المثابر120
2008-11-07, 11:37
دراســات
فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي
موسى الزعبي
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
مقدمة
إن تسارع العولمة، والبحث عن الهوية الذي سببه هذا التسارع قاد المجتمعات للبحث عن توسطات سياسية واجتماعية وثقافية تكون قادرة على أن تأخذ على عاتقها تحقيق وجهة النظر هذه، إذ تبذل جهود من أجل تحرير ما يمكن أن نسميه هنا مجال الوعي بين الإطار الوطني أو القومي الضيق، والإطار العالمي الواسع جداً. ويبدو هذا السعي في نظر البعض مستحيلاً لحد ما، في الوقت الذي تجري فيه العولمة.
فقليلة هي العصور التي شهدت كعصرنا، وبالوتيرة نفسها، وبالتراكيب الوثيقة، هذا القدر الوفير من الثورات العلمية في مجالات التقانة والمعلوماتية، وما أثرت به على السياسة والفكر الاجتماعي، وقد ازدادت المعارف من كل نوع، مما أدى إلى إعادة النظر أيضاً في العلاقات الدولية، في المجالات المختلفة، العسكرية والاقتصادية إلى درجة أن جرت بعض المراجعات للممارسات في مختلف الميادين. وما كان بالأمس من اهتمامات الفلسفة أو حتى التاريخ أصبحت له انعكاسات جدية على الاقتصاد وعلم السياسة.
وتاريخياً، شكلت القارة الأوراسية (أوربا- آسيا) موطن القوة الدولية، منذ أن بدأت العلاقات الدولية بالامتداد على النطاق الكوني كله بالكامل، وذلك منذ حوالي خمسمائة عام سابقة. ووطدت شعوب المنطقة الأوراسية- خصوصاً الأوربية الغربية منها- هيمنتها على مجمل مواطئ الكرة الأرضية، وركزت عليها سيطرتها، وقد أعطى هذا التوسع، طبقاً لنماذج مختلفة، وأحقاب متنوعة، أوضاعاً متميزة إلى دول أوراسية مختلفة، وترافق ذلك مع رفعة شأن دولية.
ثم حدثت انزلاقات في التغيرات البنيوية في الشؤون الدولية، خلال عشر السنوات الأخيرة من القرن العشرين. إذ تصبح للمرة الأولى قوة خارجية عن القارة الأوراسية، ليس فقط كونها ارتفعت إلى مرتبة الحكَم في العلاقات الدولية الأوراسية، بل أيضاً القوة الشاملة المهيمنة الكونية. فقد أكمل انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، الصعود السريع للولايات المتحدة كقوة خارجية وبالتالي جعلها القوة الحقيقية الأولى الدولية اليوم.
لكن هذا لا يعني أن القارة الأوراسية قد فقدت شيئاً من أهميتها الجيوسياسية. إذ لا يزال جزء كبير من القوة الاقتصادية للكرة الأرضية يتمركز على محيطها الغربي، في أوربا. وفي الطرف الآخر، أصبحت آسيا- وفي وقت قصير- موطناً ديناميكياً للنمو الاقتصادي، أكثر فأكثر تأثيراً ونفوذاً سياسياً، وهنا يجري التساؤل عن الموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة، والذي ستلتزم به، بعد الآن، على النطاق الدولي، تجاه الشؤون الأوراسية المعقدة؟ وكيف يتم توقع ظهور قوة أوراسية منافسة للولايات المتحدة، بشكل خاص، تقف في وجه هيمنتها وتسلطها، وتعارض نهبها للعالم، مثلما هي حالها اليوم.
ويؤكد منظرو السياسة الخارجية الأمريكية على فكرة أن السيطرة على المعدات الجديدة للسلطة "التكنولوجيا، والمعلوماتية، والاتصالات، وأجهزة الاستعلام، وكذلك التجارة والمال"، جميعها أمور لازمة حتماً للاستمرار في الهيمنة. لهذا، يجب أن تأخذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بالحساب، الأبعاد الجيوسياسية، وأن تستخدم كل نفوذها في الأوراسيا، لخلق توازن دائم في القارة، توازن تلعب فيه واشنطن دوراً أساسياً مهيمناً.
وستبقى أوراسيا من وجهة النظر الأمريكية، المسرح الذي يدور عليه الصراع بشأن الأولوية الدولية، لهذا فإنه من الضروري أن تتزود الولايات المتحدة بخط جيواستراتيجي من أجل المشاركة فيه، بعبارة أخرى، تحديد تنظيم استراتيجي لمصالحها الجيوسياسية.
ويرى بعض المهتمين بالشؤون الدولية، أن النظام الدولي الحالي، قد أصبح غير مستقر، فهو مشكل، في الواقع، من وحدات غير ثابتة، وجميعها في تطور، وتغير تحت أنظار العالم، ودون أن يعرف أحد إبراز قوانين له، وله القدرة على رسم المستقبل. ويدرك المشاهد الفطن، أن العلاقات الدولية، هي في الوقت الحاضر، في حالة من الفوضى الصاخبة، وتشكل جزيرات من عدم الاستقرار، لا بل محاولات الانفلات من هيمنة القطب الواحد، أخذت تبرز، وإن ببطء شديد. مع ذلك فإن المراقب اليقظ، يمكن أن يلحظ ذلك في جميع مجالات العلاقات الدولية على الرغم من محاولات السيطرة عليها، أو على الأقل إخفائها عن العلن مؤقتاً.
وكما بيَّنا في كتابنا هذا، تستهدف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بصورة رئيسة، تخليد هيمنة واشنطن، ودون منافس، منذ نهاية الحرب الباردة، ومنع ظهور منافسين جيواقتصاديين، على الأخص، في آسيا وفي أوربا الغربية، فهي إذن تمنع العالم الذي يمكن أن ينافسها، باستخدام كافة الوسائل، ولو بالقهر أو بطرق أخرى من تحقيق مصالحها. مع ذلك، فهذه السياسة محفوفة بالمخاطر، لأنها لا تلتزم بالشرائع الدولية، ولا ترى إلا من خلال مصالحها الجشعة.
ويعطي العديد من المحللين الأمريكيين تحليلات لافتة للنظر بخصوص مناطق المصالح الأمريكية الأساسية التي تساهم في تخليد هيمنة الولايات المتحدة على العالم. ويقومون بذلك دون الاهتمام بما يمكن أن يقوم به الزمن، من عنف وتغير، لا يحقق أحلام هؤلاء المحللين.
مع ذلك، ليس هنالك من أحد، من ذوي الخبرة الدولية، ممن يتابعون الأحداث الدولية، يشك في أن الولايات المتحدة أصبحت دولة متسلطة بشكل حاد، ويتحدث ساستها بصوت عالٍ، عن مصالح بلادهم، ويلوحون بقوانين وقرارات يفرضونها على العالم، وبتسويات بالقهر.
مما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة، أصبحت القوة الدولية الأولى منذ عام 1991، وبهذا أصبحت تستحق اليوم لقب الامبراطورية الدولية، ويترافق هذا التعبير مع فكرة الهيمنة، التي تمارسها على الدول الأخرى، وبمقاييس القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية، وبالتقدم التكنولوجي، وفي التفوق العسكري.
لقد توقف العالم ثنائي الأقطاب عن الوجود، على نحو فظ، وبطريقة غير منتظرة. وهنا أصبحت الساحة مُهيَّأة أمام استغلال الولايات المتحدة لتحقيق هيمتنها. وأخذت تلعب أدواراً لم يكن باستطاعتها القيام بها من قَبْل، مع وجود المنافسة السوفياتية، كما لم تحلم دولة أو مجموعة دول، الآن، منازعتها زعامتها وهيمنتها، بشكل جدي، وهكذا، أخذت أساطيلها البحرية والجوية وقواتها متعددة المهمات تصول وتجول في مختلف بقاع الكرة الأرضية.
إن معرفة الأبعاد الاستراتيجية القريبة والبعيدة للسياسة الأمريكية في الوطن العربي، لا بد من أن تتعدى الاستقراء الوصفي للأحداث، والتجديد الشكلي لحركة هذه السياسة نحو أهدافها، ذلك أن الخطر، لم يعد مقصوراً على قطر عربي دون آخر، أو حتى جيل بعينه من أجيال هذه الأمة، لكنه بات في الواقع يهدد جوهر مقومات الأمة العربية بقوة، في جميع أقطارها، وعلى مدى أجيالها المتعاقبة. لذا تأتي مسؤولية الباحثين العرب التي يفرضها عليهم الانتماء القومي، أن يتعرضوا بالبحث والتحليل العميقين، لجذور هذه السياسة وأغراضها، وذلك لبناء الوعي القومي الجماعي على مختلف المستويات للتصدي لهذه الأخطار، بل والانطلاق على نحو خلق استراتيجية عربية موحدة مضادة قادرة على وقف عملية تفتيت الأمة العربية، وتمزيق شعوبها إلى وحدات متصارعة، وأنظمة متنازعة ومتقاتلة، لأن القوة الاستراتيجية المعادية، تحتاج إلى قوة استراتيجية قوية لمقاومتها.
ويجدر بنا القول، إن السياسة الأمريكية قد نجحت في المحافظة على الوضع الإقليمي في الوطن العربي، بل وتمكنت من تجميد تجارب الوحدة العربية، ودعم الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني، بتأييدها لسياسته التوسعية على حساب الحقوق العربية، وسعيها بشتى الوسائل للحصول على اعتراف العرب بذلك الكيان، وهي في طريقها لتحقيق ذلك، خاصة في الظروف المأساوية التي يمر بها العالم العربي المجزأ المحطم. ولكي ندرك أبعاد هذه السياسة الحقيقية، ونتبين الأخطار التي تشكلها على مستقبل الوجود العربي كله، ثم نصل إلى التصور الاستراتيجي الذي وضعته الولايات المتحدة للمنطقة، والذي شرعت في تنفيذه بعد حرب الخليج الثانية، بالتعاون مع بعض الحكام العرب، لا بد لنا من أن نغوص في تحليل الأسس النظرية والأبعاد التاريخية والعوامل المتغيرة والثابتة التي تؤثر على اتجاهات السياسة الأمريكية كما تتأثر بها، وهذا ما فعلناه في كتابنا دراسات في الفكر الاستراتيجي والسياسي.
وهكذا، يحاول كتابنا الإجابة على بعض التساؤلات، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الدولية، وعلى الأخص انعكاسات هذه السياسة على منطقتنا العربية، حيث يتضمن بحوثاً وآراء تتصل بما يجري وما جرى في عالم اليوم، وما يمكن أن يحدث في الغد. وإنني أزعم بأنه يتضمن دراسات يحتاجها المثقف.
دمشق 25/1/2001
موسى الزعبي
الفصل الأول
آ- تاريخ العلاقات الدولية بين الحرب والسلم
1- قبل ظهور الدول
0 لقد عرفت العصور القديمة علاقات دولية
وجد قبل عصرنا طرازان من المجتمعات السياسية بصورة رئيسة: الامبراطوريات القارية التي شملت مناطق واسعة "مصر، الامبراطورية اليزنطية، بلاد ما بين النهرين، ثم أعقبتها الامبراطورية الآشورية، ثم الامبراطورية الفارسية، أخيراً، الامبراطورية الرومانية". كما شكلت بعض الحواضر، امبراطورية بحرية "صور، ثم قرطاجة، ثم أثينا".
ترجع الوثائق الرئيسية في العلاقات الدولية إلى تلك الحقبة: فكانت هناك معاهدات واتفاقيات دبلوماسية، وأخذت المجتمعات القديمة تحافظ على علاقات صداقة فيما بينها، وكذلك علاقات تجارية، أو منازعات. وكانت الاتصالات تجري بإرسال مبعوثين خاصين يُمنحون ميزات خاصة: سفراء. وتبرم المعاهدات بين الملوك على أساس من المساواة، وتكون مكتوبة، وتخضع لإجراءات تصديق، على شكل احتفالات رئيسة. وتؤدي المعاهدات خدمة في الإعداد للحرب "خاتمة التحالفات"، أو عند انتهاء مدة "معاهدة السلام". وتستخدم أيضاً في السلم. كالمعاهدة التجارية التي جرت بين آمينوفيس الرابع (Amenophis) وملك قبرص آلازيا(Alasia) في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهو اتفاق تجاري لإعفاء المنتجات القبرصية من الضرائب الجمركية، مقابل واردات كمية معينة من النحاس والخشب. كما عُقِدت معاهدة بين رمسيس الثاني، وملك الحثيين عام (1275)ق.م، تنص على أن ملك الحثيين لن يقبل على أرضه لاجئين مصريين، مقابل أن يتكفل الفرعون بالعهد بتسليم المجرمين الحثيين.
وعرفت الصين حرباً مستمرة "بين الممالك المحاربة" بين القرن الخامس والثالث ق.م، والتي كانت منظمة كدول، في الواقع، حديثه، ولقد تمت كتابة فن الحرب في تلك الحقبة من قبل سان تزو (Sun-Tzu). في الوقت نفسه، كان العالم اليوناني متجانساً في ثقافته، ومقسماً سياسياً إلى مدن، وذهب أبعد من ذلك في تنظيم العلاقات الدولية: فاخترع اليونانيون إجراءات التحكيم والحماية الدبلوماسية "شبه منظمات" دولية، مثل "منتدى المدن في اليونان، الذي كان يسمح بإدارة مشتركة دينية مقدسة، وكذلك إنشاء نظام دفاع جماعي بين المدن، مثل جامعة ديلوس(Delos) التي جرى تشكيلها بمبادرة من أثينا في القرن الخامس ق.م.
لقد كان للحضارات "اليونانية والرومانية والصينية" القديمة، جميع المظاهر المجسدة للحضارة والثقافة. أما الأجانب، فقد تمثلوا "بالبربرية"، إذا لم تصبح العلاقات مع اليونان محققة، وساهمت الجيوش الرومانية في توحيد حوض البحر الأبيض المتوسط. وأدى ذلك إلى إقامة عالم أكثر تجانساً، حيث قيس النجاح بإسناد المواطنة الرومانية إلى التابعية للامبراطورية، من القسم الأعظم الأكثر أهمية، فأسندت "للإيطاليين عام 88ق.م" ثم لجميع الأفراد العاملين كأجراء في الامبراطورية من قبل مرسوم أصدره كاراكالا في عام(212)ب.م" وتعهدت روما بعد ذلك بإقامة علاقات مع الخارج، خصوصاً الممالك الشرقية. وأُبرمت معاهدات غير متساوية، مع الشعوب المتحالفة مع روما، التي صانت استقلالها، مقابل مساهمتها بالرجال والمال. كما جرى عقد معاهدات بين المتآلفين من الشعوب البربرية التي أقامت على الحدود من أجل الدفاع عن الامبراطورية مقابل مزايا مالية واقتصادية "التموين بالقمح، السكن لدى أناس خصوصيين". ويتضمن القانون الروماني نفسه، أبعاداً دولية هامة، مثل قانون الـ(فيتيال) (Fetial)- يُعْهَد بتطبيقه إلى متعلقين بالدين، ممن هم سفراء روما. ويجب عليهم أن يقرروا، فيما إذا كانت الحرب عادلة أم غير عادلة- كذلك، يقررون "حقوق الناس" ويقومون بتسوية العلاقات العادية، بين الرومان وغير الرومان، الذين يسمون (بالمهاجرين)، وتتضح حقوق الناس أيضاً "كقانون قابل للتطبيق في مجال العلاقات بين الكائنات البشرية، بمعزل عن انتمائهم إلى جماعة مجموع الشعب المحدد سياسياً"1.
0 يهيمن العامل الديني على العلاقات الدولية، خلال جزء كبير من القرون الوسطى:
نأى العالم الروماني عن الفلسفة العقلانية الرواقية- التي تقول بأن كل شيء في الطبيعة، إنما يقع في العقل الكلي، ويقبل مفاعيل القدر طوعاً- اعتباراً من القرن الثالث ب.م. واستفادت من الأهمية المتزايدة للدين والتصوف من المسيحية التي أصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية اعتباراً من عام(380)ب.م، بعد اعتناقها من قبل الإمبراطور قسطنطين عام (312)م. واستمرت الكنيسة كمؤسسة وحيدة شاملة في الغرب، عندما رزح العالم الروماني تحت الغزوات البربرية في نهاية القرن الخامس الميلادي، مع أسقف روما على رأسها. ونجحت الإمبراطورية البيزنطية في البقاء على الحالة نفسها حتى عام (751)م في إيطاليا، "حتى سقوط رافين "Ravenne") ودامت الحضارة الرومانية في الشرق حتى عام (1453)م (سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين). وتبتعد بيزنطة مع ذلك عن روما، على المستوى الديني، "الانشقاق بين الكاثوليك والأرثوذكس في عام (1054)م. ويشرع الإسلام في توسعه في عام (623)م "السنة الهجرية الأولى"، حيث اجتاح الجزء الأعظم من إسبانيا وصقلية. ولم يتوقف إلا في عام (732)م في بواتييه. ووجد الفضاء الأوربي، والبحر الأبيض المتوسط نفسه وقد تفجر أيضاً على المستوى الديني.
وحلت في الغرب الممالك محل المقاطعات الرومانية القديمة، وأعاد شارلمانيه توحيد الإمبراطورية الرومانية الغربية للمرة الأولى عام(800)م، لكن مع الاعتراف بعلو شأن البابا. وتقاسم أحفاد شارلمانيه تركته حسب معاهدة فردان عام(843)م التي أدت إلى ولادة ثلاث ممالك: مملكة الفرنج الشرقية، ومملكة الفرنج الغربية، ولوثارنجي، سريعة الزوال، بين المملكتين. وقدأدّى الإعلان عن إمبراطورية جديدة عام(962) باسم "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" التي ستتخذ صفة "الجرمانية" عام (1512)/- إلى المجابهة بين الإمبراطور مع البابا، والمعبر عنها بحادثة إذلال الإمبراطور هنري الرابع تجاه البابا غريغوري السابع في كانوسا (Canossa) عام (1077)م. وأنشأ الكابيسيون (Les Capétiens) من جانبهم في عام (987) مملكة فرنسا، التي تحاول المحافظة على الادعاءات الإمبراطورية وكذلك البابوية.
0 لم تكن المملكة الكيان الأساس، بل الإقطاعية في هذه الأوربا السائرة نحو التجزئة:
كان الإقطاعي يمنح حمايته إلى تابعيه، الذين بدورهم، أن يقوموا بخدمة الإقطاعي، عن طريق الروابط في الإقطاعية، وتسبب استمرار القوانين البربرية وعاداتهم، إلى جانب القانون الروماني، في إيجاد الهوية الشخصية القانونية، وكون الأفراد يسجلون طبقاً لأصلهم، حسب القانون الروماني، أو حسب العادات الجرمانية. ورسمت هذه التعددية القانونية، الهوية العرقية لبعض السكان، حتى نهاية القرون الوسطى، دون إعاقة في عملية تجميع البربر مع الغالو-رومان.
ويجسد الملك أو الامبراطور في قمة الطبقة، وهما السيدان الإقطاعيان الأولان، نسقاً متمماً في سلسلة نظام الإقطاع، لكن ليس لهما في البداية أكثر من صورة السلطة، وليس السلطة نفسها، وكان الملك يفرض نفسه كمحارب على تابعيه وكقاض إقطاعي، يتعايش زمناً طويلاً مع القانون الإقطاعي. ثم تأكدت السلطة المركزية مع مرور الزمن ومع الحروب الخاصة مع الإقطاعيين الآخرين، وتوطدت بعد ذلك الممالك "فرنسا، انكلترا..." ويثابر القانونيون التابعون لملك فرنسا على إقامة الدليل أن "الملك هو الامبراطور في مملكته"، ويؤكدون أيضاً على سيادته ضد نير البابوية والامبراطورية المقدسة".
0 ثم تنتظم العلاقات الدولية بين الإمارات
لقد شجع الاتحاد الشخصي بين الملوك، على التحالفات "مثال زواج آن دوكييف، بنت الدوق الأكبر لروسيا، مع ملك فرنسا، هنري الأول عام(1049)، وكذلك عن طريق القواعد الميراثية، مما يوسع في المناطق. وتتبادل الممالك ومقاطعات الإقطاعيات الأخرى الرسل- لقب يرجع إلى البندقية- اسم "السفراء" وهم محميون طبقاً لوضع خاص. وكانت هناك علاقات بين الشرق والغرب: إذ يتلقى شارلومانيه سفيراً من خليفة المسلمين عام (807)م، ويحاول ملوك فرنسا أخذ العدو من المسلمين من الخلف، وذلك بالتحالف مع المغول، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
وأبرم الملوك معاهدات فيما بينهم، وأخذوا يسوون خلافاتهم عن طريق التحكيم أكثر فأكثر، من قبل شخص ملوكي ثالث- البابا أو الامبراطور في أغلب الأحيان-. وفسحت الحرب الخاصة بين الإقطاعيين المجال أمام الحروب بين الممالك شيئاً فشيئاً، وتطور قانون الحرب خصوصاً من أجل وضع حد للأعمال العدوانية: "الهدنة، وقف إطلاق النار، معاهدات السلام" ومن أجل تسوياتها "معاملة الأسرى". وحدث تطور في التجارة في أوقات السلم، مما أدى إلى ظهور القناصل اعتباراً من القرن الثاني عشر "من أجل السماح للتجار المغتربين بتسوية أمورهم الشخصية، مثل الزواج والميراث، طبقاً للقوانين المطبقة لدى دولهم" وظهور قانون البحار.
0 وتلعب الكنيسة دوراً جوهرياً خلال حقبة العصور الوسطى بالكامل
لم تكن تعرف المسيحية حدوداً، عندما يتعلق الأمر بالأديرة والجامعات "المُشكَّلة انطلاقاً من الطراز نفسه اعتباراً من نهاية القرن الثاني عشر"، وكذلك في الفن والمعارض التجارية. كانت اللاتينية اللغة المشتركة لرجال الكنيسة والمثقفين، ومن العلمانيين، حتى الشروع في تشكل اللغات الوطنية انطلاقاً من اللغات ذات المصدر اللاتيني، مثل "الإيطالية، الفرنسية، الإسبانية"، ومن اللغات البربرية [الانكليزية، الألمانية، الفلمنكية...الخ].
ولم يكن البابا ملكاً دنيوياً يحكم الدول الحِبْرِيَّة وحسب حول روما منذ القرن السابع، بل هو أيضاً حارس العقيدة الدينية، وبهذا كان يجسد سلطة عالمية، بهذا الاسم. فهو نفسه الذي كان يرسم الأباطرة، حتى عهد شارل مان، وعندما لا يحترم أمير ما قانون الكنيسة، يطبق البابا عليه شكلاً من "العقوبة الدولية": فيوجه ضربة لمملكته، بأن يوقع عليها حرماناً، بعبارة أخرى يمنع عنها كل خدمة دينية، على أراضي ذلك الإقطاعي "مقترف الذنب" والمحروم من رحمة البابا(2). وكانت المنافسة بين البابا والإمبراطور تؤدي بهذا الأخير غالباً إلى الحرمان الكنسي- وهو لا يتردد بالمقابل بأن يختار "معاداة البابا" في عباداته. وهنا يبحث البابا عندئذ عن تحالف خصوم للإمبراطور.
وكان البابا ينظم الحروب "العادلة"، ويجرب الحد من استخدام تلك الحروب. وبهذا كان يبحث عما يسمى بـ"سلام الرب" الذي يسمى بـ"الملاذ"، حسب القانون الدولي. وكان البابا يدفع الناس غير المؤمنين إلى اتباع كنيسته والإيمان بها، ويوجه عنف الإقطاعيين إلى هذا الهدف: وكذلك هدي السكان الوثنيين "حسب اعتقاده" في الشرق إلى اتباع كنيسته، حتى لو كانوا مسيحيين من أتباع كنائس أخرى. ومن هنا، زُعِم أن هدف الحروب الصليبية ومذابحها، هي عمليات هَدي، وعمليات إبادة ضد المسلمين. أُعلنت الأولى عام (1095). وسقطت عكا، آخر حصون الصليبية عام (1291). حيث سجل نهاية ذلك الاحتلال الصليبي، باسم المسيحية، للأرض المقدسة فلسطين، وكان البابا يرسل الفرانسيسكانيين والدومانيكيين لمطاردة الهرطقيين "هنا أصل محاكم التفتيش"، المشهورة بمذابحها. أخيراً، وعلاوة على دور البابا في التحكيم في النزاعات بين الأمراء المسيحيين، فإنه كان يمنح المناطق "بدون مالكين" لبعض أتباعه- ذلك القانون الذي اعترض عليه توماس الإيكويني.
يتبع >
فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي
موسى الزعبي
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
مقدمة
إن تسارع العولمة، والبحث عن الهوية الذي سببه هذا التسارع قاد المجتمعات للبحث عن توسطات سياسية واجتماعية وثقافية تكون قادرة على أن تأخذ على عاتقها تحقيق وجهة النظر هذه، إذ تبذل جهود من أجل تحرير ما يمكن أن نسميه هنا مجال الوعي بين الإطار الوطني أو القومي الضيق، والإطار العالمي الواسع جداً. ويبدو هذا السعي في نظر البعض مستحيلاً لحد ما، في الوقت الذي تجري فيه العولمة.
فقليلة هي العصور التي شهدت كعصرنا، وبالوتيرة نفسها، وبالتراكيب الوثيقة، هذا القدر الوفير من الثورات العلمية في مجالات التقانة والمعلوماتية، وما أثرت به على السياسة والفكر الاجتماعي، وقد ازدادت المعارف من كل نوع، مما أدى إلى إعادة النظر أيضاً في العلاقات الدولية، في المجالات المختلفة، العسكرية والاقتصادية إلى درجة أن جرت بعض المراجعات للممارسات في مختلف الميادين. وما كان بالأمس من اهتمامات الفلسفة أو حتى التاريخ أصبحت له انعكاسات جدية على الاقتصاد وعلم السياسة.
وتاريخياً، شكلت القارة الأوراسية (أوربا- آسيا) موطن القوة الدولية، منذ أن بدأت العلاقات الدولية بالامتداد على النطاق الكوني كله بالكامل، وذلك منذ حوالي خمسمائة عام سابقة. ووطدت شعوب المنطقة الأوراسية- خصوصاً الأوربية الغربية منها- هيمنتها على مجمل مواطئ الكرة الأرضية، وركزت عليها سيطرتها، وقد أعطى هذا التوسع، طبقاً لنماذج مختلفة، وأحقاب متنوعة، أوضاعاً متميزة إلى دول أوراسية مختلفة، وترافق ذلك مع رفعة شأن دولية.
ثم حدثت انزلاقات في التغيرات البنيوية في الشؤون الدولية، خلال عشر السنوات الأخيرة من القرن العشرين. إذ تصبح للمرة الأولى قوة خارجية عن القارة الأوراسية، ليس فقط كونها ارتفعت إلى مرتبة الحكَم في العلاقات الدولية الأوراسية، بل أيضاً القوة الشاملة المهيمنة الكونية. فقد أكمل انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، الصعود السريع للولايات المتحدة كقوة خارجية وبالتالي جعلها القوة الحقيقية الأولى الدولية اليوم.
لكن هذا لا يعني أن القارة الأوراسية قد فقدت شيئاً من أهميتها الجيوسياسية. إذ لا يزال جزء كبير من القوة الاقتصادية للكرة الأرضية يتمركز على محيطها الغربي، في أوربا. وفي الطرف الآخر، أصبحت آسيا- وفي وقت قصير- موطناً ديناميكياً للنمو الاقتصادي، أكثر فأكثر تأثيراً ونفوذاً سياسياً، وهنا يجري التساؤل عن الموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة، والذي ستلتزم به، بعد الآن، على النطاق الدولي، تجاه الشؤون الأوراسية المعقدة؟ وكيف يتم توقع ظهور قوة أوراسية منافسة للولايات المتحدة، بشكل خاص، تقف في وجه هيمنتها وتسلطها، وتعارض نهبها للعالم، مثلما هي حالها اليوم.
ويؤكد منظرو السياسة الخارجية الأمريكية على فكرة أن السيطرة على المعدات الجديدة للسلطة "التكنولوجيا، والمعلوماتية، والاتصالات، وأجهزة الاستعلام، وكذلك التجارة والمال"، جميعها أمور لازمة حتماً للاستمرار في الهيمنة. لهذا، يجب أن تأخذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بالحساب، الأبعاد الجيوسياسية، وأن تستخدم كل نفوذها في الأوراسيا، لخلق توازن دائم في القارة، توازن تلعب فيه واشنطن دوراً أساسياً مهيمناً.
وستبقى أوراسيا من وجهة النظر الأمريكية، المسرح الذي يدور عليه الصراع بشأن الأولوية الدولية، لهذا فإنه من الضروري أن تتزود الولايات المتحدة بخط جيواستراتيجي من أجل المشاركة فيه، بعبارة أخرى، تحديد تنظيم استراتيجي لمصالحها الجيوسياسية.
ويرى بعض المهتمين بالشؤون الدولية، أن النظام الدولي الحالي، قد أصبح غير مستقر، فهو مشكل، في الواقع، من وحدات غير ثابتة، وجميعها في تطور، وتغير تحت أنظار العالم، ودون أن يعرف أحد إبراز قوانين له، وله القدرة على رسم المستقبل. ويدرك المشاهد الفطن، أن العلاقات الدولية، هي في الوقت الحاضر، في حالة من الفوضى الصاخبة، وتشكل جزيرات من عدم الاستقرار، لا بل محاولات الانفلات من هيمنة القطب الواحد، أخذت تبرز، وإن ببطء شديد. مع ذلك فإن المراقب اليقظ، يمكن أن يلحظ ذلك في جميع مجالات العلاقات الدولية على الرغم من محاولات السيطرة عليها، أو على الأقل إخفائها عن العلن مؤقتاً.
وكما بيَّنا في كتابنا هذا، تستهدف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بصورة رئيسة، تخليد هيمنة واشنطن، ودون منافس، منذ نهاية الحرب الباردة، ومنع ظهور منافسين جيواقتصاديين، على الأخص، في آسيا وفي أوربا الغربية، فهي إذن تمنع العالم الذي يمكن أن ينافسها، باستخدام كافة الوسائل، ولو بالقهر أو بطرق أخرى من تحقيق مصالحها. مع ذلك، فهذه السياسة محفوفة بالمخاطر، لأنها لا تلتزم بالشرائع الدولية، ولا ترى إلا من خلال مصالحها الجشعة.
ويعطي العديد من المحللين الأمريكيين تحليلات لافتة للنظر بخصوص مناطق المصالح الأمريكية الأساسية التي تساهم في تخليد هيمنة الولايات المتحدة على العالم. ويقومون بذلك دون الاهتمام بما يمكن أن يقوم به الزمن، من عنف وتغير، لا يحقق أحلام هؤلاء المحللين.
مع ذلك، ليس هنالك من أحد، من ذوي الخبرة الدولية، ممن يتابعون الأحداث الدولية، يشك في أن الولايات المتحدة أصبحت دولة متسلطة بشكل حاد، ويتحدث ساستها بصوت عالٍ، عن مصالح بلادهم، ويلوحون بقوانين وقرارات يفرضونها على العالم، وبتسويات بالقهر.
مما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة، أصبحت القوة الدولية الأولى منذ عام 1991، وبهذا أصبحت تستحق اليوم لقب الامبراطورية الدولية، ويترافق هذا التعبير مع فكرة الهيمنة، التي تمارسها على الدول الأخرى، وبمقاييس القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية، وبالتقدم التكنولوجي، وفي التفوق العسكري.
لقد توقف العالم ثنائي الأقطاب عن الوجود، على نحو فظ، وبطريقة غير منتظرة. وهنا أصبحت الساحة مُهيَّأة أمام استغلال الولايات المتحدة لتحقيق هيمتنها. وأخذت تلعب أدواراً لم يكن باستطاعتها القيام بها من قَبْل، مع وجود المنافسة السوفياتية، كما لم تحلم دولة أو مجموعة دول، الآن، منازعتها زعامتها وهيمنتها، بشكل جدي، وهكذا، أخذت أساطيلها البحرية والجوية وقواتها متعددة المهمات تصول وتجول في مختلف بقاع الكرة الأرضية.
إن معرفة الأبعاد الاستراتيجية القريبة والبعيدة للسياسة الأمريكية في الوطن العربي، لا بد من أن تتعدى الاستقراء الوصفي للأحداث، والتجديد الشكلي لحركة هذه السياسة نحو أهدافها، ذلك أن الخطر، لم يعد مقصوراً على قطر عربي دون آخر، أو حتى جيل بعينه من أجيال هذه الأمة، لكنه بات في الواقع يهدد جوهر مقومات الأمة العربية بقوة، في جميع أقطارها، وعلى مدى أجيالها المتعاقبة. لذا تأتي مسؤولية الباحثين العرب التي يفرضها عليهم الانتماء القومي، أن يتعرضوا بالبحث والتحليل العميقين، لجذور هذه السياسة وأغراضها، وذلك لبناء الوعي القومي الجماعي على مختلف المستويات للتصدي لهذه الأخطار، بل والانطلاق على نحو خلق استراتيجية عربية موحدة مضادة قادرة على وقف عملية تفتيت الأمة العربية، وتمزيق شعوبها إلى وحدات متصارعة، وأنظمة متنازعة ومتقاتلة، لأن القوة الاستراتيجية المعادية، تحتاج إلى قوة استراتيجية قوية لمقاومتها.
ويجدر بنا القول، إن السياسة الأمريكية قد نجحت في المحافظة على الوضع الإقليمي في الوطن العربي، بل وتمكنت من تجميد تجارب الوحدة العربية، ودعم الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني، بتأييدها لسياسته التوسعية على حساب الحقوق العربية، وسعيها بشتى الوسائل للحصول على اعتراف العرب بذلك الكيان، وهي في طريقها لتحقيق ذلك، خاصة في الظروف المأساوية التي يمر بها العالم العربي المجزأ المحطم. ولكي ندرك أبعاد هذه السياسة الحقيقية، ونتبين الأخطار التي تشكلها على مستقبل الوجود العربي كله، ثم نصل إلى التصور الاستراتيجي الذي وضعته الولايات المتحدة للمنطقة، والذي شرعت في تنفيذه بعد حرب الخليج الثانية، بالتعاون مع بعض الحكام العرب، لا بد لنا من أن نغوص في تحليل الأسس النظرية والأبعاد التاريخية والعوامل المتغيرة والثابتة التي تؤثر على اتجاهات السياسة الأمريكية كما تتأثر بها، وهذا ما فعلناه في كتابنا دراسات في الفكر الاستراتيجي والسياسي.
وهكذا، يحاول كتابنا الإجابة على بعض التساؤلات، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الدولية، وعلى الأخص انعكاسات هذه السياسة على منطقتنا العربية، حيث يتضمن بحوثاً وآراء تتصل بما يجري وما جرى في عالم اليوم، وما يمكن أن يحدث في الغد. وإنني أزعم بأنه يتضمن دراسات يحتاجها المثقف.
دمشق 25/1/2001
موسى الزعبي
الفصل الأول
آ- تاريخ العلاقات الدولية بين الحرب والسلم
1- قبل ظهور الدول
0 لقد عرفت العصور القديمة علاقات دولية
وجد قبل عصرنا طرازان من المجتمعات السياسية بصورة رئيسة: الامبراطوريات القارية التي شملت مناطق واسعة "مصر، الامبراطورية اليزنطية، بلاد ما بين النهرين، ثم أعقبتها الامبراطورية الآشورية، ثم الامبراطورية الفارسية، أخيراً، الامبراطورية الرومانية". كما شكلت بعض الحواضر، امبراطورية بحرية "صور، ثم قرطاجة، ثم أثينا".
ترجع الوثائق الرئيسية في العلاقات الدولية إلى تلك الحقبة: فكانت هناك معاهدات واتفاقيات دبلوماسية، وأخذت المجتمعات القديمة تحافظ على علاقات صداقة فيما بينها، وكذلك علاقات تجارية، أو منازعات. وكانت الاتصالات تجري بإرسال مبعوثين خاصين يُمنحون ميزات خاصة: سفراء. وتبرم المعاهدات بين الملوك على أساس من المساواة، وتكون مكتوبة، وتخضع لإجراءات تصديق، على شكل احتفالات رئيسة. وتؤدي المعاهدات خدمة في الإعداد للحرب "خاتمة التحالفات"، أو عند انتهاء مدة "معاهدة السلام". وتستخدم أيضاً في السلم. كالمعاهدة التجارية التي جرت بين آمينوفيس الرابع (Amenophis) وملك قبرص آلازيا(Alasia) في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهو اتفاق تجاري لإعفاء المنتجات القبرصية من الضرائب الجمركية، مقابل واردات كمية معينة من النحاس والخشب. كما عُقِدت معاهدة بين رمسيس الثاني، وملك الحثيين عام (1275)ق.م، تنص على أن ملك الحثيين لن يقبل على أرضه لاجئين مصريين، مقابل أن يتكفل الفرعون بالعهد بتسليم المجرمين الحثيين.
وعرفت الصين حرباً مستمرة "بين الممالك المحاربة" بين القرن الخامس والثالث ق.م، والتي كانت منظمة كدول، في الواقع، حديثه، ولقد تمت كتابة فن الحرب في تلك الحقبة من قبل سان تزو (Sun-Tzu). في الوقت نفسه، كان العالم اليوناني متجانساً في ثقافته، ومقسماً سياسياً إلى مدن، وذهب أبعد من ذلك في تنظيم العلاقات الدولية: فاخترع اليونانيون إجراءات التحكيم والحماية الدبلوماسية "شبه منظمات" دولية، مثل "منتدى المدن في اليونان، الذي كان يسمح بإدارة مشتركة دينية مقدسة، وكذلك إنشاء نظام دفاع جماعي بين المدن، مثل جامعة ديلوس(Delos) التي جرى تشكيلها بمبادرة من أثينا في القرن الخامس ق.م.
لقد كان للحضارات "اليونانية والرومانية والصينية" القديمة، جميع المظاهر المجسدة للحضارة والثقافة. أما الأجانب، فقد تمثلوا "بالبربرية"، إذا لم تصبح العلاقات مع اليونان محققة، وساهمت الجيوش الرومانية في توحيد حوض البحر الأبيض المتوسط. وأدى ذلك إلى إقامة عالم أكثر تجانساً، حيث قيس النجاح بإسناد المواطنة الرومانية إلى التابعية للامبراطورية، من القسم الأعظم الأكثر أهمية، فأسندت "للإيطاليين عام 88ق.م" ثم لجميع الأفراد العاملين كأجراء في الامبراطورية من قبل مرسوم أصدره كاراكالا في عام(212)ب.م" وتعهدت روما بعد ذلك بإقامة علاقات مع الخارج، خصوصاً الممالك الشرقية. وأُبرمت معاهدات غير متساوية، مع الشعوب المتحالفة مع روما، التي صانت استقلالها، مقابل مساهمتها بالرجال والمال. كما جرى عقد معاهدات بين المتآلفين من الشعوب البربرية التي أقامت على الحدود من أجل الدفاع عن الامبراطورية مقابل مزايا مالية واقتصادية "التموين بالقمح، السكن لدى أناس خصوصيين". ويتضمن القانون الروماني نفسه، أبعاداً دولية هامة، مثل قانون الـ(فيتيال) (Fetial)- يُعْهَد بتطبيقه إلى متعلقين بالدين، ممن هم سفراء روما. ويجب عليهم أن يقرروا، فيما إذا كانت الحرب عادلة أم غير عادلة- كذلك، يقررون "حقوق الناس" ويقومون بتسوية العلاقات العادية، بين الرومان وغير الرومان، الذين يسمون (بالمهاجرين)، وتتضح حقوق الناس أيضاً "كقانون قابل للتطبيق في مجال العلاقات بين الكائنات البشرية، بمعزل عن انتمائهم إلى جماعة مجموع الشعب المحدد سياسياً"1.
0 يهيمن العامل الديني على العلاقات الدولية، خلال جزء كبير من القرون الوسطى:
نأى العالم الروماني عن الفلسفة العقلانية الرواقية- التي تقول بأن كل شيء في الطبيعة، إنما يقع في العقل الكلي، ويقبل مفاعيل القدر طوعاً- اعتباراً من القرن الثالث ب.م. واستفادت من الأهمية المتزايدة للدين والتصوف من المسيحية التي أصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية اعتباراً من عام(380)ب.م، بعد اعتناقها من قبل الإمبراطور قسطنطين عام (312)م. واستمرت الكنيسة كمؤسسة وحيدة شاملة في الغرب، عندما رزح العالم الروماني تحت الغزوات البربرية في نهاية القرن الخامس الميلادي، مع أسقف روما على رأسها. ونجحت الإمبراطورية البيزنطية في البقاء على الحالة نفسها حتى عام (751)م في إيطاليا، "حتى سقوط رافين "Ravenne") ودامت الحضارة الرومانية في الشرق حتى عام (1453)م (سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين). وتبتعد بيزنطة مع ذلك عن روما، على المستوى الديني، "الانشقاق بين الكاثوليك والأرثوذكس في عام (1054)م. ويشرع الإسلام في توسعه في عام (623)م "السنة الهجرية الأولى"، حيث اجتاح الجزء الأعظم من إسبانيا وصقلية. ولم يتوقف إلا في عام (732)م في بواتييه. ووجد الفضاء الأوربي، والبحر الأبيض المتوسط نفسه وقد تفجر أيضاً على المستوى الديني.
وحلت في الغرب الممالك محل المقاطعات الرومانية القديمة، وأعاد شارلمانيه توحيد الإمبراطورية الرومانية الغربية للمرة الأولى عام(800)م، لكن مع الاعتراف بعلو شأن البابا. وتقاسم أحفاد شارلمانيه تركته حسب معاهدة فردان عام(843)م التي أدت إلى ولادة ثلاث ممالك: مملكة الفرنج الشرقية، ومملكة الفرنج الغربية، ولوثارنجي، سريعة الزوال، بين المملكتين. وقدأدّى الإعلان عن إمبراطورية جديدة عام(962) باسم "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" التي ستتخذ صفة "الجرمانية" عام (1512)/- إلى المجابهة بين الإمبراطور مع البابا، والمعبر عنها بحادثة إذلال الإمبراطور هنري الرابع تجاه البابا غريغوري السابع في كانوسا (Canossa) عام (1077)م. وأنشأ الكابيسيون (Les Capétiens) من جانبهم في عام (987) مملكة فرنسا، التي تحاول المحافظة على الادعاءات الإمبراطورية وكذلك البابوية.
0 لم تكن المملكة الكيان الأساس، بل الإقطاعية في هذه الأوربا السائرة نحو التجزئة:
كان الإقطاعي يمنح حمايته إلى تابعيه، الذين بدورهم، أن يقوموا بخدمة الإقطاعي، عن طريق الروابط في الإقطاعية، وتسبب استمرار القوانين البربرية وعاداتهم، إلى جانب القانون الروماني، في إيجاد الهوية الشخصية القانونية، وكون الأفراد يسجلون طبقاً لأصلهم، حسب القانون الروماني، أو حسب العادات الجرمانية. ورسمت هذه التعددية القانونية، الهوية العرقية لبعض السكان، حتى نهاية القرون الوسطى، دون إعاقة في عملية تجميع البربر مع الغالو-رومان.
ويجسد الملك أو الامبراطور في قمة الطبقة، وهما السيدان الإقطاعيان الأولان، نسقاً متمماً في سلسلة نظام الإقطاع، لكن ليس لهما في البداية أكثر من صورة السلطة، وليس السلطة نفسها، وكان الملك يفرض نفسه كمحارب على تابعيه وكقاض إقطاعي، يتعايش زمناً طويلاً مع القانون الإقطاعي. ثم تأكدت السلطة المركزية مع مرور الزمن ومع الحروب الخاصة مع الإقطاعيين الآخرين، وتوطدت بعد ذلك الممالك "فرنسا، انكلترا..." ويثابر القانونيون التابعون لملك فرنسا على إقامة الدليل أن "الملك هو الامبراطور في مملكته"، ويؤكدون أيضاً على سيادته ضد نير البابوية والامبراطورية المقدسة".
0 ثم تنتظم العلاقات الدولية بين الإمارات
لقد شجع الاتحاد الشخصي بين الملوك، على التحالفات "مثال زواج آن دوكييف، بنت الدوق الأكبر لروسيا، مع ملك فرنسا، هنري الأول عام(1049)، وكذلك عن طريق القواعد الميراثية، مما يوسع في المناطق. وتتبادل الممالك ومقاطعات الإقطاعيات الأخرى الرسل- لقب يرجع إلى البندقية- اسم "السفراء" وهم محميون طبقاً لوضع خاص. وكانت هناك علاقات بين الشرق والغرب: إذ يتلقى شارلومانيه سفيراً من خليفة المسلمين عام (807)م، ويحاول ملوك فرنسا أخذ العدو من المسلمين من الخلف، وذلك بالتحالف مع المغول، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
وأبرم الملوك معاهدات فيما بينهم، وأخذوا يسوون خلافاتهم عن طريق التحكيم أكثر فأكثر، من قبل شخص ملوكي ثالث- البابا أو الامبراطور في أغلب الأحيان-. وفسحت الحرب الخاصة بين الإقطاعيين المجال أمام الحروب بين الممالك شيئاً فشيئاً، وتطور قانون الحرب خصوصاً من أجل وضع حد للأعمال العدوانية: "الهدنة، وقف إطلاق النار، معاهدات السلام" ومن أجل تسوياتها "معاملة الأسرى". وحدث تطور في التجارة في أوقات السلم، مما أدى إلى ظهور القناصل اعتباراً من القرن الثاني عشر "من أجل السماح للتجار المغتربين بتسوية أمورهم الشخصية، مثل الزواج والميراث، طبقاً للقوانين المطبقة لدى دولهم" وظهور قانون البحار.
0 وتلعب الكنيسة دوراً جوهرياً خلال حقبة العصور الوسطى بالكامل
لم تكن تعرف المسيحية حدوداً، عندما يتعلق الأمر بالأديرة والجامعات "المُشكَّلة انطلاقاً من الطراز نفسه اعتباراً من نهاية القرن الثاني عشر"، وكذلك في الفن والمعارض التجارية. كانت اللاتينية اللغة المشتركة لرجال الكنيسة والمثقفين، ومن العلمانيين، حتى الشروع في تشكل اللغات الوطنية انطلاقاً من اللغات ذات المصدر اللاتيني، مثل "الإيطالية، الفرنسية، الإسبانية"، ومن اللغات البربرية [الانكليزية، الألمانية، الفلمنكية...الخ].
ولم يكن البابا ملكاً دنيوياً يحكم الدول الحِبْرِيَّة وحسب حول روما منذ القرن السابع، بل هو أيضاً حارس العقيدة الدينية، وبهذا كان يجسد سلطة عالمية، بهذا الاسم. فهو نفسه الذي كان يرسم الأباطرة، حتى عهد شارل مان، وعندما لا يحترم أمير ما قانون الكنيسة، يطبق البابا عليه شكلاً من "العقوبة الدولية": فيوجه ضربة لمملكته، بأن يوقع عليها حرماناً، بعبارة أخرى يمنع عنها كل خدمة دينية، على أراضي ذلك الإقطاعي "مقترف الذنب" والمحروم من رحمة البابا(2). وكانت المنافسة بين البابا والإمبراطور تؤدي بهذا الأخير غالباً إلى الحرمان الكنسي- وهو لا يتردد بالمقابل بأن يختار "معاداة البابا" في عباداته. وهنا يبحث البابا عندئذ عن تحالف خصوم للإمبراطور.
وكان البابا ينظم الحروب "العادلة"، ويجرب الحد من استخدام تلك الحروب. وبهذا كان يبحث عما يسمى بـ"سلام الرب" الذي يسمى بـ"الملاذ"، حسب القانون الدولي. وكان البابا يدفع الناس غير المؤمنين إلى اتباع كنيسته والإيمان بها، ويوجه عنف الإقطاعيين إلى هذا الهدف: وكذلك هدي السكان الوثنيين "حسب اعتقاده" في الشرق إلى اتباع كنيسته، حتى لو كانوا مسيحيين من أتباع كنائس أخرى. ومن هنا، زُعِم أن هدف الحروب الصليبية ومذابحها، هي عمليات هَدي، وعمليات إبادة ضد المسلمين. أُعلنت الأولى عام (1095). وسقطت عكا، آخر حصون الصليبية عام (1291). حيث سجل نهاية ذلك الاحتلال الصليبي، باسم المسيحية، للأرض المقدسة فلسطين، وكان البابا يرسل الفرانسيسكانيين والدومانيكيين لمطاردة الهرطقيين "هنا أصل محاكم التفتيش"، المشهورة بمذابحها. أخيراً، وعلاوة على دور البابا في التحكيم في النزاعات بين الأمراء المسيحيين، فإنه كان يمنح المناطق "بدون مالكين" لبعض أتباعه- ذلك القانون الذي اعترض عليه توماس الإيكويني.
يتبع >