المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هرطقات (6) الليلة التي بكى فيها القمر ( قصة قصيرة )


عبدالله بن حواف
2011-08-20, 01:25
بقلم / عبدالله بن حواف **

كنت قد أنتقلت حديثاً لتلك الشقة التي أسكن بها حالياً ، و لا بد أنك تعلم ذلك الشعور ( بالكركبة ) عندما تنتقل لمسكن جديد خاصة عندما تحتاج لشيء ما من أغراضك فلا تستطيع الوصول إليه بسهولة ، لضياعه في مجموعة صناديق الكرتون التي حزمت بها أغراضك من مسكنك القديم ، و لن احدثك عن الأثاث الذي ( يتوزع بشكل يكاد يكون عشوائي في أرجاء الشقة ، في الحقيقة ، عندما أنتقلت حديثاً لهذا المسكن كنت حريصاً على أن ابدء بتوضيب غرفة المكتب ، فهي بالنسبة لي من أهم الغرف التي اقضي فيها معظم وقتي ، ثم أن مهمة توضيبها ليست سهلة خاصة اذا علمت أنني أمتلك مكتبة تحتوي على آلاف الكتب ، و لم يكن أختيار الغرفة التي جعلت منها غرفة مكتبي عشوائية ، فقد أخترت غرفة تطل على البحر مباشرة بها شباك واسع يتوسط حائط الغرفة الشمالي ، لا أعلم الساعات و الأيام التي قضيتها و أنا أوضب الكتب على رفوف المكتبة و أزيح الطاولات و الكراسي و ما إلى ذلك ، حتى اصبحت غرفة مكتبي شبه جاهزة تقريباً .
في الواقع أن الشقة التي أنتقلت إليها ، رائعة بحق ، وكم حلمت بالسكنى في شقة مماثلة منذ زمن بعيد ، فقد كنت سعيداً لدرجة كبيرة ، خاصة أن واجهة الشقة الشمالية ذات أطلالة بحرية ، تطل مباشرة على شاطئ البحر الذي لا يبعد عن البناية سوى خمسون متراً تقريباً ، كما أن المنطقة التي تقع فيها البناية ككل ، تتمتع بهدوء عجيب ، فلا تكاد تسمع أصوات السكان ، ما عدا أصوات صرير أبواب الشقق المجاورة و أصوات حركة الاثاث المنبعثة من الدور العلوي أو السفلي أحياناً ، آه .. نسيت أن اقول أن شقتي كانت تقع في الدور الثامن و الأخير لهذه البناية .
بعد أن أصبحت غرفة مكتبي جاهزة كما كنت أقول .. جلست تلك الليلة على طاولة مكتبي و فتحت النافذة ، و شعرت بالهواء الساخن يلفح وجهي ، و يجعل بعض الأوراق المبعثرة على طاولت المكتب تتطاير لولا أنني ثبتها عن طريق وضع أشياء ثقيلة عليها ، كحاوية الأقلام ، و مجسم الكرة الارضية و خريطة العالم ..... الخ ، جلست بهدوء أتناول قدحاً كبيراً من شاي الليمون ، أرتشف منه بين الفينة و الأخرى ، مستمتعاً بالمشهد الرائع من خلال النافذة ،،
كان المشهد يوحي بشعور غريب و جميل في نفس الوقت ، و كأني كنت جالساً وحدي في تلك البقعة من العالم ، و كان صوت الهواء هو الشيء الوحيد الذي تمكنت من سماعه ، أثر مروره من فتحات و زوايا النافذة ليصدر ذلك الصوت المعروف ، لم تكن سرعة الهواء عالية ، إلا أنها كانت كافية لتحمل الاشياء الخفيفة كالأوراق و ما شابهها على التطاير و التمايل بفعل قوته .
كان قرابة الاسبوعين مرا سريعاً منذ أنتقالي لمسكني الجديد ، أنتهيت فيها من توضيب كافة الأثاث و كل شيء أخر ، حتى أنني وقفت عند وضع أخر قطعة في مكانها المناسب ، أمسح العرق عن جبهتي ، و شعرت بشيء من الزهو لأتمامي العمل الصعب ، الآن أصبح كل شيء في مكانه ، و أصبحت الشقة مثالية في نظري على الأقل ، لم تكن أي غرفة من الغرف الثلاث وهو عدد غرف شقتي تملك أطلالة بحرية سوى تلك الغرفة التي أتخذت منها مكتباً لي .
و أصبح وقت جلوسي في المساء ، على طاولة المكتب أتناول فيه قدح الشاي بالليمون من الطقوس المقدسة بالنسبة لي ، و لكم كنت أحزن عندما كان الطقس يصبح سيئاً مما يمنعني من فتح النافذة و الأستمتاع بالمشهد و ممارسة تلك الحالة الشعورية التي أحبها كثيراً ،،
لقد تعمدت أن تكون طاولة المكتب مواجهة لحائط الغرفة الشرقي بحيث تكون بجانب النافذة و تكون النافذة على يميني ، و حيث أن الكرسي الذي أجلس عليه من تلك الكراسي التي يمكنها الدوران 180 درجة فقد ، كنت أجلس و ألتف بالكرسي لأقابل النافذة مباشرة و أتكيء بذراعي اليسرى على طاولة المكتب ،، لو كنت مكاني ربما كنت ستعدل الوضع بشكل تراه أنت أفضل ، لكن ذلك الوضع هو ماكنت أراه مناسباً لي .
و في ذات مساء ، كنت أجلس في غرفة مكتبي ، للقرأة و الأطلاع و البحث في الكتب ، و عندما كنت أفقد التركيز أو أشعر بالتعب ، ألتف بالكرسي مواجهاً النافذة ، لأستمتع بلفحة هواء منعشة ، و منظر البحر المهيب ، كانت تلك الليلة قد بدا فيها القمر مكتملاً و بدا و كأنه قريب لدرجة كاد معها أن يلامس سطح مياه البحر ، مع أنعكاس ضوء القمر على سطح الماء بشكل متموج بفعل حركة المد و الجزر ، و زادت رائحة مياه البحر التي حملها الهواء إليّ من هيبة وروعة المشهد ، كان المشهد آخاذاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، شعرت أنني لو مدتت يدي خارج النافذة سأتمكن من لمس القمر بأطراف أصابعي ، و بينما كنت معلقاً بصري في تلك اللوحة الرائعة ، أنتبهت إلى رجل ما ، كان يجلس على شاطئ البحر ، كان بأمكاني أن أراه بوضوح بفعل ضوء القمر ، حيث أن المنطقة كانت شديدة الظلمة في الأيام التي لا يكون فيها القمر بادياً ، علقت بصري لدقيقة كاملة على هذا الرجل - كان يجلس بلا حركة تذكر تقريباً ، كان يجلس على رمال الشاطيء قريباً من البحر ، ضاماً ركبته إلى صدره ، يدفن رأسه بين ركبتيه حيناً ، و يرفعها حينا ، و ربما كانت هذه هي الحركة الوحيدة التي بدرت منه خلال جلوسه هناك ، لمدة تجاوزت الثلاث ساعات أو يزيد ،
لم أكن اعلم من هو هذا الرجل ، و لا أدري أن كنت قد ألتقيت هذا الشخص مسبقاً ، و لا اعتقد ذلك ، لم يكن من الممكن أن أرى ملامحه بوضوح ، رغم أنني حاولت ، أذ أنني نهضت و مدتت رأسي خارج النافذة و أنا أمعن النظر فيه ، و لكن كان من الصعب جداً أن أحدد معه ملامحه ، مع أن المسافة لم تكن بذلك البعد الكبير ، و لكن بسبب الأضاءة ربما و لأنه كان يجلس في مكان مضلم بعض الشيء على الشاطئ فقد زاد ذلك كله من صعوبة الأمر .
الشيء الوحيد الذي كان يمكنني أن أحدده ، أن الرجل لم يكن يجلس في ذلك المكان لأنه جاء للأستمتاع بالمشهد ، و بدا واضحاً أنه كان حزيناً ، من طريقة جلوسه تلك ، و دفن وجهه و رأسه بين ركبتيه المضمومتين إلى صدره و هو يحيط بهما ذراعيه المتشابكين ، و لا أدري لماذا أفترضت او توهمت أنه كان يبكي ،، أعتقد أنه كان يبكي ،، لكنني لست متأكداً ، و لا أعلم لماذا راودتني فكرة النزول و التوجه لمكان ذلك الشخص ، فقد كاد الفضول يقتلني ، اردت ان أعرف ما حكايته ، و ما الذي يجعله يبدو حزيناً هكذا ، ربما توفي أحد أحبائه أو أقربائه ، ربما علم خبراً ما أحزنه لتلك الدرجة ، ربما جلس للتفكير و التأمل و أن أفتراض حزنه و بكائه هما من وحي خيالي الذي ساعدت لتعزيزه طريقة جلوس الرجل في ذلك المكان ، حقاً .. ألتهمني الفضول ، حتى أنه فضولي الشديد قتل لحظة استمتاعي بالمشهد الرائع الذي تطل عليه نافذتي ، و لأكثر من ثلاث ساعات جلس الرجل هناك ، و جلست أنظر إليه و لم أشح عنه بصري لحظة واحدة .
فجأة ، نهض الرجل واقفاً على قدميه ، و نفض يديه و ملابسه عدة مرات ، ثم عدل هندامه ، و مشى الرجل مبتعداً ، و ظللت أتابعه بنظري حتى توارى بعيداً .
و لم أعلم أن كان ذلك الرجل كان حزيناً ، أو أن كان قد بكى ، أو ما سبب جلوسه هناك ،، كما لم يعلم هو أنني كنت أراقبه خلال جلوسه هناك فكان المشهد صامتاً ، و هادئاً أكثر من اللازم .
أنتبهت إلى المشهد الذي لم يتغير منه شيء سوى خلو الرجل منه ، و نظرت إلى القمر ، و كأنني هممت بسؤاله عن حال ذلك الرجل ، و لا أدرى لما خيّل لي ّ أن القمر كان يبكي حينها ..
و لم أرى ذلك الرجل بعدها ثانية .




** شاعر و كاتب و باحث في التاريخ و التراث
متخصص في الأدب الأنجليزي و اللغة .

الجزائرية 2010
2011-08-20, 02:17
جزاك اله خيرا
شكرا لك.

ع.جمال
2011-08-20, 02:28
السلام عليكم
مزج جميل بين مشهدين مختلفين بعبارات متناسقة وجميلة أوصلت الفكرة وبارك الله فيك.

عبدالله بن حواف
2011-08-22, 01:18
الجزائرية 2010
شكراً ، أسعدني مرورك و أطلاعك

عبدالله بن حواف
2011-08-22, 01:20
ع.جمال
لك مني الشكر الجزيل ،
على نبلك و أهتمامك
بوركت