تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ما أجمله من رحيل ؟!


ameula
2011-10-08, 10:24
ما أجمله من رحيل ؟!





بدت أختي شاحبه الوجه نحيله الجسم .


ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم .


تبحث عنها فتجدها في مصلاها .


راكعة ساجدة رافعه يديها إلى السماء .


هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل .


كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .


أشاهد الدش بكثرة لدرجة أنني عُرفت به ..ومَنْ أكثر من شيء عُرف به .


لا أؤدي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي .

بعد أن أغلقت الدش وقد شاهدت أفلاماً متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .


ها هو الأذان يرتفع من المسجد المجاور .


عدت إلى فراشي .


تناديني من مصلاها .


نعم ماذا تريدين يا نورا ؟


قالت لي بنبرة حاده : لا تنامي قبل أن تصلي الفجر .


أوه ..بقي ساعة على صلاة الفجر وما سمعته كان الأذان الأول .


بنبرتها الحنونة..هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .


نادتني ..تعالي يا هناء بجانبي .


لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها .


تشعر بصفائها وصدقها .


لا شك طائعاً ستلبي .


ماذا تريدين ؟ اجلسي ..


ها قد جلست ماذا لديك ؟


بصوت عذب رخيم قالت : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ . سكتت هنيهة .


ثم سألتني ..ألم تؤمني بالموت ؟


بلى مؤمنة !.


ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة ؟.


بلى ..ولكن الله غفور رحيم ..والعمر طويل ..يا أختي .


ألا تخافين من الموت وبغتته ؟. انظري هند أصغر منك و توفيت في حادث سيارة .. وفلانة .. وفلانة ..


الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياساً له ..


أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها ذو ضوء خافت :


إنني أخاف من الظلام وزدت خوفي بذكر الموت ..كيف أنام الآن ؟.


كنت أظن أنك وافقت على السفر معنا هذه الإجازة .


فجأة ..


تحشرج صوتها و اهتزَّ قلبي ..

لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً ..


إلى مكان آخر ..


ربما يا هناء ..


الأعمار بيد الله .


وانفجرت بالبكاء ..


تفكرت في مرضها الخبيث وأنَّ الأطباء أخبروا أبي سراً أنَّ المرض ربما لن يمهلها طويلاً .


ولكن من أخبرها بذلك ؟


أم أنها تتوقع هذا الشيء .


ما لك تفكرين .


جاءني صوتها القوي هذه المرة :


هل تعتقدين أنني أقول هذا لأنني مريضه .


كلا ..


ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء .

وأنت إلى متى ستعيشين .


ربما عشرين سنة .


ربما أربعين ..ثم ماذا ؟.


لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة .


لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى نار .


ألم تسمعي قول الله ﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ .


تصبحين على خير .


هرولت مسرعه وصوتها يطرق أذني .


هداك الله .


لا تنسي الصلاة .


الثامنة صباحاً .


أسمع طرقاً على الباب .


هذا ليس موعد استيقاظي .

بكاء ..وأصوات ..يا إلهي ماذا جرى .


لقد تردت حالة نورة


وذهب بها أبي إلى المستشفى .


إنا لله وإنا إليه راجعون .


لا سفر هذه السنة .


مكتوب علي البقاء هذه السنة في بيتنا .


بعد انتظار طويل .


عند السعة الواحدة ظهراً .


هاتفنا أبي من المستشفى


تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعه .


أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير .


عباءتي في يدي .


أين السائق .



ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه وكان يبدو قصيراً .


ماله اليوم طويلاً .. وطويلاً جداً.


أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي ألتفت يمنة ويسرة .


زحام أصبح قاتلاً ومملاً.


أمي بجواري تدعو لها .


إنها بنت صالحة مطيعة .


لم أرها تضيع وقتها أبداً .


دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى .


هذا مريض يتأوه .


وهذا مصاب بحادث سيارة .


وثالث عيناه غائرتان .


لا تدري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخره .


منظر عجيب لم أره من قبل .

صعدنا درجات السلم بسرعة .


إنها في غرفة العناية المركزة .


وسآخذكم إليها .


ثم واصلت الممرضة : إنها بخير وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها .


ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد .


هذه غرفة العناية المركزة .


وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إليَّ وأمي واقفه بجوارها .


بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطع إخفاء دموعها ..


سمحوا لي بالدخول والسلام عليها على أن لا أتحدث معها كثيراً .


دقيقتان كافية لك .


كيف حالك يا نورة .


لقد كنت بخير مساء البارحة .


ماذا جرى لك ؟!.


أجابتني بعد أن ضغطت على يدي : وأنا الآن ولله الحمد بخير .


الحمد لله لكن يدك بارده .


كنت جالسه على حافة السرير ولامست يدي ساقها .


أبعدتها عني ..


آسفه إذا ضايقتك .


كلا ولكني تفكرت في قوله تعالى : ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة .


سفري بعيد وزادي قليل ..سقطت دمعه من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت .


لم أع أين أنا .


استمرت عيناي في البكاء .


أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نورة .


لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي .


مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين .
ساد صمت طويل في بيتنا .


دخلت عليَّ ابنة خالتي .


ثم ابنة عمتي .


أحداث سريعة ..كثر القادمون ..اختلطت الأصوات ..شيء واحد عرفته ..


( نورة ماتت) لم أعد أميز من جاء .


ولا أعرف ماذا قالوا .


يالله ..


أين أنا وماذا يجري ؟


عجزت حتى عن البكاء .


فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .


وأني قبّلتها .


لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً .


حين نظرت إليها مسجاة على فراش الموت .



تذكرت قولها ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴾ عرفت حقيقة أن ﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة..


وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمان .


تذكرت من شاركتني همومي .


تذكرت من نفَّست عني كربتي .


من دعت لي بالهداية .


من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت ، والحساب .الله المستعان.


هذه أول ليلة لها في قبرها .


اللهم ارحمها ونوّر لها قبرها .


هذا هو مصحفها .


وهذه سجادتها ..وهذا .. وهذا ..


بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي .


تذكرتها وبكيت ، وبكيت على أيامي الضائعة .

بكيت بكاءً متواصلاً .


ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علي ويعفو عني .


دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو .


فجأة سألت نفسي ماذا لو كنت أنا الميتة ؟


ما مصيري ؟


لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني .


بكيت بحرقة ..الله أكبر ..الله أكبر ..


ها هو أذان الفجر قد ارتفع .


ولكن ما أعذبه هذه المرة أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .


لففت ردائي وقمت واقفه أصلي صلاة الفجر .


صليت صلاة مودع .


كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها .


( إذا أصبحت لا أنتظر المساء . وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح )