصة هي الشكل السائد للنظام الاقتصادي في كل منها. ولذلك من الممكن وبشكل واضح أن تتواجد أنظمة اقتصادية والتي هي رأسمالية في الأساس مع أنظمة سياسية غير حرة.
حتى في تلك المجتمعات السالفة الذكر كان للمواطنين حرية أفضل من هؤلاء في دولة ديكتاتورية حديثة كروسيا أو ألمانيا النازية، والتي جمعت بين الديكتاتورية الاقتصادية والديكتاتورية السياسية . حتى في روسيا تحت الحكم القيصري كان ممكنًا لبعض المواطنين في بعض الأحوال تغيير وظائفهم دون أخذ تصريح من السلطة السياسية بذلك حيث وفرت الرأسمالية ووجود الملكية الخاصة بعض الكبح على السلطة المركزية للدولة.
إن العلاقة ما بين الحريتين السياسية والاقتصادية معقدة وليست بأي شكل من الأشكال أحادية الجانب؛ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان لبنثام والراديكاليين الفلسفيين ميًلا لاعتبار الحرية السياسية كوسيلة نحو الحرية الاقتصادية، وقد آمنوا بأنه يتم كبح الطبقة العاملة عن طريق القيود التي تفرض عليهم، وبأنه إن أعطى الإصلاح السياسي عامة الشعب حق التصويت لعملوا ما في صالحهم والذي كان التصويت لسياسة عدم التدخل (مبدأ يقاوم التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية إلا بمقدار ما يكون ذلك ضروريًا لصيانة الأمن وحقوق الملكية الشخصية ). وبتأمل الأحداث الماضية لا يستطيع أحد القول بأنهم قد كانوا مخطئين في ذلك . ولقد كانت هناك إجراءات عظيمة من الإصلاح السياسي والذي رافقه إصلاح اقتصادي في توجه نحو تحقيق سياسة عدم التدخل تلك. وقد تبع هذا التغيير في الأنظمة الاقتصادية زيادة هائلة في رفاهية الطبقة العاملة.
إن انتصار الليبرتارية البنثمايتية في بريطانيا القرن التاسع عشر تبعه ردة فعل نحو زيادة التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية. وقد تسارعت هذه النزعة نحو الجماعية (مبدأ اشتراكي قائل بسيطرة الدولة — أو الشعب ككلّ — على جميع وسائل الانتاج أو النشاطات الاقتصادية ) بشكل كبير في بريطانيا وغيرها خلال الحربين العالميتين، وأصبحت دولة الرفاه بدًلا عن الحرية السمة المميزة للدول الديمقراطية. وبإدراك الخطر الضمني على الفردانية (نظرية تنادي بأن المبادرة والمصالح الفردية يجب ألا تخضع لسيطرة الحكومة أو المجتمع أو رقابتهما) خشي المفكرون المنحدرون عن الراديكاليين الفلسفيين —على سبيل الذكر : دايسي وميزس وهايك وسايمنز — بأن التقدم المستمر نحو السيطر ة المركزية على النشاط الاقتصادي سوف يثبت الطريق إلى الرق كما أطلق هايك على تحليله النافذ لهذه العملية، ولقد كان تركيزهم على الحرية الاقتصادية كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
لقد أظهرت الأحداث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علاقة جديدة مختلفة بين الحريت ين الاقتصادية والسياسية؛ حيث أن التخطيط الاقتصادي الجماعي قد تعارض فعًلا مع الحرية الفردية، لكنه في بعض الدول على الأقل لم ينتهِ الأمر بقمع الحرية بل بتحول السياسة الاقتصادية فيها. وتقدم بريطانيا مرة أخرى المثال الأبرز على ذلك : ولربما كانت نقطة التحول ف يها تكمن في نظام "ضبط الالتزامات " الذي وجد حزب العمال من الضروري فرضه — على الرغم من المخاوف الكبيرة — لتنفيذ سياسته الاقتصادية . وإن كان قد تم تنفيذه بالشكل الكامل لتضمن هذا القانون توزيعًا مركزيًا للأفراد على المهن، الأمر الذي كان متعارضًا جدًا مع الحرية الشخصية، بحيث أنه قد تم تنفيذه على عدد لا يذكر من الحالات، ثم تم إلغاؤه بعد أن كان ساري المفعول لمدة قصيرة فقط، وقد قاد إلغاؤه هذا نقلة واضحة في السياسة الاقتصادية تميزت باعتماد أقل على "الخطط" و"البرامج" المركزية من خلال تفكيك العديد من القيود، وعن طريق زياد ة التركيز على السوق الخاصة . وقد حدث تحول مشابه في السياسة الاقتصادية في معظم الدول الديمقراطية الأخرى.
إن التفسير الأقرب لهذه النقلات في السياسة الاقتصادية هو النجاح المحدود للتخطيط المركزي أو فشله الكامل في تحقيق الأهداف المعلنة . ومن ناحية أخرى فإن هذا الفشل الذي يعزى في ذاته — لدرجة ما على الأقل — للمضامين السياسية للتخطيط المركزي ولانعدام الرغبة في متابعة منطقه عند تنفيذه، يتطلب وطئًا شديدًا على الحقوق الخاصة المحفوظة . ومن المحتمل أن تكون هذه النقلة مجرد صدعًا مؤقتًا في الاتجاه الجماعي لهذا القرن؛ وحتى إن كان كذلك؛ فإنه يوضح العلاقة الوطيدة بين الحرية السياسية والأنظمة الاقتصادية.
إن الدليل التاريخي لوحده لن يكون مقنعًا بشكل كافٍ، ولربما كانت تلك صدفة محضة بأن حدث انتشار الحرية في الوقت ذاته مع نمو المؤسسات الرأسمالية والسوق الحر، فلماذا يجب أن تكون هناك علاقة بينهما؟ وما هي الروابط المنطقية بين الحريات الاقتصادية والسياسية؟ من خلال البحث في هذه التساؤلات سوف نمعن النظر أوًلا في السوق كعنصر مباشر للحرية، ومن ثم سنتناول العلاقة غير المباشرة بين أنظمة السوق والحرية السياسية، وكنتيجة ثانوية لذلك ستكون بالتوصل إلى موجز للأنظمة الاقتصادية المثالية في مجتمع يتمتع بالحرية.
كليبراليين؛ إننا نتخذ حرية الفرد أو ربما العائلة كهدف نهائي لنا في الحكم على الأنظمة الاجتماعية. إن للحرية كقيمة ضمن هذا المفهوم علاقة بالروابط المتبادلة بين الناس، وليس لها أي معنى مهمًا كان لروبنسون كروزو على جزيرة معزولة — من دون غلامه فرايدي — حيث أن كروزو على جزيرته تلك عرضة لـ "التقييد"، ويمتلك "سلطة" محدودة، ولديه فقط عدد محدود من الخيارات، لكن لا توجد عنده مشكلة الحرية بالمفهوم الذي نعنيه بنقاشنا هذا. وبشكل مماثل، في مجتمع ما ليس للحرية علا قة بما يفعله المرء بحريته، فهي ليست بصفة أخلاقية شاملة لكافة الجوانب. وبالفعل؛ فإن هدفًا أساسيًا للليبرالي هو ترك المسألة الأخلاقية للفرد ليتصارع معها. إن المسائل الأخلاقية الهامة "حقًا" هي تلك التي تواجه الفرد في مجتمع حر: ما الذي يجب عليه أن يفعله بحريته، وبالتالي فإن هنالك مجموعتان من القيم سيؤكد الليبرالي عليها: القيم المتعلقة بالعلاقات بين الناس، والذي هو السياق الذي يحدده من خلاله الأولوية الأولى للحرية، والقيم ذات الصلة بالفرد في ممارسته لحريته، والذي هو مجال الأخلاقيات والفلسفة الفردية.
يصور الليبرالي البشر على أنهم كائنات ناقصة، ويعتبر مسألة النظام الاجتماعي كونها مشكلة سلبية متمثلة في منع "الأشرار" من التسبب بالأذى بالقدر ذاته من تمكين "الأخيار " من عمل الخير، وبالطبع فإن "الأشرار" و"الأخيار" قد يكونوا الأشخاص ذاتهم وذلك اعتمادًا على من يقو م بالحكم عليهم.
إن المشكلة الأساسية للنظام الاجتماعي هي كيفية تنسيق النشاطات الاقتصادية لأعداد كبيرة من الناس؛ فحتى في المجتمعات الرجعية نسبيًا لا بدلا من تقسيم شامل للعمل والتخصص في الوظائف من أجل الاستغلال الفعال للموارد المتوفر ة. أما في المجتمعات المتقدمة فإن المعيار الذي يجب أن يكون عليه النظام من أجل الاستغلال الأمثل للفرص التي يقدمها العلم والتكنولوجيا الحديثة هو أكبر بكثير . ففي الواقع ينخرط الملايين من الناس في توفير الخبز اليومي لبعضهم البعض، ناهيك عن سياراتهم السنوية . إن التحدي الذي يواجهه المؤمن بالحرية هو التوفيق بين اعتماد الناس بعضهم على بعض بالشكل الكبير هذا وبين الحرية الفردية.
يوجد هنالك بشكل أساسي طريقتان للتنسيق بين النشاطات الاقتصادية لملايين الناس : إحداهما هي التوجيه المركزي المتضمن استخدام القهر أي تقنية القوة العسكرية والدولة الديكتاتورية الحديثة. أما الطريقة الثانية فهي التعاون الطوعي للأفراد، أي تقنية ميدان السوق.
إن إمكانية التنسيق من خلال التعاون الطوعي يعتمد على القضية الأساسية — والتي على الرغم من ذلك كثيرًا ما لا تؤخذ بعين الاعتبار — بأن ينتفع كلا الطرفين في المعاملات الاقتصادية منها، شرط أن تكون الصفقة اختيارية من كلا الجانبين ومعلن عنها.
لذلك يمكن للتبادل التجاري إحداث ذاك التنسيق دون إجبا ر . وكنموذج عملي لمجتمع منظم من خلال التبادل الطوعي هو اقتصاد تبادل المشاريع الحرة الخاصة والذي قد أطلقنا عليه اسم الرأسمالية التنافسية.
في أبسط أشكاله يتألف مثل ذاك المجتمع من عدد من الأسر المستقلة — مجموعة من عائلة روبنسون كروزو إن جاز التعبير — بحيث تستخدم كل أسرة منها الموارد التي تحت تصرفها لانتاج السلع والخدمات التي تقوم بمبادلتها بسلع وخدمات تنتجها أسرٌ أخرى، وفق شروط مقبولة بشكل تباد لي لكل من طرفي الصفقة؛ وبذلك تتمكن من تلبية احتياجاتها بشكل غير مباشر من خلال انتاج السلع والخدمات للآخرين بدًلا عن الطريقة المباشرة في انتاج البضائع لاستخدامها الفوري الخاص بها. إن الحافز من وراء تبني هذا المسلك غير المباشر هو بالطبع الانتاج الزائد الذي و فره تقسيم العمل والتخصص في الوظائف؛ فكون أن للأسرة دومًا الخيار في الانتاج المباشر لذاتها؛ فإنها لا تحتاج الدخول في أية عمليات مبادلة إلا إذا كانت منتفعة منها، وهكذا لن يحدث أي تبادل ما لم ينتفع كلا الطرفين منه، وبذلك يتحقق التعاون من دون إجبار.
إن التخصص في الوظائف وتقسيم العمل ما كان ليحقق نجاحًا عظيمًا لو كانت الوحدات الانتاجية الأساسية مقتصرة على الأسر . ففي المجتمع الحديث قد ذهبنا إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث قمنا بإدخال المشاريع المتوسطة بين الأفراد ، في قدراتهم كمزودين للخدمات، و كونهم المشترين للبضائع . وبشكل مماثل، ما كان للتخصص في الوظائف وتقسيم العمل ليحقق النجاح إذا كان علينا الاستمرار في الاعتماد على مقايضة منتجٍ ما مقابل آخر، ونتيجة لذلك تم إدخال النقود كوسيلة لتسهيل عمليات التبادل، وليصبح في الإمكان تقسيم عمليات الشراء والبيع إلى نوعين.
بالرغم من الدور المهم الذي تلعبه المشاريع والأموال في اقتصادنا الفعلي، وبالرغم من المشاكل الكثيرة والمعقدة التي تثيرها تلك المشاريع والأموال؛ فإن السمة الرئيسية لتقنية السوق في تحقيق التنسيق تظهر بشكل تام في الاقتصاد التبادلي البسيط الذي لا يشتمل على مشاريع ولا على أموال؛ بحيث أنه في مثل ذاك النموذج البسيط — وكذلك في الاقتصاد المعقد لتبادل الأموال والمشاريع — يكون التعاون فرديًا واختياريًا بشكل تام بشرط
: (أ) أن تكون المشاريع خاصة بحيث تكون الأطراف النهائية المتعاقدة أفرادًا؛ و (ب) أن يكون الأفراد أحرارًا بشكل فعال في الد خول أو عدم الدخول في أية عمليات تبادلية بعينها، وبذلك تكون كل صفقة اختياريًة بشكل تام.
إنه من السهل بكثير وضع هذه الشروط بلغة عامة بدًلا عن شرحها بالتفصيل، أو بدًلا عن التخصيص بدقة تلك الأنظمة المؤسساتية الأكثر فاعلية في المحافظة عليها. وبالفعل، فإن ا لكثير مما كتب في الاقتصاد التطبيقي يهتم بهذه التساؤلات على وجه الخصو ص . إن الضرورة الأساسية هي المحافظة على القانون والنظام لمنع القهر الجسدي على أي فرد من الأفراد من قبل آخر، وكذلك فرض تعاقدات يتم الدخول فيها اختياريًا؛ وبالتالي إعطاء حرية التصرف بالمال للخاصة . بالإضافة لذلك؛ فإنه لربما تظهر المشكلات الأكثر صعوبة بسبب الاحتكا ر — الذي يثبط الحرية الفعالة عن طريق حرمان الأفراد من خياراتهم في تبادلات تجارية بعينها — وبسبب "تأثيرات الجوار" والتي هي التأثيرات على الطرف الثالث الذي هو من غير المناسب تكليفه أو مكافأته.
طالما أنه تمت المحافظة على الحرية الفعالة في التباد ل التجاري، فإن السمة الرئيسية لنظام السوق للنشاط الا قتصادي ستكون منع الفرد من التدخل بشؤون الآخر فيما يتعلق بمعظم نشاطاته : فيصان المستهلك من القهر من قبل البائع بسبب وجود باعة آخرين يستطيع التعامل معهم، ويصان البائع من الإجبار من قبل المستهلك بسبب وجود مستهلكين آخرين في إمكانه البيع لهم، ويصان العامل من أن يقهره صاحب العمل بسبب توفر غيره يستطيع العمل عندهم، وهلم جرا، بحيث يحقق السوق ذلك بطريقة موضوعية وبدون سلطة مركزية.
وفي الحقيقة؛ فإن أحد الأسباب الأساسية لمعارضة الاقتصاد الحر هو على وجه الخصوص أداؤه لهذه المهمة بفاعلية؛ فهو يقدم للناس ما يرغبون به بدًلا عما تعتقده جماعة محددة بالذي يجب عليهم أن يرغبوا به، وإن معظم الآراء المعادية للسوق الحرة مبنية على عدم إيمان بالحرية ذاتها.
يتبع >
__________________