قدوري رشيدة
2008-11-03, 16:10
تحديد مفهوم التطرف الديني وعلى أي أساس يقوم؟http://www.qaradawi.net/site/images/spacer.gif
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد به بعلم وبصيرة، هو الخطوة الأولى في طريق العلاج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
ولا قيمة لأي بيان أو حكم ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، لا إلى الآراء المجردة، وقول فلان أو علان من النّاس، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: ((فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنتم تُؤمِنون باللهِ واليومِ الآخِرِ )) [النساء:59 ]، وقد اتفقت الأمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعني: الرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشباب المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا الاتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية الأشياء بغير أسمائها. وقديماً قيل: إن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة الرفض فضاق بهذا الاتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أنِّي رافِضي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة الرجعية الجمود التطرف التعصب ونحوها، أمر في غاية الأهمية، حتى لا تترك مادة هلامية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء. .
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم التطرف الديني لآراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً للأهواء التي لا تتناهى ((ولوْ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لفَسدتِ السماوات والأرض ومَنْ فيهن َّ)) [المؤمنون:71 ].
ا دلائل التطرف ومظاهره؟
1-التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر:
إن أولى دلائل التطرف: هي التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً.
ونحن هنا ننكر على صاحب هذا الاتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إنما ننكر عليه حقاً، إذا أنكر الآراء المخالفة ووجهات النظر الأخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضلال، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبياً معصوماً، ومن قوله وحياً يوحى! مع أن سلف الأمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلاّ النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجيب أن من هؤلاء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعوص المسائل، وأغمض القضايا، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي، وافق فيه أو خالف، ولكنه لا يجيز لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله، هي غاية في العجب، لا يبالي أن يشذ فيها عن كافة السابقين واللاحقين، والمحدثين والمعاصرين، لأن رأسه برأس أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عبَّاس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال! وليته يعدي هذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه، من لا يرى رأيه، ولا يتبع نهجه من أهل العلم، بيد أنه لا يتعدى نفسه، وكل الصيد في جوف الفرا!
فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هو الذي نراه من دلائل التطرف حقاً، فالمتطرف كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقي أن أقود.. ومن واجبك أن تتبع.. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب.. وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبداً، لأن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، لا تقترب من أحدهما إلا بمقدار ما تبتعد من الآخر.
ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة، والعصا الغليظة هنا قد لا تكون من حديد ولا خشب، فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين، أو بالكفر والمروق - والعياذ بالله - فهذا الإرهاب الفكري أشد تخويفاً وتهديداً من الإرهاب الحسي.
2- ومن مظاهر التطرف الديني: التزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام الآخرين به، حيث لم يلزمهم الله به، إذ لا مانع أن يأخذ المرء لنفسه بالأشد في بعض المسائل، وبالأثقل في بعض الأحوال، تورعاً واحتياطاً، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائماً وفي كل حال، بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة فيرفضها، مع قوله صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا وقوله: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته وقوله تعالى: ((يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر )) [البقرة: 158 ]، و ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما ً.
وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم،والعنت في دنياهم، مع أن أبرز أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب الأقدمين، أنه ((يُحِلّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )) [الأعراف:156 ].
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر أو تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال، وقال: إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء [رواه البخاري ].
وعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمّ بالنّاس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة .
وقال لمعاذ لما أطال الصلاة بالقوم: أفتَّان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثا ً.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه [رواه البخاري ].
ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات كأنها محرمات، والمفروض ألاّ نلزم الناس إلاّ بما ألزمهم الله تعالى به جزماً، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا.
وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح، في قصة ذلك الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عما عليه من فرائض، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ، وبصوم رمضان، فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال لا، إلاّ أن تطوع، فلما أدبر الرجل قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق .
ولطالما قلت: إن بحسبنا من المسلم في هذا العصر أن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لنعتبره في صف الإسلام وأنصاره، ما دام ولاؤه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن ألمّ ببعض الصغائر من المحرمات، فعنده من الحسنات مثل: الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وغيرها، ما يكفر عنه هذه الصغائر ((إنّ الحسناتِ يُذْهِبن السيِّئات )) [هود:114]، ((إنْ تجتنبوا كبائِر ما تُنهون عنْه نُكفِّر عنكم سيئاتِكم ونُدخلكم مدخلاً كريماً )) [النساء:31 ].
فكيف نسقط اعتبار المسلم بمجرد الوقوع فيما اختلف فيه من الأمور: أهو حرام أم حلال؟ ولم يعلم تحريماً يقيناً من دين الله؟ أو ترك ما اختلف فيه: أهو واجب أم سنة؟ ولم نعلم فرضيته جزماً في شرع الله؟ ومن هنا أنكرت على بعض المتدينين تبنيهم بصفة دائمة ومطلقة لخط التشدد والتزمت، والتزام أشد الآراء تضييقاً، وأقربها إلى التعسير، وأبعدها عن السعة والتيسير، ولم يكفهم أن يلتزموا ذلك في أنفسهم، وإن أعنتهم وأحرجهم، بل أرادوا أن يلزموا بذلك سائر الناس، وأي عالم خرج عن هذا الخط، داعياً إلى التيسير، أو مفتياً بما هو أرفق لهم وبما يرفع الحرج عنهم، في ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها، وضع عندهم في قفص الاتهام!
يوسف القرضاوي
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد به بعلم وبصيرة، هو الخطوة الأولى في طريق العلاج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
ولا قيمة لأي بيان أو حكم ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، لا إلى الآراء المجردة، وقول فلان أو علان من النّاس، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: ((فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنتم تُؤمِنون باللهِ واليومِ الآخِرِ )) [النساء:59 ]، وقد اتفقت الأمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعني: الرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشباب المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا الاتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية الأشياء بغير أسمائها. وقديماً قيل: إن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة الرفض فضاق بهذا الاتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أنِّي رافِضي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة الرجعية الجمود التطرف التعصب ونحوها، أمر في غاية الأهمية، حتى لا تترك مادة هلامية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء. .
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم التطرف الديني لآراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً للأهواء التي لا تتناهى ((ولوْ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لفَسدتِ السماوات والأرض ومَنْ فيهن َّ)) [المؤمنون:71 ].
ا دلائل التطرف ومظاهره؟
1-التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر:
إن أولى دلائل التطرف: هي التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً.
ونحن هنا ننكر على صاحب هذا الاتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إنما ننكر عليه حقاً، إذا أنكر الآراء المخالفة ووجهات النظر الأخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضلال، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبياً معصوماً، ومن قوله وحياً يوحى! مع أن سلف الأمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلاّ النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجيب أن من هؤلاء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعوص المسائل، وأغمض القضايا، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي، وافق فيه أو خالف، ولكنه لا يجيز لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله، هي غاية في العجب، لا يبالي أن يشذ فيها عن كافة السابقين واللاحقين، والمحدثين والمعاصرين، لأن رأسه برأس أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عبَّاس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال! وليته يعدي هذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه، من لا يرى رأيه، ولا يتبع نهجه من أهل العلم، بيد أنه لا يتعدى نفسه، وكل الصيد في جوف الفرا!
فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هو الذي نراه من دلائل التطرف حقاً، فالمتطرف كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقي أن أقود.. ومن واجبك أن تتبع.. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب.. وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبداً، لأن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، لا تقترب من أحدهما إلا بمقدار ما تبتعد من الآخر.
ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة، والعصا الغليظة هنا قد لا تكون من حديد ولا خشب، فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين، أو بالكفر والمروق - والعياذ بالله - فهذا الإرهاب الفكري أشد تخويفاً وتهديداً من الإرهاب الحسي.
2- ومن مظاهر التطرف الديني: التزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام الآخرين به، حيث لم يلزمهم الله به، إذ لا مانع أن يأخذ المرء لنفسه بالأشد في بعض المسائل، وبالأثقل في بعض الأحوال، تورعاً واحتياطاً، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائماً وفي كل حال، بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة فيرفضها، مع قوله صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا وقوله: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته وقوله تعالى: ((يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر )) [البقرة: 158 ]، و ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما ً.
وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم،والعنت في دنياهم، مع أن أبرز أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب الأقدمين، أنه ((يُحِلّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )) [الأعراف:156 ].
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر أو تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال، وقال: إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء [رواه البخاري ].
وعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمّ بالنّاس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة .
وقال لمعاذ لما أطال الصلاة بالقوم: أفتَّان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثا ً.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه [رواه البخاري ].
ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات كأنها محرمات، والمفروض ألاّ نلزم الناس إلاّ بما ألزمهم الله تعالى به جزماً، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا.
وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح، في قصة ذلك الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عما عليه من فرائض، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ، وبصوم رمضان، فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال لا، إلاّ أن تطوع، فلما أدبر الرجل قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق .
ولطالما قلت: إن بحسبنا من المسلم في هذا العصر أن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لنعتبره في صف الإسلام وأنصاره، ما دام ولاؤه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن ألمّ ببعض الصغائر من المحرمات، فعنده من الحسنات مثل: الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وغيرها، ما يكفر عنه هذه الصغائر ((إنّ الحسناتِ يُذْهِبن السيِّئات )) [هود:114]، ((إنْ تجتنبوا كبائِر ما تُنهون عنْه نُكفِّر عنكم سيئاتِكم ونُدخلكم مدخلاً كريماً )) [النساء:31 ].
فكيف نسقط اعتبار المسلم بمجرد الوقوع فيما اختلف فيه من الأمور: أهو حرام أم حلال؟ ولم يعلم تحريماً يقيناً من دين الله؟ أو ترك ما اختلف فيه: أهو واجب أم سنة؟ ولم نعلم فرضيته جزماً في شرع الله؟ ومن هنا أنكرت على بعض المتدينين تبنيهم بصفة دائمة ومطلقة لخط التشدد والتزمت، والتزام أشد الآراء تضييقاً، وأقربها إلى التعسير، وأبعدها عن السعة والتيسير، ولم يكفهم أن يلتزموا ذلك في أنفسهم، وإن أعنتهم وأحرجهم، بل أرادوا أن يلزموا بذلك سائر الناس، وأي عالم خرج عن هذا الخط، داعياً إلى التيسير، أو مفتياً بما هو أرفق لهم وبما يرفع الحرج عنهم، في ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها، وضع عندهم في قفص الاتهام!
يوسف القرضاوي