sollo44
2011-09-22, 08:58
ما مضى على خروجه من السجن غير ستة أشهر ، فرح الجميع بخروجه و عودته إليهم سالما ، أما أعداؤه فلم يقابلوه إلا بابتسامة مصطنعة سرعان ما تموت على حواف الشفاه ، و انطلقت يومها الأخبار في كل اتجاه تصدح بالحدث المثير، ها قد عاد مجيد أخيرا للحياة و تنسم طعم الحرية العزيز، و ارتشف من السعادة رشفة منعشة أنسته وحشة السجن و عذابات الوحدة ، أولاده الأربعة و زوجته و والده كانوا ضمن سلسلة هواجسه و هو في الحبس ، و لولاهم ما صبر كثيرا ، و حين خرج أدرك كم كان يعاني من الوجد و الصراع و الكبت ، تغيرت المدينة بعد عشر سنوات من الأسر ، و كبر الأولاد و تغير وجه الزوجة فمازجته ترهلات الكبر العكرة ، كل شيئ تغير ، كل شيئ سار مع الزمن لنقطة متقدمة من التغير و التبدل ، أين تلك الأيام السارة الساحرة ؟ أيام الشباب و العنفوان ، و الدنانير تدخل الجيب و تخرج منه يوميا بالملايين ، نعمة سارة أغدق بها الدهر عليه حتى صار من الأغنياء ، و قبل أقدامه العديد من أنصاف الرجال و جامعي أعقاب السجائر ، كيف انتهى الأمر به و بهذه السهولة ؟ .... كان غافلا حين حيكت ضده المؤامرة و زحفت نحوه كحية غادرة نحو عصفورة سادرة ، و الغيرة و الحسد أوقعا به أخيرا في السجن ، جلس مجيد رفقة صديقه عمار في مقهى الأحباب وسط المدينة ، و فيه عادت بهما الذكريات للوراء بقوة و قال عمار متأسفا :
- لم أتوقع أبدا أن يغدر بك أقرب مساعديك .
فرد مجيد بلا مبلاة :
- المؤامرة حدثت و دخلت جراءها السجن و لم يبق في قلبي غير الشجون .
فتنهد بلطف عمار و عاد للحديث :
- و المال و الأرض و المدخرات ... هل ما زال لك منها شيئ ؟
فقال آسفا :
ضاع كل شيئ ... و لم يبق عندي مليم واحد . فالمحكمة قضت بمصادرة كل شيئ
- يا إلاهي ... غدرة محكمة ضيعت كل أملاكك ...فليكن قلبك من حديد
- لا تقلق فقد تعلمت في السجن أن يكون لي قلب من حديد .
- و لكنك لن تفشل ، و ستعود إلى الحياة و العمل حتى تعود لسابق عهدك سيدا من الأعيان .
نظر مجيد إليه و سدد نحوه بصرا حادا قويا و قال معاتبا :
- ضع نفسك مكاني و ستحظى بجواب قاطع ، أتنتظر مني أن أقبل مجددا على الحياة كمراهق متهور ؟، لم يكن أقسى علي في السجن من ضياع عشرة سنوات بلا حركة واحدة ، الغدرة لا زالت تخنقني بقبضة من حديد .
فقال مشجعا :
- سنجد لك عملا ينسيك فيما فات .
و لكن مجيد صرخ بقوة :
- و المال و الممتلكات و الغدر من ينسيني في ذلك كله ؟
فأردف عمار مؤكدا :
- لذلك لا بد لك من عمل .
حاول مجيد أن يكتم غيضه و حاور نفسه في هدوء حتى هدأت أعصابه و قال مذكرا :
- لم يمض على خروجي من السجن إلا شهور ، و أنا لم أتأقلم بعد مع المجتمع ، و لم أسترجع في الناس ثقة .
و هناك أكد له عمار أنه بحاجة فعلا للعمل .
**********************
عاد في آخر اليوم للبيت برأس مترنح ثقيل ، نام الأولاد في حين بقت الزوجة في الدور الأول تنتظر عودته ، وجدها عند المدخل مستأنسة بضوء خفيف قادم من الحمام ، و عندما رأته قفزت من مكانها إليه و قالت متضرعة :
- حسبت أنك ستعود للبيت مبكرا هذه المرة و لكن خابت الظنون من جديد .
نظر إليها و كانت علامات الكبر بادية عليها ، و زادت مقاومتها للنعاس من سواد جفونها و هتف متحججا :
- لم أستطع بعد العودة للحياة ، فمازال رأسي مترعا بذكريات السجن و الغدرة، و ليس في جيبي درهم واحد .
فقالت مؤمنة :
- و لكنني صدقتك عندما كذبك الآخرون ، و صبرت على غيابك و انتظرتك ، و ما هم الأولاد إلى فيض من غيض .
نظر الرجل إليها و انطلق منه صوت خفيض :
- أعرف أنك طيبة و لولا طيبتك ما رغبت في الحياة .
كانت بالأمس القريب شابة قوية رشيقة ، و في الطريق المؤدية للمعهد راقبها و في وجدانه لهب من النار و الغرام و الاتفعال ، لو ضاعت منك هذه الشابة يا مجيد ضاعت حياتك ، و اندفع وراءها بجنون محموم حتى تصدى لها عند باب المعهد ، و انفلت منه اعتراف بحبه لها ، رفضت في بادئ الأمر ، و لكنه تمادى بعد ذلك في اثبات حبه لها حتى تشاجر مع اخوتها ، و في يوم واحد تشاجر مع طالبين من زملائها حين بادلاها نظرات منفلتة مازجها التهتك و الإغراء ، و ظفر بها بعد مدة و تزوجها و كان يومها طالبا فقيرا بسيطا و لكنه غني بقلبه الكبير ، و هو في غمرة ذكرياته داهمته زوجته بسؤال انتشله من الماضي و حطه في الحاضر :
- ألن تنام ؟
فاعتذر منها قائلا :
سأنام حين يعرف النوم سبيله إلي .... أنا بحاجة إلى المال .
- يمكنك الاستلاف ريثما تعثر على عمل .
- من أين أستلف و قد بات الصديق عدوا.
فقالت بنظرة مشرقة :
- صديقك عمار انسان طيب و هو بلا شك سيساعدك .
- يكفيه أنه يحمل معي هم سلوكاتي الغريبة اثر خروجي من السجن .
- إذن فلتستلف من عند والدك فهو الوحيد من عائلتك الذي مازال يحافظ على قسط من الثراء .
نظر إليها في ريبة و قال متشككا :
- و هل سيدفعه واجب الأبوة إلى مساعدتي ؟
- سيفعل فهو في الأصل والدك .... و هو من الأعيان .
- أخشى أن يتعثر طلبي عند رغبته ، فيرفض مساندتي فأكره الدنيا آخر الأمر .
- إنه مازال والدك ... و لا زلت من صلبه .
تردد خلال الليل بين الاستلاف من والده و بين خوفه من رفضه ، و ظل طيلة الليل نهبا للمخاوف و الاستنتاجات العقيمة و لكنه استسلم آخيرا لرأي زوجته و قال مستسلما :
- ليس لي ملاذ غيرك يا أبي .
كان قدوم الصباح مهربا من غم الليل ، و سار وسط الدار حتى دخل غرفة والده ، وجده مستلقيا على الفراش كالعجينة الرخوة ، نظر في ربوع الغرفة نظرة سريعة تكشف له من خلالها نعيم الثراء الذي يعيشه والده ، تشجع و جلس بإزائه دافعا سوء الظن خلف الباب و قال مستجديا :
- إن الله يرحم عباده و لا أظن أنك تجهل سبب قدومي إليك .
فقال الوالد بسرعة :
- رحمة الله وسعت كل شيئ ، و ما أريد إلا ميتة هنية
فهتف مجيد حانيا على نفسه :
- البركة في حياتك يا والدي ، حياتي صارت بلا معنى و لا رجاء لي عندك غير مساعدتي .
فضحك الوالد ضحكة مازجتها بحة المرض والهرم و أردف على كلام مجيد :
- مازال رأسك يصطدم بأسوار السجن ، أما مساعدتي فلم أحرمك منها منذ كنت مضغة في بطن أمك .
كلام مشجع ، و قد يكون هذا أول الحل و نهاية المشكلة ، الأب الفاضل الطيب لا ينفك يقدم المساعدة و يقوم بدوره حتى و هو في فراش المرض و حصار الكبر ، و تشجع مجيد و قال واثقا :
- أريد بعض المال يا أبي ، أقرضنيه و سأعيده لك خلال شهر .
فقال الوالد بدوره :
- جوع الزوجة و الأولاد نقمة لا تحتمل .
- أنت والدي و أنت أدرى مني بربوع الحياة .
فقال الوالد في عطف :
- لذلك سأساعدك و لكن على شرط واحد، أن تعيد لي المال في آخر الشهر
نظر إلى والده بحزم و قال :
- آخر الشهر يا أبي .
- حسن يا مجيد ، أترى ذلك الصندوق هناك ؟؟ خذ ما تحتاج منه على أن ترجعه آخر الشهر .
أخذ حاجته و انصرف يزقق أولاده و يرجع من الدين ما تيسر ، و ذهب للحلاق فهذب له شعره و لحيته ، تحسنت سلوكاته و لم يخل وجهه من ابتسامة ، حتى عمار أحس بهذا التغير إلا أنه أكد له على ضرورة العمل لجلب المال قبل نهاية الشهر ، مرت الأيام مسرعة ، و لم يجد الرجل عملا مناسبا ، و بدأ المال ينفذ بسرعة حتى ضاع كله قبل نهاية الشهر ، و جاء الموعد فانتابت مجيد رعشة من القلق و الهم فهو سيخلف الميعاد و هو كذلك بحاجة للمال من جديد.
فكيف سيتعامل مع مشكلة لا يستطيع حلها حتى الجن الأزرق ؟
- تحامل رغم ذلك على نفسه ، و قرر مواجهة أبيه مادام سيضطر للاستلاف مجددا ... ذهب إليه في صبيحة اليوم الموالي و هو يفكر في غضب والده و في نرجسيته المعتادة و عندما صارحه بالحقيقة صرخ في وجهه ثائرا :
- ألم تعدني بإرجاع المال آخر الشهر ؟
فرد عليه في صغار :
- خانني الحظ هذه المرة يا أبي و الدنيا ما زالت في رأسي تدور جراء السجن و الغدرة .
فنظر إليه و أظاف واعضا :
- كان عليك أن تواجه المشكل بالبحث عن العمل لا أن تجلس متشكيا فتضرب الأخماس في الأسداس .
- افهمني يا أبي ، ضاعت رغبتي في العمل عندما ضاعت عشرة أعوام من عمري في السجن هباءا .
فضحك من قوله و رد ساخرا :
- إذن فلا حل أمامك غير الانتحار .... و إلا فما جدوى الحياة من غير صراع و تعب و كد مرير ؟؟
نظر إليه مجيد و بدى أنه فهم حديث والده و قال مستجديا :
- سأبذل جهدا إضافيا على أن تأخذ بيدي ، فالحياة أمامي أصعب مما يتصور عقلك
سكت قليلا و نظر حوله في كل اتجاه و أردف قائلا :
- لكن مازال عليك أن تقرضني بعض المال حتى تستقيم الحال .
- و تستعيده لي طبعا آخر الشهر ؟؟
- طبعا يا أبي ..... آخر الشهر .
- حسن ، ذاك هو الصندوق أمامك ، خذ ما تحتاج منه على أن ترجعه لي آخر الشهر .
* * * * * * ** * * * * * * * * * ** * * * * * * * * * * * * * *
لشهور طويلة استمر مجيد يستلف من والده على وعد بالارجاع نهاية الشهر ، و على مر تلك الشهور العديدة فشل في العثور على عمل مناسب ، كما أخفق في تقويم سلوكه في كل مرة .... و هكذا لم يرجع من دينه فلسا ، في حين استمر والده يوجهه للصندوق المكتنز بالأموال ، و أقبل الفتى من جديد على الحياة في بذخ ، و راح يقلب أيامه بين العربدة و الإغداق و الإنفاق على أولاده ، و في ذلك اليوم انتهى الشهر و لم يسدد دينه فعاد من جديد لوالده و طلب منه قرضا على أن يرجعه آخر الشهر ، فقال الوالد مازحا في سخرية :
- أعتقد أن شهورك ليس لها آخر .
فتذمر مجيد ضمنيا و هتف معللا :
- ليس لي في هذا الزمان فرصة فمالمعمول ؟ ... ثم إن الحلول ماتت في يدي كأوراق الخريف .
تذكر الاولاد و الزرجة و السجن و الحسرات و أردف :
- لو كان بيدي شيئ لفعلته .
فامتشق الوالد لسانه كالسيف و صرخ فيه حتى بلل لعابه لحيته :
- ألم أنصحك بالعمل ؟؟ ... ألم أساندك منذ خروجك من السجن لتقف على قدمين ؟ ...ليس في وسع الحياة أن تهب لك أكثر مما أعطيتك . أنطر لنفسك و ستكتشف أنك أجبن مخلوق في الأرض .
و على إيقاع التقريع نظر مجيد إلى والده و هتف :
- لذلك أحتاج لمساعدتكك من جديد .
- أتقصد أنك تريد مالا هذه المرة أيضا ؟
فقال بلهجة متكسرة :
- نعم ... المال .. و لا شيئ غيره .
ساد المكان صمت حذر ، و تبادل الطرفان نظرات مبهمة ، و حامت الشكوك و الظنون فوق الرؤوس ، تنهد الوالد و قال في تسليم :
- حسن يا مجيد ، ها هو الصندوق أمامك فخذ منه ما تحتاج .
تقدم الفتى من الصندوق و فتح القفل ، رفع الغطاء و ألقى بنظرة فاحصة داخله فانعكست الدهشة على وجهه و قال حائرا:
- ليس في الصندوق مال يا أبي
و في الحين رد عليه الوالد بلهجة الحكماء :
- لو أنك كنت ترجع المال الذي أخذته لوجدته اليوم ينتطرك ...
- لم أتوقع أبدا أن يغدر بك أقرب مساعديك .
فرد مجيد بلا مبلاة :
- المؤامرة حدثت و دخلت جراءها السجن و لم يبق في قلبي غير الشجون .
فتنهد بلطف عمار و عاد للحديث :
- و المال و الأرض و المدخرات ... هل ما زال لك منها شيئ ؟
فقال آسفا :
ضاع كل شيئ ... و لم يبق عندي مليم واحد . فالمحكمة قضت بمصادرة كل شيئ
- يا إلاهي ... غدرة محكمة ضيعت كل أملاكك ...فليكن قلبك من حديد
- لا تقلق فقد تعلمت في السجن أن يكون لي قلب من حديد .
- و لكنك لن تفشل ، و ستعود إلى الحياة و العمل حتى تعود لسابق عهدك سيدا من الأعيان .
نظر مجيد إليه و سدد نحوه بصرا حادا قويا و قال معاتبا :
- ضع نفسك مكاني و ستحظى بجواب قاطع ، أتنتظر مني أن أقبل مجددا على الحياة كمراهق متهور ؟، لم يكن أقسى علي في السجن من ضياع عشرة سنوات بلا حركة واحدة ، الغدرة لا زالت تخنقني بقبضة من حديد .
فقال مشجعا :
- سنجد لك عملا ينسيك فيما فات .
و لكن مجيد صرخ بقوة :
- و المال و الممتلكات و الغدر من ينسيني في ذلك كله ؟
فأردف عمار مؤكدا :
- لذلك لا بد لك من عمل .
حاول مجيد أن يكتم غيضه و حاور نفسه في هدوء حتى هدأت أعصابه و قال مذكرا :
- لم يمض على خروجي من السجن إلا شهور ، و أنا لم أتأقلم بعد مع المجتمع ، و لم أسترجع في الناس ثقة .
و هناك أكد له عمار أنه بحاجة فعلا للعمل .
**********************
عاد في آخر اليوم للبيت برأس مترنح ثقيل ، نام الأولاد في حين بقت الزوجة في الدور الأول تنتظر عودته ، وجدها عند المدخل مستأنسة بضوء خفيف قادم من الحمام ، و عندما رأته قفزت من مكانها إليه و قالت متضرعة :
- حسبت أنك ستعود للبيت مبكرا هذه المرة و لكن خابت الظنون من جديد .
نظر إليها و كانت علامات الكبر بادية عليها ، و زادت مقاومتها للنعاس من سواد جفونها و هتف متحججا :
- لم أستطع بعد العودة للحياة ، فمازال رأسي مترعا بذكريات السجن و الغدرة، و ليس في جيبي درهم واحد .
فقالت مؤمنة :
- و لكنني صدقتك عندما كذبك الآخرون ، و صبرت على غيابك و انتظرتك ، و ما هم الأولاد إلى فيض من غيض .
نظر الرجل إليها و انطلق منه صوت خفيض :
- أعرف أنك طيبة و لولا طيبتك ما رغبت في الحياة .
كانت بالأمس القريب شابة قوية رشيقة ، و في الطريق المؤدية للمعهد راقبها و في وجدانه لهب من النار و الغرام و الاتفعال ، لو ضاعت منك هذه الشابة يا مجيد ضاعت حياتك ، و اندفع وراءها بجنون محموم حتى تصدى لها عند باب المعهد ، و انفلت منه اعتراف بحبه لها ، رفضت في بادئ الأمر ، و لكنه تمادى بعد ذلك في اثبات حبه لها حتى تشاجر مع اخوتها ، و في يوم واحد تشاجر مع طالبين من زملائها حين بادلاها نظرات منفلتة مازجها التهتك و الإغراء ، و ظفر بها بعد مدة و تزوجها و كان يومها طالبا فقيرا بسيطا و لكنه غني بقلبه الكبير ، و هو في غمرة ذكرياته داهمته زوجته بسؤال انتشله من الماضي و حطه في الحاضر :
- ألن تنام ؟
فاعتذر منها قائلا :
سأنام حين يعرف النوم سبيله إلي .... أنا بحاجة إلى المال .
- يمكنك الاستلاف ريثما تعثر على عمل .
- من أين أستلف و قد بات الصديق عدوا.
فقالت بنظرة مشرقة :
- صديقك عمار انسان طيب و هو بلا شك سيساعدك .
- يكفيه أنه يحمل معي هم سلوكاتي الغريبة اثر خروجي من السجن .
- إذن فلتستلف من عند والدك فهو الوحيد من عائلتك الذي مازال يحافظ على قسط من الثراء .
نظر إليها في ريبة و قال متشككا :
- و هل سيدفعه واجب الأبوة إلى مساعدتي ؟
- سيفعل فهو في الأصل والدك .... و هو من الأعيان .
- أخشى أن يتعثر طلبي عند رغبته ، فيرفض مساندتي فأكره الدنيا آخر الأمر .
- إنه مازال والدك ... و لا زلت من صلبه .
تردد خلال الليل بين الاستلاف من والده و بين خوفه من رفضه ، و ظل طيلة الليل نهبا للمخاوف و الاستنتاجات العقيمة و لكنه استسلم آخيرا لرأي زوجته و قال مستسلما :
- ليس لي ملاذ غيرك يا أبي .
كان قدوم الصباح مهربا من غم الليل ، و سار وسط الدار حتى دخل غرفة والده ، وجده مستلقيا على الفراش كالعجينة الرخوة ، نظر في ربوع الغرفة نظرة سريعة تكشف له من خلالها نعيم الثراء الذي يعيشه والده ، تشجع و جلس بإزائه دافعا سوء الظن خلف الباب و قال مستجديا :
- إن الله يرحم عباده و لا أظن أنك تجهل سبب قدومي إليك .
فقال الوالد بسرعة :
- رحمة الله وسعت كل شيئ ، و ما أريد إلا ميتة هنية
فهتف مجيد حانيا على نفسه :
- البركة في حياتك يا والدي ، حياتي صارت بلا معنى و لا رجاء لي عندك غير مساعدتي .
فضحك الوالد ضحكة مازجتها بحة المرض والهرم و أردف على كلام مجيد :
- مازال رأسك يصطدم بأسوار السجن ، أما مساعدتي فلم أحرمك منها منذ كنت مضغة في بطن أمك .
كلام مشجع ، و قد يكون هذا أول الحل و نهاية المشكلة ، الأب الفاضل الطيب لا ينفك يقدم المساعدة و يقوم بدوره حتى و هو في فراش المرض و حصار الكبر ، و تشجع مجيد و قال واثقا :
- أريد بعض المال يا أبي ، أقرضنيه و سأعيده لك خلال شهر .
فقال الوالد بدوره :
- جوع الزوجة و الأولاد نقمة لا تحتمل .
- أنت والدي و أنت أدرى مني بربوع الحياة .
فقال الوالد في عطف :
- لذلك سأساعدك و لكن على شرط واحد، أن تعيد لي المال في آخر الشهر
نظر إلى والده بحزم و قال :
- آخر الشهر يا أبي .
- حسن يا مجيد ، أترى ذلك الصندوق هناك ؟؟ خذ ما تحتاج منه على أن ترجعه آخر الشهر .
أخذ حاجته و انصرف يزقق أولاده و يرجع من الدين ما تيسر ، و ذهب للحلاق فهذب له شعره و لحيته ، تحسنت سلوكاته و لم يخل وجهه من ابتسامة ، حتى عمار أحس بهذا التغير إلا أنه أكد له على ضرورة العمل لجلب المال قبل نهاية الشهر ، مرت الأيام مسرعة ، و لم يجد الرجل عملا مناسبا ، و بدأ المال ينفذ بسرعة حتى ضاع كله قبل نهاية الشهر ، و جاء الموعد فانتابت مجيد رعشة من القلق و الهم فهو سيخلف الميعاد و هو كذلك بحاجة للمال من جديد.
فكيف سيتعامل مع مشكلة لا يستطيع حلها حتى الجن الأزرق ؟
- تحامل رغم ذلك على نفسه ، و قرر مواجهة أبيه مادام سيضطر للاستلاف مجددا ... ذهب إليه في صبيحة اليوم الموالي و هو يفكر في غضب والده و في نرجسيته المعتادة و عندما صارحه بالحقيقة صرخ في وجهه ثائرا :
- ألم تعدني بإرجاع المال آخر الشهر ؟
فرد عليه في صغار :
- خانني الحظ هذه المرة يا أبي و الدنيا ما زالت في رأسي تدور جراء السجن و الغدرة .
فنظر إليه و أظاف واعضا :
- كان عليك أن تواجه المشكل بالبحث عن العمل لا أن تجلس متشكيا فتضرب الأخماس في الأسداس .
- افهمني يا أبي ، ضاعت رغبتي في العمل عندما ضاعت عشرة أعوام من عمري في السجن هباءا .
فضحك من قوله و رد ساخرا :
- إذن فلا حل أمامك غير الانتحار .... و إلا فما جدوى الحياة من غير صراع و تعب و كد مرير ؟؟
نظر إليه مجيد و بدى أنه فهم حديث والده و قال مستجديا :
- سأبذل جهدا إضافيا على أن تأخذ بيدي ، فالحياة أمامي أصعب مما يتصور عقلك
سكت قليلا و نظر حوله في كل اتجاه و أردف قائلا :
- لكن مازال عليك أن تقرضني بعض المال حتى تستقيم الحال .
- و تستعيده لي طبعا آخر الشهر ؟؟
- طبعا يا أبي ..... آخر الشهر .
- حسن ، ذاك هو الصندوق أمامك ، خذ ما تحتاج منه على أن ترجعه لي آخر الشهر .
* * * * * * ** * * * * * * * * * ** * * * * * * * * * * * * * *
لشهور طويلة استمر مجيد يستلف من والده على وعد بالارجاع نهاية الشهر ، و على مر تلك الشهور العديدة فشل في العثور على عمل مناسب ، كما أخفق في تقويم سلوكه في كل مرة .... و هكذا لم يرجع من دينه فلسا ، في حين استمر والده يوجهه للصندوق المكتنز بالأموال ، و أقبل الفتى من جديد على الحياة في بذخ ، و راح يقلب أيامه بين العربدة و الإغداق و الإنفاق على أولاده ، و في ذلك اليوم انتهى الشهر و لم يسدد دينه فعاد من جديد لوالده و طلب منه قرضا على أن يرجعه آخر الشهر ، فقال الوالد مازحا في سخرية :
- أعتقد أن شهورك ليس لها آخر .
فتذمر مجيد ضمنيا و هتف معللا :
- ليس لي في هذا الزمان فرصة فمالمعمول ؟ ... ثم إن الحلول ماتت في يدي كأوراق الخريف .
تذكر الاولاد و الزرجة و السجن و الحسرات و أردف :
- لو كان بيدي شيئ لفعلته .
فامتشق الوالد لسانه كالسيف و صرخ فيه حتى بلل لعابه لحيته :
- ألم أنصحك بالعمل ؟؟ ... ألم أساندك منذ خروجك من السجن لتقف على قدمين ؟ ...ليس في وسع الحياة أن تهب لك أكثر مما أعطيتك . أنطر لنفسك و ستكتشف أنك أجبن مخلوق في الأرض .
و على إيقاع التقريع نظر مجيد إلى والده و هتف :
- لذلك أحتاج لمساعدتكك من جديد .
- أتقصد أنك تريد مالا هذه المرة أيضا ؟
فقال بلهجة متكسرة :
- نعم ... المال .. و لا شيئ غيره .
ساد المكان صمت حذر ، و تبادل الطرفان نظرات مبهمة ، و حامت الشكوك و الظنون فوق الرؤوس ، تنهد الوالد و قال في تسليم :
- حسن يا مجيد ، ها هو الصندوق أمامك فخذ منه ما تحتاج .
تقدم الفتى من الصندوق و فتح القفل ، رفع الغطاء و ألقى بنظرة فاحصة داخله فانعكست الدهشة على وجهه و قال حائرا:
- ليس في الصندوق مال يا أبي
و في الحين رد عليه الوالد بلهجة الحكماء :
- لو أنك كنت ترجع المال الذي أخذته لوجدته اليوم ينتطرك ...