تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في الفكر الاستراتجي و السياسي


المثابر120
2008-11-07, 11:37
دراســات

فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي

موسى الزعبي


من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001

مقدمة
إن تسارع العولمة، والبحث عن الهوية الذي سببه هذا التسارع قاد المجتمعات للبحث عن توسطات سياسية واجتماعية وثقافية تكون قادرة على أن تأخذ على عاتقها تحقيق وجهة النظر هذه، إذ تبذل جهود من أجل تحرير ما يمكن أن نسميه هنا مجال الوعي بين الإطار الوطني أو القومي الضيق، والإطار العالمي الواسع جداً. ويبدو هذا السعي في نظر البعض مستحيلاً لحد ما، في الوقت الذي تجري فيه العولمة.
فقليلة هي العصور التي شهدت كعصرنا، وبالوتيرة نفسها، وبالتراكيب الوثيقة، هذا القدر الوفير من الثورات العلمية في مجالات التقانة والمعلوماتية، وما أثرت به على السياسة والفكر الاجتماعي، وقد ازدادت المعارف من كل نوع، مما أدى إلى إعادة النظر أيضاً في العلاقات الدولية، في المجالات المختلفة، العسكرية والاقتصادية إلى درجة أن جرت بعض المراجعات للممارسات في مختلف الميادين. وما كان بالأمس من اهتمامات الفلسفة أو حتى التاريخ أصبحت له انعكاسات جدية على الاقتصاد وعلم السياسة.
وتاريخياً، شكلت القارة الأوراسية (أوربا- آسيا) موطن القوة الدولية، منذ أن بدأت العلاقات الدولية بالامتداد على النطاق الكوني كله بالكامل، وذلك منذ حوالي خمسمائة عام سابقة. ووطدت شعوب المنطقة الأوراسية- خصوصاً الأوربية الغربية منها- هيمنتها على مجمل مواطئ الكرة الأرضية، وركزت عليها سيطرتها، وقد أعطى هذا التوسع، طبقاً لنماذج مختلفة، وأحقاب متنوعة، أوضاعاً متميزة إلى دول أوراسية مختلفة، وترافق ذلك مع رفعة شأن دولية.
ثم حدثت انزلاقات في التغيرات البنيوية في الشؤون الدولية، خلال عشر السنوات الأخيرة من القرن العشرين. إذ تصبح للمرة الأولى قوة خارجية عن القارة الأوراسية، ليس فقط كونها ارتفعت إلى مرتبة الحكَم في العلاقات الدولية الأوراسية، بل أيضاً القوة الشاملة المهيمنة الكونية. فقد أكمل انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، الصعود السريع للولايات المتحدة كقوة خارجية وبالتالي جعلها القوة الحقيقية الأولى الدولية اليوم.
لكن هذا لا يعني أن القارة الأوراسية قد فقدت شيئاً من أهميتها الجيوسياسية. إذ لا يزال جزء كبير من القوة الاقتصادية للكرة الأرضية يتمركز على محيطها الغربي، في أوربا. وفي الطرف الآخر، أصبحت آسيا- وفي وقت قصير- موطناً ديناميكياً للنمو الاقتصادي، أكثر فأكثر تأثيراً ونفوذاً سياسياً، وهنا يجري التساؤل عن الموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة، والذي ستلتزم به، بعد الآن، على النطاق الدولي، تجاه الشؤون الأوراسية المعقدة؟ وكيف يتم توقع ظهور قوة أوراسية منافسة للولايات المتحدة، بشكل خاص، تقف في وجه هيمنتها وتسلطها، وتعارض نهبها للعالم، مثلما هي حالها اليوم.
ويؤكد منظرو السياسة الخارجية الأمريكية على فكرة أن السيطرة على المعدات الجديدة للسلطة "التكنولوجيا، والمعلوماتية، والاتصالات، وأجهزة الاستعلام، وكذلك التجارة والمال"، جميعها أمور لازمة حتماً للاستمرار في الهيمنة. لهذا، يجب أن تأخذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بالحساب، الأبعاد الجيوسياسية، وأن تستخدم كل نفوذها في الأوراسيا، لخلق توازن دائم في القارة، توازن تلعب فيه واشنطن دوراً أساسياً مهيمناً.
وستبقى أوراسيا من وجهة النظر الأمريكية، المسرح الذي يدور عليه الصراع بشأن الأولوية الدولية، لهذا فإنه من الضروري أن تتزود الولايات المتحدة بخط جيواستراتيجي من أجل المشاركة فيه، بعبارة أخرى، تحديد تنظيم استراتيجي لمصالحها الجيوسياسية.
ويرى بعض المهتمين بالشؤون الدولية، أن النظام الدولي الحالي، قد أصبح غير مستقر، فهو مشكل، في الواقع، من وحدات غير ثابتة، وجميعها في تطور، وتغير تحت أنظار العالم، ودون أن يعرف أحد إبراز قوانين له، وله القدرة على رسم المستقبل. ويدرك المشاهد الفطن، أن العلاقات الدولية، هي في الوقت الحاضر، في حالة من الفوضى الصاخبة، وتشكل جزيرات من عدم الاستقرار، لا بل محاولات الانفلات من هيمنة القطب الواحد، أخذت تبرز، وإن ببطء شديد. مع ذلك فإن المراقب اليقظ، يمكن أن يلحظ ذلك في جميع مجالات العلاقات الدولية على الرغم من محاولات السيطرة عليها، أو على الأقل إخفائها عن العلن مؤقتاً.
وكما بيَّنا في كتابنا هذا، تستهدف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بصورة رئيسة، تخليد هيمنة واشنطن، ودون منافس، منذ نهاية الحرب الباردة، ومنع ظهور منافسين جيواقتصاديين، على الأخص، في آسيا وفي أوربا الغربية، فهي إذن تمنع العالم الذي يمكن أن ينافسها، باستخدام كافة الوسائل، ولو بالقهر أو بطرق أخرى من تحقيق مصالحها. مع ذلك، فهذه السياسة محفوفة بالمخاطر، لأنها لا تلتزم بالشرائع الدولية، ولا ترى إلا من خلال مصالحها الجشعة.
ويعطي العديد من المحللين الأمريكيين تحليلات لافتة للنظر بخصوص مناطق المصالح الأمريكية الأساسية التي تساهم في تخليد هيمنة الولايات المتحدة على العالم. ويقومون بذلك دون الاهتمام بما يمكن أن يقوم به الزمن، من عنف وتغير، لا يحقق أحلام هؤلاء المحللين.
مع ذلك، ليس هنالك من أحد، من ذوي الخبرة الدولية، ممن يتابعون الأحداث الدولية، يشك في أن الولايات المتحدة أصبحت دولة متسلطة بشكل حاد، ويتحدث ساستها بصوت عالٍ، عن مصالح بلادهم، ويلوحون بقوانين وقرارات يفرضونها على العالم، وبتسويات بالقهر.
مما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة، أصبحت القوة الدولية الأولى منذ عام 1991، وبهذا أصبحت تستحق اليوم لقب الامبراطورية الدولية، ويترافق هذا التعبير مع فكرة الهيمنة، التي تمارسها على الدول الأخرى، وبمقاييس القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية، وبالتقدم التكنولوجي، وفي التفوق العسكري.
لقد توقف العالم ثنائي الأقطاب عن الوجود، على نحو فظ، وبطريقة غير منتظرة. وهنا أصبحت الساحة مُهيَّأة أمام استغلال الولايات المتحدة لتحقيق هيمتنها. وأخذت تلعب أدواراً لم يكن باستطاعتها القيام بها من قَبْل، مع وجود المنافسة السوفياتية، كما لم تحلم دولة أو مجموعة دول، الآن، منازعتها زعامتها وهيمنتها، بشكل جدي، وهكذا، أخذت أساطيلها البحرية والجوية وقواتها متعددة المهمات تصول وتجول في مختلف بقاع الكرة الأرضية.
إن معرفة الأبعاد الاستراتيجية القريبة والبعيدة للسياسة الأمريكية في الوطن العربي، لا بد من أن تتعدى الاستقراء الوصفي للأحداث، والتجديد الشكلي لحركة هذه السياسة نحو أهدافها، ذلك أن الخطر، لم يعد مقصوراً على قطر عربي دون آخر، أو حتى جيل بعينه من أجيال هذه الأمة، لكنه بات في الواقع يهدد جوهر مقومات الأمة العربية بقوة، في جميع أقطارها، وعلى مدى أجيالها المتعاقبة. لذا تأتي مسؤولية الباحثين العرب التي يفرضها عليهم الانتماء القومي، أن يتعرضوا بالبحث والتحليل العميقين، لجذور هذه السياسة وأغراضها، وذلك لبناء الوعي القومي الجماعي على مختلف المستويات للتصدي لهذه الأخطار، بل والانطلاق على نحو خلق استراتيجية عربية موحدة مضادة قادرة على وقف عملية تفتيت الأمة العربية، وتمزيق شعوبها إلى وحدات متصارعة، وأنظمة متنازعة ومتقاتلة، لأن القوة الاستراتيجية المعادية، تحتاج إلى قوة استراتيجية قوية لمقاومتها.
ويجدر بنا القول، إن السياسة الأمريكية قد نجحت في المحافظة على الوضع الإقليمي في الوطن العربي، بل وتمكنت من تجميد تجارب الوحدة العربية، ودعم الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني، بتأييدها لسياسته التوسعية على حساب الحقوق العربية، وسعيها بشتى الوسائل للحصول على اعتراف العرب بذلك الكيان، وهي في طريقها لتحقيق ذلك، خاصة في الظروف المأساوية التي يمر بها العالم العربي المجزأ المحطم. ولكي ندرك أبعاد هذه السياسة الحقيقية، ونتبين الأخطار التي تشكلها على مستقبل الوجود العربي كله، ثم نصل إلى التصور الاستراتيجي الذي وضعته الولايات المتحدة للمنطقة، والذي شرعت في تنفيذه بعد حرب الخليج الثانية، بالتعاون مع بعض الحكام العرب، لا بد لنا من أن نغوص في تحليل الأسس النظرية والأبعاد التاريخية والعوامل المتغيرة والثابتة التي تؤثر على اتجاهات السياسة الأمريكية كما تتأثر بها، وهذا ما فعلناه في كتابنا دراسات في الفكر الاستراتيجي والسياسي.
وهكذا، يحاول كتابنا الإجابة على بعض التساؤلات، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الدولية، وعلى الأخص انعكاسات هذه السياسة على منطقتنا العربية، حيث يتضمن بحوثاً وآراء تتصل بما يجري وما جرى في عالم اليوم، وما يمكن أن يحدث في الغد. وإنني أزعم بأنه يتضمن دراسات يحتاجها المثقف.


دمشق 25/1/2001
موسى الزعبي


الفصل الأول

آ- تاريخ العلاقات الدولية بين الحرب والسلم


1- قبل ظهور الدول

0 لقد عرفت العصور القديمة علاقات دولية
وجد قبل عصرنا طرازان من المجتمعات السياسية بصورة رئيسة: الامبراطوريات القارية التي شملت مناطق واسعة "مصر، الامبراطورية اليزنطية، بلاد ما بين النهرين، ثم أعقبتها الامبراطورية الآشورية، ثم الامبراطورية الفارسية، أخيراً، الامبراطورية الرومانية". كما شكلت بعض الحواضر، امبراطورية بحرية "صور، ثم قرطاجة، ثم أثينا".
ترجع الوثائق الرئيسية في العلاقات الدولية إلى تلك الحقبة: فكانت هناك معاهدات واتفاقيات دبلوماسية، وأخذت المجتمعات القديمة تحافظ على علاقات صداقة فيما بينها، وكذلك علاقات تجارية، أو منازعات. وكانت الاتصالات تجري بإرسال مبعوثين خاصين يُمنحون ميزات خاصة: سفراء. وتبرم المعاهدات بين الملوك على أساس من المساواة، وتكون مكتوبة، وتخضع لإجراءات تصديق، على شكل احتفالات رئيسة. وتؤدي المعاهدات خدمة في الإعداد للحرب "خاتمة التحالفات"، أو عند انتهاء مدة "معاهدة السلام". وتستخدم أيضاً في السلم. كالمعاهدة التجارية التي جرت بين آمينوفيس الرابع (Amenophis) وملك قبرص آلازيا(Alasia) في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهو اتفاق تجاري لإعفاء المنتجات القبرصية من الضرائب الجمركية، مقابل واردات كمية معينة من النحاس والخشب. كما عُقِدت معاهدة بين رمسيس الثاني، وملك الحثيين عام (1275)ق.م، تنص على أن ملك الحثيين لن يقبل على أرضه لاجئين مصريين، مقابل أن يتكفل الفرعون بالعهد بتسليم المجرمين الحثيين.
وعرفت الصين حرباً مستمرة "بين الممالك المحاربة" بين القرن الخامس والثالث ق.م، والتي كانت منظمة كدول، في الواقع، حديثه، ولقد تمت كتابة فن الحرب في تلك الحقبة من قبل سان تزو (Sun-Tzu). في الوقت نفسه، كان العالم اليوناني متجانساً في ثقافته، ومقسماً سياسياً إلى مدن، وذهب أبعد من ذلك في تنظيم العلاقات الدولية: فاخترع اليونانيون إجراءات التحكيم والحماية الدبلوماسية "شبه منظمات" دولية، مثل "منتدى المدن في اليونان، الذي كان يسمح بإدارة مشتركة دينية مقدسة، وكذلك إنشاء نظام دفاع جماعي بين المدن، مثل جامعة ديلوس(Delos) التي جرى تشكيلها بمبادرة من أثينا في القرن الخامس ق.م.
لقد كان للحضارات "اليونانية والرومانية والصينية" القديمة، جميع المظاهر المجسدة للحضارة والثقافة. أما الأجانب، فقد تمثلوا "بالبربرية"، إذا لم تصبح العلاقات مع اليونان محققة، وساهمت الجيوش الرومانية في توحيد حوض البحر الأبيض المتوسط. وأدى ذلك إلى إقامة عالم أكثر تجانساً، حيث قيس النجاح بإسناد المواطنة الرومانية إلى التابعية للامبراطورية، من القسم الأعظم الأكثر أهمية، فأسندت "للإيطاليين عام 88ق.م" ثم لجميع الأفراد العاملين كأجراء في الامبراطورية من قبل مرسوم أصدره كاراكالا في عام(212)ب.م" وتعهدت روما بعد ذلك بإقامة علاقات مع الخارج، خصوصاً الممالك الشرقية. وأُبرمت معاهدات غير متساوية، مع الشعوب المتحالفة مع روما، التي صانت استقلالها، مقابل مساهمتها بالرجال والمال. كما جرى عقد معاهدات بين المتآلفين من الشعوب البربرية التي أقامت على الحدود من أجل الدفاع عن الامبراطورية مقابل مزايا مالية واقتصادية "التموين بالقمح، السكن لدى أناس خصوصيين". ويتضمن القانون الروماني نفسه، أبعاداً دولية هامة، مثل قانون الـ(فيتيال) (Fetial)- يُعْهَد بتطبيقه إلى متعلقين بالدين، ممن هم سفراء روما. ويجب عليهم أن يقرروا، فيما إذا كانت الحرب عادلة أم غير عادلة- كذلك، يقررون "حقوق الناس" ويقومون بتسوية العلاقات العادية، بين الرومان وغير الرومان، الذين يسمون (بالمهاجرين)، وتتضح حقوق الناس أيضاً "كقانون قابل للتطبيق في مجال العلاقات بين الكائنات البشرية، بمعزل عن انتمائهم إلى جماعة مجموع الشعب المحدد سياسياً"1.

0 يهيمن العامل الديني على العلاقات الدولية، خلال جزء كبير من القرون الوسطى:
نأى العالم الروماني عن الفلسفة العقلانية الرواقية- التي تقول بأن كل شيء في الطبيعة، إنما يقع في العقل الكلي، ويقبل مفاعيل القدر طوعاً- اعتباراً من القرن الثالث ب.م. واستفادت من الأهمية المتزايدة للدين والتصوف من المسيحية التي أصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية اعتباراً من عام(380)ب.م، بعد اعتناقها من قبل الإمبراطور قسطنطين عام (312)م. واستمرت الكنيسة كمؤسسة وحيدة شاملة في الغرب، عندما رزح العالم الروماني تحت الغزوات البربرية في نهاية القرن الخامس الميلادي، مع أسقف روما على رأسها. ونجحت الإمبراطورية البيزنطية في البقاء على الحالة نفسها حتى عام (751)م في إيطاليا، "حتى سقوط رافين "Ravenne") ودامت الحضارة الرومانية في الشرق حتى عام (1453)م (سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين). وتبتعد بيزنطة مع ذلك عن روما، على المستوى الديني، "الانشقاق بين الكاثوليك والأرثوذكس في عام (1054)م. ويشرع الإسلام في توسعه في عام (623)م "السنة الهجرية الأولى"، حيث اجتاح الجزء الأعظم من إسبانيا وصقلية. ولم يتوقف إلا في عام (732)م في بواتييه. ووجد الفضاء الأوربي، والبحر الأبيض المتوسط نفسه وقد تفجر أيضاً على المستوى الديني.
وحلت في الغرب الممالك محل المقاطعات الرومانية القديمة، وأعاد شارلمانيه توحيد الإمبراطورية الرومانية الغربية للمرة الأولى عام(800)م، لكن مع الاعتراف بعلو شأن البابا. وتقاسم أحفاد شارلمانيه تركته حسب معاهدة فردان عام(843)م التي أدت إلى ولادة ثلاث ممالك: مملكة الفرنج الشرقية، ومملكة الفرنج الغربية، ولوثارنجي، سريعة الزوال، بين المملكتين. وقدأدّى الإعلان عن إمبراطورية جديدة عام(962) باسم "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" التي ستتخذ صفة "الجرمانية" عام (1512)/- إلى المجابهة بين الإمبراطور مع البابا، والمعبر عنها بحادثة إذلال الإمبراطور هنري الرابع تجاه البابا غريغوري السابع في كانوسا (Canossa) عام (1077)م. وأنشأ الكابيسيون (Les Capétiens) من جانبهم في عام (987) مملكة فرنسا، التي تحاول المحافظة على الادعاءات الإمبراطورية وكذلك البابوية.

0 لم تكن المملكة الكيان الأساس، بل الإقطاعية في هذه الأوربا السائرة نحو التجزئة:
كان الإقطاعي يمنح حمايته إلى تابعيه، الذين بدورهم، أن يقوموا بخدمة الإقطاعي، عن طريق الروابط في الإقطاعية، وتسبب استمرار القوانين البربرية وعاداتهم، إلى جانب القانون الروماني، في إيجاد الهوية الشخصية القانونية، وكون الأفراد يسجلون طبقاً لأصلهم، حسب القانون الروماني، أو حسب العادات الجرمانية. ورسمت هذه التعددية القانونية، الهوية العرقية لبعض السكان، حتى نهاية القرون الوسطى، دون إعاقة في عملية تجميع البربر مع الغالو-رومان.
ويجسد الملك أو الامبراطور في قمة الطبقة، وهما السيدان الإقطاعيان الأولان، نسقاً متمماً في سلسلة نظام الإقطاع، لكن ليس لهما في البداية أكثر من صورة السلطة، وليس السلطة نفسها، وكان الملك يفرض نفسه كمحارب على تابعيه وكقاض إقطاعي، يتعايش زمناً طويلاً مع القانون الإقطاعي. ثم تأكدت السلطة المركزية مع مرور الزمن ومع الحروب الخاصة مع الإقطاعيين الآخرين، وتوطدت بعد ذلك الممالك "فرنسا، انكلترا..." ويثابر القانونيون التابعون لملك فرنسا على إقامة الدليل أن "الملك هو الامبراطور في مملكته"، ويؤكدون أيضاً على سيادته ضد نير البابوية والامبراطورية المقدسة".

0 ثم تنتظم العلاقات الدولية بين الإمارات
لقد شجع الاتحاد الشخصي بين الملوك، على التحالفات "مثال زواج آن دوكييف، بنت الدوق الأكبر لروسيا، مع ملك فرنسا، هنري الأول عام(1049)، وكذلك عن طريق القواعد الميراثية، مما يوسع في المناطق. وتتبادل الممالك ومقاطعات الإقطاعيات الأخرى الرسل- لقب يرجع إلى البندقية- اسم "السفراء" وهم محميون طبقاً لوضع خاص. وكانت هناك علاقات بين الشرق والغرب: إذ يتلقى شارلومانيه سفيراً من خليفة المسلمين عام (807)م، ويحاول ملوك فرنسا أخذ العدو من المسلمين من الخلف، وذلك بالتحالف مع المغول، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
وأبرم الملوك معاهدات فيما بينهم، وأخذوا يسوون خلافاتهم عن طريق التحكيم أكثر فأكثر، من قبل شخص ملوكي ثالث- البابا أو الامبراطور في أغلب الأحيان-. وفسحت الحرب الخاصة بين الإقطاعيين المجال أمام الحروب بين الممالك شيئاً فشيئاً، وتطور قانون الحرب خصوصاً من أجل وضع حد للأعمال العدوانية: "الهدنة، وقف إطلاق النار، معاهدات السلام" ومن أجل تسوياتها "معاملة الأسرى". وحدث تطور في التجارة في أوقات السلم، مما أدى إلى ظهور القناصل اعتباراً من القرن الثاني عشر "من أجل السماح للتجار المغتربين بتسوية أمورهم الشخصية، مثل الزواج والميراث، طبقاً للقوانين المطبقة لدى دولهم" وظهور قانون البحار.

0 وتلعب الكنيسة دوراً جوهرياً خلال حقبة العصور الوسطى بالكامل
لم تكن تعرف المسيحية حدوداً، عندما يتعلق الأمر بالأديرة والجامعات "المُشكَّلة انطلاقاً من الطراز نفسه اعتباراً من نهاية القرن الثاني عشر"، وكذلك في الفن والمعارض التجارية. كانت اللاتينية اللغة المشتركة لرجال الكنيسة والمثقفين، ومن العلمانيين، حتى الشروع في تشكل اللغات الوطنية انطلاقاً من اللغات ذات المصدر اللاتيني، مثل "الإيطالية، الفرنسية، الإسبانية"، ومن اللغات البربرية [الانكليزية، الألمانية، الفلمنكية...الخ].
ولم يكن البابا ملكاً دنيوياً يحكم الدول الحِبْرِيَّة وحسب حول روما منذ القرن السابع، بل هو أيضاً حارس العقيدة الدينية، وبهذا كان يجسد سلطة عالمية، بهذا الاسم. فهو نفسه الذي كان يرسم الأباطرة، حتى عهد شارل مان، وعندما لا يحترم أمير ما قانون الكنيسة، يطبق البابا عليه شكلاً من "العقوبة الدولية": فيوجه ضربة لمملكته، بأن يوقع عليها حرماناً، بعبارة أخرى يمنع عنها كل خدمة دينية، على أراضي ذلك الإقطاعي "مقترف الذنب" والمحروم من رحمة البابا(2). وكانت المنافسة بين البابا والإمبراطور تؤدي بهذا الأخير غالباً إلى الحرمان الكنسي- وهو لا يتردد بالمقابل بأن يختار "معاداة البابا" في عباداته. وهنا يبحث البابا عندئذ عن تحالف خصوم للإمبراطور.
وكان البابا ينظم الحروب "العادلة"، ويجرب الحد من استخدام تلك الحروب. وبهذا كان يبحث عما يسمى بـ"سلام الرب" الذي يسمى بـ"الملاذ"، حسب القانون الدولي. وكان البابا يدفع الناس غير المؤمنين إلى اتباع كنيسته والإيمان بها، ويوجه عنف الإقطاعيين إلى هذا الهدف: وكذلك هدي السكان الوثنيين "حسب اعتقاده" في الشرق إلى اتباع كنيسته، حتى لو كانوا مسيحيين من أتباع كنائس أخرى. ومن هنا، زُعِم أن هدف الحروب الصليبية ومذابحها، هي عمليات هَدي، وعمليات إبادة ضد المسلمين. أُعلنت الأولى عام (1095). وسقطت عكا، آخر حصون الصليبية عام (1291). حيث سجل نهاية ذلك الاحتلال الصليبي، باسم المسيحية، للأرض المقدسة فلسطين، وكان البابا يرسل الفرانسيسكانيين والدومانيكيين لمطاردة الهرطقيين "هنا أصل محاكم التفتيش"، المشهورة بمذابحها. أخيراً، وعلاوة على دور البابا في التحكيم في النزاعات بين الأمراء المسيحيين، فإنه كان يمنح المناطق "بدون مالكين" لبعض أتباعه- ذلك القانون الذي اعترض عليه توماس الإيكويني.

يتبع >

المثابر120
2008-11-07, 11:38
2-مجتمع الدول المستقلة:
وتحدث قسمة المجتمع الدولي إلى دول مستقلة منذ نهاية القرون الوسطى: تطابقت نهاية القرون الوسطى مع تحول اقتصادي وسياسي وديني في أوربا، إذ حل اقتصاد السوق محل اقتصاد القوت: حيث أخذت السلع بالانتشار أبعد فأبعد. وبدأت الرأسمالية بالظهور في القرن الخامس عشر.
وفرض الكيان الإقليمي الأكبر نفسه على مستوى التنظيم السياسي: إنها الدولة. إذ توسعت الإقطاعيات التي قامت على الروابط الإقطاعية، إلى أن أصبحت دولاً، حيث جرى امتصاص بعضها وفقدت المدن التي حصلت على الاستقلال في القرن الحادي عشر والثاني عشر، في معظم الحالات، استقلالها، وأخذت كلمة الشعب أو الأمة تشير في البداية إلى مجموعة إنسانية من أصل واحد "ولادياً": ويتجمع المشاركون في الجامعة وفي الأسواق وفي المجامع الكنسية، في "الأمة" من جديد. ويتطور استخدام الكلمة اعتباراً من القرن الرابع عشر، وشجعت حرب المائة عام (1337-1453) على ظهور الوعي الوطني الكامل في فرنسا وفي انكلترا. ولم تعد كلمة "الأمة" مرجعاً علمياً في النصوص لدى رجال الدين، بل أخذت تتطابق مع إحساس أو عاطفة تعيش شرعياً حيث تشهد عليها نصوص كثيرة.
وتعَلْمَنت الدول [أصبحت غير دينية]، وأخذت شرعية السلطة السياسية تصبغ بالمهابة، وانخفضت قوة الكنيسة، وتراجعت اللغة اللاتينية، وحلت محلها اللغات المحلية، خصوصاً بين النخبة. وتقاسمت البرتغال والكاستي (Castilles) المناطق في العالم الجديد، مع تفضيل المفاوضات بشأن معاهدة تورديسيلاس (Tordesillas) عام (1494)، على احترام البراءة البابوية للبابا الكسندر التاسع عام (1493)، المفروض أن يوزع تلك المناطق "بدون المالكين". وتتحالف فرنسا مع القوى البروتستانتية ومع الإمبراطورية العثمانية من أجل الصراع ضد هيمنة هابسبورغ الكاثوليكية. ويكتب (بيوسيولكس) Puysieulx وزير خارجية لويس الثالث عشر، عام (1620): "يجب علينا ككاثوليكيين جيدين، أن نميل إلى الجانب الكاثوليكي على الدوام، مع ذلك، إنكم تعلمون ما هي الهيمنة الإسبانية، كما أنها تتطرف من أجل تغطية نواياها الدنيوية، باسم هذا اللقب الديني"3.

يغير ظهور الدول شروط ممارسة العلاقات الدولية
ففي حين كانت تمارس السلطة الإقطاعية على الأشخاص، كانت الدولة تمارس سلطتها على الأرض، وكان على الملك أن يعرف إلى أي حد تمتد سلطته. ثم كان عليه أن يقيم جبهة "للمحافظة على الحدود"ليحمي نفسه من التهديدات الخارجية. فالأرض المحددة بحدود، هي إذن مشاركة من قبل تابعيه في الدولة، من حيث الجوهر، وتدار الدولة من قبل عائلة أميرية، أسست قوتها على الحرب وعلى وسيلتها: الجيش. وكان الأمراء يلجؤون إلى الضرائب من أجل تمويل الجيش وشيئاً فشيئاًأدى ذلك إلى النقص في الترابط الإقطاعي الذي كان يشير إلى خصوصية العصور الوسطى. وسمحت الحرب بتوسيع أراضي الدولة، وكذلك في فرض ضرائب جديدة على السكان الذين يقطنون فيها، وهذا ما سمح للدولة بالعمل على احترام النظام الداخلي، وكذلك الحق في امتلاك العنف المشروع، وأكدت الدولة على احتكارها للوظائف التي كانت تسمى بـ"الحق الملَكي" وفي"حق السلطة في تطيبق القانون وفي سك النقود".
كذلك جرى ترتيب العناصر التي تحدد الدولة حسب القانون الدولي: أرضاً ومكاناً وَطِراز الحكومة "السلالة الحاكمة". ويصبح مماثلة الدولة مع ملكها الطابع الملكي الأوربي من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. وقام نيكولا مكيافيلي (Nicolas Machiavell) بتحليل الإقطاعيات، ووصف فن الحكم، في كتابه "الأمير" عام(1513). ويؤكد جان بودان (Jean Bodin) في ست كتب عن الجمهورية عام(1576) أن السيادة كونها لا تتجزأ وأبدية، يجب أن ترجع إلى ملك وراثي، منطقياً.
وتصبح المملكة- التعبير المشتق من كلمة الملك- الصفة الجوهرية للدولة بعد ذلك، وتصبح لازمَته المساواة القانونية، أساس المجتمع الدولي.

وتنتظم العلاقات الدولية في أوربا المجزأة إلى دول ملكية متساوية.
وتحتل الحروب مكاناً هاماً في حياة الدول. ويصبح القانون الدولي مقسماً بين قانون الحرب وقانون السلم. وتستمر المعاهدة والتحكيم في الاستخدام. وجرى تأسيس الدبلوماسية عن طريق إنشاء وزارات الخارجية والسفارات الدائمة، كذلك عن طريق تنظيم وضع الدبلوماسيين والقناصل. وتتطور العلاقات البحرية، وتتأكد القوة التجارية التي كانت أولاً لـ(جين)(Genes) ثم للبندقية، ثم لاهانس، ثم هولندا، وأخيراً انكلترا، ونتج عن ذلك قانون البحار، الذي بات محدداً أكثر "مبدأ التكافؤ"- الشكل الأول لـ"نص الدولة الأكثر رعاية"- وقد ظهر في المجال التجاري. وتصدر الاستيلاء على الأراضي من قبل الملوك وسط تلك الحقبة من استعمار أمريكا كنظام احتلال حقيقي. وتحددت المبادئ الكبرى في "القانون الدولي" في نهاية القرن الثاني عشر- والقانون الدولي، تعبير اخترع من قبل جيرمي بنتام(Jeremy Bentham)، وتحدد مبادئه تماماً، وجرى تدوينها في النصوص العمومية.
لقد أكد إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام(1776) على أن للمستعمرات "الحق في أن تصبح دولاً حرة ومستقلة"، وأنها بهذا "تملك السلطة المطلقة في شن الحرب، وفي إبرام السلام، وفي التعاقد من أجل التحالفات، وفي تنظيم التجارة، والقيام بجميع الأعمال الأخرى. والأشياء التي للدول المستقلة الحق، بالقيام بها"، كذلك فهي سيادة الدولة. وفي عام(1793) أخضع القس غريغوار(Gregoire) الاتفاق"الذي لم يصوت عليه" إلى تصريح "يتعلق بحقوق الإنسان" ويوجز جميع المكتسبات الكبرى للقانون الدولي في تلك الحقبة: السيادة والاستقلال للدول، مبدأ عدم التدخل، التأكيد على أن البحر "شيء مشترك"، منع الحرب الهجومية، ضرورة الحصانة الدبلوماسية، الصفة المميزة للمعاهدات.

وتحل الأمة اليوم محل الملوك كأساس للسيادة:
لقد حلت شرعية الأمة محل الشرعية الملَكيَّة كحق إلهي، مع إنجاز نظرية الدولة/الأمة، كنتيجة للثورة الفرنسية(4) يكمن مبدأ كل سيادة في الأمة، بصورة رئيسة "الفقرة الثالثة في تصريح إعلان حقوق الإنسان والمواطن"- لكن هذا المبدأ الثوري هو أيضاً مبدأ حافظ، فيما يتعلق بالمحافظة على الدولة كأساس لتنظيم المجتمع الدولي. وإذا كان "مبدأ الجنسية" قد سمح لبعض الأمم، تكوين الدول في القرن التاسع عشر "ألمانيا، إيطاليا، الدول البلقانية"، فإنه لم يمنع اضطهاد الجنسيات الأقلية من قبل الدول الجديدة (البولونيون، التشيكيون، والكروات... الخ).
إنه من الجدير بالملاحظة- أن نشير أن عبارة الأمة قد تغلبت على عبارة الشعب: ففي حين كانت السيادة الوطنية في قلب إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام (1789)، في فرنسا لم تفرض "سيادة الشعب" نفسها إلا في دستور عام (1793) في فرنسا أيضاً. ولم تدخل في التطبيق العملي مطلقاً. ويستدعي المفهوم في الحقيقة، في آن واحد، عضوية "الأمة كهيئة سياسية"، ومنتظمة "كهيئة يجب أن يكون لها رأس حكومة، إما ملكاً، أو نخبة (تمثيل وطني)"، وذلك في منتصف الطريق بين الصفة الدستورية للدولة، والصفة الفوضوية للشعب. هذه هي الحقيقة التاريخية للأمة التي تتفوق على فكرة الشعب، الأقل قابلية للأخذ بها. ويحاول الاتجاه الاشتراكي معارضة الفكرة القومية لكن دون نجاح، وذلك بالتضامن البروليتاري "العمال ليس لهم وطن، ولا يمكن أن نقتطع منهم، ما ليس لديهم [...]، ألغوا استغلال أمة من قبل أمة أخرى. وتسقط كذلك العداوة بين الأمم نتيجة صراع الطبقات داخل الأمة "بيان الحزب الشيوعي عام (1848).

يوجد في الواقع فلسفتان للأمة
ففي بلد مثل فرنسا، فالدولة هي التي اختلقت أمة انطلاقاً من عناصر ثقافية وعرقية غير متجانسة خلال عدة قرون. فالدولة سابقة الوجود عن الأمة، والذاتيات مدعوة لأن تمتزج في هذه البوتقة صيغة ابتدعها (ستانيسلاس دوكليرمون- تونير (Stanislas Declermont-Tonnerre) عام (1791): حيث يقول: "يجب رفض كل شيء لليهود كأمة، ومَنْح كل شيء لليهود كأفراد"). فالأمة محددة ذاتياً: يفترض أنها ناشئة عن مشيئة الأفراد في العيش معاً. وأعطى القس سييس (Sieyes) تحديداً قانونياً محضاً: "هيئة من المشاركين يعيشون في ظل قانون مشترك، وممثلة سلطة تشريعية". حسبما جاء في كتابه: "ما هي الدولة الثالثة؟ الصادر عام (1789)". ولاءم أرنست رينان Ernest Renan هذا المأثور من جديد في محاضرة بعنوان : "ما هي الأمة؟ عام 1882" أكد خلالها "أن أمة ما، هي الإرادة، بالعيش المشترك، هي استفتاء عام في كل يوم"، وهنا يكفي حقوق الإنسان ضمان الحرية لكل فرد.
وبالنسبة للعديد من الشعوب الأقل نزوعاً للعالمية المجردة "مثل الانكليز والأمريكيين الشماليين" أو المحرومين من بنية الدولة زمناً طويلاً، "الألمان والإيطاليين"- فالأمة مصممة لجماعة لغوية وثقافية وحتى عرقية". ونظَّرَ فخته (Fiechte) وهردر (Herder) لألمانيا، فكرة النزعة القومية الرومانسية التي تخاطب العواطف أكثر من مخاطبتها العقل. فالأمة موجودة باستمرار بهويتها وبروحها الجماعية. فكلمة (Volksgeist) تعني "روح الشعب" حرفياً، وفي هذا المفهوم الجماعي فالهوية الجماعية للأقليات معترف بها على نحو أفضل، وتقبل الدول التي تدخل في هذا التصنيف تنظيماً جماعياً للأقليات، بدلاً عن البحث عن المقارنة مع طراز دولة مجردة. ويمكن لهذا الطراز مع ذلك أن يتسبب في إحداث إزعاجات لتلاحم دولة ما "على سبيل المثال، تفجر المجتمع الأمريكي".
في الواقع، إن المفهومين للأمة ممزوجان، غالباً. وإن حق الجنسية في هذا هومثال جيد، فإذا كان المفهوم الشخصي للأمة يؤدي إلى الاستناد إلى حق الأرض، فإن المفهوم الشخصي متميز بقانون الدم. أما من الناحية العملية، فإن معيار قانون الأرض وكذلك قانون الدم متحدان.

يبدو أن الفكرة القومية قد دخلت مرحلة الهبوط
بعد الحرب العالمية الثانية:
تضع القوى الجديدة مفاهيم أخرى مقدماً، فقد تكيفت الولايات المتحدة مع طريقة أقل تشدداً في مفهوم الأمة من المفهوم الأوربي، على أثر عملية التحرر من الاستعمار. أما الاتحاد السوفياتي السابق فقد سَحَقَ التطلعات القومية بواسطة الطريق الايديولوجي سواء داخل حدوده، أم في البلدان التي كانت تابعة للكتلة الشرقية من بلدان أوربا الشرقية. أما ميثاق الأمم المتحدة، فلم يتحدث إلا عن "حق الشعوب في أن تتصرف نفسها بنفسها" وكذلك في "السلامة الإقليمية".
لقد جرى تطبيق مبدأ "حق الشعوب في التصرف نفسها بنفسها" بعد نزع الاستعمار. وهذا في الواقع عوضاً عن مبدأ الدولة- الأمة وفتحت الولايات المتحدة، في الغالب، الطريق بحصولها على الاستقلال عا (1776). وشجعت نزع الاستعمار في بلدان أمريكا اللاتينية في المرحلة الأولى، في القرن التاسع عشر- من ثم في المرحلة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية- في بلدان آسيا وأفريقيا. وانتشر الطراز الأوربي في مفهوم الدولة- الأمة في العالم أجمع بعد ذلك، لكن ليس دون صعوبات. حيث حدثت عدة أزمات بسبب عدم تلاؤم الخارطة العرقية مع الحدود التي فرضت من قبل الاستعمار. وأخذت نموذجاً سياسياً غربياً لا يتكيف مع الواقع بالنسبة للبعض من العالم الثالث، بل فرض حدوداً تعسفية تستهدف منع تشكل دول قومية حقيقية، كما جرى في تقسيم الوطن العربي، كما اشتمل حق الشعوب نفسه على غموض في مبدأ القوميات، في القرن الرابع عشر.


3- التوازن عن طريق القوة : النظرية الواقعية في العلاقات الدولية

يوضح الواقعيون المجتمع الدولي في حدود علاقات القوة بين الدول.
الواقعيون هم المؤيدون للعقلية في السياسة، ويستوحى تحليلهم من فلسفة مكيافيلي، وخصوصاً من هوبس (Hobbes) في كتابه (Leviathan)- الدولة ذات النظام الدكتاتوري- الصادر بالانكليزية عام (1651)- حيث وصف العالم في الوضع الطبيعي، أنه خلعة للغرائز النرجسية- المغرورة- للإنسان، وهنا، "حيث لا توجد قوة مشتركة، فلا وجود لقانون، وحيث لا وجود لقانون، فليس هنالك من ظلم". فبالنسبة للواقعيين، فإن المجتمع الدولي مشكل من دول، دون "قوة مشتركة". فهو فوضوي من الطبيعي. والدولة تتابع مصلحتها الخاصة، من الدفاع عن مصالحها إلى التعدي على أولئك الآخرين، وليس هنالك سوى خطوة لتجعل من الدولة قوة، ولقد وصف توسيديد (Thucidyde)، من قَبْلُ، عملية التطور في العالم اليوناني: تبدأ المدينة بتسليح نفسها من أن أمل أن لا تقع تحت طغيان مدينة أخرى. وما أن تصبح مجهزة بمعدات عسكرية قوية، فإنها تصل إلى الاستدلال بأن الهدف أن تكون محمية أكثر، وما أن تقوم بذلك، حتى تنتقل لوضع الدول المجاورة لها تحت وصايتها، وتصبح بالتالي امبريالية، لأنها لم تبحث إلا عن الدفاع عن مصالحها. وإن الموازنة الوحيدة لوقف هيمنة قوة كبرى تكمن في نتيجة تحالف الآخرين، ومن هنا البحث الدائم عن توازن القوى..
تقود هذه الرؤيا التي تسمح باستخدام القوة في العلاقات الدولية، إلى سياسة مجردة من القيم الأخلاقية، بسهولة، ولقد نظَّر كل من هيجل وهانس مرغانتو في كتابهما "السياسات بين الأمم" الصادر عام (1948) ورايمون آرون "سلام وحرب بين الأمم، الصادر عام (1962)، للواقعية في السياسة الدولية. فبالنسبة لهؤلاء الكتاب، لا يلعب القانون الدولي، سوى دوراً واحداً، رسوبياً. ويعتبر هيجل أن "حق الناس" يمكن أن يؤدي خدمة للمحافظة على ما يمكن أن يكون من حريات الأشخاص الخاصين في حال الأزمات، لكن لا يستطيع إلغاء النزاعات بين الدول، حيث فيها الحرب، هي الحل الطبيعي. ويتجنب رايمون آرون، الحديث عن دور القانون الدولي في العلاقات الدولية.

لقد سمح الواقعيون بممارسة الحرب في العلاقات بين الدول، ولزمن طويل:
تحافظ الدول على علاقات وصفها رايمون آرون بـ"الدبلوماسية الاستراتيجية"، والدبلوماسي والعسكري، هما الفاعلان في العلاقات الدولية، يأخذان الدور بالتناوب حسبما تكون عليه الدول في حالة حرب أم حالة سلم "أيضاً يجب أن لا تكون الدبلوماسية غائبة مطلقاً تماماً عن الحرب، وبحيث يكون للجيش دور الردع أو التهديد في زمن السلم".
فالحرب هي إذن "استمرار للدبلوماسية بطرق أخرى" طبقاً للصيغة المشهورة لكلوزفيتس، فما أن تعجز الطرق الدبلوماسية في تحقيق ما تصبو إليه دولة ما، عندئذ يجب أن تسمح الحرب بها.
ولقد فتح القانون الدولي الطريق أمام الحرب، كعلامة لهذا التطور، وعلى نحو متزايد، كما أن وضع الحياد الدائم، مُنظَّم أيضاً "سويسرا عام (1815)، بلجيكا عام (1831). كما أن شروط الحرب البحرية محددة بمعاهدة باريس لعام (1856). وقد توصل المسعى لتأنيس "من الإنسان Humanisation- قانون الحرب إلى العديد من الدلائل بعد حرب الكريمة. أولاً، إجراء التحكيم، ثم الأصول المُثبَّتة باتفاق لاهاي".

يفكر الواقعيون في حدود النظام الدولي
النظام هو مجمل عناصر مترابطة. ويمكن أن يكون مستقراً ونشطاً. ويتحرك طبقاً لقوانين محددة، والسلطة المحددة من قبل رايمون آرون، هي: "قدرة وحدة سياسية على فرض إرادتها على وحدات أخرى"، وهي توزع بين الدول تبعاً لعوامل مادية، بصورة رئيسة "مناطق، ثروات، سكان، جيوش". ولا تعتبر المنظمات الدولية فاعلة حقيقية عن طريق النظام، بل كانعكاس لتقاسم السلطة بين الدول. كما أن الموضوع الأساس للنظام بين الدول، هو معرفة قوانين النظام ومفاتيح استقراره: سواء عن طريق توازن القوى، أم عن طريق هيمنة قوة ما. ويتقارب هؤلاء الواقعيون في بعض الأحيان، بالتمسك بإقامة نماذج من القوانين الدولية(5). وعرَّف ستانلي هوفمان (Stanley Hoffman) (النظام الدبلوماسي الاستراتيجي) الخاص بنهاية الحرب الباردة، بالاستقرار في مستوى متوسط وشامل للنظام "طبقاً للتوازن الاستراتيجي النووي"، وبعدم الاستقرار في المستويات الأدنى "تطور الحروب في المناطق المحيطية(6).

يبحث النظام عن التوازن بين الدول، منذ تكونه في القرن الرابع عشر.
لقد اخترعت القوى المُهدَّدة فكرة "التوازن"، والذي يطلق عليه اسم (الميزان) في القرن الثامن عشر، وذلك في مواجهة نزعات الهيمنة لدى القوى المسيطرة "لإسبانيا شارل مان، وفرنسا لويس الرابع عشر، ونابليون، وألمانيا غيوم الثاني وهتلر".
لقد حدد فاتل (Vattel) هذا التوازن كوضع ما من دولة فيه في موقف مهيمن، ولا تستطيع فرض قانونها على الآخرين في الواقع، فالتوازن غير مستقر على الدوام، ويعمل الإغراء من أجل خرقه من قبل القوى لصالحها ويؤدي ذلك إلى نشوب الحروب على الدوام.
ولقد حولت معاهدات ويستفالي (Westphalie) لعام(1648) الامبراطورية الجرمانية إلى موزاييك من الدول المستقلة وذات السيادة: وهذا هو مبدأ لاندهوهيت (Landeshoheit) الذي وضع حداً لسلطة الامبراطور، وجعل من الامبراطورية نوعاً من التنظيم الدولي، أي كونفدرالية، والتي ستبقى حتى حلها من قبل نابليون عام(1806). وضمنت فرنسا المعاهدات للاستفادة منها، بأن قادت سياسة توازن مع ألمانيا، ورتبت حلفاء ضد النمسا، وتصبح بريطانيا العظمى عندئذ، قوة سيِّدَه، وصنْعة التوازن الأوربي، الذي كان مهدداً من قبل لويس الرابع عشر، وعندما عجزت عن تحقيق طموحها بتأمين سياسة هيمنة قارية. ومنعت معاهدات أوترخت عام (1713) وراستارت (Rastart) عام(1714) من وضع فرنسا يدها على إسبانيا، وأقامت "حواجز" من التحصينات على حدودها الشمالية. وحافظت حربان أوربيتان كبيرتان "حرب الميراث النمساوي(1740-1748) وحرب السبع سنوات(1756-1763) على التوازن بين القوى. وفرض فاعلون جدد: روسيا وبروسيا، أنفسهم. وأضحى التوازن مهدداً من جديد من قبل فرنسا الثورية، من ثم من قبل فرنسا الامبريالية، حيث توصل المتحالفون في نهاية عام(1814) عام(1815) إلى نوع من الهدنة.

يتسبب الانسجام الأوربي في الاستقرار بأوربا
لقد أسس "مجلس إدارة أوربا" المؤلف من خمس قوى "انجلترا، فرنسا، بروسيا، النمسا، روسيا" مؤتمر فيينا، وإعادة تنظيم أوربا، بعد هزيمة نابوليون. وحافظ هذا النظام الأوربي على الشرعية الملكية والتوازن نتيجة معاهدات عام(1815). وقبلت انجلترا بالتوازن، لكن رفضت المبادئ الملكية. ورفضت النمسا وروسيا وبروسيا، من ثم فرنسا، المشاركة في "الحلف المقدس" الذي نُسِّق من قبل مستشار النمسا مترنيخ، ومارست سياسة "عزلة زاهية". وتسمح دبلوماسية المؤتمر بالتدخلات في الدول التي تخرق مبدأ الشرعية، حتى عام(1830). وسُمِح لفرنسا التي كانت طرفاً في الحلف المقدس، منذ مؤتمر إكس لاسشبل عام(1818)، سمح لها في مؤتمر فيرون(Verone) عام(1822) بالتدخل في إسبانيا من أجل إقامة سلطة البوربون فيها.
ويتتابع "الانسجام الأوربي" تحت شكل آخر، على الرغم من انهيار الأنظمة الملكية "بثورة عام(1830) في فرنسا، وثورة عام(1848) في النمسا". وأكدت القوى الكبرى على وجود "حق عام أوربي". ونظمت مؤتمرات ومحادثات حول المواضيع السياسية الكبيرة: في لندن عام(1831) بشان استقلال بلجيكا، وفي باريس عام(1856) بشأن وضع حد لحرب الكريمة. وتتدخل القوى الأوربية معاً لتحرير كريت من النير العثماني عام(1897) وكذلك التدخل لمعاقبة "القائمين على ثورة الملاكمين" في الصين عام (1900) ومؤتمر الجزيرة في المغرب عام(1906) للتسوية القارية الفرنسية- الألمانية. ومؤتمر لاهاي لتسوية قانون الحرب عام(1899) وعام(1907).
ويبذل بسمارك جهوداً بدوره للمحافظة على توازن القوى، وذلك باختلاقه"أنظمة" مختلفة من التحالفات، جرى فيها توريط النمسا وروسيا وإيطاليا، وذلك بعد الاضطرابات التي أحدثها توحيد إيطاليا عام(1860)، من ثم ألمانيا عام(1871). وكان المستشار الحديدي يبحث عن المحافظة على الوضع الراهن الذي اعتقد أنه ملائم لألمانيا، وفي عزل فرنسا لمنعها من أجل أن لا تأخذ بثأرها، وذلك بهذه اللعبة البارعة التي يمكن مقارنتها بلعبة البهلوان، وهو يشعوذ مع خمس كرات منها ثلاث في الهواء، ولم يكن للامبراطور غليوم الثاني(1890-1918) الحذر هو نفسه، أن يلقي بألمانيا بـ"سياسة دولية" تؤدي إلى المجابهة مع انجلترا في حين تتحالف فرنسا مع روسيا. وانطلقت بلدان مثلثة الاتفاق "فرنسا وانجلترا وروسيا" والامبراطوريات الوسطى "ألمانيا والنمسا والمجر والامبراطورية العثمانية" لتنفيذ اختراق مسلح في عام (1714) في توازن غير مُسْتَقِرٍّ.
قلبت الحرب العالمية الأولى التوازن الأوربي، وذلك العمل على اختفاء النمسا وبإذلال ألمانيا دون محاولة لنزع وسائل قوتها. ثم بناء نظام أوربي جديد، لكن دون الإسهام بإحداث ضمانات للمحافظة على ذلك النظام. وعقدت معاهدات كانت تحمل فيها نفسها بذور نزاع جديد. ويحاول موسوليني إحياء مجلس الإدارة الأوربي، دون نجاح- وذلك باقتراح "الميثاق الرابع" لعام(1933) الذي يجعل التعاون مؤسساتياً بين فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا، لتحقيق السلام. ففي حين اعتمدت فرنسا على شبكة من التحالفات مع البلدان الصغيرة في أوربا الوسطى والبلقان، بحثت ألمانيا وإيطاليا في الواقع، عن إعادة النظر في هذه المعاهدات.

ويتعدل معنى مفهوم التوازن، أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.
أخذت القوى المتحالفة "الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، المملكة المتحدة من ثم فرنسا" تعد الأوضاع الدولية لما بعد الحرب بعقدها مؤتمرات كبرى "طهران عام (1943)، مالطا وبوتسدام عام (1944). ولقد شغل التوازن المقبل بال تشرشل الذي اقترح على ستالين قسمة البلقان في خريف عام(1944)، وبدل الجمود في المجابهة شرق- غرب، موضع التوازن، إلى مستوى كوني. ونشأ عن ذلك النظام ثنائي الأقطاب، ثم يصبح هذا العالم متعدد الأقطاب ابتداء من الستينيات (1960). واستخدم كيسنجر، وزير خارجية نيكسون والخبير الكبير في التاريخ الأوربي، التقارب الصيني-الأمريكي، ضد التحالف الهندي-السوفياتي، وفي الوقت الذي يتبدد مخطط فكرة الحرب الباردة، يحافظ قانون القوى على سريان مفعوله. ويستمر مجلس الأمن في منح مكان متميز للخمسة "الكبار". وحُدِّدت، في أوربا، المعاهدة الخاصة بالقوات التقليدية في أوربا، بقوانين توازن القوى. وبدا أن العلاقات التجارية والمالية الدولية، وقد تحددت بشكل آخر للقوة "بالمنافسات التجارية وبتمييز الدولار"، ولم تعد القوة وحدها كافية من أجل تمييز النظام الدولي الجديد في هذه الأثناء.

يتبع >

المثابر120
2008-11-07, 11:39
4-التحليل الليبرالي للعلاقات الدولية: السلام عن طريق الترابط

يحُضُّ المثالي لسلام دائم، على القبول بآراء الفلاسفة:
لقد استند هؤلاء على القانون، تنظيم العنف بين الدول، بدرجات مختلفة، كما بين الأفراد، إذ يعتبر كونفوشيوس، الفيلسوف الصيني "من القرن الرابع ق.م" أن النظام الاجتماعي يجب أن يكون متناغماً مع نظام الطبيعة. ويجب أن تطبق هذه القاعدة، ليس فقط على الناس بالنسبة للشعب نفسه، بل أيضاً على الشعوب في العلاقات التي ترعى ذلك. ويدين الفيلسوف الصيني ما أوتسو Mao Tzu بشدة، بعد قرن من ذلك، في قلب حقبة الممالك المحاربة، الطبيعة الإجرامية للحروب.
ويقترح غروتيوس (Grotius) أحد مؤسسي القانون الدولي في أوربا، في القرن السابع عشر، إنشاء جمعية أمم، تسمح بالتحكيم وبالعمل على أن يسود النظام وضمان احترام حقوق الإنسان. ودعا الراهب إمريك كروسيه Emeric Crucé في عام (1623)، المسلمين والأفارقة والهنود إلى اتباع مشروعه الدولاتي الذي يضعه تحت إدارة البابا، وذلك في كتابه "Le Nouveau Cynée" على أن تكون البندقية كعاصمة، وبهذا يكون كنظام دولي للتحكيم الإجباري، وسيكون له كنتيجة طبيعية، القيام بإجراء تدخل جماعي ضد أي ملك يرفض التحكيم، ويعطي كروسيه لهذا المشروع بعداً اقتصادياً، يستند على حرية التجارة والنقد الموحد.
وصاغ العديد من المؤلفين مشاريع "خطط" من أجل جعل السلام محدداً، في عصر النور: فكتب غوتفورد ويلهلم فون ليبنتز- كتابه Consilion Aegyptianorum" عام (1670). وكذلك وليام بن William Penn" في كتابه "محاولة باتجاه السلام الحاضر والمستقبل في أوربا" بعام (1694). ثم القس سان بيير، كتابه بعنوان "مذكرة لجعل السلام دائماً في أوربا عام(1789) ثم جيرمي بنتام (مبدأ القانون الدولي" لعام(1789). وأمانويل كانت "Zum Ewigen Fridie" عام (1795). وهنري سان سيمون: "إعادة تنظيم المجتمع الأوربي، وضرورة وطرق تجميع الشعوب الأوربية في جسم سياسي واحد، بالمحافظة على الاستقلال الوطني لكل شعب عام (1814).

يستبدل الليبراليون الحرب بالترابط
لقد جرى تفسير التقدم في العلاقات الدولية من قبل المدرسة الليبرالية بمأزق الحرب، في حين فكر الواقعيون "على رأسهم كلوزفيتز" بأن الحرب استمرار طبيعي للسياسة بين الدول، وجعل تحديث التقنيات وتعبئة الجماهير، الحرب، أكثر دموية، وأكثر كلفة، فتسببت الحرب العالمية الأولى
بـ(10) ملايين قتيل. وتسببت الحرب العالمية الثانية بمقتل (50)مليون. وتتحدى الحرب الشاملة، وتعبئة الأمم بالكامل التي تتناقض فيها الإيديولوجيات، كل استخدام عقلي للحرب، وانتهى الأمر بظهور السلاح النووي عام (1945)، حيث جعل الحرب الشاملة غير معقولة.
ويعارض الليبراليون الترابط و"التضامن الدولي"، طبقاً للرؤيا الواقعية للعلاقات الدولية، ويؤكدون: يجب أن تسهم ثلاثة عوامل في التقارب بين الشعوب: الديموقراطية والتجارة وعمليات المجتمعات الدولية المؤسساتية.
فالعالم سوف لن يعرف الحرب، إذا لم يكن مشكلاً إلا من الديموقراطيات في توقع مثالي، يمكن وصفه بـ"الكانتي"، وإذا حافظ الأفراد على علاقات سلمية داخل الدول. ويتساءلون، لماذا تحافظ الدول على علاقات أزماتية في نطاق المجتمع الدولي؟ وجعلت هذه الرؤيا المثالية للأزمات، المصالح بين الدول، سبيلاً للاتفاق من أجل السلام، وفي نهاية المطاف، بأن حدث في التاريخ؛ بأن الديموقراطيات هي التي شنّت الحروب.

لهذا يبني الليبراليون آمالهم على تنمية التبادلات بصورة رئيسة
إذن يجب أن ينجم التقدم الاقتصادي والتقني والتضامن بين الدول، لقد تم حدس النتيجة المهدئة للتجارة من قبل إمريك كروسيه، ثم جرى التخطيط لها من بعده من قبل العديد من المفكرين، أمثال بوسييه Bossuet وبواسغلبرت Boisguilbert وكوينسناي Quensnay، وقد كتب مونتسكيو Montesquieu: "لم تعد أوربا سوى أمة مشكلة من عديد من الأمم، وفرنسا وانجلترا بحاجة إلى غنى بولونيا وموسكو، وكل مقاطعة من مقاطعاتها بحاجة للأخرى"7.
أما نظرية الرهان- ذات الأهمية الكبرى لدى المحللين الأمريكيين- التي تُعتمد للمساعدة لتحقيق السلام، عن طريق التجارة والازدهار لكن من المعلوم، أن ما يكسبه أحد ما يخسره آخر، وتبرز الحرب من هذا المبدأ، مع أنه قد يكون رهاناً سلبياً في الحياة الإنسانية، ويأمل الرابح أن يعوض خسارته المحتملة الوقوع، بمضرة الآخرين من الخصوم.
وهناك عقائد اقتصادية تنفي فكرة التقدم، وتعتبر المالتوسية أن ندرة المصادر تحدد النمو السكاني، بشكل لا يمكن تجنبه، ولهذا يجب السيطرة على الخصوبة الإنسانية. أما المركنتيلية- أي النظام الاقتصادي الذي نشأ في أوربا أثناء تفسخ الإقطاعية وتعزيز ثروة الدولة، بتنظيم الاقتصاد، واعتبار المعادن الثخينة ثروة الدولة الأساسية- التي تطورت في القرن السابع عشر، واستهدفت التراكم في البلدان ذات الاحتياطات النقدية، وذلك بخفض الواردات، وفي زيادة الصادرات، وفي الخط نفسه، بالاكتفاء الذاتي، ويكون بالبحث عن خفض التبادلات مع الخارج، وبزيادة الإنتاج في الداخل، وهذا يعني إنتاج ما تحتاجه البلاد. وكانت مثل هذه السياسات مطبقة من قبل بلدان كانت تبحث عن خفض الاعتماد تجاه الخارج.
وعلى العكس من نظرية التبادل كدافع في "لعبة المجموع الإيجابي" طبقاً لليبراليين، حيث يربح كل واحد، وتغني التجارة الدولية التي تستند على نظرية الفائدة المقارنة، وعلى تخصص البلدان المصدرة، بحيث يغنى جميع المشاركين فيها. وتنسق الرأسمالية المكاسب الناتجة عن التبادل السلمي، وتسمح بعملية تراكم رأس المال، الشرط الضروري للثورة الصناعية التي بدأت في أوربا في القرن السابع عشر. ويتوضح نجاحها بإنتاج مواد وفيرة، مع ذلك، فالرأسمالية لا تنظر إلا للأرباح. يضاف إلى ذلك، فما من شيء يزيل المنافسة، بل كل شيء في الرأسمالية يغذيها. وهنا لن تكون السلطة السياسية "السلطة المتحكمة" كموضع رهان، بل الطاقة الاقتصادية "رأس المال الذي يميل دائماً لاجتياز الحدود بشكل أكثر".

ويطالب الليبراليون بالتعاون الدولي الذي ينجم عنه التقدم في التبادلات والتقنيات.
ولقد تأسست المنظمات الدولية الأولى في القرن التاسع عشر من أجل إدارة التعاون الدولي في القطاعات التقنية "الاتصالات البعيدة، البريد... الخ". والقانون الدولي مدعو لإدارة العلاقات بين المنظمات الدولية. وتتوقف العلاقات الدولية عن كونها المحتكر للدبلوماسيين ورجال السياسة، وتفسح مجالاً متزايداً للخبراء والموظفين وللبيروقراطيات الوطنية.

على العكس من الواقعيين الذين يتحدثون عن النظام الدولي، يستدل الليبراليون بالتعبير عنه بواسطة المجتمع الدولي:
يحلل الليبراليون المجتمع الدولي، كما يحللون المجتمع المدني. فهم يعترفون بخصوصيته، بعبارة أخرى، من واقع أنه مشكل من دول مستقلة. بل أيضاً يفسحون المجال أمام الفاعلين من غير التابعين للدول: المنظمات الدولية، المنظمات غير الحكومية، الشركات متعددة الجنسية، السلطات المحلية والإقليمية. ويبحث المنظرون الليبراليون عن تحديد القواعد التي تؤطر لعبة اللاعبين: المنظمات وسير عملها، و"الأنظمة" "نظام عدم تكاثر الأسلحة النووية، نظام حقوق الإنسان، نظام التجارة الدولية".. الخ.

عرفت نظرية التضامن الدولي نجاحات وعكسها:
وصف الراديكالي الفرنسي، ليون بروجوا Leon Bourgeois "التضامن الذي يوحد الأعضاء في مجتمع الأمم المتحضرة"، من أجل تسوية سلمية للأزمات الدولية، عام (1899) في مقدمة لميثاق وضعه بقوله: لم يَكْفِ تطور التجارة الدولية من أجل ضمان السلام، بل على العكس، عرفت أوربا فترات توترات دولية، ترافقت مع مراحل ازدهار اقتصادي (1848-1873-1896-1920) في حين حدث التباطؤ الاقتصادي في السنوات (1873-1896) جنباً إلى جنب مع بعض خفض التوترات الدولية.
وجاءت المرحلة التالية، بعد الحرب العالمية الأولى بإقامة نظام الأمن الجماعي لضمان السلام بطريقة مختلفة عن توازن القوى. ولهذا اعترض وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة آنذاك، اعترض على الواقعية والمثالية في السياسة الأوربية التقليدية، وذلك بتقديمه النقاط الأربع عشرة في مشروع السلام المقدم عام (1918). ولم يكن الحوار بين الواقعيين والمثاليين واضحاً أيضاً بمقدار ما كان عليه أثناء مؤتمر السلام عام (1919). وصرح كلمنصو Clemenceau لويلسون: "إن تاريخ الولايات هو تاريخ بهي، لكنه قصير، مائة عام، فترة طويلة بالنسبة لكم، أما بالنسبة لنا إنها أمر بسيط. لقد عرفت رجالاً ممن شاهدوا نابليون بأعينهم، لنا مفهومنا للتاريخ، الذي لا يمكن أن يكون كتاريخكم تماماً". وينتقد رئيس الوزراء الفرنسي المثالية الويلسونية بقسوة.
قررت الدول أن "تضع الحروب في مصاف الخارجة عن القانون" (ميثاق بريان-كيلوغ (Briand-Kellogg) لعام 1928). لكن لم يجر إكمال ذلك النظام الخاص بالأمن الجماعي، بنظام اقتصادي دولي صلب، وأدى الكساد الكبير عام (1929) إلى انكفاء الأمم على أسواقها المحمية، وانهارت التجارة الدولية، وظهرت الخصومات القومية من جديد.
ومن أجل معالجة هذا الفشل الذي حدث، فإن النظام الجديد للأمن الجماعي الذي وضع عام (1945)، يمنع اللجوء للقوة- باستثناء حالة الدفاع المشروع- وعُهد للقوى الممثلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مهمة المحافظة على الأمن الدولي، وأضيف إلى هذه الأسس المحدَّدة إقامة نظام اقتصادي ليبرالي، انضم إليه جميع الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة. أما الاتحاد السوفياتي، فقد نأى بنفسه، مع ذلك، فقد قبل بتكثيف مبادلاته التجارية خلال مرحلة الانفراج شرق- غرب في السبعينيات (1970). وصمم الأوربيون، من جانبهم، استبدال المجابهة بين القوى بالترابط في اقتصادهم: حيث طُرحَت خطة شومان كحجر أول في البناء الأوربي- من أجل المشاركة في إنتاج الفحم الحجري والصلب- كبداية، بانتظار إقامة "تضامن حقيقي" بين الدول الأوربية.
وبدا أن العَوْلمة المتزايدة في الاقتصاد، أصبحت السياج الوحيد في تحليلات العلاقات الدولية المعاصرة، مع انهيار الكتلة السوفياتية. مع ذلك، لم تختف النزاعات من أجل المصالح، كما تؤكد على ذلك الحروب التجارية، التي تنخرط فيها القوى التجارية الكبرى "الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، الاتحاد الأوربي" لكن جرى تسييسها على طراز تعاوني، لأن قواعد التجارة الدولية، تخلصت من ليبرالية أكثر حتى الوقت الحاضر.
فإذا كانت الحروب لم تختف في نهاية القرن العشرين "تقدر منظمة الأمم المتحدة أنه قد حدث حوالي مائة نزاع مسلح رئيس منذ عام 1945 حتى نهاية القرن العشرين، نتج عنه حوالي (20) مليون قتيل، فإن الحروب بين القوى العظمى أصبحت ليس فقط مُتجنَّبة، بل أيضاً بعيدة الاحتمال. فهل يجب اعتبار الحوار لهذا السبب، على أنه قد أصبح الميزة لصالح الليبراليين؟ وأصبحت العلاقات الدولية مسيطر عليها بالتوازن شرق- غرب، طيلة فترة الحرب الباردة في عواملها المختلفة "توازن الرعب، توازن القوى العسكرية، المنافسة الاقتصادية، المجابهات في المحيط الخارجي". واليوم أيضاً، لم تغرس الديموقراطية جذورها في كل مكان، ويجب على المجتمع الدولي الاعتماد على القوة في كل مرة يتعرض السلام الدولي للخطر.

ب-القانون الدولي: بين "أرضية متعفنة"
و"طموح سلمي" بين "النزعة الإنسانية والسيادة"(8):
ليس القانون الدولي سوى "الفاصل بين القوى" طبقاً للصفة الجميلة لبول فاليري Paul Valery9. ولا ينجُ القانون الدولي من المشاكل التقليدية الصعبة التي تنشأ في العلاقات الدولية بين الحق والقوة والعدل. والقانون الدولي معرض لخطر أكثر من أي قانون آخر، من واقع أن القانون الدولي يستند بصورة رئيسة على الدول ذات السيادة. ويعتقد باسكال (Pascal): "لا يمكن القيام بالعدل إلا بالاستناد على العمل القوي، ولا نعمل إلا العمل القوي العادل". وتكمن كل الصعوبة في مواجهة نظام القانون الدولي، بالاستحالة النظرية، خارج السيادة الدولية، وفي استحالة العملية مع احترام القانون الدولي، دون سلطة حقيقية مع الموافقة على المستوى الدولي. والبعض يستخلص باستحالة انطولوجية في تطبيق القانون الدولي.

1ً-تناقضات القانون الدولي:
تلازم التفكير بالقانون الدولي، مع ظهور الدول المستقلة. وكما فكر أرسطو، فالدولة في اليونان، سياسياً، تجمع، وتجانس ثقافي، ويقابل رجال القانون سيادة الدولة بالقانون في أوربا المقسمة، في العصر الحديث، مع أنها تتقاسم الثقافة نفسها والقيم نفسها والسلوك نفسه، وهذا أيضاً هو واقع العالم العربي.

القانون الطبيعي: يُعتبر أرسطو أنه الأب لمدرسة القانون الطبيعي.
بالنسبة له، الطبيعة اجتماعية، والإنسان كائن اجتماعي بالسليقة- "حيوان سياسي"- يطمح للعيش في مجتمع. ودمج القِس توماس الكويني Thomas D’Aquin "من القرن الثامن" هذا المفهوم في رؤيا مسيحية وأسس عقيدة من العدل الاجتماعي أيضاً. وجرت عَلْمَنة القانون الطبيعي في العصر الحديث "القرن السادس عشر- القرن الثامن عشر. ووجَّه النظام الديني من جديد الاتهام "بواسطة البروتستانتية"، بصورة رئيسة، وبالحجج اللاهوتية التي تفقد تأثيرها في المجال السياسي. إذ تتحقق الطموحات الجديدة من أجل السلام والنظام عبر الدولة، في نطاق القانون الطبيعي، والذي لم يعد يعتمد على الدين بل على العقل، حتى إذا كان بإمكانه أن يكون له وجود في "الدول البروتستانتية، وفي النظام الملكي الفرنسي، وكذلك في فلسفة هوبس "Hobbes"، نتيجة الغموض بين ما هو ديني وروحي.
وطبق الراهب الإسباني ألدو مينكاني، فرنسيسكو دوفيتوريا Francisco De Vitoria (1480-1546) مدرسة القانون الطبيعي "على مجتمعات الدول ذات السيادة". فالدول ذات السيادة حرة، لكنها بحاجة للعيش في مجتمع، كما هو الحال بالنسبة للأفراد. فمجتمعات الدول ذات السيادة هي ضرورة- تماماً كحق الناس الذين يسوسونها، والذين يشكلون جزءاً متكاملاً من القانون الطبيعي. ويفرض قانون العنف العقيدة المسيحية على الهنود الحمر، لكن يجب أن تكون الكرامة الإنسانية معترفاً بها. وهو بالمقابل يسمح بحق الإسبان بالإقامة في مناطق الهنود الحمر، وكذلك بحق هؤلاء الأخيرين بالمجيء إلى إسبانيا، باسم حرية الانتقال، ويسمح أيضاً بحق البعثات التبشيرية الإسبانية بالوعظ بالعقيدة المسيحية، دون أن تقبل هذه العقيدة بالتبادل باسم حرية التبشير.
ويعتبر الهولندي هوغو دوغروت Hugo De Groot- المسمى غروثيوس Grotius (1583-1645) الأب للقانون الدولي. وأثره الرئيس المعاهدة باسم "الحق في الحرب وفي السلم"، المكتوبة باللاتينية عام (1652)، وترجمت إلى جميع اللغات الأوربية عام (1758)، لكون الدول ذات سيادة، يجب أن تكون هذه السيادة محددة بقوة وحيدة هي القانون، إذا لم توجد منظمات عالمية للدول. لكن، وبخلاف أسلافه، فقد عَلْمَن غروتيوس الحق الطبيعي الذي "يشكل، في بعض مبادئه الرئيسة، القانون العقلي، الذي جعلنا نعترف بأن عملاً ما أخلاقياً هو شريف أو غير شريف، طبقاً لتلاؤمه أو عدم تلاؤمه مع ما له طبيعة معقولة أو اجتماعية بالضرورة". ويتميز هذا القانون الطبيعي عن القانون الإرادي الذي ينتج عن إرادة الأمم، يتوضح بطريقة الاتفاقيات بين هذه الأمم. وتُحدَّد القواعد العلمية للقانون الإرادي العلاقات الدولية، لكن يجب أن تكون متطابقة مع مبادئ القانون الطبيعي، خصوصاً باحترام الكلمة المعطاة "مبدأ العالم الألماني بوفندورف (Pufendorf) (1632-1674) ويكمل عمل غروتيوس بالاعتماد على القانون الطبيعي، أكثر، مع التقليل من دور الحق الإيجابي.
ويحاول واضعو القانون الطبيعي تحديد حدود سيادة الدول، وذلك بإخضاع هذه الدول إلى القانون الطبيعي، لكن يبقى التحديد ذاتياً، على الرغم من كل شيء في الحقيقة، وتبدو العلاقات الدولية أنها جلبت عنصراً دائماً لهذا البناء النظري، مع ذلك عرف القانون الطبيعي مكسباً مشجعاً، في عالم متضامن أكثر، حيث تختفي ممارسة الحرب بين القوى، كما أن حقوق الإنسان مسجلة في هذا التَّوقَّع نفسه، إذا نحن رأيناها في عالميتها، إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية.. ويستمر العديد من علماء القانون في ترجمة القانون الطبيعي، دون تجنب الغموض الموجود بين الأخلاق والقانون على الدوام..

الوضعية:
"الوضعية هي فلسفة أوغوست كونت، التي تقصر عنايتها على الظواهر والوقائع اليقينية، مهملة كل تفكير تجريدي في الأسباب المطلقة. في حين تعتمد كل فلسفة على معرفة الوقائع، وعلى التجربة العملية مثل فلسفة سبنسر وستيوارت ميل ورينان.. الخ".
القانون الإيجابي في معارضته للقانون الطبيعي هو القانون مهما يكن وليس ذلك الذي يجب أن يكون. إنه قانون كيفي وعارض، دون تفوق، ودون وحدة. وإذا كان كذلك، فهو دون منطق، ويستطيع السفسطائيون والكلبيون، أن يعتبروا المخترعين للقانون الإيجابي: فبالنسبة لهم كل شيء هو شأن من المشاركة أو الاتفاق والدولة هي تشكل مصطنع، وليس طبيعياً. فإذا استفادت سيطرة الدين المسيحي من مدرسة القانون الطبيعي زمناً طويلاً "أكثر انسجاماً مع فكرة التفوق" فقد جعلت الاكتشافات الكبيرة، انطلاقاً من نهاية القرن الخامس عشر، من تجزئة أوربا سياسياً، بأن يتم وعي التنظيم الاجتماعي بصورة نسبية وتشجيع عملية تجديد الأفكار الوضعية. وحصل المفهوم الوضعي على نجاحات وبسرعة كبيرة في القانون الدولي، وعلى نحو أكثر من مدرسة القانون الطبيعي، وإنه يتطابق أكثر من مصالح الملوك المستبدين.
أما بالنسبة للجزويتي الإسباني فرنسيسكو سوواريتز (1548-1617) فإن حق الناس هو تطوري وعارض، ويختلف عما هو للشعوب، حسب مفهوم القانون الطبيعي. فهو إذن قانون إيجابي. لكن يعترف سوواريتز، مع ذلك، أنه يجب أن يكون تابعاً للقانون الطبيعي على الدوام: من ثم، استرجع العديد من القانونيين هذه النظرية لكن تحرروا من تفوق القانون الطبيعي. إذ يعتقد الانجليزي سلدن Selden (1548-1654) أن قانون الناس، هو نتيجة وحيدة للمعاهدات والعادة. وهناك انجليزي آخر يدعى زوش Zouch (1590-
1660)، الذي لم يعترف إلا بالأعمال التي يعترف بها بصورة مشروعة. أما الهولندي بنكر شوك Bynker Shook (1673-1743) فقد اقتصر على القانون الطبيعي الناتج عن العادة.
ووسع السويسري أمريش دوفاتل Emmerich De Vattel
(1714-1786)، وكان دبلوماسياً في خدمة ملك الساكس، وسع هذه المفاهيم، فأقام الوضعية على الإرادية- وهذه الأخيرة مذهب يجعل الإدارة تتدخل في كل حكم، وتستطيع أن تعلق هذا الحكم- في كتابه: حق الناس، أو مبادئ الحق الطبيعي المطلق في سلوك وشؤون الأمم والملوك (1758). ويسمح بوجود حق طبيعي، لكن مع فارق دقيق "هام" حيث أن الدول هي ذات سيادة في تفسير هذا الحق، والمجتمع الدولي مختلف بالطبيعة إذن عن المجتمع المدني: على عكس الأفراد، فالدول ليست بحاجة للتخلي عن السيادة من أجل الدخول في المجتمع، فلا يوجد عقد اجتماعي في المجتمع الدولي. وبما أن الدول معرضة لخطر الدخول في نزاع إذا لم يتم الاتفاق على تفسير الحق الطبيعي، فهذا هو بالضبط الحق الإرادي الذي يجب أن يعدل من الحق الطبيعي من أجل تسهيل القبول المشترك، حسب الحالة الراهنة. وما من أحد يتبع قانون الحرب، أي الحرب العادلة بالضبط، والتي تتطابق مع القانون، لكن، لما كان مفهوم العدل نفسه، ليس واحداً لدى جميع الدول، فالحرب هي إذن عادلة مهما تكن مبرراتها، ويجب فقط أن تخضع لبعض الأشكال "سواءً أكانت حرباً مفتوحة أم (خفية)، على سبيل المثال.
وهناك كاتبان آخران يُنَهّجان القانون الدولي الإيجابي في عصر النور وهما موزير (Mozer)، في كتابه "مبدأ حق الناس الحالي" (1750-1752)، وجورج فريدريك دومارتن Georges Frederic de Martens "ملخص حقوق الناس الحديث في أوربا القائم على المعاهدات والاستخدام" عام (1788). ويعتبران، مثلهم مثل فاتل، أن المجتمع الدولي مجتمع مشكل من دول ذات سيادة ومتساوية، والقانون الدولي لا يهتم بالأفراد، وهو نتيجة إرادة وموافقة الدول ذات السيادة "الموضحة بالمعاهدات ضمناً بالعادة، وتقدر الدول التزاماتها في العلاقات الدولية فقط، وتستطيع استخدام الحرب من أجل تسوية خلافاتها.
ووصل الوضعيون الإراديون إلى قمتهم في القرن التاسع عشر، وتخلصوا من ورقة التوت التي كانت المرجع للقانون الطبيعي. ولم يعد باعتبارهم سوى الحق الإيجابي، والدولة مصدر القانون، والقانون يصدر إذن عن إرادة الدولة، بالنسبة للمدرسة الإيجابية الألمانية وعلى رأسها (جيلنك تريبيل)
(Jellinek Triepel)، ويعمق تريبيل تحليل القانون الدولي الإيجابي في المنطق الإرادي لفاتل. وينظم الإيطالي أنزيلوتي (Anzilotti)10- الذي سيصبح قاضياً في محكمة العدل الدولية الدائمة- بشكل جيد، القانون الإيجابي الذي يجب أن يكون، حسب رأيه، الموضوع الوحيد في دراسة القانون الدولي.
وانتهت العقيدة الوضعية، إلى القانون الدولي، المسمى بـ(الكلاسيكي): وهو ذلك النظام، الذي يشكل حجر الزاوية في مبدأ سيادة الدولة بين الدول. وقدرت محكمة العدل الدولية العليا، بأن القانون الدولي، يؤدي خدمة لـ"تسوية التعايش" بين الدول، "بهدف متابعة الأهداف المشتركة" و"تربط التسويات في مجال القانون، الدول، وهي الصادرة عن إرادة هذه الدول". كما يجب أن لا يؤدي هذا العرض الخاص بالتبرير عن الدول، للفوضى". وتوجه المحكمة اهتماماً من أجل توضيح أن "الحدود الأساسية التي تفرض القانون الدولي على الدولة، تلك التي تستعيد كل ممارسة لقوتها على دولة أخرى"، وتتوقف حرية دولة ما إذن عند بدء حرية دولة أخرى، وإن التأكيد على هذا المبدأ، هو إذن، أقل ما نستطيع انتظاره من القانون الدولي.
-ويحاول رجال القانون تجاوز هذه التناقضات في الحقبة المعاصرة:
يتساءلون عن العظمة بأنها الرغبة الوحيدة للدول، وأقل من تساؤلهم عن القانون، وعن أساسه الايديولوجي، وأقل من وظيفته: ويوجد القانون الدولي خدمة لتأطير عمل الدول والفاعلين الآخرين في العلاقات الدولية، وتحليلاتهم تميل نحو الذرائعية لإثبات بسيط للوقائع: فالدول هي ذات سيادة، ومع ذلك فإنها تخضع للقانون الدولي. ويتعلق معظم القانونيين المعاصرين إذن بوصف القانون كما هو.
يرفض هانس كلسون ومدرسته "المعيارية- Normativiste" المؤسسة في فيينا، اعتبار أي شيء آخر غير القانون. "إنها النظرية الخاصة بالقانون" ولا تتميز الدولة عن القانون، هي إذن القانون: "هي الآمر بالدفع القانوني"، والقانون الدولي مندمج فيه. وانتهت سيادة الدولة عن طريق الذوبان في المعايير التي ساهمت الدول في إقامتها. ويصبح القانون الدولي تتويجاً لنظام القانون الوطني، في حدوده القصوى.
وتتقارب عقيدة "الموضوعية- الاجتماعية" الممثلة بجورج سيل Georges Scelle، مع مدرسة القانون الطبيعي، مع ذلك: "إذ ينتج المجتمع الدولي، ليس عن التعايش، ومن تجمع الدول، بل على العكس، من تداخل الشعوب بالتجارة الدولية "بالمعنى الواسع". وسيكون عجباً، بالتأكيد، أن تتوقف الظاهرة الاجتماعية في الدولة، في حدود الدولة". لأن القاعدة القانونية، هي "آمر اجتماعي يترجم ضرورة تولدت عن التضامن الوطني، فلماذا لا تؤدي خدمة لأمور القوانين الدولية التي تطبق على المجتمعات الدولية؟ طبقاً لرأي المؤلف نفسه. وسوف لن يكون "حق الناس" قانونياً بين الدول- كما كان على الدوام- بل أصبح قانوناً بين الأفراد مطبق في نطاق دولي، وسيحل محل المجتمع الدولي"، التجميع الدولي: ويتحول الرابط الاجتماعي بين الأفراد إلى شعور حقيقي بالانتماء المجتمعي. وأعاد جورج سيل الربط إذن بالتحليل الليبرالي بين المجتمع الدولي، وعقيدة القانون الطبيعي، ويبقى جزء كبير من القانونيين مع ذلك، مترددين في قبول مفهوم "المجتمع الدولي" ويبدون شكوكاً أكثر.

يتبع >

المثابر120
2008-11-07, 11:40
ولوحظ أيضاً، خلال العديد من السنين، في فترة المنافسة شرق- غرب، الاجتياح الايديولوجي للقانون الدولي. ووجه آخرون النقد إلى القانون الدولي، سواء لإفراطه في الاستخفاف بدول العالم الثالث، أم لأنه يؤدي خدمة لهيمنة دول الغرب. واعترض رجال القانون الماركسيون جميعهم، على القانون الدولي، مع تكهنهم بـ"سقم الدولة" عندما أرادوا تحديد "قانون التعايش السلمي" من أجل مصارعة الحرية الليبرالية. كما اعترض قانونيو العالم الثالث من جانبهم على القانون الدولي، محددين بصورة رئيسة عن طريق البلدان النامية، وبحثوا عن نزع الاستعمار عن طريق القانون المشروع "حق الشعوب في تنمية نفسها بنفسها" وأشادوا نظاماً اقتصادياً دولياً جديداً، وأصبح لهذه النظريات ميل لكي تزال اليوم، أمام هيمنة القيم التي يطلق عليها اسم الليبرالية.

2-احترام القانون الدولي
تفوق القانون الدولي على القانون الوطني ضرورة نظرية
تعتمد طبيعة القانون الدولي، على العلاقة بين القانون الدولي والقوانين الداخلية للدول.
ويشكل القانون الدولي والقانون الداخلي، خطاباً قانونياً واحداً، حسب عقيدة الواحديين (Monistes): بعبارة أخرى، لا يطبق القانون الدولي إلا إذا اندمج بالنظام القانوني الداخلي للدولة، والتقارب الثنائي، ليس مفاجئاً فقط، بل هو شكل عام محفوظ من قبل الوضعيات.
نظرياً، فلا يمكن أن يكون له صفة القانون الدولي، دون أولوية على القانون الداخلي. ولأن الدولة ذات سيادة، يجب أن يكون لديها قانون ولأنها تلتزم بالقانون الدولي، يجب أن تحترم التزاماتها، إذن فإنه منطقي بأن تتكيف مع حقها الخاص بالالتزامات التي اتخذتها حيال الدول الأخرى. ولا تستطيع دولة ما الادعاء بعدم كفاية تشريعاتها الداخلية من أجل إعفائها من مسؤولياتها الدولية. واعترفت محكمة العدل الدولية بالقانون الداخلي كـ"مبدأ معترف به بشكل عام". وأعادت محكمة العدل الدولية عام (1945) التأكيد على هذا المبدأ، كـ"مبدأ أساس ـ"مبدأ أساس في القانون الدولي"، بصورة منتظمة. بالمقابل لا يطبق القانون الدولي على الأشخاص، كما اعترفت بذلك محكمة العدل الدولية الدائمة في مسودة محاكمات دانزيغ عام (1928). واعترفت أن الدولة تقوم كوريثة بين القانون الدولي وتابعيها.
تعترف معظم الدول بتفوق القانون الدولي، وهذا حسب التوازن الأنجلو-ساكسون بأن "القانون الدولي جزء من قانون الأرض" طبقاً للعقيدة المقترحة من قبل بلاكستون Blackstone (1765). وهذه قاعدة معترف بها في البلاد التي فيها دستور مكتوب: وهنالك صعوبة بإنكار القانون الدولي العام، "خصوصاً القانون غير المكتوب" مع ذلك، ويمكن أن يتردد ذلك بالالتزام على الأرض التي لا تعترف به، ويجب عليها أن تخضع للتفسير الإداري.
فالمعاهدة إذن ليست مقبولة شرعاً إلا إذا طبقت بطريقة متبادلة، وليس تقدير شرط التبادل من شأن القاضي الذي يمكنه أن يرد الموضوع إلى مستوى وزارة الخارجية. ولقد أكد المجلس الدستوري، بأن ليس هنالك من شرط من أجل مطابقة القوانين مع الدستور. وهنا، على السلطة التنفيذية أن تستخلص النتائج من غياب التبادل "على سبيل المثال، بإلغاء المعاهدة".
بالمقابل، فعلى القاضي أن يبطل المادة المخالفة للمعاهدة، فالقانون الدولي يجب أن يطبق على الأفراد عند غياب قابلية التطبيق المباشرة، وعلى القاضي الداخلي أن يضمن هذا التطبيق. فالقاضي القضائي، يقبل تفسير اتفاق ما عندما يكون خالياً من الغموض11؛ أو عندما تكون بعض المصالح الخاصة موضع رهان، ويطلب القاضي الإداري من جانبه تدخل وزارة الخارجية أحياناً، لكن بعد أن يعتبر هذا التفسير كـ"عمل حكومي" غير قابل لأن يعترف به من قبل قسم قضايا الدولة.

الطبيعة الإجبارية للقانون الدولي، تفترض مشكلة التصديق:
نادراً ما تقبل الدول تحديد سيادتها في النقطة التي يمكن أن يصبح خرق القياس مقراً من قبل المجموعة الدولية. والإقرار ضد الدولة التي تعتدي على السلم الدولي، خاضع لمزلاج مزدوج، تستطيع القوى وحدها رفعه إما سياسياً بالتصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإما عسكرياً ومالياً بوضعه موضع التنفيذ- هذا ما حدث في كوريا عام (1950) والعراق عام (1990)، وسمح بشن مثل تلك الميكانيكيات في شروط مطابق لميثاق الأمم المتحدة، لحد ما "من الفصل الثامن.
يضاف إلى ذلك، تكون الإجراءات التقليدية، نتيجة الاتهام عن مسؤولية الدولة، وآليات التصديق، متوقعة في المنظمات الدولية، في بعض الأحيان: حوارات متناقضة، نشر التقارير، آليات قانونية، إمكانية الطرد من معظم المنظمات الدولية، تعليق حق التصويت "خصوصاً في حالة عدم رفع المساهمة المالية"، وهذا من الأمور النادرة لتكون فعالة. لهذا، تفضل الدول استخدام الدبلوماسية واتخاذ إجراءات معاكسة، يراد بها الإقرار.

ج-تحليل المجتمع الدولي: بين النظام والقوة
يقسم المؤرخ جان بابتيست دو روزيل Jean Baptiste du Roselle العلاقات الدولية إلى بابين:السياسة الدولية التي هي حصة الدول"حرباً أم سلماً"، والحياة الدولية التي هي من فعل الفاعلين الخاصين"سياحة، رياضة، تجارة دولية" يبدو أن هذا التمييز يخفي ما يفعل القانون الدولي العام "أو بين الدول" عن القانون الدولي، الخاص "حيث تتواجه الأنظمة القانونية الداخلية، دون تدخل الدول".
والحالة هذه، فإنه في تناقض من حيث الملاءمة بين معارضة العلاقات الدولية العامة والخاصة. وتؤدي العولمة إلى تعزيز التعاون الدولي في جميع المجالات، في حين تنظم الدول الحياة الدولية، ويجب على مفهوم (القوة) معاد التقييم أن يؤخذ بالاعتبار على ضوء هذا التطور.

1- هل نهاية التاريخ هي نهاية التقدم
لقد أدت نهاية الحرب الباردة، كما في جميع الانقلابات التاريخية، إلى فقدان المعالم، وفتحت حقبة ش****ة، ويبدو أن رجال السياسة، وكذلك المثقفون، حائرون في مواجهة "العولمة" التي تغير العالم دون أن يتغيروا. ربما هذه الاستفهامات الحياتية الخاصة بحياة الإنسان ليست سوى العودة الأزلية للتفكير حول صيرورة الإنسانية ومصير الإنسان.

والتنبؤ "بنهاية التاريخ" ليس جديداً، كما يعتقد، طبقاً للضجة التي أثيرت حول فرضية فرانسيس فوكوياما:
بعد سقوط جدار برلين بوقت قصير، هذا الأستاذ الأمريكي، هو الذي أطلق أن القيم الليبرالية"الديموقراطية، السوق، حقوق الإنسان"هي من الأمور التي لا غنى عنها، ويجب أن تحكم العالم بعد الآن. بالنتيجة،إن التاريخ قد ينتهي12.إذا أعطيت هذه الفرضية سبباً لليبراليين الذين يتوقعون السلام السرمدي عن طريق التضامن الدولي والأمن الجماعي. ومن قَبْل، في القرن التاسع عشر، رأى الفيلسوف الألماني، هيغل، في التاريخ العام تقدماً في وعي الحرية. ويجب أن تكون عبارته عن الدولة الحديثة،هي التي سينمي فيها الإنسان وعيه كمواطن حر ومناسب. وإذا كان مفهوم الدولة لدى هيغل قريب من نماذج عصره"امبراطورية نابوليون، بروسيا" فإنه من الواضح، أنه سوف لن تحدث "نهاية التاريخ" فجأة، إلا عندما تصبح الدولة نموذجاً.
وتنبأ الأب تلهارد دو شاردان Teilhard de Chardin، الفيلسوف والعالم الفرنسي، تنبأ عام (1955)، بنهاية دينية وجماعية للتاريخ، فقد خرج الجنس البشري من الكائنات الحية "منطقة الحياة غير المُعْقلنة" من أجل الدخول في النوسفير (Noosphere) أي "منطقة الحياة المعقلنة"، وهنا ستبلغ مرحلة الإنسانية المتفوقة. بعبارة أخرى، سيطرة وتطور الكائنات الحية، ستصل بجميع الأرواح والكون في المسيح.

يجب أن تكون هيمنة القيم نسبويَّة مع ذلك:
لقد خلق القرن العشرون نوعاً مختلفاً من الايديولوجيات العالمية الثلاث الكبيرة، الموروثة عن القرن التاسع عشر: التحررية والقومية والاشتراكية. والتحررية هي الرابح الأكبر على الساحتين في السياسة مع دَمَقْرطة أكبر اتساعاً، وأكثر على الساحة الكونية، وفي الاقتصاد. منذ زوال الفرضيات الكنيسة (Keynesienne) والمتعلقة بمذهب كَينِس الاقتصادي القائل بالتدخل الرسمي لإنماء الإنتاج والوظائف- وتعرضت الاشتراكية للإخفاق كتنظيم سياسي، مع أنها استرجعت جزئياً من قبل الديموقراطيات الليبرالية، حتى ابتعدت عن الكينسية، وهي تحافظ على بعد اجتماعي غاب عن البلدان الرأسمالية الليبرالية من القرن التاسع عشر.

توجيه الاتهام للتقدم ليس جديداً أيضاً:
لقد قدر بول فاليري Paul Valery القول: "نحن، الحضارات، إننا نعلم أننا ميتون، من بعد" وذلك غداة الحرب العالمية الأولى.
ووصف زكي العائدي، العالم بأنه "محروم من الإحساس" بعد الآن في حين دوَّن كل واحد من المتخاصمين في الحرب الباردة- الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي- عملهما مع توقع غائي- حسب النظرية القائلة بأن كل شيء في الطبيعة، موجه لغاية معينة- وأدى انتصار ديموقراطية السوق، إلى اختفاء كل توقع لـ"أفق للتوقع"13. وأصبحت فكرة التقدم التي أدخلت بواسطة القديس أوغسطين، في القرن الرابع من عصرنا، التي تجسد فيها "الدولة الأرضية، دولة الرب"، أصبحت موضع شك، وحلت العولمة محل النظام بين الدول (Interétatique) الكلاسيكي بواسطة "نظام اجتماعي عالمي"، نزعت فيه الدولة عنها حيازة سلطتها، ومن أجل أن تحافظ الدولة على شرعيتها، وجب عليها التقشف.

جرى الإعلان عن انحطاط الغرب منذ مطلع القرن العشرين:
نشر الفيلسوف الألماني أوزوالد سبينغلر Oswald Spengler عام(1918) كتاباً بعنوان: "انحطاط الغرب"، يعلن فيه، أن أوربا قد اجتازت مرحلة "الثقافة" المتميزة بالنشاط العفوي للروح، خصوصاً في "الفن" إلى مرحلة "الحضارة" المسيطر عليها بالثقافة العقلية والمَكْننة.
وعدلت نهاية الحرب الباردة من العلاقة بين الغرب والعالم. ولاحظ كلود ليفي- ستراوس Claude Levi-Straus، في كتابه "النسب والتاريخ" الصادر عام (1968) أن الماركسية والتحررية، طريقتين لفرض الفكر الغربي على العالم14. ويؤكد جان كريستوف روفان Jean Christophe Rufin، أن المنافسة شرق- غرب، قد نظّمت الحرب، التي ستحددها وعينت لها الأسس15 في كتابه "الامبراطورية والبربريات الجديدة" الصادر عام (1991)، حيث انطوى (الجنوب) على نفسه، واسترجع أحياناً بعض نشاطه- لكن على شكل نزاعات داخلية.
ويطرح البروفيسور صامويل هانتنغتون Samuel Huntington في مقالة داوية، نشرت في مجلة شؤون خارجية Forein Affairs ، طرازاً جديداً من النزاعات. فبعد الحرب بين الإمارات، من ثم بين الدول/الأمم، ثم بين الايديولوجيات "الفاشية، الشيوعية، الرأسمالية"، جاء دور "صدام الحضارات".
والحضارة هي كيان أو جوهر ثقافي، يتميز بالتاريخ وباللغة والتقاليد، وخصوصاً الدين ويُعْتبر صِدام الحضارات، كنتاج لتقسيم الحضارات، وسيحدث بين الدول الممثلة للحضارات المختلفة. ويُعدّد صامويل هانتنغتون، سبع حضارات أو ثمانية: الغربية، الكونفوشيوسية، اليابانية، الإسلامية، الهندية، السلافية-الأرثوذكسية، الأمريكية-اللاتينية، أخيراً، الأفريقية. ويعتبر الأزمة البوسنية، بأنها تعارض أو تصادم، بين المسلمين "مدعومين من قبل البلدان الإسلامية" على سبيل المثال، مع الأرثوذوكسية "مدعومين من الصرب وروسيا". ويعتبر الأزمة في القوقاز، على أنها صراع بين المسلمين والمسيحيين، وسيقود الصعود القوي للكونفوشيوسية إلى صراع يؤدي إلى تصادم حضارتين: الحضارة الهندية "البوذية" واليابانية الشنتوويك Shintoique. ويذهب هانتنغتون بعيداً بالتذكير بالتلاحم "الإسلامي"- "الكونفوشيوسي" ضد الغرب، الذي يتوضح في مجال الأسلحة، خصوصاً: ستصبح سياسة عدم تكاثر الأسلحة ذات الدمار الشامل، المصممة من قبل الغرب، مُعارضة من قبل الصين وستتصدى لها ببيع الأسلحة للبلدان الإسلامية دون تحفظ.