مشاهدة النسخة كاملة : شرح متن العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
ليتيم الشافعي
2008-10-17, 16:08
شَرْحُ
العـَقِيـدَةِ الـوَاسِطِـيَّةِ
لشيخِ الإسلام
أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيميَّة رحمه الله
متن العقيدة
http://djelfa.info/vb/showthread.php?goto=newpost&t=67334
الشرح : لفضيلة الشيخ محمد خليل هرَّاس
ترجمة موجزة للشيخ محمد خليل هرَّاس
- هو العلاَّمة، السلفيُّ، المحقِّق، محمد خليل هرَّاس.
- من محافظة الغربيَّة بجمهورية مصر العربية.
- ولد بطنطا عام (1916م)، وتخرَّج من الأزهر في الأربعينات من كلية أصول الدين، وحاز على الشهادة العالمية العالية (الدكتوراه) في التوحيد والمنطق.
- عمل أستاذًا بكلِّيَّة أصول الدين في جامعة الأزهر.
- أُعير إلى المملكة العربية السعودية، ودرَّس في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالرياض، ثمّ أُعير مرَّةً أخرى، وأصبح رئيسًا لشعبة العقيدة في قسم الدِّراسات العليا في (كلية الشريعة سابقًا / جامعة أم القرى حاليًا) بمكة المكرمة.
- عاد إلى مصر، وشغل منصب نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة النبوية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة.
- وفي عام (1973م) ـ قبل وفاته بسنتين ـ اشترك مع الدكتور عبد الفتاح سلامة في تأسيس جماعة الدعوة الإسلامية في محافظة الغربية، وكان أول رئيس لها.
- توفي رحمه الله تعالى عام (1975م) عن عُمر يناهز الستين.
.- كان رحمه الله سلفي المعتقد، شديدًا في الحقّ، قويّ الحجّة والبيان، أفنى حياته في التعليم والتأليف ونشر السنة وعقيدة أهل السنة والجماعة.
- له مؤلفات عدة؛ منها:
1- تحقيق كتاب ((المغني)) لابن قدامة، وقد طُبع لأول مرة في مطبعة الإمام بمصر.
2- تحقيق وتعليق على كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة.
3- تحقيق وتعليق على كتاب ((الأموال)) لأبي عُبيد القاسم بن سلام.
4- تحقيق ونقد كتاب ((الخصائص الكبرى)) للسيوطي.
5- تحقيق وتعليق على كتاب ((السيرة النبوية)) لابن هشام.
6- شرح ((القصيدة النونية)) لابن القيم في مجلّدين.
7- تأليف كتاب ((ابن تيمية ونقده لمسالك المتكلمين في مسائل الإلهيات)).
8- شرح ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية رحمه الله.
يتبع إن شاء الله.
ليتيم الشافعي
2008-10-17, 16:37
قول ابن تيمية : ( أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة: أهل السنة والجماعة.)
قال الشيخ محمد بن عثيمين في شرحه. علم
من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلاً والماتريدية لا يُعَدُّون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيُّون، وأشعريُّون، وماتريديُّون، فهذا خطأ؛ نقول: كيف يكون الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنَّةٍ وكلُّ واحدٍ منهُم يردُّ على الآخر، هذا لا يمكن؛ إلا إذا أمكن الجمع بين الضِّدين؛ فنعم! وإلا؛ فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية أم الماتريدية أم السلفية؟ نقول مَن وافق السنَّة؛ فهو صاحب السنة، ومَن خالف السنة؛ فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا، والكلمات تعتبر بمعانيها، لننظر كيف نسمي من خالف السنة أهل سنة؟ لا يمكن! وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة، إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ ..............
/ش/ ((أما بعد)): كلمة يُؤتَى بها للدِّلالة على الشروع في المقصود، وكان النبي e يستعملها كثيرًا في خطبه وكتبه، وتقديرها عند النحويِّين: مهما يكن من شيء بعد.
والإشارة بقولـه:((هذا)) إلى ما تضمَّنه هذا المُؤلَّفُ من العقائد الإيمانية التي أجملها في قوله: ((وهو الإيمان بالله…)).
والاعتقاد: مصدر اعتقد كذا؛ إذا اتَّخَذه عقيدة له؛ بمعنى عقد عليه الضمير والقلب، ودان لله به، وأصله من (عقد الحبل)، ثم استُعْمل في التصميم والاعتقاد الجازم.
((الفرقة)) ـ بكسر الفاء ـ الطائفة من الناس.
ووصفها بأنها ((الناجية المنصورة)) أخذًا من قوله - عليه السلام -:
((لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي على الحقِّ منصورةً، لا يضرُّهم من خَذلهم، حتى يأتي أمر الله))رواه البخاري. ومن قوله في الحديث الآخر.
((ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً: كلهم في النّار إلى واحدة، وهي مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحاب )رواه الترمذي.
وقوله:((أهل السنة والجماعة))؛ بدل من الفرقة.
والمراد بالسنة: الطريقة التي كان عليها رسول اللهوأصحابه قبل ظهور البدع والمقالات.
والجماعة في الأصل: القوم المجتمعون، والمراد بهم هنا سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله تعالى وسنة رسوله.
يتبع
الماسة الزرقاء
2008-10-17, 18:30
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
جزاك الله خير الجزاء على هذا النقل القيم
واصل بارك الله فيك
ليتيم الشافعي
2008-10-18, 09:07
قول ابن تيمية رحمه الله
(وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ).
/ش/: هذه الأمور الستة هي أركان الإيمان، فلا يتمُّ إيمانُ أحدٍ إلا إذا آمن بها جميعًا على الوجه الصحيح الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، فمَنْ جَحَدَ شيئًا منها أو آمن به على غير هذا الوجه؛ فقد كفر.
وقد ذُكِرَت كلها في حديث جبريل المشهور، حين جاء إلى النبئ فى صورة أعرابي يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان؟ فقال:
((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه, ورسله، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره))( صحيح) ؛ حلوه ومره من الله تعالى.
والملائكة: جمع مَلَك، وأصله مألك؛ من الألوكة، وهي الرسالة، وهم نوعٌ من خلق الله عز وجل، أسكنهم سماواته، ووكلهم بشؤون خلقه, ووصفهم في كتابه بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم يسبِّحون له بالليل والنهار لا يفترون.
فيجب علينا الإيمان بما ورد في حقهم من صفات وأعمال في الكتاب والسنَّة، والإمساك عمَّا وراء ذلك؛ فإن هذا من شؤون الغيب التي لا نعلم منها إلا ما علَّمنا الله ورسوله.
والكتب:جمع كتاب، وهو مِن الكَتْب؛ بمعنى: الجمع والضم، والمراد بها الكتب المنزَّلة من السماء على الرسل عليهم الصلاة والسلام.
والمعلوم لنا منها: صحف إبراهيم، والتوراة التي أُنزلت على موسى في الألواح، والإنجيل الذي أُنزل على عيسى، والزَّبور الذي أُنزل على داود، والقرآن الكريم الذي هو آخرها نزولاً، وهو المصدِّق لها، والمهيمن عليها، وما عداها يجب الإيمان به إجمالاً.
والرسل: جمع رسول، وقد تقدم أنه من أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه.
وعلينا أن نؤمن تفصيلاً بمَن سمَّى الله في كتابه منهم، وهم خمسة وعشرون،
وأما مَن عدا هؤلاء المذكورين فى القرءان من الرسل والأنبياء؛ فنؤمن بهم إجمالاً على معنى الاعتقاد بنبوَّتِهم ورسالتهم، دون أن نكلِّف أنفسنا البحث عن عدتهم وأسمائهم، فإن ذلك مما اختصَّ الله بعلمه؛ قال تعالى:
(وَرُسُلاًقَدْقَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاًلَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)النساء
ويجب الإيمان بأنهم بلَّغوا جميعَ ما أُرسلوا به على ما أمرهم الله عز وجل، وبيَّنوه بيانًا لا يسع أحدًا ممَّن أُرسلوا إليه جهله، وأنهم معصومون من الكذب والخيانة، والكتمان والبلادة.
وأن أفضلهم أولو العزم، والمشهور أنهم: محمد، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح؛ لأنهم ذُكروا معًا في قوله تعالى:
(وَإِذْأَخَذْنَامِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ( الأحزاب وقوله: )شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَاوَصَّى بِهِ نُوحًاوَالَّذِي أَوْحَيْنَاإِلَيْكَ وَمَاوَصَّيْنَابِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواالدِّينَ وَلاتَتَفَرَّقُوافِيه) الشورى
و((البعث)) في الأصل: الإثارة والتحريك ، والمـراد به في لسـان الشرع: إخراج الموتى من قبورهم أحياء يوم القيامة؛ لفصل القضاء بينهم، فمن يعمل مثقال ذرَّة خيرًا يره، ومَن يعمل مثقال ذرَّةٍ شرًّا يره.
ويجب الإيمان بالبعث على الصفة التي بيَّنها الله في كتابه،وهو أنه جمعُ ما تحلَّل من أجزاء الأجساد التي كانت في الدنيا، وإنشاؤها خلقًا جديدًا، وإعادةُ الحياة إليها.
ومنكر البعث الجسماني ـ كالفلاسفة والنصارى ـ كافر، وأمّا مَن أقرَّ به ولكنه زعم أن الله يبعث الأرواح في أجسامٍ غير الأجسام التي كانت في الدنيا؛ فهو مبتدعٌ وفاسقٌ.
وأما ((القدر))؛ فهو في الأصل، مصدر تقول: قدرتُ الشيء - بفتح الدال وتخفيفها - أقْدِرُهُ - بكسرها - قَدْرًا وقَدَرًا؛ إذا أحطتَ بمقداره.
والمراد به في لسان الشرع أن الله عز وجل علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وفق ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح قبل إحداثها؛ كما في الحديث:
((أول ما خلق الله القلم، فقال لـه: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن))(صحيح) وقال تعالى: )مَاأَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍفِي الأَرْضِ وَلافِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّفِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا(( الحديد (http://djelfa.info/vb/#_ftn2).
يتبع
أبو مسلم
2008-10-18, 16:22
بارك الله فيك الاخ شافعي وتفبل مني هذه الإ ضافة
ثناء العلماء على الكتاب:
قال الإمام الذهبي (ت748) ـ رحمه الله ـ كما فـي « العقود الدرية » (ص212)، و« الكواكب الدرية » للشيخ مرعي الحنبلي (ص125) : «ثم وقع الاتفاق على أن هذا المعتقد سلفي جيد».
وقال الإمام ابن رجب (ت 795) ـ رحمه الله ـ عن «العقيدة الواسطية » كما في مقدمة كتاب « التنبيهات اللطيفة » (ص13) : « جمعت على اختصارها ووضوحها جميع ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان وعقائده الصحيحة ».
وقال الشيخ محمد خليل هراس (ت1395) ـ رحمه الله ـ في «شرح العقيدة الواسطية» (ص3) : « العقيدة الواسطية » لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من أجمع ما كتب فـي عقيدة أهل السنة والجماعة، مع اختصار فـي اللفظة ودقة فـي العبارة ».
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن هذا الكتاب فـي « فتاويها » (2/165): « أما كتاب « العقيدة الواسطية » فهو كتاب جليل مشتمل على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة بالأدلة من الكتاب والسنة ، فنوصيك باعتقاد ما فيه والدعوة إلى ذلك ».
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في « مجموع فتاوى ومقالات متنوعة » (7/179) : « أوصي طلبة العلم فـي ابتداء طلبهم أن يحفظوا كتاب الله عـز وجل أو ما تيسر منه، وأن يحفظوا «كتاب التوحيد »، و « كشف الشبهات »، و « ثلاثة الأصول »، و«العقيدة الواسطية » فهي مختصرة فـي بيان التوحيد بأقسامه الثلاثة، والعقيدة السلفية، وهذه هي العقيدة التي دعا إليها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، وهي عقيدة السلف».
وقال الشيخ محمد العثيمين ـ رحمه الله - فـي « كتاب العلم » (ص171): «من أحسن ما يكون فـي العقيدة كتاب «العقيدة الواسطية » لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فهو زبدة مختصرة فـي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي تحتاج إلى شرح، ويحتاج المبتدئ إلى من يشرحها له ».
فائدة: سُميت بـ « الواسطية » لأن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ سأله رجلٌ من أهل « واسط » فنسبت إليه، وقيل لأنها وسطٌ بين مذاهب أهل الضلال فـي الأسماء والصفات، والأرجح القول الأول.*
ليتيم الشافعي
2008-10-19, 09:05
قول شيخ الإسلام ابن تيمية:(وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ).
/ش/ وقولـه: ((ومن الإيمان بالله… إلخ)): هذا شروعٌ في التفصيل بعد الإجمال، و(من) هنا للتبعيض، والمعنى ومن جملة إيمان أهل السنة والجماعة
بالأصل الأول الذي هو أعظم الأصول وأساسها، وهو الإيمان بالله: أنهم يؤمنون بما وصف به نفسه… إلخ.
وقولـه: ((من غير تحريف)) متعلِّقٌ بالإيمان قبله؛ يعني أنهم يؤمنون بالصفات الإلهية على هذا الوجه الخالي من كل هذه المعاني الباطلة؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والتحريف في الأصل مأخوذ من قولهم: حرفتُ الشيء عن وجهه حرفًا، من باب ضرب؛ إذا أملته وغيرته، والتشديد للمبالغة.
وتحريف الكلام: إمالته عن المعنى المتبادر منه إلى معنى آخر لا يدلُّ عليه اللفظ إلا باحتمال مرجوحٍ، فلا بد فيه من قرينةٍ تبيِّن أنه المراد([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
وأما التعطيل؛ فهو مأخوذ من العطل، الذي هو الخلوُّ والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى:
(وَبِئْرٍمُّعَطَّلَة)([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2)).
أي: أهملها أهلها، وتركوا وِرْدها.
والمراد به هنا نفي الصفات الإلهية، وإنكار قيامها بذاته تعالى([3] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn3)).
([1]) والتحريف يكون في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ؛ فمثاله نصب اسم الجلالة بدل رفعه في قوله تعالى : )وَكَلَّمَاللَّهُمُوسَى تَكْلِيمً(، وأما في المعنى؛ فمثاله قولهم: )اسْتَوَى(؛ أي: استولى، ويده؛ أي: قدرته.
([2]) الحج: (45).
([3]) التعطيل قسمان: كلي؛ كما فعل نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، وجزئي كما فعل الأشاعرة الذين يثبتون سبع صفات فقط، وينفون الباقي
................. .
فالفرق بين التحريف والتعطيل: أن التعطيل نفيٌ للمعنى الحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وأمّا التحريف؛ فهو تفسير النصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدلُّ عليها.
والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فإن التعطيل أعمُّ مطلقًا من التحريف؛ بمعنى أنه كلما وجد التحريف؛ وجد التعطيل؛ دون العكس، وبذلك يوجدان معًا فيمن أثبت المعنى الباطل ونفى المعنى الحق، ويوجد التعطيل بدون التحريف فيمن نفي الصفات الواردة في الكتاب والسنة، وزعم أن ظاهرها غير مرادها، ولكنه لم يُعَيِّن لها معنًى آخر، وهو ما يسمونه بالتفويض.
ومن الخطأ القول بأن هذا هو مذهب السَّلف؛ كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من الأشاعرة(وسيأتى التعريف بهم ) وغيرهم، فإن السلف لم يكونوا يفوِّضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرؤون كلامًا لا يفهمون معناه؛ بل كانوا يفهمون معاني النصوص من الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل، ثم يفوِّضون
فيما وراء ذلك من كُنْهِ الصفات أو كيفيَّاتها([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1))؛ كما قال مالك حين سُئِلَ عن كيفية استوائه تعالى على العرش:
((الاستواء معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ))([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2)).
([1]) المفوِّضة: هم الذين يُثْبِتُون الصفات، ويفوِّضون علم معانيها إلى الله.
وأهل السنّة والجماعة يُثْبِتُون الصفات وعلم معانيها، ويفوِّضون علم كيفيتها إلى الله تعالى.
ومَن قال: أنا أثبت الصفات وأفوِّضُ علمها إلى الله؛ قلنا لـه: ماذا تعني بعلمها؟ علم المعنى؟ أم علم الكيفية؟
( 2) ذكره البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (515) عن الإمام مالك بإسناد جوَّده الحافظ في ((الفتح)) (13/407).
وورد عن ربيعة الرأي، شيخ مالك. ذكره: البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص516)، واللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (3/398).
وورد أيضًا عن أم سلمة مرفوعًا وموقوفًا.
ولكن قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/365):
((وقد رُوِيَ هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يُعْتَمَدُ عليه)).
وأما قوله: ((ومن غير تكييف ولا تمثيل))؛ فالفرق بينهما أن التكييف أن يعتقد أن صفاته تعالى على كيفية كذا،أو يسأل عنها بكيف.
وأما التمثيل؛ فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.
وليس المراد من قوله: ((من غير تكييف)) أنهم ينفون الكيف مطلقًا؛ فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف؛ إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه.
. يتبع.
ليتيم الشافعي
2008-10-20, 09:11
قول الشيخ ابن تيمية رحمه الله: بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَالسَّمِيعُ البَصِيرُ)
/ش/ قوله:لَيْسَ كَمِثْلِه(؛ هذه الآية المحكمة من كتاب الله عز وجل هي دستورأهل السنة والجماعة في باب الصفات، فإن الله عز وجل قد جمع فيها بين النفي والإثبات، فنفى عن نفسه المثل، وأثبت لنفسه سمعًا وبصرًا، فدلَّ هذا على أن المذهب الحق ليس هو نفي الصفات مطلقًا؛ كما هو شأن المعطِّلة، ولا إثباتها مطلقًا؛ كما هو شأن الممثِّلة؛ بل إثباتها بلا تمثيل.
وقد اختُلِفَ في إعراب : )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( على وجوه ؛ أصحُّها: أن الكافَ صلةٌ زيدَت للتأكيد؛ كما في قول الشاعر:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ
خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ
قول الشيخ ابن تيمية رحمه الله : (فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ).
/ش/وقوله:((فلا يَنْفونَ عنه..إلخ)) تفريعٌ على ما قبله؛ فإنهم إذا كانوا يؤمنون بالله على هذا الوجه ؛ فلا ينفون ولا يحرِّفونَ ، ولا يكيِّفون ولا يمثِّلُون.
والمواضع: جمع موضع، والمراد بها المعاني التي يجب تنزيل الكلام عليها؛ لأنها هي المتبادرة منه عند الإطلاق، فهم لا يعدِلون به عنها.
وأما قولـه: ((ولا يُلْحِدون في أسماء الله وآياته))؛ فقد قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله:
((والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها؛ مأخوذٌ من الميل؛ كما يدل عليه مادة (ل ح د)، فمنه اللحد، وهو الشق في جانب القبر، الذي قد مال عن الوسط، ومنه المُلْحِد في الدين: المائل عن الحق، المُدْخِل فيه ما ليس منه)). اهـ
فالإلحاد فيها إما أن يكون بجحدها وإنكارها بالكليَّة، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الفاسدة، وإما بجعلها أسماء لبعض المُبتَدَعات؛ كإلحاد أهل الاتحاد.
وخلاصة ما تقدم:
أن السلف رضي الله عنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، وبكل ما أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم إيمانًا سالمًا من التحريف والتعطيل، ومن التكييف والتمثيل، ويجعلون الكلام في ذات الباري وصفاته بابًا واحدًا؛ فإن الكلام في الصفات فرعُ الكلام في الذات، يُحْتَذَى فيه حَذْوُه، فإذا كان إثبات الذات إثباتَ وجودٍ لا إثبات تكييف؛ فكذلك إثبات الصفات.
وقد يعبِّرون عن ذلك بقولهم: ((تُمَرُّ كَما جاءت بلا تأويل))، ومَن لم يفهم كلامهم؛ ظنَّ أنّ غرضهم بهذه العبارة هو قراءة اللفظ دون التعرُّض للمعنى، وهو باطل، فإن المراد بالتأويل المنفي هنا هو حقيقة المعنى وكنهه وكيفيته([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
.................................................. .....
([1]) ومما يؤيِّد ذلك أنهم كانوا يقولون أحيانًا: ((تُمَرُّ كما جاءت؛ بلا كيف))، وما كانوا يقولون: ((تُمَرُّ كما جاءت بلا معنى))، فعُلِمَ من ذلك أنهم يُثْبِتُون المعنى، وينفون الكيف.
والشارح يعني بقولـه: ((حقيقة المعنى))؛ أي: الكيفية؛ يفرق بين المعنى وحقيقة المعنى، فيثبتون المعنى وينفون حقيقته، وهي الكيفية.
قال الإمام أحمد رحمه الله:
((لا يوصَفُ الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتجاوز القرآن والحديث))([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
وقال نُعيم بن حمَّاد (شيخ البخاري):
((مَن شبَّه اللهَ بخلقه؛ كفر، ومَن جحد ما وصف الله به نفسه؛ كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهٌ ولا تمثيلٌ))([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2)).
..................................................
([1]) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/26).
([2]) أورده الذهبي بإسناده في كتاب ((العلو))، وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص184):
((وهذا إسنادٌ صحيحٌ)). اهـ
ونُعَيم بن حماد: هو أبو عبد لله نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخُزاعي المروزي، قال الخطيب: ((يقال إنه أوَّل من جمع المسند في الحديث)). وهو أعلم الناس بالفرائض، كان شديد الرد على الجهمية وأهل الأهواء، توفي سنة (228هـ).
ليتيم الشافعي
2008-10-21, 12:33
قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ
/ش/ قوله:((لأنه سبحانه لا سمي لـه… إلخ))؛ تعليل لقوله فيما تقدم إخبارًا عن أهل السنة والجماعة: ((لا يكيِّفون ولا يمثِّلون)).
ومعنى : (( لا سميَّ لـه )) أي : لا نظير لـه يستحقُّ مثل اسمه ، أو لا مسامِيَ له يساميه، وقد دلَّ على نفيه قوله تعالى في سورة مريم:
)ِهَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
فإن الاستفهام هنا إنكاريٌّ، معناه النفي.
وليس المراد من نفي السميِّ أن غيره لا يسمَّى بمثل أسمائه، فإن هناك أسماء مشتركة بينه وبين خلقه، ولكنَّ المقصود أن هذه الأسماء إذا سمِّي الله بها؛ كان معناها مختصًّا به لا يَشْرَكُهُ فيه غيره، فإن الاشتراك إنما هو في مفهوم الاسم الكلِّي، وهذا لا وجود لـه إلاَّ في الذهن، وأما في الخارج؛ فلا يكون المعنى إلا جزئيًّا مختصًّا، وذلك بحسب ما يضاف إليه، فإن أضيف إلى الرَّبِّ؛ كان مختصًّا به، لا يشاركه فيه العبد، وإن أضيف إلى العبد كان مختصًّا به لا يشاركه فيه الرب.
وأما الكفء؛ فهو المكافئ المساوي، وقد دلَّ على نفيه قوله تعالى:
)وَلَمْيَكُنلَّهُكُفُوًاأَحَدٌ (([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2)).
وأما النِّدُّ؛ فمعناه المساوي المناوئ؛ قال تعالى:
)فَلاَتَجْعَلُواْلِلّهِأَندَاداًوَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (([3] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn3)).
([1]) مريم: (65): (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَابَيْنَهُمَافَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْلِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)
([2]) الإخلاص: (4).
([3]) البقرة: (22).
(ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى).
/ش/ وأما قولـه(لا يُقاسُ بخلقه))؛ فالمقصود به أنه لا يجوز استعمال شيءٍ من الأقيسة التي تقتضي المماثلة والمساواة بين المَقِيس والمَقِيس عليه في الشؤون الإلهية.
وذلك مثل قياس التمثيل الذي يعرِّفه علماء الأصول بأنه إلحاق فرع بأصل في حكمٍ جامع؛ كإلحاق النبيذ بالخمر في الحرمة لاشتراكهما في علة الحكم، وهي الإسكار.
فقياس التمثيل مبنيٌّ على وجود مماثلة بين الفرع والأصل، والله عز وجلَّ لا يجوز أن يمثِّل بشيء من خلقه.
ومثل قياس الشمول المعروف عند المناطقة بأنه الاستدلال بكليٍّ على جزئيٍّ بواسطة اندراج ذلك الجزئي مع غيره تحت هذا الكُلِّي.
فهذا القياس مبنيٌّ على استواء الأفراد المُنْدَرِجة تحت هذا الكُلِّي، ولذلك يُحكَم على كل منها بما حُكِمَ به عليه. ومعلومٌ أنه لا مساواة بين الله عز وجل وبين شيء من خلقه.
وإنما يُستعمل في حقه تعالى قياس الأوْلى، ومضمونه أن كلَّ كمال ثبت للمخلوق وأمكن أن يتَّصف به الخالق؛ فالخالق أولى به من المخلوق، وكلَّ نقصٍ تَنَزَّهَ عنه المخلوق؛ فالخالق أحق بالتنزُّه عنه.
وكذلك قاعدة الكمال التي تقول: إنه إذا قُدِّر اثنان: أحدهما موصوف بصفة كمال، والآخر يمتنع عليه أن يتصف بتلك الصفة؛ كان الأول
أكمل من الثاني، فيجب إثبات مثل تلك الصفة لله ما دام وجودها كمالاً وعدمها نقصًا.
. يتبع .
ليتيم الشافعي
2008-10-25, 08:03
قول شيخ الإسلام :
.................................................. ........
(فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ [مُصَدَّقون] ؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ).
.................................................. .................................................. ................................................
/ش/ قوله: ((فإنه أعلم بنفسه وبغيره…)) إلى قوله:((… ثم رسله صادقون مصدوقون))؛ تعليلٌ لصحَّة مذهب السلف في الإيمان بجميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة؛ فإنه إذا كان الله عز وجل أعلم بنفسه وبغيره، وكان أصدق قولاً وأحسن حديثًا، وكان رسله عليهم الصلاة والسلام صادقين في كل ما يخبرون به عنه، معصومين من الكذب عليه والإخبار عنه بما يخالف الواقع؛ وجب التعويل إذًا في باب الصفات نفيًا وإثباتًا على ما قاله الله وقاله رسوله الذي هو أعلم خلقه به، وأن لا يُتْرك ذلك إلى قول مَن يفترون على الله الكذب ويقولون عليه ما لا يعلمون.
وبيان ذلك أن الكلام إنما تَقْصُر دلالته على المعاني المُرادة منه لأحد ثلاثة أسباب: إما لجهل المتكلم وعدم علمه بما يتكلَّم به، وإما لعدم فصاحته وقدرته على البيان، وإما لكذبه وغشه وتدليسه. ونصوص الكتاب والسنة بريئة من هذه الأمور الثلاثة من كل وجه، فكلام الله وكلام رسوله في
غاية الوضوح والبيان؛ كما أنه المثل الأعلى في الصدق والمطابقة للواقع؛ لصدوره عن كمال العلم بالنسب الخارجية، وهو كذلك صادر عن تمام النصح، والشفقة، والحرص على هداية الخلق وإرشادهم.
فقد اجتمعت له الأمور الثلاثة التي هي عناصر الدلالة والإفهام على أكمل وجه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بما يريد إخبارهم به، وهو أقدرهم على بيان ذلك والإفصاح عنه، وهو أحرصهم على هداية الخلق، وأشدُّهم إرادة لذلك، فلا يمكن أن يقع في كلامه شيء من النقص والقصور؛ بخلاف كلام غيره؛ فإنه لا يخلو من نقص في أحد هذه الأمور أو جميعها، فلا يصح أن يُعْدَلَ بكلامه كلام غيره؛ فضلاً عن أن يُعْدَلَ عنه إلى كلام غيره؛ فإن هذا هو غاية الضلال، ومنتهى الخذلان.
قول شيخ الإسلام:
...............................................
ا (وَلِهَذَا قَالَ: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِعَمَّايَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُرَبِّ الْعَالَمِينَ)
فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ).
.................................................. ....
/ش/ قولـه:((ولهذا قال… إلخ))؛ تعليلٌ لما تقدّم من كون كلام الله وكلام رسولـه أكمل صدقًا، وأتمُّ بيانًا ونصحًا، وأبعد عن العيوب والآفات من كلام كل أحد.
((سبحان))؛ اسم مصدر من التسبيح، الذي هو التنزيه والإبعاد عن السوء، وأصله من السبح، الذي هو السرعة والانطلاق والإبعاد، ومنه فرسٌ سبوح؛ إذا كانت شديدة العدو.
وإضافة الرب إلى العزة من إضافة الموصوف إلى صفته، وهو بدل من الرب قبله.
فهو سبحانه ينزِّه نفسه عما ينسبه إليه المشركون من اتخاذ الصَّاحبة والولد، وعن كل نقص وعيب، ثم يسلِّم على رسله عليهم الصلاة والسلام بعد ذلك؛ للإشارة إلى أنه كما يجب تنزيه الله عز وجل وإبعاده عن كل شائبة نقص وعيب، فيجب اعتقاد سلامة الرسل في أقوالهم وأفعالهم من كل عيب كذلك، فلا يكذبون على الله، ولا يشركون به، ولا يغشُّون أممهم، ولا يقولون على الله إلا الحق.
قوله:((والحمدُ لله رب العالمين))؛ ثناءٌ منه سبحانه على نفسه بماله من نعوت الكمال، وأوصاف الجلال، وحميد الفعال، وقد تقدم الكلام على معنى الحمد، فأغنى عن إعادته.
يتبع
ليتيم الشافعي
2008-10-28, 09:55
قول شيخ الإسلام:(وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ).
/ش/ لمَّا بيَّن فيما سبق أن أهل السنة والجماعة يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ولم يكن ذلك كله إثباتًا ولا كله نفيًا؛ نبَّه على ذلك بقوله:((وهو سبحانه قد جمع… إلخ)).
واعلم أنَّ كلاًّ من النفي والإثبات في الأسماء والصفات مجملٌ ومفصَّلٌ
أما الإجمال في النفي؛ فهو أن يُنفَى عن الله عز وجل كلُّ ما يضادُّ كمالـه من أنواع العيوب والنقائص؛ مثل قولـه تعالى:
)لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1))، )هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2))،)سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّايَصِفُونَ(([3] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn3)).
وأما التفصيل في النفي؛ فهو أن يُنَزَّهَ الله عن كل واحد من هذه العيوب والنقائص بخصوصه، فينَزَّهُ عن الوالد، والولد، والشريك، والصاحبة، والند، والضد، والجهل، والعجز، والضلال،والنسيان، والسِّنة، والنوم، والعبث، والباطل… إلخ.
ولكن ليس في كتاب الله ولا في السنة نفيٌ محضٌ؛ فإن النفي الصرف لا مدح فيه، وإنما يُراد بكل نفيٍ فيهما إثبات ما يضاده من الكمال: فنفي الشريك والند؛ لإثبات كمال عظمته وتفرُّده بصفات الكمال، ونفي العجز؛ لإثبات كمال قدرته، ونفي الجهل؛ لإثبات سعة علمه وإحاطته، ونفي الظلم؛ لإثبات كمال عدلـه، ونفي العبث؛ لإثبات كمال حكمته،ونفي السِّنة والنوم والموت؛ لإثبات كمال حياته وقيُّومِيَّتِه.. وهكذا.
.................................................. ..
([1]) الشورى: (11).
([2]) مريم: (65).
([3]) الصافات: (159)، المؤمنون (91).
.....................................
ولهذا كان النَّفي في الكتاب والسنة إنما يأتي مجملاً في أكثر أحواله؛ بخلاف الإثبات؛ فإن التفصيل فيه أكثر من الإجمال؛ لأنه مقصود لذاته.
وأما الإجمال في الإثبات ؛ فمثل إثبات الكمال المطلق ، والحمد المطلق ، والمـجد المطلق ، ونحـو ذلـك ؛ كما يشـير إليه مثل قوله تعالى :)الْحَمْدُللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1))،)وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ(([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2)).
وأما التفصيل في الإثبات؛ فهو متناوِلٌ لكل اسم أو صفة وردت في الكتاب والسنة، وهو من الكثرة بحيث لا يمكن لأحد أن يحصيه؛ فإن منها ما اختص الله عز وجل بعلمه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام:
((سبحانك لا نحصي ثناءً عليكَ أنت كما أثنيتَ على نفسك))([3] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn3)).
وفي حديث دعاء المكروب:
((أسألك بكل اسم هو لك؛ سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علَّمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك))([4] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn4)).
..........................................
([1]) الفاتحة: (2).
([2]) النحل: (60).
([3]) رواه مسلم في الصلاة، 0باب: ما يُقال في الركوع والسجود) (4/450-نووي) عن عائشة مرفوعًا:
((اللهُمَّ إني أعوذ برضاك من سَخَطِكَ، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك)).
والحديث رواه الأربعة والإمام أحمد.
([4]) (صحيح). رواه أحمد في ((المسند)) (1/391 و452)(14/262-ساعاتي)، والحاكم في ((المستدرك (1/509)، وابن حبان في ((صحيحه))، وصححه أحمد شاكر في ((المسند)) (5/266)، والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (198).
وانظر: ((جامع الأصول
)) (2300).
قول شيخ الإسلام فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ).
/ش/ قوله:((فلا عُدولَ… إلخ))؛ هذا مترتِّبٌ على ما تقدم من بيان أن ما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الحق الذي يجب اتِّباعه، ولا يصحُّ العدول عنه، وقد علل بأنه الصراط المستقيم، يعني الطريق السويّ القاصد الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم لا يكون إلا واحدًا؛ من زاغ عنه أو انحرف وقع في طريقٍ من طرق الضلال والجَور؛ كما قال تعالى:
(وَأَنَّ هَـذَاصِرَاطِي مُسْتَقِيمًافَاتَّبِعُوهُ وَلاَتَتَّبِعُواْالسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )([1] (http://djelfa.info/vb/editpost.php?do=updatepost&postid=527929#_ftn1)).
والصراط المستقيم هو طريق الأمة الوسط، الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، ولهذا أمرنا الله عز وجل وعلَّمنا أن نسأله أن يهدينا هذا
([1]) الأنعام: (153).
الصراط المستقيم في كل ركعة من الصلاة؛ أي: يلهمنا ويوفقنا لسلوكه واتباعه، فإنه صراط الذين أنعم الله عليهم من النَّبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أُولئك رفيقًا.
يتبع
يسم الله الرحمن الرحيم
اخي الكريم ما قولم في قول ابي يعلى في كتابه ابطال التأويلات الاخبار الصفات ص133:
رواه ابو بكر الخلال عن الحسن بن ناضح الخلال قانا الاسد بن عامر شاذان قالنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل ثنائه جعدا قططا امردفي حلة حمراء
قمة في تجسيم ذات الله و لك ان تقرأ الكتاب وسترى مافيه و اذا اردته اعطيته لك
ليتيم الشافعي
2008-10-29, 13:41
قول شيخ الإسلام ابن تيمية
(وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ الله بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: (قُلْ هُوَاللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْوَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًاأَحَدٌ )
/ش/ قوله:((وقد دخل… إلخ))؛ شروعٌ في إيراد النصوص من الكتاب والسنة المتضمِّنة لما يجب الإيمان به من الأسماء والصفات في النفي والإثبات.
وابتدأ بتلك السورة العظيمة؛ لأنها اشتملت من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيرها، ولهذا سُمِّيَتْ سُورة الإخلاص؛ لتجريدها التوحيد من شوائب الشرك والوثنية.
روى الإمام أحمد في ((مسنده)) عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه في سبب نزولها: أن المشركين قالوا: يا محمد! انسب لنا ربك. فأنزل الله تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَاللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ )إلخ السورة([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
........................................
([1]) (حسن). رواه الترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة الإخلاص) (تحفة 9/299)، وأحمد في ((المسند)) (5/133)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/297).
وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2680).
وانظر كتاب ((العظمة)) لأبي الشيخ (1/375) ، وكتاب ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/276).
...............................
.وقد ثبت في الصحيح أنها تعدل ثلث القرآن([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
وقد اختلف العلماء في تأويل ذلك على أقوال؛ أقربها [ما نقله شيخ الإسلام عن أبي العباس]([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2))، وحاصله أن القرآن الكريم اشتمل على ثلاثة مقاصد أساسية:
أولها: الأوامر والنواهي المتضمِّنة للأحكام والشرائع العملية التي هي موضوع علم الفقه والأخلاق.
ثانيها: القصص والأخبار المتضمنة لأحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، وأنواع الهلاك التي حاقت بالمكذِّبين لهم، وأحوال الوعد والوعيد، وتفاصيل الثواب والعقاب.
ثالثها: علم التوحيد، وما يجب على العباد من معرفة الله بأسمائه وصفاته، وهذا هو أشرف الثلاثة.
.................................................. ..........................................
([1])((البخاري)) في التوحيد، (باب: ما جاء في دعاء النبي e أمته إلى التوحيد) قول النبي e: ((والذي نفسي بيده؛ إنها لَتَعدِل ثلث القرآن)).
([2]) في طبعة الجامعة الإسلامية: [ما نقله شيخ الإسلام أبو العباس]. والصواب ما هو مثبت هنا، وكذا في طبعة ((الإفتاء))، وأبو العباس هو أبو العباس بن سريج.
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/103).
.................................................. ........
ولما كانت سورة الإخلاص قد تضمَّنَت أُصول هذا العلم، واشتملت عليه إجمالاً؛ صحَّ أن يقال: إنها تعدل ثلث القرآن.
وأما كيف اشتملت هذا السورة على علوم التوحيد كلها، وتضمَّنت الأصول التي هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي؟ فنقول:
إن قوله تعالى: (اللَّهُ أَحَدٌ )دلَّت على نفي الشريك من كل وجهٍ: في الذات، وفي الصفات، وفي الأفعال؛ كما دلَّت على تفرُّده سبحانه بالعظمة والكمال والمجد والجلال والكبرياء ، ولهذا لا يُطلَق لفظ (أَحَدٌ )في الإثبات إلا على الله عز وجل، وهو أبلغ من واحد.
وقوله: (اللَّهُ الصَّمَد )قد فسَّرها ابن عباس رضي الله عنه بقوله:
((السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمُل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبَّار الذي قد كمل في جبروته، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمُل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله عز وجل ، هذه صفته ، لا تنبغي إلا له، ليس له كفءٌ، وليس كمثله شيء))([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1)).
....................................
([1]) رواه ابن جرير في تفسير سورة الإخلاص بسنده، فقال:
((حدثنا علي: حدثنا أبو صالح: حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس، به)).
وعلي (الراوي عن ابن عباس): هو ابن أبي طلحة؛ كما في ((تفسير ابن كثير))، وهو صدوق، ولم يَلقَ ابن عباس، وإنما أخذ تفسيره من مجاهد، فروايته عنه منقطعة.
والحديث أخرجه أبو الشيخ في ((العظمة)) (1/383) بالسند نفسه، وقد ضعَّفه محققه المباركفوري.
ولكن قال الحافظ ابن حجر في ((التهذيب)): ((بعد أن عُرفت الواسطة، وهو ثقة ـ يعني مجاهدًا ـ فلا ضير في ذلك)). =
= انظر: ((تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة)) (1/25).
............................
وقد فُسِّر الصمد أيضًا بأنه الذي لا جوف له([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1))، وبأنه الذي تصمد إليه الخليقة كلها وتقصده في جميع حاجاتها ومهمَّاتها([2] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn2)).
.................................................. ...................................
([1]) صحَّ ذلك عن: مجاهد، والحسن، والضحاك، وورد مرفوعًا، ولكن لا يصحّ.
انظر: ((العظمة)) لأبي الشيخ (1/379)، و((السنة)) لابن أبي عاصم، ومعه ((ظلال الجنة)) للألباني (رقم673، 674، 675، 680، 688، 689).
([2]) صحَّ ذلك عن إبراهيم النخعي. انظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (رقم687).
وورد عن ابن عباس بإسناد ضعيف. انظر ((العظمة)) (1/380).
................................................
فإثبات الأحدية لله تضمَّن نفي المشاركة والمماثلة.
وإثبات الصمديَّة بكل معانيها المتقدمة تتضمن إثبات جميع تفاصيل الأسماء الحسنى والصفات العلى. وهذا هو توحيد الإثبات.
وأما النوع الثاني ـ وهو توحيد التنزيه ـ ؛ فيؤخـذ من قولـه تعالى: (لَمْ يَلِدْوَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًاأَحَدٌ ) كما يؤخذ إجمالاً من قولـه: (اللَّهُ أَحَدٌ ) أي: لم يتفرَّع عنه شيء، ولم يتفرَّع هو عن شيء، وليس لـه مكافئ ولا مماثل ولا نظير.
فانظر كيف تضمَّنت هذه السورة توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرَّبِّ تعالى من الأَحَدِيَّة المنافية لمطلق المشاركة، والصمَدِيَّةِ المُثْبِتَة لـه جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم غناه وصمَدِيَّتِه وأَحدِيَّتِه، ثم نفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والنظير([1] (http://djelfa.info/vb/showthread.php?t=67349#_ftn1))؟
فحُقَّ لسورة تضمَّنت هذه المعارف كلها أن تعدل ثلث القرآن.
.................................................. .......................
([1]) كذا في المطبوع، والأولى أن يقال: ((الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير)).
ليتيم الشافعي
2008-10-31, 16:05
قول شيخ الإسلام
(وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ:
(اللَّهُ لاَإِلَـهَ إِلاَّهُوَالْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَتَأْخُذُهُ سِنَةٌوَلاَنَوْم....ٌ
لَّهُ مَافِي السَّمَاوَاتِ وَمَافِي الأَرْضِ مَن ذَاالَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّبِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَابَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَاخَلْفَهُم وَلاَيُحِيطُونَ بِشَيْءٍمِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّبِمَاشَاءوَسِعَ كُرْسِيُّه السَّمَاوَ ا تِ وَالأَرْ ضَ وَلاَيَؤُودُهُ حِفْظُهُمَاوَهُوَالْعَلِيُّ الْعَظِيم)
.............................
/ش/ روى مسلم في ((صحيحه) عن أُبيّ بن كعب أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سأله:
((أي آية في كتاب الله أعظم؟)).
قال: الله ورسولـه أعلم.
فردَّدها مرارًا، ثم قال أُبيٌّ: آية الكرسي.
فوضع النبي يده على كتفه، وقال: ((ليهنك هذا العلم أبا المنذر)).
وفي رواية عند أحمد:
((والذي نفسي بيده؛ إن لها لسانًا وشفتين تقدِّس الملك عند ساق العرش))
ولا غرو، فقد اشتملت هذه الآية العظيمة من أسماء الربِّ وصفاته على ما لم تشتمل عليه آية أخرى.
فقد أخبر الله فيها عن نفسه بأنه المتوحِّد في إلهيَّتِه، الذي لا تنبغي العبادة بجميع أنواعها وسائر صورها إلا له.
ثم أردف قضية التوحيد بما يشهد لها من ذكر خصائصه وصفاته الكاملة، فذكر أنه الحي الذي لـه كمال الحياة؛ لأن حياته من لوازم ذاته، فهي أزليَّة أبديَّة، وكمال حياته يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال الذاتيَّة له، من العزَّة والقدرة والعلم والحكمة والسمع والبصر والإرادة والمشيئة وغيرها؛ إذ لا يتخلّف شيء منها إلا لنقصِ في الحياة، فالكمال في الحياة يتبعه الكمال في سائر الصفات اللازمة للحيّ.
ثم قرن ذلك باسمه القيوم، ومعناه الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه غنًى مطلقًا لا تشوبُه شائبةُ حاجةٍ أصلاً؛ لأنه غنًى ذاتيٌّ، وبه قامت الموجودات كلها، فهي فقيرة إليه فقرًا ذاتيًا، بحيث لا تستغني عنه لحظة، فهو الذي ابتدأ إيجادها على هذا النحو من الإحكام والإتقان، وهو الذي يدبِّر أمورها، ويمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها، وفي بلوغ الكمال الذي قدره لها.
فهذا الاسم متضمِّنٌ لجميع صفات الكمال الفعليَّة، كما أن اسمه الحي متضمِّن لجميع صفات الكمال الذاتية، ولهذا ورد أن الحي القيوم هما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب.
ثم أعقب ذلك بما يدلُّ على كمال حياته وقيُّوميَّته ، فقال : (لاَتَأْخُذُه ) ؛ أي لا تغلبه (سِنَةٌ )؛ أي نعاسٌ (وَلاَنَوْمٌ )؛ فإن ذلك ينافي القيومية؛ إذ النوم أخو الموت،ولهذا كان أهل الجنَّة لا ينامون.
ثم ذكر عموم ملكه لجميع العوالِم العُلْوية والسُّفلية، وأنها جميعًا تحت قهره وسلطانه، فقال: (لَّهُ مَافِي السَّمَاوَاتِ وَمَافِي الأَرْض ).
ثم أردف ذلك بما يدلُّ على تمام ملكه، وهو أن الشفاعة كلها لـه، فلا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه.
وقد تضمَّن هذا النفي والاستثناء أمرين:
أحدهما: إثبات الشفاعة الصحيحة، وهي أنها تقع بإذنه سبحانه لمن يرضى قوله وعمله.
والثاني: إبطال الشفاعة الشركيَّة التي كان يعتقدها المشركون لأصنامهم، وهي أنها تشفع لهم بغير إذن الله ورضاه.
ثم ذكر سعة علمه وإحاطته، وأنه لا يخفى عليه شيء من الأمور المستقبلة والماضية.
وأما الخلق فإنهم (وَلاَيُحِيطُونَ بِشَيْءٍمِّنْ عِلْمِه )؛ قيل: يعني من معلومه. وقيل: من علم أسمائه وصفاته؛ (إِلاَّبِمَاشَاء )الله سبحانه أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله، أو بغير ذلك من طرق البحث والنظر والاستنتاج والتجربة.
ثم ذكر ما يدل على عظيم ملكه، وواسع سلطانه، فأخبر أن كرسيَّه قد وسع السماوات والأرض جميعًا.
والصحيح في الكرسي أنه غير العرش، وأنه موضع القدمين، وأنه في العرش كحلْقة ملقاة في فلاة.
وأما ما أورده ابن كثير عن ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم؛ فإنه لا يصحُّ، ويفضي إلى التكرار في الآية.
.
قال الدارمي في رده على بشر المريسي (1/411، تحقيق الألمعي): (( لأنه من رواية جعفر بن أبي ليس جعفر ممن يُعتمد على روايته، إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون)).
قال الذهبي في ((الميزان)) (1/417):
((قال ابن مندة: ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير. وقال عن سند هذه الرواية: لم يُتابع عليه)).
ثم قال الذهبي:
((فقد روى عمارٌ الدُّهني عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس؛ قال: كرسيُّه: موضع قدمه.. والعرش لا يقدر قدره)). اهـ
وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/162):
((إسناده جيد، ولكنه شاذٌّ بمرة، مخالفٌ للثابت الصحيح عن ابن عباس)).
ثمّ علَّق على رواية ابن عباس في تفسيره بأنه موضع القدمين، وقال:
((وهذا هو الصحيح الثابت عن ابن عباس، وأما الرواية السابقة عنه بتأويل الكرسي بالعلم؛ فهي رواية شاذَّّة، لا يقوم عليها دليلٌ من كلام العرب، ولذلك رجَّح أبو منصور الأزهريُّ الرواية الصحيحة عن ابن عباس،وقال: ((وهذه رواية اتَّفق أهل العلم على صحتها، ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم؛ فقد أبطل))
ثم أخبر سبحانه بعد ذلك عن عظيم قدرته وكمال قوته بقوله: (وَلاَيَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) ؛ أي: السموات والأرض وما فيهما.
وفسر الشيخ رحمه الله (يَؤُودُه ) بـ: (يثقله ويُكْرِثُه)، وهو من آده الأمر: إذا ثقل عليه.
((قال ابن مندة: ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير. وقال عن سند هذه الرواية: لم يُتابع عليه)).
ثم قال الذهبي:
((فقد روى عمارٌ الدُّهني عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس؛ قال: كرسيُّه: موضع قدمه.. والعرش لا يقدر قدره)). اهـ
وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/162):
((إسناده جيد، ولكنه شاذٌّ بمرة، مخالفٌ للثابت الصحيح عن ابن عباس)).
ثمّ علَّق على رواية ابن عباس في تفسيره بأنه موضع القدمين، وقال:
((وهذا هو الصحيح الثابت عن ابن عباس، وأما الرواية السابقة عنه بتأويل الكرسي بالعلم؛ فهي رواية شاذَّّة، لا يقوم عليها دليلٌ من كلام العرب، ولذلك رجَّح أبو منصور الأزهريُّ الرواية الصحيحة عن ابن عباس،وقال: ((وهذه رواية اتَّفق أهل العلم على صحتها، ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم؛ فقد أبطل))). اهـ
صف نفسه سبحانه في ختام تلك الآية الكريمة بهذين الوصفين الجليلين؛ وهما: ( الْعَلِيُّ )، و (الْعَظِيمُ )فالعَلِيُّ: هو الذي لـه العلوُّ المطلق من جميع الوجوه:
علو الذَات: وكونه فوق جميع المخلوقات مستويًا على عرشه.
وعلو القَدْر: إذ كان لـه كل صفة كمال، ولـه من تلك الصفة أعلاها وغايتها.
وعلو القَهْر: إذ كان هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
وأما العظيم؛ فمعناه الموصوف بالعظمة، الذي لا شيء أعظم منه، ولا أجل، ولا أكبر، ولـه سبحانه التعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وأصفيائه.
ليتيم الشافعي
2008-11-01, 09:25
قول شيخ الإسلام.
وَقَوْلـه سُبْحَانَهُ: (هُوَالأَوَّلُ وَالآخِرُوَالظَّاهِرُوَالْبَاطِنُ وَهُوَبِكُلِّ شَيْءٍعَلِيمٌ )
/ش/ قوله: (هُوَالأَوَّلُ)؛ الجملة هنا جاءت معرفة الطرفين؛ فهي تفيد اختصاصه سبحانه بهذه الأسماء الأربعة ومعانيها على ما يليق بجلاله وعظمته، فلا يُثْبَت لغيره من ذلك شيء.
وقد اضطربت عبارات المتكلِّمين في تفسير هذه الأسماء، ولا داعي لهذه التفسيرات بعدما ورد تفسيرها عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه،
فقد روى مسلم في ((صحيحه)) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه:
((اللهمَّ ربَّ السماواتِ السبع، وربَّ الأرضِ، ربَّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن؛ أعوذ بك من شر كل ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عني الدين وأغْنِني من الفقر))
فهذا تفسير واضحٌ جامعٌ يدلُّ على كمال عظمته سبحانه، وأنه محيطٌ بالأشياء من كل وجه.
فالأول والآخر: بيان لإحاطته الزمانية.
والظاهر والباطن: بيان لإحاطته المكانية.
كما أن اسمه الظاهر يدل على أنه العالي فوق جميع خلقه، فلا شيء منها فوقه.
فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، فأحاطت أوَّليَّتُهُ وآخريَّتُهُ بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريَّتُه وباطنيَّتُهُ بكل ظاهرٍ وباطنٍ.
فاسمه الأول: دالٌّ على قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ.
-واسمه الآخر: دالٌّ على بقائِهِ وأبديَّتِه.
واسمه الظاهر: دالٌّ على علوِّه وعظمته.
واسمه الباطن: دالٌّ على قربِه ومعيَّتِه.
ثم خُتِمَت الآية بما يفيد إحاطة علمه بكل شيء من الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة، ومن العالم العُلوي والسُّفلي، ومن الواجبات والجائزات والمستحيلات ، فلا يغيب عن علمه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء.
فالآية كلها [فى شأن إحاطة الرب سبحانه بجميع خلقه من كل وجه، وأن العوالم كلها في قبضة يده؛ كخردلة في يد العبد، لا يفوته منها شيء، وإنما أتى بين هذه الصفات بالواو مع أنها جارية على موصوف واحد؛ لزيادة التقرير والتأكيد؛ لأن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره، وَحَسُنَ ذلك لمجيئها بين أوصاف متقابلة قد يسبق إلى الوهم استبعاد الاتصال بها جميعًا؛ فإن الأولية تنافي الآخرية في الظاهر، وكذلك الظاهرية والباطنية، فاندفع توهُّم الإنكار بذلك التأكيد.
(وَقَوْله سُبْحَانَهُ: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لايَمُوتُ )
/ش/ قوله: (وَتَوَكَّلْ )إلخ؛ هذه الجملة من الآيات ساقها المؤلف لإثبات بعض الأسماء والصفات.
فالآية الأولى فيها إثبات اسمه الحيِّ، كما تضمَّنت سلب الموت الذي هو ضد الحياة عنه، وقد قدَّمنا أنه سبحانه حيٌّ بحياة هي صفة لـه لازمة لذاته، فلا يعرض لها موت ولا زوال أصلاً، وأن حياته أكمل حياة وأتمها، فيستلزم ثبوتُها لـه ثبوتَ كلِّ كمال يضادُّ نفيُه كمالَ الحياة.
وأما الآيات الباقية؛ ففيها إثبات صفة العلم وما اشتُقَّ منها؛ ككونه عليمًا، ويعلم وأحاط بكل شيءٍ علمًا… إلخ.
يتبع
elouldja
2008-11-01, 10:58
بارك الله فيك اخي
ليتيم الشافعي
2008-11-02, 08:28
وَقَوْلُهُ : (وَهُوَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )
(وَهُوَالْحَكِيمُ الْخَبِيرُ* يَعْلَمُ مَايَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَايَخْرُجُ مِنْهَاوَمَايَنزِلُ مِنَ السَّمَاءوَمَايَعْرُجُ فِيهَا )
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَاإِلاَّهُوَوَيَعْلَمُ مَافِي الْبَرِّوَالْبَحْرِوَمَاتَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍإِلاَّيَعْلَمُهَاوَلاَحَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَرَطْبٍ وَلاَيَابِسٍ إِلاَّفِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)وَقَوْلُهُ: (وَمَاتَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاتَضَعُ إِلاَّ
بِعِلْمِه )،وَقَوْلُهُ: (لِتَعْلَمُواأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌوَأَنَّ اللَّهَ قَدْأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍعِلْمًا
)/ش/والعلم صفة لله عز وجل، بها يدرك جميع المعلومات على ما هي به، فلا يخفى عليه منها شيء؛ كما قدمنا.
وفيها إثبات اسمه الحكيم، وهـو مأخوذٌ من الحكمة، ومعناه: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، فلا يقع منه عبثٌ ولا باطلٌ، بل كل ما يخلقه أو يأمر به فهو تابعٌ لحكمته.
وقيل: هو من فعيل بمعنى مُفْعِل، ومعناه: المُحْكِم للأشياء، من الإحكام: وهو الإتقان، فلا يقع في خلقه تفاوتٌ ولا فطورٌ، ولا يقع في تدبيره خللٌ أو اضطرابٌ.
وفيها كذلك إثبات اسمه الخبير، وهو من الخبرة؛ بمعنى كمال العلم، ووثوقه، والإحاطة بالأشياء على وجه التفصيل، ووصول علمه إلى ما خفي ودقَّ من الحسيات والمعنويات.
وقد ذكر سبحانه في هذه الآيات بعض ما يتعلَّق به علمُه؛ للدلالة على شمولـه وإحاطته بما لا تبلغه علوم خلقه:
فذكر أنه: ( يَعْلَمُ مَايَلِجُ )؛ أي: يدخل (فِي الأَرْض ) من حبٍّ وبذرٍ ومياه وحشرات ومعادن، (وَمَايَخْرُجُ مِنْهَا )من زرعٍ وأشجارٍ وعيونٍ جاريةٍ
ومعادن نافعة كذلك، (وَمَايَنزِلُ مِنَ السَّمَاء(من ثلجٍ وأمطار وصواعقَ وملائكةٍ، (وَمَايَعْرُجُ )؛ أي: يصعد (فِيهَا )كذلك من ملائكة وأعمال وطير صوافَّ… إلى غير ذلك مما يعلمه جل شأنه.
وذكر فيها أيضًا أن (عِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَاإِلاَّهُوَ )، ومفاتح الغيب؛ قيل: خزائنه. وقيل: طرقه وأسبابه التي يتوصل بها إليه، جمع مِفتح؛ بكسر الميم، أو مفتاح؛ بحذف ياء مفاعيل.
وقد فسرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولـه:
((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله))، ثم تلا قوله تعالى : (إِنَّاللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِوَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَافِي الأَرْحَامِ وَمَاتَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَاتَكْسِبُ غَدًا وَمَاتَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّاللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).
وقد دلّّت الآيتان الأخيرتان على أنه سبحانه عالم بعلم هو صفة لـه، قائم بذاته؛ خلافًا للمعتزلة( الذين نفوا صفاته، فمنهم من قال: إنه عالم بذاته، وقادر بذاته.. إلخ، ومنهم مَن فسر أسماءه بمعانٍ سلبية، فقال: عليم؛ معناه: لا يجهل. وقادرٌ؛ معناه: لا يعجز.. إلخ.
وهذه الآيات حجة عليهم، فقد أخبر فيها سبحانه عن إحاطة علمه بحمل كل أنثى ووضعها من حيث المعنى والكيف؛ كما أخبر عن عموم قدرته، وتعلقها بكل ممكن، وعن إحاطة علمه بجميع الأشياء.
وما أحسن ما قالـه الإمام عبد العزيز المكي(في كتابه ((الحيدة)) لبشر المَرِيسِيِّالمعتزلي وهو يناظره في مسألة العلم:
((إن الله عز وجل لم يمدح في كتابه [مَلَكًا مقرَّبًا ولا نبيًا مرسلاً]ولا مؤمنًا تقيًّا بنفي الجهل عنه؛ ليدل على إثبات العلم لـه، وإنما مدحهم بإثبات العلم لهم، فنفى بذلك الجهل عنهم... فمَن أثبت العلم نفي الجهل، ومَن نفى الجهل لم يثبت العلم))
والدليل العقلي على علمه تعالى أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل؛ لأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم العلم بالمُراد، ولهذا قال سبحانه:
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَاللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان وعجيب الصنعة ودقيق الخلقة ما يشهد بعلم الفاعل لها؛ لامتناع صدور ذلك عن غير علم.
ولأن من المخلوقات من هو عالِمٌ، والعلم صفة كمال، فلو لم يكن الله عالمًا؛ لكان في المخلوقات مَن هو أكمل منه.
وكل علم في المخلوق إنما استفاده من خالقه، وواهب الكمال أحق به، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وأنكرت الفلاسفة(علمه تعالى بالجزئيات، وقالوا: إنه يعلم الأشياء على وجه كليٍّ ثابتٍ، وحقيقة قولهم أنه لا يعلم شيئًا؛ فإن كل ما في الخارج هو جزئي.
كما أنكر الغُلاة من القدَرِيَّة(علمه تعالى بأفعال العباد حتى يعملوها؛ توهُّمًا منهم أن علمه بها يفضي إلى الجبر، وقولهم معلوم البطلان بالضرورة في جميع الأديان.
يتبع
ليتيم الشافعي
2008-11-03, 09:16
وَقَوْلـه: (إِنَّ اللَّهَ هُوَالرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِالْمَتِينُ)
/ش/ قوله: ( إن الله.. )إلخ؛ تضمَّنَتْ إثبات اسمه الرَّزَّاق، وهو مبالغة من الرزق، ومعناه: الذي يرزق عباده رزقًا بعد رزق في إكثار وسعة.
وكل ما وصل منه سبحانه من نفعٍ إلى عباده فهو رزقٌ؛ مباحًا كان أو غير مباح، على معنى أنه قد جعلـه لهم قوتًا ومعاشًا؛ قال تعالى:
( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَاطَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِزْقًالِّلْعِبَاد )
وقال: (وَفِي السَّمَاءرِزْقُكُمْ وَمَاتُوعَدُون )إلا أن الشيء إذا كان مأذونًا في تناوله؛ فهو حلالٌ حكمًا، وإلا كان حرامًا، وجميع ذلك رزقٌ.
وتعريف الجملة الاسمية والإتيان فيها بضمير الفصل؛ لإفادة اختصاصه سبحانه بإيصال الرزق إلى عباده.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
((أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنِّي أنا الرزاق ذو القوة المتين))
وأما قوله: (ذُوالْقُوَّة )؛ أي صاحب القوة؛ فهو بمعنى اسمه القوي؛ إلا أنه أبلغ في المعنى، فهو يدلُّ على أن قوته سبحانه (لا تتناقص فيَهِنُ أو يَفتُرُ ).
وأما (الْمَتِينُ )؛ فهو اسم له من المتانة، وقد فسره ابن عباس بـ(الشديد))().
(وَقَوْله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَالسَّمِيعُ البَصِيرُ )
وَقَوْله: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّايَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا )
/ش/ قولـه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. )إلخ؛ دلَّ إثباتُ صفتي السمع والبصر لـه سبحانه بعد نفي المثل عنه، على أنه ليس المراد من نفي المثل نفي الصفات؛ كما يدَّعي ذلك المعطِّلة، ويحتجون به باطلاً، بل المراد إثبات الصفات مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين
قال العلاَّمة ابن القيم رحمه اللـه:
((قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. )إنما قصد به نفي أن يكون معه شريكٌ أو معبودٌ يستحقُّ العبادة والتعظيم؛ كما يفعله المشبهون والمشركون، ولم يقصد به نفي صفات: كماله، وعلوِّه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكلمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما ترى الشمس والقمر في الصحو…)) اهـ.
ومعنى (السَّمِيعُ ) المدرك لجميع الأصوات مهما خفتت، فهو يسمع السر والنجوى بسمع هو صفة لا يماثل أسماع خلقه.
ومعنى (البَصِيرُ )المدرك لجميع المرئيات من الأشخاص والألوان مهما لطفت أو بعدت، فلا تؤثر على رؤيته الحواجز والأستار، وهو من فعيل بمعنى مُفْعِل، وهو دالٌّ على ثبوت صفة البصر لـه سبحانه على الوجه الذي يليق به.
روى أبو داود في ((سننه)) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (إِنَّاللَّهَ كَانَسَمِيعًا بَصِيرًا ))، فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه ).
ومعنى الحديث أنه سبحانه يسمع بسمع، ويرى بعين، فهو حجة على بعض الأشاعرةالذين يجعلون سمعه علمه بالمسموعات، وبصره علمه بالمبصرات، وهو تفسير خاطئ؛ فإن الأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها، والأصم يعلم بوجود الأصوات ولا يسمعها.
) يتبع
ليتيم الشافعي
2008-11-04, 13:58
وَقَوْلـه : ( وَلَوْلاإِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَاشَاءاللَّهُ لاقُوَّةَإِلاَّبِاللَّهِ )
، وَقَوْلـه: (وَلَوْشَاءَاللَّهُ مَااقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَايُرِيدُ )
)، وَقَوْلـه: ( أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّمَايُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَمُحِلِّي الصَّيْدِوَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَايُرِيدُ )، وَقَوْلـه: (فَمَن يُرِدِاللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَنيُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًاحَرَجًاكَأَنَّمَايَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ) /ش/ قولـه (وَلَوْلاإِذْ دَخَلْتَ...(إلخ. هذه الآيات دلَّت على إثبات صفتي الإرادة والمشيئة، والنصوص في ذلك لا تحصى كثرة.
و الأشاعرة يثبتون إرادة واحدة قديمة تعلَّقت في الأزل بكل المرادات، فيلزمهم تخلُّف المراد عن الإرادة.
وأما المعتزلة؛ فعلى مذهبهم في نفي الصفات لا يثبتون صفة الإرادة، ويقولون: إنه يريد بإرادة حادثة لا في محل، فيلزمهم قيام الصفة بنفسها، وهو من أبطل الباطل.
وأما أهل الحق؛ فيقولون: إن الإرادة على نوعين:
1- إرادة كونية ترادفها المشيئة، وهما تتعلَّقان بكل ما يشاء الله فعله وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئًا وشاءه؛ كان عقب إرادته لـه؛
كما قال تعـالى : (إِنَّمَاأَمْرُهُ إِذَاأَرَادَشَيْئًاأَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وفي الحديث الصحيح:
((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن
2- وإرادة شرعية تتعلق بما يأمر الله به عباده مما يحبه ويرضاه، وهي المذكورة في مثل قولـه تعالى: (يُرِيدُاللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَوَلاَيُرِيدُبِكُمُ الْعُسْرَ )ولا تلازم بين الإرادتين؛ بل قد تتعلَّق كل منهما بما لا تتعلق به الأخرى، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه.
فالإرادة الكونية أعمُّ من جهة تعلُّقها بما لا يحبُّه الله ويرضاه من الكفر والمعاصي، وأخصُّ من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر وطاعة الفاسق.
والإرادة الشرعية أعمُّ من جهة تعلُّقها بكل مأمور به واقعًا كان أو غير واقع، وأخصُّ من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به.
والحاصل أن الإرادتين قد تجتمعان معًا في مثل إيمان المؤمن، وطاعة المطيع.
وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي.
وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي.
وقوله تعالى: (وَلَوْلاإِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ... )الآية؛ هذا من قول الله حكاية عن الرجل المؤمن لزميله الكافر صاحب الجنَّتين؛ يعظه به أن يشكر نعمة الله عليه، ويردَّها إلى مشيئة الله، ويبرأ من حوله وقوته؛ فإنه لا قوة إلا بالله.
)وقوله: (وَلَوْشَاءَاللَّهُ مَااقْتَتَلُواْ... )الآية؛ إخبارٌ عمّا وقع بين أتباع الرسل من بعدهم: من التنازع، والتعادي بغيًا بينهم وحسدًا، وأنَّ ذلك إنما كان بمشيئة الله عز وجل، ولو شاء عدم حصولـه ما حصل، ولكنه شاءه فوقع.
وقوله: (فَمَن يُرِدِاللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ... )إلخ؛ الآية تدل على أن كلاًّ من الهداية والضلال بخلق الله عز وجل،فمن يرد هدايته أي:إلهامه وتوفيقه يشرح صدره للإسلام، بأن يقذف في قلبه نورًا، فيتسع له، وينبسط؛ كما ورد في الحديث، ومن يرد إضلاله وخذلانه يجعل صدره في غاية الضيق والحرج، فلا ينفذ إليه نور الإيمان، وشبَّه ذلك بمن يصعد في السماء
يتبع
ليتيم الشافعي
2008-11-13, 14:03
(وَقَوْلُـهُ: (وَأَحْسِنُوَاْإِنَّاللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (وَأَقْسِطُواإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )
(فَمَا اسْتَقَامُواْلَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )، (إِنَّاللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )، وَقَوْلُهُ: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِييُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )وَقَوْلُهُ: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )وَقَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُون فِي سَبِيلِهِ صَفًّاكَأَنَّهُم بُنيَان مَّرْصُوصٌ )
)ش/ تضمَّنت هذه الآيات إثبات أفعالٍ لـه تعالى ناشئة عن صفة المحبة، ومحبة الله عز وجل لبعض الأشخاص والأعمال والأخلاق صفة له قائمة به، وهي من صفات الفعل الاختيارية التي تتعلق بمشيئته، فهو يحبُّ بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة.
وينفي الأشاعرة والمعتزلة صفة المحبة؛ بدعوى أنها توهم نقصًا؛ إذ المحبة في المخلوق معناها ميله إلى ما يناسبه أو يستلذُّه.
فأما الأشاعرة؛ فيُرجعونها إلى صفة الإرادة، فيقولون: إن محبة الله لعبده لا معنى لها إلا إرادته لإكرامه ومثوبته.
وكذلك يقولون في صفات الرضا والغضب والكراهية والسخط؛ كلها عندهم بمعنى إرادة الثواب والعقاب.
وأما المعتزلة؛ فلأنهم لا يثبتون إرادة قائمة به، فيفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله لهؤلاء؛ بناء على مذهبهم في وجوب إثابة المطيع وعقاب العاصي.
وأما أهل الحق؛ فيثبتون المحبة صفة حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصًا ولا تشبيهًا.
كما يثبتون لازم تلك المحبة، وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته(وليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبَّة عن مثل قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: ((إن الله إذا أحبَّ عبدًا؛ قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلانًا فأحبَّه. قال: فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء: إن ربكم عز وجل يحب فلانًا فأحبوه. قال: فيحبه أهل السماء، ويوضع لـه القبول في الأرض، وإذا أبغضه فمثيل ذلك))، رواه الشيخان؟!
وقولـه تعالى في الآية الأولى: (وَأَحْسِنُواْ )أمرٌ بالإحسان العام في كل شيء؛ لا سيما في النفقة المأمور بها قبل ذلك، والإحسان فيها يكون بالبذل وعدم الإمساك، أو بالتوسط بين التقتير والتبذير، وهو القوام الذي أمر الله به في سورة الفرقان(روى مسلم في ((صحيحه)) عن شداد بن أوس أن رسول الله e قال:
((إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته))وأما قولـه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )فهو تعليل للأمر بالإحسان، فإنهم إذا علموا أن الإحسان موجبٌ لمحبَّته؛ سارعوا إلى امتثال الأمر به.
وأما قوله في الآية الثانية: (وَأَقْسِطُوا )؛فهو أمرٌ بالإقساط، وهو العدل في الحكم بين الطائفتين المتنازعتين من المؤمنين، وهو من قَسَطَ؛ إذا جار، فالهمزة فيه للسلب، ومن أسمائه تعالى: المُقْسِط.
وفي الآية الحث على العدل وفضله، وأنه سبب لمحبة الله عز وجل.
وأما قوله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ )؛ فمعناه: إذا كان بينكم وبين أحدٍ عهدٌ كهؤلاء الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام؛ فاستقيموا لهم على عهدهم مدة استقامتهم لكم، فـ(ما) هنا مصدرية ظرفية.
ثم علَّل ذلك الأمر بقولـه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ؛ أي: يحبُّ الذين يتَّقون الله في كل شيء، ومنه عدم نقض العهود.
وأما قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ... ) إلخ؛ فهو إخبار من الله سبحانه وتعالى عن محبته لهذين الصنفين من عباده.
أما الأول: فهم التَّوَّابون؛ أي: الذين يكثرون التوبة والرجوع إلى الله عز وجل بالاستغفار مما أَلَمُّوا به على ما تقتضيه صيغة المبالغة، فهم بكثرة التوبة قد تطهَّروا من الأقذار والنجاسات المعنوية التي هي الذنوب والمعاصي.
وأما الثاني: فهم المتطهرون؛ الذين يبالغون في التطهر، وهو التنظيف بالوضوء أو بالغسل من الأحداث والنجاسات الحسية. وقيل: المراد بالمتطهرين هنا الذين يتنزهون من إتيان النساء في زمن الحيض أو في أدبارهن، والحمل على العموم أولى.
وأما قوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )؛ فقد رُوِيَ عن الحسن في سبب نزولها أن قومًا ادَّعوا أنهم يحبِّون الله، فأنزل الله هذه الآية محنة لهموفي هذه الآية قد شرط الله لمحبَّته اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا ينال تلك المحبة؛ إلا من أحسن الاتباع والاستمساك بهديه عليه السلام.
يتبع
zakaria el-assimi
2008-11-14, 15:11
السلام عليكم
قم بإرسال تقرير سيئ وإنتهى ياشافعي ...
بارك الله فيك على الموضوع
ليتيم الشافعي
2008-11-19, 09:58
وَقَوْلهُ : (وَهُوَالْغَفُورُالْوَدُودُ )، وَقَوْلهُ : (بسم الله الرحمن الرحيم )، (رَبَّنَاوَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍرَّحْمَةًوَعِلْمًا )
، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا )، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )، (وَهُوَالْغَفُورُالرَّحِيمُ ) (فَاللَّهُ خَيْرٌحَافِظًاوَهُوَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
/ش/ قوله (وَهُوَالْغَفُورُ… )إلخ؛ تضمنت الآية إثبات اسمين من الأسماء الحسنى، وهما: الغفور، والودود.
أما الأول: فهو مبالغة في الغفر، ومعناه الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، والتجاوز عن مؤاخذتهم.
وأصل الغفر: الستر، ومنه يقال: الصبغ أغفر للوسخ. ومنه: المغفر لسترة الرأس.
وأما الثاني: فهو من الودِّ الذي هو خالص الحب وألطفه، وهو إما من فعول بمعنى فاعل، فيكون معناه: الكثير الود لأهل طاعته، والمتقرب إليهم بنصره لهم ومعونته. وإما من فعول بمعنى مفعول، فيكون معناه: المودود لكثرة إحسانه، المستَحِقُّ لأن يَوَدَّه خلقه فيعبدوه ويحمدوه.
وأما قولـه: (بسم الله الرحمن الرحيم ) وما بعدها من الآيات؛ فقد تضمنت إثبات اسميه الرحمن والرحيم، وإثبات صفتي الرحمة والعلم.
وقد تقدم في تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم ) الكلام على هذين الاسمين، وبيان الفرق بينهما، وأن أولهما دالٌّ على صفة الذات والثاني دالٌّ على صفة الفعل.
وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرحمة بدعوى أنها في المخلوق ضعفٌ وخَوَرٌ وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل، فإن الرحمة إنما تكون من الأقوياء للضعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العزة والقدرة، فالإنسان القوي يرحم ولده الصغير وأبويه الكبيرين ومَن هو أضعف منه، وأين الضعف والخور ـ وهما من أذم الصفات ـ من الرحمة التي وصف الله نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتصفين بها، وأمرهم أن يتواصَوْا بها؟!
وقولـه: (رَبَّنَاوَسِعْتَ… ) إلخ؛ من كلام الله عز وجل حكاية عن حملة العرش والذين حوله، يتوسَّلون إلى الله عز وجل بربوبيّته وسعة علمه ورحمته في دعائهم للمؤمنين، وهو من أحسن التوسُّلات التي يُرْجَى معها الإجابة.
ونصب قولـه: (رَّحْمَةًوَعِلْمًا )على التمييز المحوَّل عن الفاعل، والتقدير: وسعت رحمتُك وعلمُك كل شيء. فرحمته سبحانه وسعت في الدنيا المؤمن والكافر والبر والفاجر، ولكنها يوم القيامة تكون خاصة بالمتَّقين؛ كما قال تعالى:
(فَسَأَكْتُبُهَالِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ... )وقولـه تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )؛ أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحدٌ.
وفي حديث أبي هريرة في ((الصحيحين)):
((إن الله لمّا خلق الخلق كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت ـ أو تسبق ـ غضبي))
وأما قوله: (فَاللَّهُ خَيْرٌحَافِظًا )؛ فالحافظ والحفيظ مأخوذ من الحفظ، وهو الصيانة، ومعناه: الذي يحفظ عباده بالحفظ العام، فييسر لهم أقواتهم، ويقيهم أسباب الهلاك والعطب، وكذلك يحفظ عليهم أعمالهم، ويحصي أقوالهم، ويحفظ أولياءه بالحفظ الخاص، فيعصمهم عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم من مكايد الشيطان، وعن كل ما يضرُّهم في دينهم ودنياهم.
وانتصب (حَافِظًا ) تمييزًا لـ (خَيْر ) الذي هو أفعل تفضيل.
ليتيم الشافعي
2008-11-30, 09:15
قـولـه : (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْعَنْهُ )(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًامُّتَعَمِّدًافَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًافِيهَاوَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ )
وَقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوامَاأَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوارِضْوَانَه )، (فَلَمَّاآسَفُونَاانتَقَمْنَامِنْهُم)ْ،وَقوله: (وَلَـكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ) وَقـولـه: (كَبُرَمَقْتًاعِندَاللَّهِ أَن تَقُولُوامَالاتَفْعَلُونَ )
/ش/قوله: (رَّضِي َاللَّه ُعَنْهُمْ.. )إلخ؛ تضمَّنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل من الرِّضى لله، والغَضَب، واللَّعنُ، وَالكُرهِ، والسَّخْط، والمَقْت، والأَسَف.
وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عز وجل، على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق.
فلا حجة للأشاعرة والمعتزلة على نفيها، ولكنهم ظنُّوا أن اتصاف الله عز وجل بها يلزمه أن تكون هذه الصفات فيه على نحو ما هي في المخلوق، وهذا الظنُّ الذي ظنوه في ربهم أرداهم فأوقعهم في حمأة النفي والتعطيل.
والأشاعرة يُرْجعون هذه الصفات كلها إلى الإرادة؛ كما علمت سابقًا، فالرضا عندهم إرادة الثواب، والغضب والسخط.. إلخ إرادة العقاب.
وأما المعتزلة؛ فيرجعونها إلى نفس الثواب والعقاب.
وقوله سبحانه: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْعَنْهُ ) إخبارٌ عمَّا يكون بينه وبين أوليائه من تبادل الرضا والمحبة.
أما رضاه عنهم؛ فهو أعظم وأجلُّ من كل ما أُعطوا من النعيم؛ كما قال سبحانه:
(وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ )وأما رضاهم عنه؛ فهو رضا كل منهم بمنزلته مهما كان، وسروره بها؛ حتى يظن أنه لم يؤت أحدٌ خيرًا ممَّا أُوتي، وذلك في الجنة.
وأما قوله: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًامُّتَعَمِّدًا )الآية؛ فقد احترز بقوله: (مُؤْمِنًا ) عن قتل الكافر، وبقوله: (مُّتَعَمِّدًا )- أي: قاصدًا لذلك، بأن يقصد مَن يعلمه آدميًّا معصومًا، فيقتلـه بما يغلب على الظن موته به - عن القتل الخطإ.
وقوله: (خَالِدًافِيهَا )؛ أي: مقيمًا على جهة التأبيد، وقيل الخلود: المكث الطويل.
واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعين والملعون: من حَقَّت عليه اللعنة، أو دُعِي عليه بها.
وقد استشكل العلماء هذه الآيات من حيث إنها تدلُّ على أن القاتل عمدًا لا توبة له، وأنه مخلَّد في النار، وهذا معارضٌ لقولـه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَيَغْفِرُأَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُمَادُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء )وقد أجابوا عن ذلك بعدة أجوبة؛ منها:
أن هذا الجزاء لمن كان مستحلاًّ قتل المؤمن عمدًا.
أن هذا هو الجزاء الذي يستحقُّه لو جوزي ، مع إمكان أن لا يجازى، بأن يتوب أو يعمل صالحًا يرجح بعمله السيئ.
أن الآية واردة مورد التغليظ والزجر.
أن المراد بالخلود المكث الطويل كما قدمنا.
وقد ذهب ابن عباس وجماعة إلى أن القاتل عمدًا لا توبة له، حتى قال ابن عباس:
((إن هذه الآية من آخر ما نزل، ولم ينسخها شيءٌ))
والصحيح أن على القاتل حقوقًا ثلاثة: حقًّا لله، وحقًّا للورثة، وحقًّا للقتيل..
فحق الله يسقط بالتوبة.
وحق الورثة يسقط بالاستيفاء في الدُّنيا أو العفو.
وأما حق القتيل؛ فلا يسقط حتى يجتمع بقاتله يوم القيامة، ويأتي رأسه في يده، ويقول: يا رب! سل هذا فيمَ قتلني؟
وأما قوله: (فَلَمَّاآسَفُونَا... )إلخ؛ فالأسف يستعمل بمعنى شدة الحزن، وبمعنى شدة الغضب والسخط، وهو المراد في الآية.
والانتقام: المجازاة بالعقوبة، مأخوذ من النقمة، وهي شدة الكراهة والسخط.
ليتيم الشافعي
2008-11-30, 09:34
(وَقولـه: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّأَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُوَقُضِيَ الأَمْرُ )
، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّأَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُأَوْيَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْيَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (كَلاَّإِذَادُكَّتِالأَرْضُ دَكًّادَكًّا *وَجَاءرَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّاصَفًّا) (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءبِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً )
/ش/ قولـه: (هَل ْيَنظُرُونَ.. )في هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل لـه سبحانه، وهما صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك على حقيقته، والابتعاد عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحادٌ وتعطيل.
ولعلَّ من المناسب أن ننقل إلى القارئ هنا ما كتبه حامل لواء التجهُّم والتعطيل في هذا العصر، وهو المدعو بزاهد الكوثري؛ قال في حاشيته على كتاب ((الأسماء والصفات)) للبيهقي ما نصه:
((قال الزمخشري ما معناه: إن الله يأتي بعذابٍ في الغمام الذي يُنْتَظَرُ منه الرحمة، فيكون مجيء العذاب من حيث تُنتظر الرحمة أفظع وأهول.
وقال إمام الحرمين في معنى الباء كما سبق.
وقال الفخر الرازي: أن يأتيهم أمر الله)). اهـ
فأنت ترى من نقل هذا الرجل عن أسلافه في التعطيل مدى اضطرابهم في التخريج والتأويل.
على أن الآيات صريحة في بابها، لا تقبل شيئًا من تلك التأويلات..
فالآية الأولى تتوعَّد هؤلاء المصِرِّين على كفرهم وعنادهم واتباعهم للشيطان بأنهم ما ينتظرون إلا أن يأتيهم الله عزَّ وجلَّ في ظلَلٍ من الغمام لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة، ولهذا قال بعد ذلك: (وَقُضِيَ الأَمْرُ )والآية الثانية أشد صراحة؛ إذ لا يمكن تأويل الإتيان فيها بأنه إتيان الأمر أو العذاب؛ لأنه ردَّد فيها بين إتيان الملائكة وإتيان الرب، وإتيان بعض آيات الرب سبحانه.
وقولـه في الآية التي بعدها : (وَجَاءرَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّاصَفًّا )لا يمكن حملها على مجيء العذاب؛ لأن المراد مجيئه سبحانه يوم القيامة لفصل
القضاء، والملائكة صفوف؛ إجلالاً وتعظيمًا له، وعند مجيئه تنشق السماء بالغمام؛ كما أفادته الآية الأخيرة.
وهو سبحانه يجيء ويأتي وينزل ويدنو وهو فوق عرشه بائن من خلقه.
فهذه كلها أفعال له سبحانه على الحقيقة، ودعوى المجاز تعطيلٌ له عن فعله، واعتقادُ أن ذلك المجيء والإتيان من جنس مجيء المخلوقين وإتيانهم نزوعٌ إلى التشبيه يفضي إلى الإنكار والتعطيل.
ليتيم الشافعي
2008-12-01, 07:23
وَقولـه: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ).
/ش/ قولـه: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) إلخ، تضمَّنت هاتان الآيتان إثبات صفة الوجه لله عز وجل.
والنصوص في إثبات الوجه من الكتاب والسنة لا تُحصى كثرةً، وكلها تنفي تأويل المعطِّلة الذين يفسرون الوجه بالجهة أو الثواب أو الذات، والذي عليه أهل الحق أن الوجه صفةٌ غيرُ الذات، ولا يقتضي إثباته كونه تعالى مركبًا من أعضاء، كما يقوله المجسِّمة، بل هو صفة لله على ما يليق به، فلا يشبه وجهًا ولا يشبهه وجه.
واستدلَّت المعطِّلة بهاتين الآيتين على أن المراد بالوجه الــذات ؛ إذ لا خصوص للوجه في البقاء وعدم الهلاك.
ونحن نعارض هذا الاستدلال بأنه لو لم يكن لله عز وجل وجهٌ على الحقيقة لما جاء استعمال هذا اللفظ في معنى الذات؛ فإن اللفظ الموضوع لمعنى لا يمكن أن يستعمل في معنى آخر إلا إذا كان المعنى الأصلي ثابتًا للموصوف، حتى يمكن للذهن أن ينتقل من الملزوم إلى لازمه.
على أنه يمكن دفع مجازهم بطريق آخر؛ فيقال: إنه أسند البقاء إلى الوجه، ويلزم منه بقاء الذات؛ بدلاً من أن يقال: أطلق الوجه وأراد الذات.
وقد ذكر البيهقي نقلاً عن الخطابي أنه تعالى لما أضاف الوجه إلى الذات، وأضاف النعت إلى الوجه، فقال: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام )؛ دلَّ على أن ذكر الوجه [ليس بصلة] ، وأن قولـه: ( ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام ) صفةٌ للوجه، والوجه صفةٌ للذَّات.
وكيف يمكن تأويل الوجه بالذات أو بغيرها في مثل قولـه عليه السلام في حديث الطائف: (أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لـه الظُّلُمات ) إلخ ، وقولـه فيما رواه أبو موسى الأشعري: (حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ؟!
وَقوله( مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ،( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء)
/ش/ قوله: (مَا مَنَعَكَ ) إلخ؛ تضمَّنَتْ هاتان الآيتان إثبات اليدين صفة حقيقية له سبحانه على ما يليق به، فهو في الآية الأولى يوبخ إبليس على امتناعه عن السجود لآدم الذي خلقه بيديه.
ولا يمكن حمل اليدين هنا على القدرة؛ فإن الأشياء جميعًا ـ حتى إبليس ـ خلقها الله بقدرته، فلا يبقى لآدم خصوصية يتميز بها.
وفي حديث عبد الله بن عمرو:
(إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده)
فتخصيص هذه الثلاثة بالذكر مع مشاركتها لبقية المخلوقات في وقوعها بالقدرة دالٌّ على اختصاصها بأمر زائد.
وأيضًا؛ فلفظ اليدين بالتثنية لم يُعرف استعمالـه إلا في اليد الحقيقية، ولم يرد قط بمعنى القدرة أو النعمة؛ فإنه لا يسوغ أن يقال: خلقه الله بقدرتين أو بنعمتين. على أنه لا يجوز إطلاق اليدين بمعنى النعمة أو القدرة أو غيرهما إلا في حق من اتصف باليدين على الحقيقة، ولذلك لا يقال: للريح يد، ولا للماء يد.
وأما احتجاج المعطِّلة بأن اليد قد أفردت في بعض الآيات، وجاءت بلفظ الجمع في بعضها؛ فلا دليل فيه؛ فإن ما يصنع بالاثنين قد يُنسب إلى الواحد؛ تقول: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، والمراد: عيناي، وأذناي. وكذلك الجمع يأتي بمعنى المثنى أحيانًا؛ كقوله تعالى: ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا )، والمراد: قلباكما.
وكيف يتأتَّى حملُ اليد على القدرة أو النعمة؛ مع ما ورد من إثبات الكفّ والأصابع واليمين والشمال والقبض والبسط وغير ذلك مما لا يكون إلا لليد الحقيقيَّة؟!
وفي الآية الثانية يحكي الله سبحانه مقالة اليهود قبَّحهم الله في ربهم، ووصفهم إياه ـ حاشاه ـ بأن يده مغلولة؛ أي: ممسكة عن الإنفاق.
ثم أثبت لنفسه سبحانه عكس ما قالوا، وهو أن يديه مبسوطتان بالعطاء؛ ينفق كيف يشاء؛ كما جاء في الحديث:
(إن يمين الله ملأى سحَّاء الليلَ والنهارَ؛ لا تَغيضُها نَفَقةٌ) .
ترى لو لم يكن لله يدان على الحقيقة؛ هل كان يحسن هذا التعبير ببسط اليدين؟!
ألا شاهَتْ وُجوهُ المتأوِّلين!!
ليتيم الشافعي
2008-12-01, 07:41
وَقَولـه: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا )، ( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ )،(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )
/ش/ قوله: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) إلخ؛ في هذه الآيات الثلاث يثبت الله سبحانه لنفسه عينًا يرى بها جميع المرئيات، وهي صفة حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، فلا يقتضي إثباتها كونها جارحة مركَّبة من شحم وعصب وغيرهما.
وتفسير المعطِّلة لها بالرؤية أو بالحفظ والرعاية نفيٌ وتعطيلٌ.
وأما إفرادها في بعض النصوص وجمعها في البعض الآخر؛ فلا حجة لهم فيه على نفيها؛ فإن لغة العرب تتسع لذلك، فقد يعبَّر فيها عن الاثنين بلفظ الجمع، ويقوم فيها الواحد مقام الاثنين كما قدَّمنا في اليدين.
على أنه لا يمكن استعمال لفظ العين في شيء من هذه المعاني التي ذكروها إلا بالنسبة لمن له عين حقيقية.
فهل يريد هؤلاء المعطَّلة أن يقولوا: إن الله يتمدَّح بما ليس فيه، فيثبت لنفسه عينًا وهو عاطلٌ عنها؟! وهل يريدون أن يقولوا: إن رؤيته للأشياء لا تقع بصفة خاصة بها؛ بل هو يراها بذاته كلها ـ كما تقول المعتزلة: إنه قادر بذاته، مريد بذاته… إلخ؟!
وفي الآية الأولى يأمر الله نبيَّه ( بالصبر لحكمه، والاحتمال لما يلقاه من أذى قومه، ويعلِّل ذلك الأمر بأنه بمرأى منه، وفي كلاءته وحفظه.
وفي الآية الثانية يخبر الله عز وجل عن نبيِّه نوحٍ عليه السلام أنه لما كذَّبه قومه، وحقَّت عليهم كلمة العذاب، وأخذهم الله بالطوفان؛ حملـه هو ومَن معه من المؤمنين على سفينة ذات ألواحٍ عظيمة من الخشب ودُسُرٍ؛ أي: مسامير، جمع دِسَار، تُشَدُّ بها الألواح، وأنها كانت تجري بعين الله وحراسته.
وفي الآية الثالثة خطابٌ من الله لنبيِّه موسى عليه السلام بأنه ألقى عليه محبَّةً منه؛ يعني: أحبه هو سبحانه وحبَّبه إلى خلقه، وأنه صنعه على عينه، وربَّاه تربية استعد بها للقيام بما حمله من رسالة إلى فرعون وقومه.
ليتيم الشافعي
2008-12-02, 08:39
وَقَوْلُهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )
، وَقَوْلُهُ: ( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء) ، وَقَوْلُهُ: ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ،( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ،( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) ،( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ،(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )
/ش/ قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ... ) إلخ؛ هذه الآيات ساقها المؤلف لإثبات صفات السمع والبصر والرؤية.
أما السمع؛ فقد عبَّرت عنه الآيات بكل صيغ الاشتقاق، وهي: سَمِعَ، ويَسْمَعُ، وسميعٌ، ونَسْمَعُ، وَأسمَعُ، فهو صفة حقيقية لله، يدرك بها الأصوات؛ كما قدمنا.
وأما البصر؛ فهو الصفة التي يدرك بها الأشخاص والألوان، والرؤية لازمة له، وقد جاء في حديث أبي موسى:
( يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم ؛ إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا، إنَّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته )
وكلٌّ من السمع والبصر صفة كمال، وقد عاب الله على المشركين عبادتهم ما لا يسمع ولا يبصر.
وقد نزلت الأولى في شأن خولة بنت ثعلبة حين ظاهر منها زوجها، فجاءت تشكو إلى رسول الله ( وتحاوِرُهُ، وهو يقول لها: (ما أراك إلا قد حرمت عليه)
أخرج البخاري في ((صحيحه)) عن عروة عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: (الحمد لله الذي وسعَ سمعُهُ الأصواتَ؛ لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله ( وأنا في ناحيةٍ من البيتِ ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا...( الآيات)
وأما الآية الثانية؛ فقد نزلت في فنحاص اليهودي الخبيث، حين قال لأبي بكر رضي الله عنه لما دعاه إلى الإسلام: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيًّا ما استَقْرَضَنا !
وأما الآية الثالثة؛ فـ(أم) بمعنى (بل)، والهمزة للاستفهام، فهي (أم) المنقطعة، والاستفهام انكاريٌّ يتضمَّن معنى التوبيخ، والمعنى: بل أيظنُّ هؤلاء في تخفِّيهِم واستتارهم أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؛ بلى نسمع ذلك، وحفظتنا لديهم يكتبون ما يقولون وما يفعلون.
وأما الآية الرابعة؛ فهي خطابٌ من الله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام حين شكوا إلى الله خوفهما من بطش فرعون بهما، فقال لهما: ( لا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )
وأما الآية الخامسة؛ فقد نزلت في شأن أبي جهل لعنه الله حين نهى النبي ( عن الصلاة عند البيت، فنزل قولـه تعالى: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(إلخ السورة )
ليتيم الشافعي
2008-12-03, 10:27
وَقَوْلُهُ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) ( وَقَوْلُهُ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )
، وَقَوْلُهُ: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وَقَوْلُهُ: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا )
/ش/ وقوله: ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَال...) إلخ؛ تضمَّنت هذه الآيات إثبات صفتي المكر والكيد، وهما من صفات الفعل الاختيارية.
ولكن لا ينبغي أن يشتقَّ له من هاتين الصفتين اسم، فيقال: ماكر، وكائد؛ بل يوقف عند ما ورد به النص من أنه خير الماكرين، وأنه يكيد لأعدائه الكافرين.
أما قوله سبحانه: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَال )ِ؛فمعناه: شديد الأخذ بالعقوبة؛ كما في قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )،( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
وقال ابن عباس:
((معناه: شديد الحَوْل)).
وقال مجاهد:
((شديد القوَّة)).
والأقوال متقاربة.
وأما قوله: ( وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) فمعناه: أنفذهم وأسرعهم مكرًا.
وقد فسَّر بعض السلف مكر الله بعباده بأنه استدراجهم بالنِّعم من حيث لا يعلمون، فكلما أحدثوا ذنبًا أحدث لهم نعمة؛ وفي الحديث:
((إذا رأيتَ الله يُعطي العبد من الدنيا ما يحبُّ وهو مقيمٌ على معصيته؛ فاعلم أنما ذلك منه استدراج))
وقد نزلت هذه الآية في شأن عيسى عليه السلام حين أراد اليهود قتلـه، فدخل بيتًا فيه كوَّةٌ، وقد أيَّده الله بجبريل عليه السلام، فرفعه إلى السماء من الكوّة، فدخل عليه يهوذا؛ ليدلَّهم عليه فيقتلوه، فألقى الله شبهَ عيسى على ذلك الخائن، فلما دخل البيت فلم يجد فيه عيسى؛ خرج إليهم وهو يقول: ما في البيت أحدٌ. فقتلوه وهم يرون أنه عيسى، فذلك قوله تعالى: ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ)
وأما قوله تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا... ) إلخ؛ فهي في شأن الرهط التسعة من قوم صالح عليه السلام حين (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ( أي: لَيَقْتُلُنَّه بياتًا هو وأهلـه، (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ )فكانَ عاقبةُ هذا المكر منهم أن مكر الله بهم فدمَّرهم وقومهم أجمعين
وَقَوْلُهُ: ( إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا )،( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
/ش/ قولـه: ( إِن تُبْدُواْ خَيْرًا...) إلخ؛ هذه الآيات تضمَّنت إثبات صفات العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة والتبارك والجلال والإكرام.
فالعَفُوُّ الذي هو اسمه تعالى؛ معناه: المتجاوز عن عقوبة عباده إذا هم تابوا إليه وأنابوا؛ كما قال تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَات )
ولما كان أكمل العفو هو ما كان عن قدرة تامَّة على الانتقام والمؤاخذة؛ جاء هذان الاسمان الكريمان: العَفُوُّ والقدير مقترنين في هذه الآية وفي غيرها.
وأما القدرة؛ فهي الصفة التي تتعلَّق بالممكنات إيجادًا وإعدامًا، فكلُّ ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته؛ كما في الحديث:
(ما شاء الله كانَ وما لم يشأ لم يكن ).
وأما قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا...) الآية؛ فقد نزلت في شأن أبي بكر رضي الله عنه حين حلف لا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان ممَّن خاضوا في الإفك، وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر، فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: ((والله إني لأحب أن يغفر الله لي))، ووصل مسطحًا
ليتيم الشافعي
2008-12-04, 07:44
وَقَوْلُهُ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )
/ش/ وأما قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ؛ فقد [نزلت في شأن عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول رئيس المنافقين، وكان في بعض الغزوات قد أقسم ليخرجنَّ رسول الله ( هو وأصحابه من المدينة، فنزل قول تعالى: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ) ؛ يقصد بالأعز ـ قبَّحه الله ـ نفسه وأصحابه ، ويقصد بالأذل رسول الله ومن معه من المؤمنين، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بقوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ).
والعزَّة صفةٌ أثبتها لله عز وجل لنفسه؛ قال تعالى:
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
وقال: (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا )
وأقسم بها سبحانه؛ كما في حديث الشفاعة:
(وعزَّتي وكِبْريائي وعظمتي؛ لأخرجنَّ منها مَن قال: لا إله إلا الله)
وأخبر عن إبليس أنه قال: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)
وفي ((صحيح البخاري)) وغيره عن أبي هريرة:
((بينما أيُّوب عليه السلام يغتسل عريانًا خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيُّوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى؛ وعزَّتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك) .
وقد جاء في حديث الدعاء الذي علَّمه النبيُّ ( لمن كان به وجع: ((أعوذ بعزَّة الله وقدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر))
والعزة تأتي بمعنى الغلبة والقهر؛ من عزَّ يعُزُّ ـ بضم العين في المضارع ـ يقال: عزَّه؛ إذا غلبه.
وتأتي بمعنى القوة والصلابة؛ من عزَّ يعَزُّ ـ بفتحها ـ، ومنه أرض عزاز؛ للصلبة الشديدة.
وتأتي بمعنى علوِّ القدر والامتناع عن الأعداء ؛من:عزَّ يَعِزُّ - بكسرها - .
وهذه المعاني كلها ثابتة لله عز وجل.
وَقَوْلُهُ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )
/ش/ وأما قولـه تعالىتَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ.. ( فإنه من البركة بمعنى دوام الخير وكثرته.
وقوله( ذِي الْجَلالِ )؛ أي: صاحب الجلال والعظمة سبحانه، الذي لا شيء أجلَّ ولا أعظم منه.
و (وَالإِكْرَامِ ): الذي يكرم عما لا يليق به، وقيل: الذي يكرم عباده الصالحين بأنواع الكرامة في الدنيا والآخرة. والله أعلم.
ليتيم الشافعي
2008-12-17, 10:32
وَقَوْلُهُ: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ،(وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، وَقَوْلُهُ: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )، وَقَوْلُهُ: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) ، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، وَقَوْلُهُ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )، وَقَوْلُهُ: ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، ( فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ، ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
/ش/ قوله: ( فَاعْبُدْهُ..) إلخ؛ تضمَّنت هذه الآيات الكريمة جملة من صفات السلوب، وهي نفي السمي والكفء والنِّد والولد والشريك والولي من ذلٍّ وحاجة؛ كما تضمَّنت بعض صفات الإثبات؛ من: الملك، والحمد، والقدرة والكبرياء، والتبارك.
أما قولـه: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا )؛ فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: قال أهل اللغة: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا )؛ أي: نظيرًا استحقَّ مثل اسمه، ويقال: مساميًا يساميه. وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا( مثلاً أو شبيهًا) .
والاستفهام في الآية إنكاري، معناه النفي؛ أي: لا تعلم لـه سميًّا.
وأما قولـه: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ؛ فالمراد بالكفء: المكافئ المساوي.
فهذه الآية تنفي عنه سبحانه النظير والشبيه من كل وجه؛ لأن (أحد ) وقع نكرة في سياق النفي، فيعم، وقد تقدم الكلام على تفسير سورة الإخلاص كلها، فليرجع إليها.
وأما قولـه: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً.. ) إلخ. فالأنداد جمع نِدٍّ، ومعناه ـ كما قيل ـ: النظير المناوئ. ويقال: ليس لله ندٌّ ولا ضدٌّ، والمراد نفي ما يكافئه ويناوئه، ونفي ما يضاده وينافيه.
وجملة (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) وقعت حالاً من الواو في( تَجْعَلُواْ ) ، والمعنى: إذا كنتم تعلمون أن الله هو وحده الذي خلقكم ورزقكم، وأن هذه الآلهة التي جعلتموها لـه نظراء وأمثالاً وساويتموها به في استحقاق العبادة لا تخلق شيئًا، بل هي مخلوقة، ولا تملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؛ فاتركوا عبادتها، وأفرِدوه سبحانه بالعبادة والتعظيم.
وأما قولـه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ.. ) إلخ؛ فهو إخبارٌ من الله عن المشركين بأنهم يحبُّون آلهتهم كحبهم لله عز وجل؛ يعني: يجعلونها مساوية لـه في الحب. (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ) من حب المشركين لآلهتهم؛ لأنهم أخلصوا لـه الحب، وأفردوه به، أما حب المشركين لآلهتهم؛ فهو موزَّعٌ بينها، ولا شك أن الحبَّ إذا كان لجهة واحدة كان أمكن وأقوى.
وقيل: المعنى: أنهم يحبُّون آلهتهم كحب المؤمنين لله، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من الكفار لأندادهم.
وأما قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا.. )الآية؛ فقد تقدم الكلام في معنى الحمد ، وأنه الثناء باللسان على النعمة وغيرها، وقلنا: إن إثبات الحمد له سبحانه متضمِّنٌ لإثبات جميع الكمالات التي لا يستحقُّ الحمد المطلق إلا من بلغ غايتها.
ثم نفى سبحانه عن نفسه ما ينافي كمال الحمد من الولد والشريك والولي من الذلِّ ـ أي: من فقر وحاجة ـ، فهو سبحانه لا يوالي أحدًا من خلقه من أجل ذلة وحاجة إليه.
ثم أمر عبده ورسوله أن يكبره تكبيرًا؛ أي: يعظمه تعظيمًا ويُنَزِّهَهُ عن كل صفة نقص وصفه بها أعداؤه من المشركين.
وأما قوله (يُسَبِّحُ لِلَّه... ) إلخ؛ فالتسبيح هو التنزيه والإبعاد عن السوء؛ كما تقدم.
ولا شكّ أن جميع الأشياء في السموات وفي الأرض تسبِّح بحمد ربها، وتشهد له بكمال العلم والقدرة والعزَّة والحكمة والتدبير والرحمة؛ قال تعالى:
(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم )
وقد اختُلف في تسبيح الجمادات التي لا تنطق؛ هل هو بلسان الحال أو بلسان المقال؟ وعندي أن الثاني أرجح؛ بدليل قوله تعالى: (وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم ) ؛ إذ لو كان المراد تسبيحها بلسان الحال؛ لكان ذلك معلومًا، فلا يصحُّ الاستدراك.
وقد قالَ تعالى خبرًا عن داودَ عليه السلامُ:
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ )
وأما قولـه تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي.. ) إلخ؛ فقد قلنا: إن معنى (تَبَارَكَ) من البركة؛ وهي دوام الخير وكثرته، ولكن لا يلزم من تلك الزيادة سبق النقص، فإن المراد تجدُّد الكمالات الاختيارية التابعة لمشيئته وقدرته، فإنها تتجدَّد في ذاته على وفق حكمته، فالخلوُّ عنها قبل اقتضاء الحكمة لها لا يعتبرُ نقصًا .
وقد فسّر بعضهم التبارك بالثبات وعدم التغيُّر، ومنه سمِّيت البِرْكَة؛ لثبوت مائها. وهو بعيد.
والمراد بـ (الْفُرْقَانَ ) القرآن، سمي بذلك لقوَّة تفرقته بين الحق والباطل والهدى والضلال.
والتعبير بـ (نَزَّلَ ) بالتشديد؛ لإفادة التدرُّج في النزول، وأنه لم ينزل جملة واحدة.
والمراد بـ (عَبْدِه )ِ محمد ، والتعبير عنه بلقب العبودية للتشريف ـ كما سبق ـ.
و(اِلْعَالَمِينَ )؛ جمع عالَم، وهو جمع لما يعقل، واختُلِف في المراد به، فقيل: الإنس. وقيل: الإنس والجن. وهو الصحيح؛ فقد ثبت أن النبي ( مرسلٌ إلى الجن أيضًا، وأنه يجتمع بهم، ويقرأ عليهم القرآن، وأن منهم نفرًا أسلم حين سمع القرآن وذهب ينذر قومه به؛ كما قال تعالى:
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ) .
والنّذير والمنذر هو من يُعْلِم بالشيء مع التخويف، وضده البشير أو المبشِّر، وهوَ من يخبرك بما يسرُّك.
وقولـه: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَد.. ) إلخ؛ تضمَّنت هذه الآية الكريمة أيضًا جملة من صفات التنزيه التي يُراد بها نفي ما لا يليق بالله عز وجل عنه، فقد نزَّه سبحانه نفسه فيها عن اتِّخاذ الولد وعن وجود إله خالقٍ معه، وعمَّا وصفه به المفترون الكذَّابون؛ كما نهى عن ضرب الأمثال له، والإشراك به بلا حجة ولا برهان، والقول عليه سبحانه بلا علم ولا دليل.
فهذه الآية تضمَّنت إثبات توحيد الإلهية، وإثبات توحيد الرُّبوبية، فإن الله بعدما أخبر عن نفسه بعدم وجود إلـه معه أوضح ذلك بالبرهان القاطع والحجة الباهرة، فقال: (إِذًا ) ؛ أي: إذ لو كان معه آلهةٌ كما يقول هؤلاء المشركون؛(لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض )
وتوضيح هذا الدليل أن يقال: إذا تعدَّدت الآلهة؛ فلا بدَّ أن يكون لكل منهم خلق وفعل، ولا سبيل إلى التعاون فيما بينهم؛ فإن الاختلاف بينهم ضروريٌّ، كما أن التعاون بينهم في الخلق يقتضي عجز كل منهم عند الانفراد، والعاجز لا يصلح إلهًا، فلا بد أن يستقلَّ كلٌّ منهم بخلقه وفعله، وحينئذٍ؛ فإما أن يكونوا متكافئين في القدرة، لا يستطيع كل منهم أن يقهر الآخرين ويغلبهم، فيذهب كل منهم بما خلق، ويختص بملكه؛ كما يفعل ملوك الدنيا من انفراد كل بمملكته إذا لم يجد سبيلاً لقهر الآخرين، وإما أن يكون أحدهم أقوى من الآخرين، فيغلبهم، ويقهرهم، وينفرد دونهم بالخلق والتدبير، فلا بد إذًا مع تعدُّد الآلهة من أحد هذين الأمرين: إما ذهاب كل بما خلق، أو علو بعضهم على بعض.
وذهاب كلٍّ بما خلق غير واقع؛ لأنه يقتضي التنافر والانفصال بين أجزاء العالم، مع أن المشاهدة تثبت أن العالم كله كجسم واحد مترابط الأجزاء، متَّسق الأنحاء، فلا يمكن أن يكون إلا أثرًا لإله واحد.
وعلو بعضهم على بعض يقتضي أن يكون الإله هو العالي وحده.
وأما قوله تعالى: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ )؛ فهو نهيٌ لهم أن يشبِّهوه بشيء من خلقه؛ فإنه سبحانه له المثل الأعلى الذي لا يشركه فيه مخلوق.
وقد قدَّمنا أنه لا يجوز أن يستعمل في حقه من الأقيسة ما يقتضي المماثلة أو المساواة بينه وبين غيره؛ كقياس التمثيل وقياس الشمول.
وإنما يستعمل في ذلك قياس الأولى الذي مضمونه أن كل كمالٍ وجوديٍّ غيرِ مستلزمٍ للعدم ولا للنقص بوجهٍ من الوجوه اتَّصف به المخلوق فالخالق أولى أن يتَّصف به؛ لأنه هو الذي وهب المخلوق ذلك الكمال، ولأنه لو لم يتَّصف بذلك الكمال ـ مع إمكان أن يُتَّصف به ـ لكان في الممكنات من هو أكمل منه، وهو محالٌ، وكذلك كل نقصٍ يتنزَّه عنه المخلوق، فالخالق أولى بالتنزُّه عنه.
وأما قولـه: (قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ.. ) إلخ؛ فـ (إِنَّمَا ) أداة حصرٍ تفيد اختصاص الأشياء المذكورة بالحرمة، فيفهم أن مَن عداها من الطَّيِّبات فهو مباحٌ لا حرج فيه؛ كما أفادته الآية التي قبلها.
و (الْفَوَاحِشَ ) جمع فاحشة؛ وهي الفعلة المتناهية في القبح، وخصَّها بعضهم بما تضمَّن شهوة ولذة من المعاصي؛ كالزنا، واللواط، ونحوهما من الفواحش الظاهرة، وكالكبر والعجب وحب الرياسة من الفواحش الباطنة.
وأما (وَالإِثْمَ )؛ فمنهم مَن فسره بمطلق المعصية، فيكون المراد منه ما دون الفاحشة، ومنهم مَن خصَّه بالخمر؛ فإنها جِماع الإثم.
وأما (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ )؛ فهو التسلُّط والاعتداء على الناس من غير أن يكون ذلك على جهة القصاص والمماثلة.
وقولـه: (وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا )، وحرَّم أن تعبدوا مع الله غيره، وتتقرَّبوا إليه بأي نوع من أنواع العبادات والقربات؛ كالدعاء، والنذر،والذبح، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك مما يجب أن يُخْلِص فيه العبدُ قلبَه ويُسْلِمَ وجهَه للـه، وحرَّم أن تتَّخذوا من دونه سبحانه أولياء يشرِّعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله في عباداتهم ومعاملاتهم؛ كما فعل أهل الكتاب مع الأحبار والرهبان؛ حيث اتَّخذوهم أربابًا من دون الله في التشريع، فأحلُّوا ما حرَّم الله، وحرَّمُوا ما أحلَّ الله، فاتَّبعوهم في ذلك.
وقولـه: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ) قيدٌ لبيان الواقع؛ فإن كل ما عُبِدَ أو اتّبع أو أُطيع من دون الله قد فعل به ذلك من غير سلطان.
وأما القول على الله بلا علم؛ فهو بابٌ واسعٌ جدًّا يدخل فيه كل خبر عن الله بلا دليل ولا حجة؛ كنفي ما أثبته، أو إثبات ما نفاه، أو الإلحاد في آياته بالتحريف والتأويل.
قال العلاّمة ابن القيم في كتابه ((إعلام الموقعين)) : ((وقد حرَّم الله القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرَّمات؛ بل جعله في المرتبة العليا منها؛ قال تعالى: (قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ... ) الآية، فرتَّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، وثنّى بما هو أشد تحريمًا منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريمًا منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أعظم تحريمًا من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه)).
اميرة اليالي البيضاء
2008-12-17, 12:15
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
رائع جدا
الموضوع حقا يستحق التثبيت
شكرا
ليتيم الشافعي
2008-12-18, 09:48
وَقَوْلُهُ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فِي [سَبْعَةِ]
مَوَاضِعَ: [فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ قَوْلُهُ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )
وَقَالَ فَي سُورَةِِ الرَّعْدِِ: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )
وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَـان ِ: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ )
وَقَالَ فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش )، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )
/ش/ وقولـه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى... ) إلخ؛ هذه هي المواضع السبعة التي أخبر فيها سبحانه باستوائه على العرش، وكلها قطعية الثبوت؛ لأنها من كتاب الله، فلا يملك الجهميُّ المعطِّل لها ردًّا ولا إنكارًا، كما أنها صريحة في بابها، لا تحتمل تأويلاً، فإن لفظ: (اسْتَوَى ) في اللغة إذا عُدِّي بـ(على) لا يمكن أن يُفْهَمَ منه إلا العلو والارتفاع، ولهذا لم تخرج تفسيرات السلف لهذا اللفظ عن أربع عبارات؛ ذكرها العلاَّمة ابن القيم في ((النُّونية)) ؛ حيث قال:
فَلَهُمْ عِبَارَاتٌ عَلَيْهَا أَرْبَعٌ
قَدْ حُصِّلَتْ لِلْفَارِسِ الطَّعَّانِ
وَهِيَ اسْتَقَرَّ وَقَدْ عَلاَ وَكَذلِكَ
ارتَفَعَ الَّذِي مَا فِيهِ مِن نُّكْرَانِ
وَكَذَاكَ قَدْ صَعِدَ الَّذِي هُوَ رَابِعٌ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبُ الشِّيبَانِي
يَخْتَارُ هَذَا القَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ
أَدْرَى مِنَ الْجَهْمِيِّ بِالْقُرآنِ
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر به سبحانه عن نفسه من أنه مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه بالكيفية التي يعلمها هو جلَّ شأنه؛ كما قال مالك وغيره:
((الاستواء معلومٌ، والكيفُ مجهولُ) .
وأما ما يشغِّب به أهل التعطيل من إيراد اللوازم الفاسدة على تقرير الاستواء؛ فهي لا تلزمنا؛ لأننا لا نقول بأن فوقيَّتَهُ على العرش كفوقِيَّة المخلوق على المخلوق.
وأما ما يحاولون به صرف هذه الآيات الصريحة عن ظواهرها بالتأويلات الفاسدة التي تدُلُّ على حيرتهم واضطرابهم؛ كتفسيرهم : ??(اسْتَوَى ) بـ( اسـتولى ) ، أو حملهم (عَلَى ) على معنى ( إلى ) ، و (اسْتَوَى )؛ بمعنى: (قصد)… إلى آخر ما نقله عنهم حامل لواء التجهُّم والتعطيل زاهد الكوثري ؛ فكلها تشغيبٌ بالباطل، وتغييرٌ في وجه الحق لا يغني عنهم في قليلٍ ولا كثيرٍ.
وليت شعري! ماذا يريد هؤلاء المعطِّلة أن يقولوا؟!
أيريدون أن يقولوا: ليس في السماء ربٌّ يُقْصَدُ، ولا فوق العرش إله يُعْبَدُ؟!
فأين يكون إذن؟!
ولعلَّهم يضحكون منا حين نسأل عنه بـ(أين)! ونسوا أن أكمل الخلق وأعلمهم بربهم صلوات الله عليه وسلامه قد سأل عنه بـ(أين) حين قال للجارية: ((أين الله؟)).ورضي جوابها حين قالت: في السماء .
وقد أجاب كذلك مَن سأله بـ: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ بأنه كان في عماء.. الحديث .
ولم يُرْوَ عنه أنه زجر السائل، ولا قال له: إنك غلطت في السؤال.
إن قصارى ما يقوله المتحذلق منهم في هذا الباب: إن الله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو الآن على ما كان قبل المكان.
فماذا يعني هذا المُخَرِّف بالمكان الذي كان الله ولم يكن؟!
هل يعني به تلك الأمكنة الوجودية التي هي داخل محيط العالم؟!
فهذه أمكنة حـادثة ، ونحن لا نقول بوجود الله في شيءٍ منها ؛ إذ لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
وأما إذا أراد بها المكان العَدَميَّ الذي هو خلاءٌ محضٌ لا وجود فيه؛ فهذا لا يقال: إنه لم يكن ثم خلق؛ إذ لا يتعلق به الخلق، فإنه أمر عدميٌّ، فإذا قيل: إن الله في مكان بهذا المعنى؛ كما دلَّت عليه الآيات والأحاديث؛ فأي محذورٍ في هذا؟!
بل الحق أن يقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، ثم خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ثم استوى على العرش، وثم هنا للترتيب الزماني لا لمجرَّد العطف.
ليتيم الشافعي
2008-12-20, 09:57
وَقَوْلُهُ: (يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ )، (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )، (إِلَيْهِ يَصْعَدُالْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )
(يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًالَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَىوَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا )، وَقَوْلُهُ: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءأَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَاهِيَ تَمُورُ * أَمْأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءأَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًافَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) .
/ش/ وقولـه: (يَاعِيسَى... ) إلخ؛ هذه الآيات جاءت مؤيِّدة لما دلَّت عليه الآيات السابقة من علوِّه تعالى وارتفاعه فوق العرش مباينًا للخلق، وناعية على المعطِّلة جحودهم وإنكارهم لذلك، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
ففي الآية الأولى ينادي الله رسوله وكلمته عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأنَّه متوفِّيه ورافعه إليه حين دبَّر اليهود قتله، والضمير في قوله( إِلَيَّ )هو ضمير الرب جلَّ شأنه، لا يحتمل غير ذلك، فتأويله بأن المراد: إلى محل رحمتي، أو مكان ملائكتي... إلخ لا معنى له.
ومثل ذلك يقال أيضًا في قوله سبحانه ردًّا على ما ادَّعاه اليهود من قتل عيسى وصلبه: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ).
وقد اختُلِفَ في المراد بالتوفِّي المذكور في الآية، فحملـه بعضهم على الموت، والأكثرون على أنَّ المراد به النوم، ولفظ المتوفَّى يُسْتَعْمَل فيه؛ قال تعالى:
(وَهُوَالَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَاجَرَحْتُم )
ومنهم مَن زعم أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وأنَّ التقدير: إنِّي رافعك ومتوفيك؛ أي: مميتك بعد ذلك.
والحق أنَّه عليه السلام رُفع حيًّا، وأنَّه سينزل قرب قيام الساعة؛ لصحَّة الحديث بذلك .
وأما قولـه سبحانه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُالْكَلِمُ الطَّيِّبُ )؛ فهو صريحٌ أيضًا في صعود أقوال العباد وأعمالهم إلى الله عز وجل، يصعد بها الكرام الكاتبون كل يوم عقب صلاة العصر، وعقب صلاة الفجر؛ كما جاء في الحديث:
((فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم ـ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يا ربنا! أتيناهم وهم يصلُّون, وتركناهم وهم يصلُّون)) .
وأما قوله سبحانه حكايةً عن فرعون: (يَاهَامَانُ... )إلخ؛ فهو دليل على أنَّ موسى عليه السلام أخبر فرعون الطاغية بأنَّ إلهه في السماء، فأراد أنْ يتلمَّس الأسباب للوصول إليه تمويهًا على قومه، فأمر وزيره هامان أنْ يبني له الصرح، ثم عقَّب على ذلك بقوله : (وَإِنِّي لأَظُنُّهُ )؛ أي: موسى (كَاذِبًا )فيما أخبر به من كون إلهه في السماء، فمَن إذًا أشبه بفرعون وأقرب إليه نسبًا؛ نحنُ أم هؤلاء المعطِّلة؟! إنَّ فرعونَ كَذَّبَ موسى في كون إلهه في السماء، وهو نفس ما يقوله هؤلاء.
قولـه: (أَأَمِنتُم... )إلخ؛ هاتان الآيتان فيهما التصريح بأنَّ الله عز وجل في السماء، ولا يجوز حمل ذلك على أنَّ المراد به: العذاب، أو الأمر، أو المَلَك؛ كما يفعل المعطلة؛ لأنَّه قال: (مَّن )، وهي [للعاقل] ، وحَمْلُها على المَلَك إخراجُ اللفظ عن ظاهره بلا قرينة توجب ذلك.
ولا يجوز أنْ يُفهم من قوله: (فِي السَّمَاء ) أنَّ السماء ظرفٌ له سبحانه؛ بل إنْ أُريد بالسماء هذه المعروفة؛ فـ (فِي )بمعنى على؛ كما في قوله تعالى: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل ) ، وإنْ أريد بها جهة العلو؛ فـ (فِي ) على حقيقتها؛ فإنَّه سبحانه في أعلى العلوِّ.
ليتيم الشافعي
2008-12-25, 09:27
قوله تعالى:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )
، وَقَوْلُهُ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )، (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ، وَقَوْلُهُ : (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ )،(وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ،(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
/ش/ قولـه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات.. ) إلخ؛ تضمَّنت هذه الآية الكريمة إثبات صفة المعيَّة له عزَّ وجلَّ، وهي على نوعين.
1- معيَّة عامَّة: شاملة لجميع المخلوقات، فهو سبحانه مع كل شيء بعلمه وقدرته وقهره وإحاطته، لا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه، وهذه المعيَّة المذكورة في الآية.
ففي هذه الآية يخبر عن نفسه سبحانه بأنه هو وحده الذي خلق السموات والأرض ـ يعني: أوجدهما على تقدير وترتيب سابق في مدة ستة أيام ـ، ثم علا بعد ذلك وارتفع على عرشه؛ لتدبير أمور خلقه. وهو مع كونه فوق عرشه لا يغيب عنه شيءٌ من العالَمَيْن العُلويِّ والسُّفليِّ؛ فهو( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ ) أي: يدخل(فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ ) ؛ أي: يصعد( فِيهَا) ، ولا شَكَّ أن مَن كان علمه وقدرته محيطَيْن بجميع الأشياء؛ فهو مع كل شيء، ولذلك قال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ).
قولـه: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ) إلخ؛ يثبت سبحانه شمول علمه وأحاطته بجميع الأشياء، وأنه لا يخفى عليه نجوى المتناجين، وأنه شهيدٌ على الأشياء كلها، مطَّلِع عليها.
وإضافة ( نَّجْوَى ) إلى ثلاثة من إضافة الصفة إلى الموصوف، والتقدير: ما يكون من ثلاثة نجوى؛ أي: متناجين.
2- وأما الآيات الباقية؛ فهي في إثبات المعيَّة الخاصَّة التي هي معيَّتُه لرسلـه تعالى وأوليائه بالنصر والتأييد والمحبة والتوفيق والإلهام.
فقولـه تعالى (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) حكايةٌ عما قالـه عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ الصدِّيق وهما في الغار، فقد أحاط المشركون بفم الغار عندما خرجوا في طلبه عليه السلام، فلما رأى أبو بكر ذلك انزعج، وقال:
((والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا)).
فقال لـه الرسول ( ما حكاه الله عز وجل هنا:
(لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )
فالمراد بالمعيَّة هنا معية النصر والعصمة من الأعداء.
وأما قولـه: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ). فقد تقدَّم الكلام عليه، وأنَّها خطابٌ لموسى وهارون عليهما السلام أن لا يخافا بطش فرعون بهما؛ لأنَّ الله عز وجل معهما بنصره وتأييده.
وكذلك بقيَّة الآيات يخبر الله فيها عن معيته للمتَّقين الذين يراقبون الله عز وجل في أمره ونهيه، ويحفظون حدوده، وللمحسنين الذين يلتزمون الإحسان في كل شيء، والإحسان يكون في كل شيء بحسبه، فهو في العبادة ـ مثلاً ـ أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ كما جاء في حديث جبريل عليه السلام .
وكذلك يخبر عن معيَّته للصابرين الذي يحبسون أنفسهم على ما تكره، ويتحمَّلون المشاقَّ والأذى في سبيل الله وابتغاء وجهه؛ صبرًا على طاعة الله، وصبرًا عن معصيته، وصبرًا على قضائه.
يتبع
ليتيم الشافعي
2008-12-25, 09:52
وَقَوْلُـهُ :( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) ،(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً )، (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )
، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) ، وَقَوْلُهُ: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) ، (مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ )، (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ )،(وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا )، وَقَوْلـه : (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ )، وَقَوْلُهُ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ).
/ش/: تضمَّنت هذه الآيات إثبات صفة الكلام لله عزّ وجلّ.
وقد تنازع الناس حول هذه المسألة نزاعًا كبيرًا:
فمنهم من جعل كلامه سبحانه مخلوقًا منفصلاً منه، وقال: إن معنى (متكلِّم): خالقٌ للكلام. وهم المعتزلة.
ومنهم من جعلـه لازمًا لذاته أزلاً وأبدًا، لا يتعلَّق بمشيئته وقدرته، ونفى عنه الحرف والصوت، وقال: إنه معنى واحد في الأزل. وهم الكُلاَّبيَّة والأشعرية.
ومنهم مَن زعم أنه حروفٌ وأصواتٌ قديمةٌ لازمة للذَّات، وقال: إنها مقترنة في الأزل، فهو سبحانه لا يتكلم بها شيئًا بعد شيء. وهم بعض الغلاة.
ومنهم من جعلـه حادثًا قائمًا بذاته تعالى، ومتعلِّقًا بمشيئته وقدرته، ولكن زعم أن لـه ابتداء في ذاته، وأن الله لم يكن متكلِّمًا في الأزل. وهم الكرَّامية .
ويطول بنا القول لو اشتغلنا بمناقشة هذه الأقول وإفسادها، على أن فسادها بيِّنٌ لكل ذي فهمٍ سليمٍ، ونظرٍ مستقيمٍ.
وخلاصةُ مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أن الله تعالى لم يزل متكلِّمًا إذا شاء، وأن الكلام صفة لـه قائمة بذاته، يتكلَّم بها بمشيئته وقدرته، فهو لم يزل ولا يزال متكلِّمًا إذا شاء، وما تكلَّم الله به فهو قائمٌ به ليس مخلوقًا منفصلاً عنه؛ كما تقول المعتزلة، ولا لازمًا لذاته لزوم الحياة لها؛ كما تقول الأشاعرة؛ بل هو تابعٌ لمشيئته وقدرته.
والله سبحانه نادى موسى بصوتٍ، ونادى آدم وحواء بصوتٍ، وينادي عباده يوم القيامة بصوتٍ، ويتكلَّم بالوحي بصوتٍ، ولكن الحروف والأصوات التي تكلَّم الله بها صفة لـه غير مخلوقة، ولا تشبه أصوات المخلوقين وحروفهم؛ كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته.
والآيتان الأوليان هنا ـ وهما من سورة النساء ـ تنفيان أن يكون أحدٌ أصدقَ حديثًا وقولاً من الله عز وجل، بل هو سبحانه أصدق من كل أحدٍ في كل ما يخبر به، وذلك لأن علمه بالحقائق المخبَرِ عنها أشمل وأضبط، فهو يعلمها على ما هي به من كل وجه، وعلم غيره ليس كذلك.
وأما قوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى.... )إلخ؛ فهو حكايةٌ لما سيكون يوم القيامة من سؤال الله لرسولـه وكلمته عيسى عمَّا نسبه إليه الَّذين ألَّهوه وأمه من النصارى من أنه هو الذي أمرهم بأن يتَّخِذوه وأمَّه إلهينِ من دون الله.
وهذا السؤال لإظهار براءة عيسى عليه السلام، وتسجيل الكذب والبهتان على هؤلاء الضالِّين الأغبياء.
وأما قولـه: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً )؛ فالمراد صدقًا في أخباره، وعدلاً في أحكامه؛ لأن كلامه تعالى إما أخبار، وهي كلها في غاية الصدق، وإما أمر ونهي، وكلها في غاية العدل الذي لا جور فيه؛ لابتنائها على الحكمة والرحمة.
والمراد بالكلمة هنا الكلمات؛ لأنها أُضيفت إلى معرفة، فتفيد معنى الجمع؛ كما في قولنا: رحمة الله ونعمة الله.
وأما قوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا )وما بعدها من الآيات التي تدل على أن الله قد نادى موسى وكلمه تكليمًا، وناجاه حقيقة من وراء حجاب، وبلا واسطة ملَكٍ؛ فهي تردُّ على الأشاعرة الذين يجعلون الكلام معنى قائمًا بالنفس؛ بلا حرف، ولا صوت!
فيقال لهم: كيف سمع موسى هذا الكلامَ النفسيَّ؟
فإن قالوا: ألقى الله في قلبه علمًا ضروريًّا بالمعاني التي يريد أن يكلِّمَه بها؛ لم يكن هناك خصوصية لموسى في ذلك.
وإن قالوا: إن الله خلق كلامًا في الشجرة أو في الهواء، ونحو ذلك؛ لزم أن تكون الشجرة هي التي قالت لموسى: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ )
وكذلك تردُّ عليهم هذه الآيات في جعلهم الكلام معنى واحدًا في الأزل، لا يحدث منه في ذاته شيءٌ، فإن الله يقول: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ )؛ فهي تفيد حدوث الكلام عند مجيء موسى للميقات، ويقول: (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) فهذا يدل حدوث النداء عند جانب الطور الأيمن.
والنداء لا يكون إلا صوتًا مسموعًا.
وكذلك قوله تعالى في شأن آدم وحواء: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا... )الآية؛ فإن هذا النداء لم يكن إلا بعد الوقوع في الخطيئة، فهو حادث قطعًا.
وكذلك قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ... ) إلخ؛ فإن هذا النداء والقول سيكون يوم القيامة.
وفي الحديث:
((ما من عبدٍ إلاَّ سيكلِّمُهُ الله يومَ القيامة ليس بينَهُ وبينَه تَرجمان))
ليتيم الشافعي
2008-12-27, 11:59
قوله:
(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) ،(وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
،( يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ )، (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )، وَقَوْلُهُ: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ، (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) ، ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ،( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ )
/ش/ قوله: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ...)إلخ؛ هذه الآيات الكريمة تفيد أن القرآن المتلوّ المسموع المكتوب بين دفَّتي المصحف هو كلام الله على الحقيقة، وليس فقط عبارة أو حكاية عن كلام الله؛ كما تقول الأشعريَّة.
وإضافته إلى الله عزّ وجلّ تدلُّ على أنه صفةٌ لـه قائمة به، وليست كإضافة البيت أو الناقة؛ فإنها إضافة معنى إلى الذات، تدلُّ على ثبوت المعنى لتلك الذات؛ بخلاف إضافة البيت أو الناقة؛ فإنَّها إضافة أعيان، وهذا يردُّ على المعتزلة في قولهم: إنه مخلوق منفصلٌ عن الله.
ودلَّـت هذه الآيات أيضًا على أن القرآن منزَّلٌ من عند الله، بمعنى أن الله تكلَّم به بصوتٍ سمعه جبريل عليه السلام، فنزل به، وأدَّاه إلى رسول الله ( كما سمعه من الربِّ جل شأنه.
وخلاصة القول في ذلك: أن القرآن العربي كلام الله، منزَّلٌ، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، والله تكلَّم به على الحقيقة، فهو كلامه حقيقة لا كلام غيره، وإذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرجه ذلك عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقةً إلى مَن قاله مبتدئًا، لا إلى مَن بلغه مؤدِّيًا، والله تكلَّم بحروفه ومعانيه بلفظ نفسه، ليس شيء منه كلامًا لغيره، لا لجبريل، ولا لمحمد، ولا لغيرهما، والله تكلم به أيضًا بصوت نفسه، فإذا قرأه العباد قرؤوه بصوت أنفسهم، فإذا قال القارئ مثلاً :(الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين )؛كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله ، لا كلام نفسه ، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله.
وكما أن القرآن كلام الله، فكذلك هو كتابه؛ لأنه كتبه في اللوح المحفوظ، ولأنه مكتوبٌ في المصاحف؛ قال تعالى:
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ )
وقال: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ )
وقال: (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )
والقرآن في الأصل مصدرٌ كالقراءة؛ كما في قوله تعالى:
(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا )
ويراد به هنا أن يكونَ عَلَمًا على هذا المنزَّل من عند الله، المكتوب بين دفَّتي المصحف، المتعبَّد بتلاوته، المتحدَّى بأقصر سورة منه.
وقولـه: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقّ ) يدلُّ أن ابتداء نزولـه من عند الله عز وجل، وأن روح القدس جبريل عليه السلام تلقَّاه عن الله سبحانه بالكيفيَّة التي يعلمها.
وَقَوْلُهُ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )،( عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ) ،( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) ، وَقَوْلُهُ: ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ، وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ .
/ش/ قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ.. ) إلخ؛ هذه الآيات تثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة في الجنة.
وقد نفاها المعتزلة؛ بناء على نفيهم الجهة عن الله؛ لأن المرئي يجب أن يكون في جهة من الرائي، وما دامت الجهة مستحيلة، وهي شرط في الرؤية؛ فالرؤية كذلك مستحيلة.
واحتجُّوا من النقل بقولـه تعالى: ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) ، وقوله لموسى عليه السلام حين سألـه الرؤية: ( لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي )
وأما الأشاعرة؛ فهم مع نفيهم الجهة كالمعتزلة يثبتون الرؤية، ولذلك حاروا في تفسير تلك الرؤية، فمنهم مَن قال: يرونه من جميع الجهات، ومنهم من جعلها رؤية بالبصيرة لا بالبصر، وقال: المقصود زيادة الانكشاف والتجلي حتى كأنها رؤية عين.
وهذه الآيات التي أوردها المؤلِّف حجة على المعتزلة في نفيهم الرؤيـة ؛ فإن الآية الأولى عُدِّي النظر فيها بـ (إِلَى ) ، فيكون بمعنى الإبصار؛ يقال: نظرتُ إليه وأبصرتُه بمعنى، ومتعلِّق النظر هو الربّ جلّ شأنه.
وأما ما يتكلَّفه المعتزلة من جعلهم ( نَاظِرَةٌ )بمعنى منتظرة ، و(إِلَى ) بمعنى النعمة. والتقدير: ثواب ربها منتظرة؛ فهو تأويل مضحك.
وأما الآية الثانية؛ فتفيد أن أهل الجنة، وهم على أرائكهم ـ يعني: أَسِرَّتَهم، جمع أريكة ـ ينظرون إلى ربهم.
وأما الآيتان الأخيرتان؛ فقد صحَّ عن النبي ( تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل ).
ويشهد لذلك أيضًا قوله تعالى في حق الكفار(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) ، فدلَّ حجب هؤلاء على أن أولياءَه يرونه.
وأحاديث الرؤية متواترة في هذا المعنى عند أهل العلم بالحديث، لا ينكرها إلا ملحد زنديق.
وأما ما احتجَّ به المعتزلة من قوله تعالى :(لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ؛ فلا حجة لهم فيه؛ لأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، فالمراد أن الأبصار تراه ، ولكن لا تحيط به رؤية ؛ كما أن العقول تعلمه ولكن لا تحيط به علمًا؛ لأن الإدراك هو الرؤية على جهة الإحاطة، فهو رؤية خاصة، ونفي الخاص لا يستلزم نفي مطلق الرؤية.
وكذلك استدلالهم على نفي الرؤية بقولـه تعالى لموسى عليه السلام (لَن تَرَانِي ) لا يصلح دليلاً، بل الآية تدل على الرؤية من وجوهٍ كثيرةٍ؛ منها:
1- وقوع السؤال من موسى، وهو رسول الله وكليمه، وهو أعلمُ بما يستحيل في حق الله من هؤلاء المعتزلة، فلو كانت الرؤية ممتنعة لما طلبها.
2- أن الله عز وجلَّ علّق الرؤية على استقرار الجبل حال التجلِّي وهو ممكنٌ، والمعلَّق على الممكن ممكنٌ.
3- أن الله تجلَّى للجبل بالفعل، وهو جمادٌ، فلا يمتنع إذًا أن يتجلَّى لأهل محبَّته وأصفيائه.
وأما قولـهم : إن (لَن )، لتأبيد النفي ، وإنـها تدل على عدم وقوع الرؤية أصلاً؛ فهو كذب على اللغة فقد قال تعالى حكايةً عن الكفار: (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا )، ثم قـال: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) ، فأخبر عن عدم تمنِّيهم للموت بـ (لَن ) ، ثم أخبر عن تمنِّيهم له وهم في النار.
وإذًا؛ فمعنى قوله: (لَن تَرَانِي ) : لن تستطيع رؤيتي في الدنيا؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته سبحانه، ولو كانت الرؤية ممتنعة لذاتها؛ لقال: إنِّي لا أُرى، أو لا يجوز رؤيتي، أو لست بمرئيٍّ… ونحو ذلك، والله أعلم.
مباحث عامَّة حول آيات الصفات
إن الناظر في آيات الصفات التي ساقها المؤلِّف رحمه الله يستطيع أن يستنبط منها قواعدَ وأصولاً هامَّة يجب الرجوع إليها في هذا الباب:
الأصل الأوَّل: اتفق السلف على أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى، وما دلَّت عليه من الصفات، وما ينشأ عنها من الأفعال.
مثال ذلك القدرة مثلاً، يجب الإيمان بأنه سبحانه على كل شيء قدير، والإيمان بكمال قدرته، والإيمان بأن قدرته نشأت عنها جميع الكائنات..
وهكذا بقية الأسماء الحسنى على هذا النمط.
وعلى هذا؛ فما ورد في هذه الآيات التي ساقها المصنِّف من الأسماء الحسنى؛ فإنها داخلةٌ في الإيمان بالاسم.
وما فيها من ذكر الصفات؛ مثل: عزَّة الله، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وإرادته، ومشيئته، فإنها داخلة في الإيمان بالصفات.
وما فيها من ذكر الأفعال المطلقة والمقيَّدة، مثل: يعلم كذا، ويحكم ما يريد، ويرى، ويسمع، وينادي، ويناجي، وكلَّم، ويكلِّم؛ فإنها داخلةٌ في الإيمان بالأفعال.
الأصل الثاني: دلَّت هذه النصوص القرآنية على أن صفات الباري قسمان:
1- صفات ذاتيَّة لا تنفكُّ عنها الذات، بل هي لازمة لها أزلاً وأبدًا، ولا تتعلَّق بها مشيئته تعالى وقدرته، وذلك كصفات: الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والعزَّة، والملك، والعظمة، والكبرياء، والمجد، والجلال… إلخ.
2- صفات فعليَّة تتعلق بها مشيئته وقدرته كل وقت وآن، وتحدث بمشيئته وقدرته آحاد تلك الصفات من الأفعال، وإن كان هو لم يزل موصوفًا بها، بمعنى أن نوعها قديم، وأفرادها حادثة، فهو سبحانه لم يزل فعّالاً لما يريد، ولم يزل ولا يزال يقول ويتكلَّم ويخلق ويدبِّر الأمور، وأفعالـه تقع شيئًا فشيئًا، تبعًا لحكمته وإرادته.
فعلى المؤمن الإيمان بكل مانسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلِّقة بذاته؛ كالاستواء على العرش، والمجيء، والإتيان، والنزول إلى السماء الدنيا، والضحك، والرضى، والغضب، والكراهية، والمحبة. والمتعلِّقة بخلقه؛ كالخلق, والرزق، والإحياء، والإماتة، وأنواع التدبير المختلفة.
الأصل الثالث: إثبات تفرُّد الربِّ جلَّ شأنه بكل صفة كمال، وأنه ليس لـه شريك أو مثيلٌ في شيءٍ منها.
وما ورد في الآيات السابقة من إثبات المثل الأعلى لـه وحده، ونفي الند والمثل والكفء والسميّ والشريك عنه يدل على ذلك؛كما يدل على أنه منزَّه عن كل نقصٍ وعيبٍ وآفةٍ.
الأصل الرابع: إثبات جميع ما ورد به الكتاب والسنة من الصفات، لا فرق بين الذاتية منها؛ كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ونحوها، والفعلية؛ كالرضا والمحبة والغضب والكراهة، وكذلك لا فرق بين إثبات الوجه واليدين ونحوهما، وبين الاستواء على العرش والنزول، فكلها مما اتفق السلف على إثباته بلا تأويل ولا تعطيل، وبلا تشبيه وتمثيل.
والمخالف في هذا الأصل فريقان:
1- الجهميَّة: ينفون الأسماء والصفات جميعًا.
2- المعتزلة:فإنهم ينفون جميع الصفات،ويثبتون الأسماء والأحكام، فيقولون: عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وحيٌّ بلا حياة… إلخ.
وهذا القول في غاية الفساد؛ فإن إثبات موصوف بلا صفة، وإثبات ما للصفة للذات المجرَّدة محالٌ في العقل؛ كما هو باطلٌ في الشرع.
أما الأشعرية ومَن تبعهم؛ فإنهم يوافقون أهل السنة في إثبات سبع صفات يسمونها صفات المعاني، ويدَّعون ثبوتها بالعقل، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، و الإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
ولكنهم وافقوا المعتزلة في نفي ما عدا هذه السبع من الصفات الخبرية التي صحَّ بها الخبر.
والكل محجوجون بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقرون المفضَّلة على الإثبات العام.
ليتيم الشافعي
2008-12-28, 15:17
فَصْلٌ: ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ
/ش/ قولـه: ((ثم في سنة رسول الله)) عطفٌ على قولـه فيما تقدَّم : ((وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص… إلخ))؛ يعنى: ودخل فيها ما وصف به الرسول ( ربَّه فيما وردت به السنة الصحيحة.
والسنَّة هي الأصل الثاني الذي يجب الرجوع إليه، والتَّعويل عليه بعد كتاب الله عز وجل؛ قال تعالى:
(وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )
والمراد بالحكمة: السنة.
وقال: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )
وقال آمرًا لنساء نبيِّه: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ )
وقال سبحانه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )
وقال صلواتُ الله وسلامُهُ عليهِ وآلـه: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثلـه معه))
وحكم السنة حكم القرآن في ثبوت العلم واليقين والاعتقاد والعمل؛ فإن السنة توضيح للقرآن، وبيانٌ للمراد منه: تفصِّل مجملـه، وتقيِّد مطلقه, وتخصِّص عمومه؛ كما قال تعالى:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) .
وأهل البدع والأهواء بإزاء السنة الصحيحة فريقان:
1- فريقٌ لا يتورَّع عن ردها وإنكارها إذا وردت بما يخالف مذهبه؛ بدعوى أنها أحاديث آحاد لا تفيد إلاَّ الظنَّ، والواجب في باب الاعتقاد اليقين، وهؤلاء هم المعتزلة والفلاسفة.
2- وفريق يُثبتها ويعتقد بصحة النقل، ولكنه يشتغل بتأويلها؛ كما يشتغل بتأويل آيات الكتاب، حتى يخرِجَها عن معانيها الظاهرة إلى ما يريده من معانٍ بالإلحاد والتحريف، وهؤلاء هم متأخِّرو الأشعرية، وأكثرهم توسُّعًا في هذا الباب الغزالي ، والرَّازي
قولـه: ((وما وصف الرسول به…)) إلخ؛ يعني: أنه كما وجب الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ؛ كذلك يجب الإيمان بكل ما وصفه به أعلم الخلق بربه وبما يجب لـه،وهو رسولـه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وآلـه.
قولـه: ((كذلك))؛ أي: إيمانًا مثل ذلك الإيمان، خاليًا من التحريف والتعطيل، ومن التكييف والتمثيل بل إثبات لها على الوجه اللائق بعظمة الرب جلّ شأنه.
فَمِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِهِ : ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
/ش/ قولـه: ((فمن ذلك مثل قولـه ) إلخ؛ الكلام على هذا الحديث من جهتين:
الأولى: صحَّته من جهة النقل؛ وقد ذكر المؤلِّف رحمه الله أنه متَّفق عليه. ويقول الذهبي في كتابه ((العلو للعليِّ الغفار)) :
((إن أحاديث النزول متواترة، تفيد القطع)).
وعلى هذا؛ فلا مجال لإنكار أو جحود.
الثانية: ما يفيده هذا الحديث؛ وهو إخباره ( بنزول الربِّ تبارك وتعالى كل ليلة… إلخ.
ومعنى هذا أن النزول صفة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، فهو لا يماثل نزول الخلق؛ كما أن استواءه لا يماثل استواء الخلق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في تفسيره سورة الإخلاص:
((فالربُّ سبحانه إذا وصفه رسولـه بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلَّم موسى بالوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخانٌ، فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا؛ لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة حتى يُقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر)) .
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالنزول صفة حقيقية لله عز وجل، على الكيفية التي يشاء، فيثبتون النزول كما يثبتون جميع الصفات التي ثبتت في الكتاب والسنة، ويقفون عند ذلك، فلا يكيِّفون ولا يمثِّلون ولا ينفون ولا يعطِّلون، ويقولون: إن الرسول أخبرنا أنه ينزل،ولكنه لم يخبرنا كيف ينزل، وقد علمنا أنه فعَّال لما يريد، وأنه على كل شيء قدير.
ولهذا ترى خواصَّ المؤمنين يتعرَّضون في هذا الوقت الجليل لألطاف ربهم ومواهبه، فيقومون لعبوديته؛ خاضعين خاشعين، داعين متضرِّعين، يرجون منه حصول مطالبهم التي وعدهم بها على لسان رسولـه
.........يتبع
ليتيم الشافعي
2008-12-29, 09:34
وَقَوْلُهُ : ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
/ش/ قولـه: ((لله أَشَدُّ فَرَحًا…)) إلخ؛ تتمة هذا الحديث؛ كما في البخاري وغيره:
((لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل بأرض فلاة دويَّة مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنزل عنها، فنام وراحلته عند رأسه، فاستيقظ وقد ذهبت، فذهب في طلبها، فلم يقدر عليها، حتى أدركه الموت من العطش، فقال: والله لأرجعن فلأموتن حيث كان رحلي، فرجع، فنام، فاستيقظ، فإذا راحلته عند رأسه، فقال: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح))
وفي هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله عزّ وجلّ، والكلام فيه كالكلام في غيره من الصفات: أنه صفة حقيقة لله عزّ وجلّ، على ما يليق به، وهو من صفات الفعل التابعة لمشيئته تعالى وقدرته، فيَحْدُث لـه هذا المعنى المعبَّر عنه بالفرح عندما يُحدِثُ عبدُه التوبةَ والإنابةَ إليه، وهو مستلزمٌ لرضاه عن عبده التائب، وقبولـه توبته.
وإذا كان الفرح في المخلوق على أنواع؛ فقد يكون فرح خفة وسرور وطرب، وقد يكون فرح أشرٍ وبطرٍ؛ فالله عزَّ وجلَّ منزَّه عن ذلك كلـه، ففرحـهُ لا يشبه فرح أحد من خلقه، لا في ذاته، ولا في أسبابه، ولا في غاياته، فسببه كمال رحمته وإحسانه التي يحب من عباده أن يتعرَّضوا لها، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين.
وأما تفسير الفرح بلازمه،وهو الرضا، وتفسير الرضا بإرادة الثواب؛ فكلُّ ذلك نفيٌ وتعطيلٌ لفرحه ورضاه سبحانه، أوجبه سوءُ ظنِّ هؤلاء المعطِّلة بربهم، حيث توهَّموا أن هذه المعاني تكون فيه كما هي في المخلوق، تعالى الله عن تشبيههم وتعطيلهم.
وَقَوْلُهُ: : ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
/ش/ قولـه: ((يضحك الله إلى رجلين…)) إلخ؛ يثبت أهل السنة والجماعة الضحك لله عز وجل ـ كما أفاده هذا الحديث وغيره ـ على المعنى الذي يليق به سبحانه، والذي لا يشبهه ضحك المخلوقين عندما يستخفُّهم الفرح، أو يستفزُّهم الطرب؛ بل هو معنى يحدث في ذاته عند وجود مقتضيه، وإنما يحدث بمشيئته وحكمته؛ فإن الضحك إنما ينشأ في المخلوق عند إدراكه لأمرٍ عجيبٍ يخرج عن نظائره، وهذه الحالة المذكورة في هذا الحديث كذلك؛ فإن تسليط الكافر على قتل المسلم مَدعاةٌ في بادئ الرأي لسخط الله على هذا الكافر، وخذلانه، ومعاقبته في الدنيا والآخرة، فإذا منَّ الله على هذا الكافر بعد ذلك بالتوبة، وهداه للدخول في الإسلام، وقاتل في سبيل الله حتى يستشهد فيدخل الجنة؛ كان ذلك من الأمور العجيبة حقًّا.
وهذا من كمال رحمته وإحسانه وسعة فضلـه على عباده سبحانه؛ فإن المسلم يقاتل في سبيل الله، ويقتله الكافر، فيكرم الله المسلم بالشهادة، ثم يمنُّ على ذلك القاتل، فيهديه للإسلام والاستشهاد في سبيله، فيدخلان الجنة جميعًا.
وأما تأويل ضحكه سبحانه بالرضا أو القبول أو أنّ الشيء حلَّ عنده بمحلِّ ما يضحك منه، وليس هناك في الحقيقة ضحك؛ فهو نفيٌ لما أثبته رسول الله ( لربه، فلا يُلْتَفَتُ إليه.
وَقَوْلُهُ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ آزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)) . حَدِيثٌ حَسَنٌ .
/ش/ قولـه: ((عَجِبَ رَبُّنا…)) إلخ؛ هذا الحديث يثبت لله عز وجل صفة العَجَب، وفي معناه قولـه عليه الصلاة والسلام:
((عجب ربك من شابٍّ ليس لـه صبوة))
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) ؛ بضم التاء على أنَّها ضميرٌ للرَّبِّ جلّ شأنه.
وليس عجبه سبحانه ناشئًا عن خفاء في الأسباب أو جهل بحقائق الأمور؛ كما هو الحال في عجب المخلوقين؛ بل هو معنى يحدث لـه سبحانه على مقتضى مشيئته وحكمته وعند وجود مقتضيه، وهو الشيء الذي يستحقّ أن يتعجب منه.
وهذا العَجَب الذي وصف به الرسولُ ربَّه هنا من آثار رحمته، وهو من كمالـه تعالى، فإذا تأخَّر الغيث عن العباد مع فقرهم وشدَّة حاجتهم، واستولى عليهم اليأس والقنوط، وصار نظرهم قاصرًا على الأسباب الظاهرة، وحسبوا أن لا يكون وراءها فرجٌ من القريب المجيب؛ فيعجب الله منهم.
وهذا محلٌّ عجيبٌ حقًّا؛ إذ كيف يقنطون ورحمته وسعت كلَّ شيء، والأسباب لحصولها قد توفَّرت؟! فإن حاجة العباد وضرورتهم من أسباب رحمته، وكذا الدعاء بحصول الغيث والرجاء في الله من أسبابها، وقد جرت عادته سبحانه في خلقه أن الفرج مع الكرب، وأن اليسر مع العسر، وأن الشدة لا تدوم، فإذا انضمَّ إلى ذلك قوّة التجاء وطمع في فضل الله ، وتضرع إليه ودعاء ؛ فتح اللهم عليهم من خزائن رحمته ما لا يخطر على البال.
والقنوط مصدر (قَنَط)، وهو اليأس من رحمة الله؛ قال تعالى:
(وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ)
قولـه: ((وقُرب خيره))؛ أي: فضلـه ورحمته. وقد رُوِيَ: ((غِيَرِه)). والغِيَر: اسم من قولك: غَيَّرَ الشيء فتغيَّر.
وفي حديث الاستسقاء:
((مَن يكفر بالله يلقَ الغِيَر)) ؛ أي: تغيّر الحال، وانتقالها من الصلاح إلى الفساد.
قولـه: ((آزلين قنطين)): حالان من الضمير المجرور في ((إليكم)).
و((آزِلين)): جمع آزِِل، اسم فاعل من الأزْل؛ بمعنى الشِّدة والضيق. يقال: أَزِلَ الرجل يأزَل أزَلاً، من باب فرح؛ أي: صار في ضيق وجدب.
.....يتبع
ليتيم الشافعي
2008-12-30, 09:42
وَقَوْلُهُ : ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
/ش/ قولـه: ((لا تزال جهنَّم…)) إلخ؛ في هذا الحديث إثبات الرجل والقدَم لله عز وجل، وهذه الصفة تُجرى مجرى بقيَّة الصفات، فتُثبت لله علي الوجه اللائق بعظمته سبحانه.
والحكمة من وضع رجلـه سبحانه في النار أنه قد وعد أن يملأها؛ كما في قولـه تعالى: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).
ولما كان مقتضى رحمته وعدلـه أن لا يعذِّبَ أحدًا بغير ذنبٍ، وكانت النار في غاية العمق والسعة؛ حقَّق وعده تعالى، فوضع فيها قدمه، فحينئذ يتلاقى طرفاها، ولا يبقى فيها فضل عن أهلها.
وأما الجنة؛ فإنه يبقى فيها فضلٌ عن أهلها مع كثرة ما أعطاهم وأوسع لهم، فينشئ الله لها خلقًا آخرين؛ كما ثبت بذلك الحديث .
وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ)). مُتَّفقٌ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ)) .
/ش/ قولـه: ((يقول تعالى: يا آدم…)) إلخ؛ في هذين الحديثين إثباتُ القول والنداء والتكليم لله عز وجل، وقد سبق أن بيَّنَّا مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، وأنهم يؤمنون بأن هذه صفات أفعال لـه سبحانه تابعة لمشيئته وحكمته، فهو قال، ويقول، ونادى، وينادي، وكلَّم، ويكلِّم، وأن قولـه ونداءه وتكليمه إنما يكون بحروف وأصوات يسمعها من يناديه ويكلِّمه، وفي هذا ردٌّ على الأشاعرة في قولـهم: إن كلامه قديم، وإنه بلا حرفٍ ولا صوتٍ.
وقد دلَّ الحديث الثاني على أنه سبحانه سيكلِّم جميع عباده بلا واسطة، وهذا تكليمٌ عامٌّ؛ لأنه تكليمُ محاسبةٍ، فهو يشملُ المؤمنَ والكافرَ والبر والفاجر، ولا ينافيه قولـه تعالى: (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ )؛ لأن المنفيَّ هنا هو التكليم بما يسرُّ المكلَّم، وهو تكليمٌ خاصٌّ، ويقابلـه تكليمه سبحانه لأهل الجنة تكليمَ محبة ورضوان وإحسان.
وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ(رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ [فَيَبْرَأَ]
[حَدِيثٌ حَسَنٌ] ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [وَغَيرُهُ] .
وَقَوْلُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) . [حَدِيثٌ صَحِيحٌ]
وَقَوْلُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ [الْمَاءِ] ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ))
[حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ]
وَقَوْلُهُ لِلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)). قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)). قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
/ش/قولـه: ((ربّنا الله الذي في السّماء…)) إلخ؛ الحديث الأول [والثاني] صريحٌ في علوِّه تعالى وفوقيّته؛ فهو كقولـه تعالى: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء )
وقد سبق أن قلنا: إن هذه النصوص ليس المراد منها أن السماء ظرفٌ حاوٍ لـه سبحانه؛ بل (في) إما أن تكون بمعنى (على)؛ كما قالـه كثير من أهل العلم واللغة، و(في) تكون بمعنى (على) في مواضع كثيرةٍ؛ مثل قولـه تعالى: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )، وإما أن يكون المراد من السماء جهة العلو، وعلى الوجهين فهي نصٌّ في علوِّه تعالى على خلقه.
وفي حديث الرقية المذكور توسُّلٌ إلى الله عزّ وجلّ بالثناء عليه بربوبيَّته وإلاهيَّته وتقديس اسمه وعلوِّه على خلقه وعموم أمره الشرعي وأمره القدري، ثم توسلٌ إليه برحمته التي شملت أهل سماواته جميعًا أن يجعل لأهل الأرض نصيبًا منها، ثم توسلٌ إليه بسؤال مغفرة الحُوب ـ وهو الذنب العظيم ـ، ثم الخطايا التي هي دونه، ثم توسلٌ إليه بربوبيته الخاصَّة للطَّيِّبين من عباده، وهم الأنبياء وأتباعهم، التي كان من آثارها أن غمرهم بنعم الدِّين والدُّنيا الظاهرة والباطنة.
فهذه الوسائل المتنوِّعة إلى الله لا يكاد يُرَدُّ دعاء مَن توسَّل بها،ولهذا دعا الله بعدها بالشفاء الذي هو شفاءُ الله الذي لا يدع مرضًا إلا أزاله، ولا تعلُّق فيه لغير الله.
فهل يفقه هذا عُبَّاد القبور من المتوسِّلين بالذوات والأشخاص والحق والجاه والحرمة ونحو ذلك؟!
وأما قولـه: ((والعرش فوق الماء…)) إلخ؛ ففيه الجمع بين الإيمان بعلوِّه تعالى على عرشه، وبإحاطة علمه بالموجودات كلها.
فسبحان مَن هو عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّه.
وأما الحديث الرابع ؛ فقد تضمَّن شهادة الرسول ( بالإيمان للجارية التي اعترفت بعلوه تعالى على خلقه، فدلَّ ذلك على أن وصف العلوِّ من أعظم أوصاف الباري جل شأنه، حيث خصَّه بالسؤال عنه دون بقيَّة الأوصاف، ودلَّ أيضًا على أن الإيمان بعلوِّه المطلق من كل وجه هو من أعظم أصول الإيمان، فمَن أنكره؛ فقد حُرِم الإيمان الصحيح.
والعجب من هؤلاء الحمقى من المعطِّلة النفاة زعمهم أنهم أعلم بالله من رسوله، فينفون عنه الأين بعدما وقع هذا اللفظ بعينه من الرسول مرة سائلاً غيره ـ كما في هذا الحديث ـ، ومرة مجيبًا لمن سألـه بقولـه: أين كان ربنا؟
.......يتبع
ليتيم الشافعي
2008-12-31, 14:33
وَقَوْلُهُ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)) حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ : ((اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ [وَالأَرْضِ]() وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ] كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ)) . [رِوَايَةُ] مُسْلِمٌ.
وَقَوْلُهُ (: لَمَّا رَفَعَ [الصَّحَابَةُ] أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا [بَصِيرًا] قَرِيبًا. إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
/ش/ قولـه: ((أفضل الإيمان أن تعلم…)) إلخ؛ فيه دلالة على أن أفضل الإيمان هو مقام الإحسان والمراقبة، وهو أن العبدُ ربَّه كأنَّه يراه ويشاهده، ويعلم أن الله معه حيث كان، فلا يتكلَّم ولا يفعل ولا يخوض في أمرٍ إلا والله رقيبٌ مطَّلع عليه؛
قال تعالى:
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه ) .
ولا شكَّ أن هذه المعيَّة إذا استحضرها العبد في كل أحواله؛ فإنه يستحيي من الله عزَّ وجلَّ أن يراه حيث نهاه، أو أن يفتقده حيث أمره، فتكون عونًا لـه على اجتناب ما حرَّم الله، والمسارعة إلى فعل ما أمر به من الطاعات على وجه الكمال ظاهرًا وباطنًا، ولا سيما إذا دخل في الصلاة التي هي أعظم صلة ومناجاة بين العبد وربه، فيخشع قلبه، ويستحضر عظمة الله وجلاله، فتقلُّ حركاته، ولا يسيء الأدب مع ربه بالبصق أمامه أو عن يمينه.
قولـه: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة…)) إلخ؛ دلَّ على أن الله عز وجل يكونُ قِبَلَ وَجهِ المُصلِّي.
قال شيخ الإسلام في ((العقيدة الحموية)) .
((إن الحديث حقٌّ على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثـبُتُ للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر؛ لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضًا قِبل وجهه)). اهـ
قولـه: ((اللهُمَّ ربَّ السموات…)) إلخ؛ تضمَّن الحديث إثبات أسمائه تعالى: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وهي من الأسماء الحسنى، وقد فسرها النبيُّ ( بما لا يدعُ مجالاً لقائلٍ، فهو أعلم الخلق جميعًا بأسماء ربه وبالمعاني التي تدلُّ عليها، فلا يصحُّ أن يُلْتَفَت إلى قول غيره أيًّا كان.
وفي الحديث أيضًا يعلِّمنا نبيُّنا صلوات الله وسلامه عليه وآلـه كيف نثني على ربِّنا عزّ وجلّ قبل السؤال، فهو يثني عليه بربوبيَّته العامة التي انتظمت كل شيء، ثم بربوبيَّتِه الخاصة الممثَّلة في إنزالـه هذه الكتب الثلاثة تحمل الهدى والنور إلى عباده، ثم يعوذ ويعتصم به سبحانه من شر نفسه ومن شر كل ذي شر من خلقه، ثم يسألـه في آخر الحديث أن يقضي عنه دينه، وأن يغنيه من فقرٍ.
قولـه: ((أيُّها النَّاس اربعوا على أنفسكم…)) إلخ؛ أفاد هذا الحديث قربه سبحانه من عباده، وأنه ليس بحاجة إلى أن يرفعوا إليه أصواتهم؛ فإنه يعلم السرَّ والنَّجوى، وهذا القرب المذكور في الحديث قرب إحاطة، وعلم، وسمع، ورؤية، فلا ينافي علوَّه على خلقه.
قَوْلُهُ: ((إِنَّكُمْ سَـتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَـرَوْنَ الْقَمَـرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
/ش/ هذا الحديث الصحيح المتواتر يشهد لما دلَّت عليه الآيات السابقة من رؤية المؤمنين لله عزّ وجلّ في الجنة، وتمتُّعهم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وهذه النصوص من الآيات والأحاديث تدلُّ على أمرين:
أولهما: علوُّه تعالى علىخلقه؛ لأنها صريحة في أنهم يرونه من فوقهم.
ثانيهما: أن أعظم أنواع النعيم هو النظر إلى وجه الله الكريم.
وقولـه: ((كما ترون القمر ليلة البدر))؛ المراد تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي؛ يعني: أن رؤيتهم لربهم تكون من الظهور والوضوح كرؤية القمر في أكمل حالاته، وهي كونه بدرًا، ولا يحجبه سحاب، ولهذا قال بعد ذلك: ((لا تُضامون في رؤيته))؛ روي بتشديد الميم من التَّضامِّ؛ بمعنى: التزاحم والتلاصق، والتاء يجوز فيها الضمّ والفتح، على أن الأصل تتضامُّون، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وروي بتخفيف الميم من الضيم؛ بمعنى: الظلم؛ يعني: لا يلحقكم في رؤيته ضيمٌ ولا غبنٌ.
وفي حثِّه ( في هذا الحديث على صلاة العصر وصلاة الفجر خاصة إشارة إلى أن مَن حافظ عليهما في جماعة نال هذا النعيم الكامل، الذي يضمحلُّ بإزائه كل نعيم، وهو يدلُّ على تأكيد هاتين الصلاتين كما دلَّ على ذلك الحديث الآخر:
((يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر)) . متفق عليه.
.....يتبع
ليتيم الشافعي
2009-01-03, 14:12
إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ ( عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ).
/ش/ قولـه: ((إلى أمثال هذه الأحاديث…)) إلخ. لما كان ما ذكره المؤلف من الأحاديث ليس هو كل ما ورد في باب الصفات من الأخبار؛ نبَّه على أن أمثال هذه الأحاديث التي ذكرها ممَّا يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن حكمه كذلك، وهو وجوب الإيمان بما يتضمَّنه من أسماء الله وصفاته.
ثم عاد فأكَّد معتقد أهل السنة والجماعة. وهو أنهم يؤمنون بما وردت به السنة الصحيحة من صفات؛ كإيمانهم بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
ثم أخبر عن أهل السنة والجماعة بأنهم وسطٌ بين فِرَق الضلال والزَّيغ من هذه الأمة؛ كما أن هذه الأمة وسطٌ بين الأمم السابقة؛ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )
ومعنى (وَسَطًا ): عُدولاً خيارًا؛ كما وردَ الحديث بذلك
فهذه الأمـَّة وسطٌ بين الأمم التي تجنَحُ إلى الغلوِّ الضارِّ والأمم التي تميلُ إلى التَّفريط المُهْلِكِ.
فإنّ من الأمم مَن غلا في المخلوقين، وجعل لهم من صفات الخالق وحقوقه ما جعل؛ كالنصارى الذين غَلَوا في المسيح والرُّهبان.
ومنهم مَن جفا الأنبياء وأتباعَهم ، حتى قتلهُم ، وردَّ دعوتهم ؛ كاليهود الذين قتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل المسيح، ورَمَوْه بالبُهتان.
وأما هذه الأمة؛ فقد آمنت بكل رسول أرسله الله، واعتقدت رسالتهم، وعرفت لهم مقاماتهم الرَّفيعة التي فضَّلهم الله بها.
ومن الأمم أيضًا مَن استحلَّت كلَّ خبيثٍ وطيِّبٍ.
ومنها مَن حرَّم الطَّيِّبات غلوًّا ومجاوزةً.
وأما هذه الأمة؛ فقد أحَلَّ الله لها الطَّيِّبات، وحرَّم عليها الخبائث..
إلى غير ذلك من الأمور التي مَنَّ الله على هذه الأمة الكاملة بالتوسُّط فيها.
فكذلك أهل السنة والجماعة متوسِّطون بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفتْ عن الصراط المستقيم.
فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ) .
/ش/ قولـه: ((فهُم وسطٌ في باب صفات الله…)) إلخ؛ يعني: أن أهل السنة والجماعة وسَطٌ في باب الصفات بين مَن ينفيها ويعطِّل الذات العليَّة عنها، ويحرِّف ما ورد فيها من الآيات والأحاديث عن معانيها الصَّحيحة إلى ما يعتقده هو من معانٍ بلا دليلٍ صحيح، ولا عقلٍ صريح؛ كقولهم: رحمة الله: إرادته الإحسان، ويده: قدرتُه، وعينُه: حفظه ورعايته، واستواؤه على العرش: استيلاؤه… إلى أمثال ذلك من أنواع النفي والتَّعطيل التي أوقعهم فيها سوء ظنِّهم بربِّهم، وتوهُّمِهم أن قيام هذه الصفات به لا يُعْقَل إلا على النحو الموجود في قيامها بالمخلوق.
ولقد أحسن القائل حيث يقول:
وَقُصَارَى أَمْرِ مَنْ أَوَّلَ أَنْ ظَنُّوا الظُّنُونَا
فَيَقُولُونَ عَلَى الرَّحْمَنِ مَا لاَ يَعْلَمُونَا
وإنما سُمِّي أهل التعطيل جهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي رأس الفتنة والضلال، وقد تُوُسِّع في هذا اللفظ حتى أصبح يُطلق على كل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات، فهو شامل لجميع فرق النُّفاة؛ من فلاسفة، ومعتزلة، وأشعرية، وقرامطة باطنية .
فأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء الجهمية النفاة وبين أهل التمثيل المشبِّهة الذين شبّهوا الله بخلقه، ومثَّلوه بعباده.
وقد ردّ الله على الطائفتين بقولـه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ، فهذا يردُّ على المشبِّهة. وقولـه: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) يردُّ على المعطِّلة.
وأما أهل الحق؛ فهم الذين يثبتون الصفات للـه تعالى إثباتًا بلا تمثيل، وينزِّهُونه عن مشابهة المخلوقات تنزيهًا بلا تعطيل، فجمعوا أحسن ما عند الفريقين؛ أعني: التنزيه والإثبات، وتركوا ما أخطؤوا وأساؤوا فيه من التعطيل والتشبيه.
(وَهُـمْ وَسَـطٌ فِي بَـابِ أَفْعَالِ الله بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ ).
/ش/ قولـه: ((وَهُمْ وَسَطٌ…)) إلخ؛ قال الشيخ العلاَّمة محمد بن عبدالعزيز بن مانع في تعليقه على هذه العبارة ما نصه :
(اعلم أن الناس اختلفوا في أفعال العباد؛ هل هي مقدورةٌ للرب أم لا
فقال جهمٌ وأتباعه ـ وهم الجبرية ـ : إن ذلك الفعل مقـدورٌ للرَّب لا للعبد.
وكذلك قال الأشعري وأتباعه: إن المؤثر في المقدور قدرة الرب دون قدرة العبد.
وقال جمهور المعتزلة ـ وهم القدرية؛ أي: نفاة القدر ـ: إن الرب لا يقدر على عين مقدور العبد. واختلفوا: هل يقدر على مثل مقدوره؟ فأثبته البصريون؛ كأبي علي، وأبي هاشم، ونفاه الكعبيُّ وأتباعه البغداديُّون.
وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه منفردٌ بخلق المخلوقات، لا خالق لها سواه.
فالجبرية غلَوْا في إثبات القدر، فنَفَوْا فعل العبد أصلاً.
والمعتزلة نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله، ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة.
وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، فقالوا: العباد فاعلون، والله خالقهم وخالق أفعالهم؛كما قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) اهـ
وإنما نقلنا هذه العبارة بنصها؛ لأنها تلخيصٌ جيِّدٌ لمذاهب المتكلِّمين في القدر وأفعال العباد.
......يتبع
ليتيم الشافعي
2009-01-06, 09:03
وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ [و] الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ).
/ش/ قولـه: ((وفي باب وعيد الله…)) إلخ؛ يعني: أن أهل السنة والجماعة وسط في باب الوعيد بين المفرِّطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وزعموا أن الإيمان مجرَّد التصديق بالقلب، وإن لم ينطق به، وسُمُّوا بذلك نسبةً إلى الإرجاء؛ أي التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان.
ولا شكَّ أن الإرجاء بهذا المعنى كفرٌ يخرجُ صاحِبَهُ عن الملَّة؛ فإنه لابد في الإيمان من قولٍ باللسان، واعتقادٍ بالجَنَان، وعملٍ بالأركان، فإذا اختلَّ واحدٌ منها لم يكن الرجل مؤمنًا.
وأمّا الإرجاء الذي نسب إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة؛ كأبي حنيفة وغيره، وهو قولهم: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم مع ذلك يوافقون أهل السنة على أن الله يعذِّب مَن يعذِّب من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها، وعلى أنه لا بدّ في الإيمان من نطقٍ باللسان، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة يستحقُّ تاركها الذمَّ والعقاب؛ فهذا النوع من الإرجاء ليس كفرًا، وإن كان قولاً باطلاً مبتَدعًا؛ لإخراجهم الأعمال عن الإيمان.
وأما الوعيدية؛ فهم القائلون بأن الله يجب عليه عقلاً أن يعذِّب العاصي؛ كما يجب عليه أن يُثيب المطيع، فمن مات على كبيرة ولم يتب منها لا يجوز عندهم أن يَغْفِرَ الله لـه، ومذهبهم باطلٌ مخالفٌ للكتاب والسنة؛ قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ).
وقد استفاضت الأحاديث في خروج عصاة الموحِّدين من النار ودخولهم الجنة.
فمذهب أهل السنة والجماعة وسطٌ بين نفاة الوعيد من المرجئة وبين موجبيه من القدريَّة، فمَن مات على كبيرةٍ عندهم؛ فأمره مفوَّضٌ إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه؛ كما دلَّت عليه الآية السابقة.
وإذا عاقبه بها؛ فإنه لا يخلد خلود الكفار، بل يخرج من النار، ويدخل الجنة.
(وَفِي بَابِ [أَسْمَاءِ] الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ ).
/ش/ قولـه: ((وفي باب أسماء الإيمان…)) إلخ؛ كانت مسألة الأسماء والأحكام من أول ماوقع فيه النزاع في الإسلام بين الطوائف المختلفة، وكان للأحداث السياسية والحروب التي جرت بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما في ذلك الحين، وما ترتب عليها من ظهور الخوارج والرافضة والقدريَّة أثر كبير في ذلك النزاع.
والمراد بالأسماء هنا أسماء الدين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق… إلخ.
والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
فالخوارج الحرورية والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحقُّ اسمَ الإيمان إلاّ مَن صدَّق بجَنانه، وأقرَّ بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع الكبائر. فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمنًا باتفاق بين الفريقين.
ولكنهم اختلفوا: هل يسمَّى كافرًا أو لا؟
فالخوارج يسمونه كافرًا، ويستحلِّون دمه وماله، ولهذا كفَّروا عليًّا ومعاوية وأصحابهما، واستحلُّوا منهم ما يستحلُّون من الكفّار.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين، وهذا أحد الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال.
واتَّفق الفريقان أيضًا على أن مَن مات على كبيرة ولم يتب منها فهو مخلَّد في النار.
فوقع الاتفاق بينهما في أمرين:
1- نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة.
2- خلوده في النار مع الكفّار.
ووقع الخلاف أيضًا في موضعين:
أحدهما: تسميته كافرًا.
والثاني: استحلال دمه وماله، وهو الحكم الدنيوي.
وأما المرجئة؛ فقد سبق بيان مذهبهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان معصية؛ فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمنٌ كامل الإيمان، ولا يستحقُّ دخول النار.
فمذهب أهل السنة والجماعة وسطٌ بين هذين المذهبين؛ فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمنٌ ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً؛ كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون بأنه كامل الإيمان؛ كالمرجئة والجهمية. وحكمه في الآخرة عندهم أنه قد يعفو الله عز وجل عنه فيدخل الجنة ابتداءً، أو يعذِّبه بقدر معصيته، ثم يخرجه ويدخلـه الجنة كما سبق، وهذا الحكم أيضًا وسط بين مَن يقول بخلوده في النار، وبين مَن يقول: إنه لا يستحق على المعصية عقابًا.
....يتبع
ليتيم الشافعي
2009-01-08, 10:58
(وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ( بَيْنَ الرَّافِضَةِ و الْخَوَارِجِ)
/ش/ قولـه: ((وفي أصحاب رسول الله…)) إلخ. المعروف أن الرافضة ـ قبَّحهم الله ـ يسبون الصحابة رضي الله عنهم، ويلعنونهم، وربما كفَّروهم أو كفَّروا بعضهم، والغالبية منهم ـ مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء ـ يغلون في عليٍّ وأولاده، ويعتقدون فيهم الإلهية.
وقد ظهر هؤلاء في حياة عليٍّ رضي الله عنه بزعامة عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًّا وأسلم وأراد أن يكيد للإسلام وأهله؛ كما كاد اليهود من قبل للنصرانية وأفسدوها على أهلها، وقد حرَّقهم علي بالنار لإطفاء فتنتهم، وروي عنه في ذلك قولـه:
لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا
أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرًا
وأما الخوارج؛ فقد قابلوا هؤلاء الروافض، فكفَّروا عليًّا ومعاوية ومَن معهما من الصحابة، وقاتلوهم واستحلُّوا دماءهم وأموالهم.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطًا بين غلوِّ هؤلاء وتقصير أولئك، وهداهم الله إلى الاعتراف بفضل أصحاب نبيِّهم، وأنهم أكمل هذه الأمة إيمانًا وإسلامًا وعلمًا وحكمةً، ولكنهم لم يغلوا فيهم، ولم يعتقدوا عصمتهم؛ بل قاموا بحقوقهم، وأحبُّوهم لعظيم سابقتهم وحسن بلائهم في نصرة الإسلام وجهادهم مع رسول الله .
فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ().
وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ ، اللُّغَةُ ، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ [عَلَيْهِم] … إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ.
وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ ـ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا ـ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (في السَّمَاء ) ؛ أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ .
/ش/ قولـه: ((وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان…)) إلخ. صرَّح المؤلِّف هنا بمسألة علوِّ الله تعالى واستوائه على عرشه بائنًا من خلقه؛ كما أخبر الله عن ذلك في كتابه، وكما تواتر الخبر بذلك عن رسوله، وكما أجمع عليه سلف الأمة الذين هم أكملها علمًا وإيمانًا، مؤكِّدًا بذلك ما سبق أن ذكره في هذا الصدد، ومشدِّدًا النكير على مَن أنكر ذلك من الجهمية والمعتزلة ومَن تبعهم من الأشاعرة.
ثم بَيَّنَ أن استواءه على عرشه لا ينافي معيَّته وقربه من خلقه؛ فإن المعيَّة ليس معناها الاختلاط والمجاورة الحسيَّة.
وضرب لذلك مثلاً بالقمر الذي هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغيره أينما كان؛ بظهوره واتصال نوره، فإذا جاز هذا بالنسبة للقمر، وهو من أصغر مخلوقات الله؛ أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علمًا وقدرة، والذي هو شهيدٌ مطَّلع عليهم, يسمعهم، ويراهم، ويعلم سرَّهم ونجواهم، بل العالم كلـه سماواته وأرضه من العرش إلى الفرش كلـه بين يديه سبحانه؛ كأنه بندقةٌ في يد أحدنا؛ أفلا يجوز لمن هذا شأنه أن يقال: إنه مع خلقه مع كونه عاليًا عليهم بائنًا منهم فوق عرشه؟!
بلى؛ يجب الإيمان بكلٍّ من علوِّه تعالى ومعيِّته، واعتقاده أن ذلك كلـه حقٌّ على حقيقته، من غير أن يُساء فهم ذلك، أو يُحمل على معانٍ فاسدة؛ كأن يُفْهَمَ من قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ )معيَّةَ الاختلاط والامتزاج؛ كما يزعمه الحلولية ! أو يفهم من قولـه: (في السَّمَاء ) أن السماء ظرفٌ حاوٍ له محيطٌ به! كيف وقد وسع كرسيُّه السموات والأرض جميعًا؟! وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؟!
فسبحان مَن لا يبلغه وهم الواهمين، ولا تدركه أفهام العالمين.
....يتبع
رقة الحياة
2009-01-08, 17:50
بارك الله فيكم
ليتيم الشافعي
2009-01-12, 09:28
فَصْلٌ: وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلُِهُِ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... )
وَقَوْلُهُ : ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِّن عُنقِ رَاحِلَتِهِ))
وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ .
/ش/ قولـه: ((وقد دخل في ذلك الإيمان…)) إلخ. يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه من أنه قريبٌ مجيبٌ، فهو سبحانه قريبٌ ممَّن يدعوه ويناجيه، يسمع دعاءه ونجواه، ويجيب دعاءه متى شاء وكيف شاء، فهو تعالى قريبٌ قربَ العلم والإحاطة؛ كما قال تعالى:
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )
وبهذا يتبيَّن أنه لا منافاة أصلاً بين ما ذُكر في الكتاب والسنة من قربه تعالى ومعيَّته وبين ما فيهما من علوِّه تعالى وفوقيَّته.
فهذه كلها نعوتٌ لـه على ما يليق به سبحانه، ليس كمثلـه شيءٌ في شيءٍ منها.
(وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً، لاَ كَلامَ غَيْرِهِ.
وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلاَمِ اللهِ، أَوْ عِبَارَةٌ، بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْكَلاَمَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لاَ إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا.
وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُرُوفُهُ، ومَعَانِيهِ، لَيْسَ كَلامُ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلاَ الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ).
/ش/ قولـه: ((ومن الإيمان بالله وكتبه…)) إلخ. جعل المصنِّف الإيمان بأن القرآن كلام الله داخلاً في الإيمان بالله؛ لأنه صفةٌ من صفاته، فلا يتمُّ الإيمان به سبحانه إلا بها، إذ الكلام لا يكون إلا صفةً للمتكلِّم، والله سبحانه موصوفٌ بأنه متكلِّم بما شاء متى شاء، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلَّم؛ بمعنى أن نوع كلامه قديمٌ وإن كانت آحاده لا تزال تقع شيئًا بعد شيءٍ بحسب حكمته.
وقد قلنا فيما سبق: إن الإضافة في قولنا: القرآن كلام الله؛ هي من إضافة الصفة للموصوف، فتفيد أن القرآن صفة الرب سبحانه، وأنه تكلم به حقيقة بألفاظه ومعانيه، بصوت نفسه.
فمن زعم أن القرآن مخلوقٌ من المعتزلة؛ فقد أعظم الفِرية على الله، ونفى كلام الله عن الله وصفًا، وجعلـه وصفًا لمخلوق، وكان أيضًا متجنِّيًا على اللغة، فليس فيها متكلِّم بمعنى خالق للكلام.
ومَن زعم أن القرآن الموجود بيننا حكاية عن كلام الله؛ كما تقولـه الكُلاَّبية، أو أنه عبارة عنه؛ كما تقولـه الأشعرية؛ فقد قال بنصف قول المعتزلة؛ حيث فرَّق بين الألفاظ والمعاني، فجعل الألفاظ مخلوقة، والمعاني عبارة عن الصفة القديمة؛ كما أنه ضاهى النصارى في قولهم بحلول اللاهوت ـ وهو الكلمة ـ في الناسوت ـ وهو جسد عيسى عليه السلام ـ؛ إذ قال بحلول المعاني التي هي الصفة القديمة في هذه الألفاظ المخلوقة، فجعل الألفاظ ناسوتًا لها.
والقرآن كلام الله؛ حيث تصرَّف، فمهما كتبناه في المصاحف، أو تلوناه بالألسنة؛ لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله؛ لأن الكلام ـ كما قال المصنّف ـ إنما يضاف إلى مَن قاله مبتدئًا؛ لا إلى مَن قالـه مبلِّغًا مؤدِّيًا.
وأما معنى قول السلف: ((منه بدأ وإليه يعود))؛ فهو من البدء؛ يعني: أن الله هو الذي تكلَّم به ابتداء، لم يُبْتَدَأْ من غيره، ويحتمل أن يكون من البُدُو؛ بمعنى الظهور؛ يعني أنه هو الذي تكلَّم به وظهر منه، لم يظهر من غيره.
ومعنى: ((إليه يعود))؛ أي: يرجع إليه وصفًا؛ لأنه وصفه القائم به، وقيل: معناه يعود إليه في آخر الزمان، حين يرفع من المصاحف والصدور؛ كما ورد في أشراط الساعة .
وأما كون الإيمان بأن القرآن كلام الله داخلاً في الإيمان بالكتب؛ فإن الإيمان بها إيمانًا صحيحًا يقتضي إيمان العبد بأن الله تكلَّم بها بألفاظها ومعانيها، وأنها جميعًا كلامه هو؛ لا كلام غيره، فهو الذي تكلَّم بالتوراة بالعبرانية، وبالإنجيل بالسريانية، وبالقرآن بلسان عربيٍّ مبين.
.....يتبع
ليتيم الشافعي
2009-01-29, 10:18
وَقَد دَّخَلَ أيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلاَئِكَتَهِ وَبِرُسُلِهِ:
الإيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ [بِهَا] سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لاَ يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ.
يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهَ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ كَمَا يَشَاءُ اللهُ تَعَالَى).
/ش/ قولـه: ((وقد دخل أيضًا فيما ذكرناه…)) إلخ؛ تقدم الكلام على رؤية المؤمنين لربِّهم عز وجل في الجنة؛ كما دلّت على ذلك الآيات والأحاديث الصريحة، فلا حاجة بنا إلى إعادة الكلام فيها.
غير أن قولـه: ((يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة)) قد يوهم أن هذه الرؤية أيضًا خاصة بالمؤمنين، ولكن الحق أنها عامَّة لجميع أهل الموقف؛ حين يجيء الرب لفصل القضاء بينهم ؛ كما يدل عليه قوله تعالى (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) الآية.
والعَرَصَات: جمع عَرَصة، وهي كل موضع واسع لا بناء فيه.
فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ( مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ.
فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ [يُمْتَحَنُونَ] فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَ[مَن] نَّبِيُّك؟
فيُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: [رَبِّيَ اللهُ] ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي.
وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصَعِقَ .
ثُمَّ بَعْدَ هّذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ).
/ش/ قولـه: ((ومن الإيمان باليوم الآخر…)) إلخ؛ إذا كان الإيمان باليوم الآخر أحد الأركان الستة التي يقوم عليها الإيمان؛ فإن الإيمان به إيمانًا تامًّا كاملاً لا يتحقق إلاّ إذا آمن العبد بكل ما أخبر به النبيُّ ( من أمور الغيب التي تكون بعد الموت.
والضابط في ذلك أنها أمورٌ ممكنةٌ أخبر بها الصادق صلوات الله عليه وسلامه وآلِه، وكل ممكن أخبر به الصادق يجب الإيمان بوقوعه كما أخبر؛ فإن هذه الأمور لا تستفاد إلا من خبر الرسول، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كله.
وأما أهل المروق والإلحاد من الفلاسفة والمعتزلة؛ فينكرون هذه الأمور؛ من سؤال القبر، ومن نعيم القبر، وعذابه، والصراط، والميزان، وغير ذلك؛ بدعوى أنها لم تثبت بالعقل، والعقل عندهم هو الحاكم الأوَّل الذي لا يجوز الإيمان بشيء إلاَّ عن طريقه، وهم يردُّون الأحاديث الواردة في هذه الأمور بدعوى أنها أحاديث آحاد لا تُقبل في باب الاعتقاد، وأما الآيات، فيؤوِّلونها بما يصرفها عن معانيها.
والإضافة في قولـه: ((بفتنة القبر)) على معنى في؛ أي: بالفتنة التي تكون في القبر.
وأصل الفتنة وضع الذّهب ونحوه على النار لتخليصه من الأوضار والعناصر الغريبة، ثم استُعْمِلَتْ في الاختبار والامتحان.
وأما عذاب القبر ونعيمه؛ فيدل عليه قولـه تعالى في حقِّ آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا )، وقولـه سبحانه عن قوم نوح: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) ، وقولـه عليه الصلاة والسلام: ((القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار)) .
والمِرْزَبَة ـ بالتخفيف ـ: المطرقة الكبيرة، ويقال لها أيضًا: إِرْزَبَّة؛ بالهمزة والتشديد.
...يتبع
ليتيم الشافعي
2009-02-10, 08:08
وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ.
فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ.
فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ، (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ).
وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ).
/ش/ قولـه: ((وتقوم القيامة..)) إلخ؛ يعني: القيامة الكبرى، وهذا الوصف للتخصيص، احترز به عن القيامة الصغرى التي تكون عند الموت؛ كما في الخبر:
((من مات فقد قامت قيامته)) .
وذلك أن الله عز وجل إذا أذن بانقضاء هذه الدنيا؛ أمر إسرافيل عليه السلام أن ينفخ في الصور النفخة الأولى، فيَصْعَقُ كل من في السموات ومن في الأرض إلا مَن شاء الله، وتصبح الأرض صعيدًا جُرُزًا، والجبال كثيبًا مهيلاً، ويحدث كل ما أخبر الله به في كتابه، لا سيما في سورتي التكوير والانفطار، وهذا هو آخر أيام الدنيا.
ثم يأمر الله السماء، فتمطر مطرًا كمنيِّ الرجال أربعين يومًا، فينبت منه الناس في قبورهم من عَجْبِ أذنابهم، وكل ابن آدم يبلى إلاَّ عجب الذنب .
حتى إذا تمَّ خلقُهُم وتركيبُهم؛ أمر الله إسرافيل بأن ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس من الأجداث أحياء، فيقول الكفّار والمنافقون حينئذ: ( يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا )، ويقول المؤمنون: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ )
ثم تحشرهم الملائكة إلى الموقف حفاةً غير مُنْتَعلين، عُراةً غير مكتسين، غُرلاً غير مختتنين؛ جمع أغرل، وهو الأقلف، والغُرلة: القَلَفة.
وأول من يكتسي يوم القيامة إبراهيم؛ كما في الحديث .
وهناك في الموقف تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويُلْجِمُهم العرق، فمنهم مَن يبلغ كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم مَن يبلغ ثدييه، ومنهم من يبلغ ترقوته؛ كلٌّ على قدر عمله، ويكون أناسٌ في ظلِّ الله عزّ وجلّ.
فإذا اشتدَّ بهم الأمر، وعظُمَ الكرب؛ استشفعوا إلى الله عزّ وجلّ بالرسل والأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه، وكلُّ رسولٍ يحيلهم على مَن بعده؛ حتى يأتوا نبيّنا (، فيقول: ((أنا لها))، ويشفع فيهم، فينصرفون إلى فصل القضاء.
وهناك تُنْصَبُ الموازين، فتوزَنُ بها أعمال العباد، وهي موازين حقيقية ، كل ميزان منها له لسانٌ وكفَّتـان ، ويقلِبُ الله أعمال العباد ـ وهي أعراضٌ ـ أجسامًا؛ لها ثقلٌ، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة؛ كما قال تعالى:
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )
ثم تُنْشَر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فأما مَن أُوتي كتابه بيمينه؛ فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا، [وأما من أوتي كتابه بشماله أو من وراء ظهره] ، فسوف يدعو ثبورًا، ويصلى سعيرًا، ويقول: يا ليتني لم أوتَ كتابيه، ولم أدرِ ما حسابيه؛ قال تعالى:
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )
وأما قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) ؛ فقد قال الراغب:
((أي: عمله الذي طار عنه من خيرٍ وشرٍّ)) .
ولكن الظاهر أن المراد بالطائر هنا نصيبه في هذه الدنيا، وما كُتِب له فيها من رزق وعمل ؛ كما في قوله تعالى:
( أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ ) .
يعني: ما كُتِبَ عليهم فيه.
سائلة عفو ربها
2009-02-11, 15:52
http://img519.imageshack.us/img519/838/df960bc9d81wm2.gif
ليتيم الشافعي
2009-02-19, 12:04
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا .
/ش/ قولـه: ((ويحاسب الله الخلائقَ…)) إلخ؛ المراد بتلك المحاسبة تذكيرهم وإنباؤهم بما قدَّموه من خير وشرٍّ أحصَاه الله ونسوه؛ قال تعالى:
( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ).
وفي الحديث الصحيح:
((مَن نوقِشَ الحساب عُذِّب)).
فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! أوليس الله يقول: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ؟
فقال: ((إنَّما ذلك العرض، ولكن مَن نوقش الحساب يهلك))
وأما قولـه: ((ويخلو بعبده المؤمن))؛ فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الله عز وجل يُدني منه عبده المؤمن، فيضع عليه كَنَفَه، ويحاسبه فيما بينه وبينه، ويقرِّره بذنوبه، فيقول: ألم تفعل كذا يوم كذا؟ ألم تفعل كذا يوم كذا؟ حتى إذا قرَّره بذنوبه، وأيقن أنه قد هلك؛ قال لـه: سترتُها عليك في الدِّنيا وأنا أغفرها لك اليوم .
وأما قولـه: ((فإنه لا حسنات لهم))؛ يعني: الكفار؛ لقوله تعالى:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا )،
وقولـه: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ).
والصحيح [أن] أعمال الخير التي يعملها الكافر يجازى بها في الدنيا فقط، حتى إذا جاء يوم القيامة وجد صحيفة حسناته بيضاء.
وقيل: يخفَّف بها عنه من عذاب غير الكفر.
وَفِي [عَرَصَاتِ] الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ ، ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا ).
/ش/ وأما قولـه: ((في عَرَصَات القيامة…))؛ فإن الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حدَّ التواتر، رواها من الصحابة بضعٌ وثلاثون صحابيًّا ، فمَن أنكره؛ فأَخْلِق به أن يُحالَ بينه وبين وروده يوم العطش الأكبر، وقد ورد في أحاديث:
((إن لكل نبيٍّ حوضًا))
ولكن حوض نبيِّنا أعظمها وأحلاها وأكثرها واردًا.
جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
ليتيم الشافعي
2009-03-30, 06:23
وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ [عَلَيْهِ] عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِم
ْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِم مِّن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ .
/ش/ قولـه: ((والصراط منصوبٌ…)) إلخ. أصل الصراط الطريق الواسع؛ قيل: سمي بذلك لأنه يسترط السابلة؛ أي: يبتلعهم إذا سلكوه، وقد يستعمل في الطريق المعنوي؛ كما في قوله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ).
والصراط الأخروي الذي هو الجسر الممدود على ظهر جهنَّم بين الجنة والنار حقٌّ لا ريب فيه؛ لورود خبر الصادق به، ومَن استقام على صراط الله الذي هو دينه الحق في الدنيا استقام على هذا الصراط في الآخرة، وقد ورد في وصفه أنه: ((أدق من الشعرة، وأحدُّ من السيف))
(وَأَوَّلُ مَن يَّسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ وَأَوَّلُ مَن يَّدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ).
/ش/ قولـه: ((وأوّل من يستفتح باب الجنة محمّد )؛ يعني: أول من يحرك حلقها طالبًا أن يُفْتَح له بابها؛ كما قال عليه السلام:
((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مَن تنشقُّ عَنه الأرض ولا فخر، وأنا أوَّل من يحرِّك حلَق الجنة، فأدخلها ويدخلها معي فقراء أمَّتي))
يعني: بعد دخول الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكون فقراء هذه الأمة أول الناس دخولاً الجنة.
(وَلَه فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَّدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَّخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) .
/ش/ وأما قولـه: ((وله في القيامة ثلاث شفاعات))؛ فأصل الشفاعة من قولنا: شفع كذا بكذا إذا ضمّه إليه، وسمي الشافع شافعًا لأنه يضمُّ طلبه ورجاءه إلى طلب المشفوع له.
والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى:
(مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ(
فنفي الشفاعة بلا إذن إثباتٌ للشفاعة من بعد الإذن.
قال تعالى عن الملائكة:
(وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ).
فبيَّن الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله.
وأما ما يتمسَّك به الخوارج والمعتزلة في نفي الشفاعة من مثل قوله تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ )،( وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ )،(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ).. إلخ؛ فإن الشفاعة المنفيَّة هنا هي الشفاعة في أهل الشرك، وكذلك الشفاعة الشركية التي يثبتها المشركون لأصنامهم، ويثبتها النصارى للمسيح والرهبان، وهي التي تكون بغير إذن الله ورضاه.
وأما قولـه: ((أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم))؛ فهذه هي الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به النبيُّون، والذي وعده الله أن يبعثه إياه بقولـه:
(عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ).
يعني: يحمده عليه أهل الموقف جميعًا.
وقد أمرنا نبيُّنا ( إذا سمعنا النداء أن نقول بعد الصلاة عليه:
((اللهم ربَّ هذه الدعوة التَّامَّة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه)) .
وأما قولـه: ((وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة))؛ يعني: أنهم ـ وقد استحقُّوا دخول الجنة ـ لا يؤذن لهم بدخولها إلا بعد شفاعته .
وأما قولـه: ((وهاتان الشفاعتان خاصَّتان لـه))؛ يعني: الشفاعة في أهل الموقف، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها.
وتنضمُّ إليهما ثالثة، وهي شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ كما ورد بذلك الحديث
وأما قولـه: ((وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحقَّ النار…)) إلخ. وهذه هي الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة؛ فإن مذهبهم أن مَن استحقَّ النار؛ لا بدَّ أن يدخُلَها، ومن دخلها؛ لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها.
والأحاديث المستفيضة المتواترة تردُّ على زعمهم وتبطله .
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ
، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ ( مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ).
/ش/ وأما قولـه: ((وأصناف ما تضمَّنَتْهُ الدار الآخرة من الحساب…)) إلخ؛ فاعلم أن أصل الجزاء على الأعمال خيرها وشرّها ثابتٌ بالعقل كما هو ثابتٌ بالسمع، وقد نبَّه الله العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من كتابه؛ مثل قوله تعالى:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )، (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ).
فإنه لا يليق في حكمة الحكيم أن يـترك النـاس سُدًى مهمَلين، ولا يؤمرون، ولا يُنْهَون، ولا يُثابون ولا يُعاقبون؛ كما لا يليق بعدله وحكمته أن يسوي بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ كما قال تعالى:
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ).
فإن العقول الصحيحة تأبى ذلك وتنكره أشدَّ الإنكار.
وكذلك نبَّههُم الله على ذلك بما أوقعه من أيامه في الدنيا من إكرام الطائعين، وخذلان الطاغين.
وأما تفاصيل الأجزية ومقاديرها؛ فلا يدرك إلا بالسمع والنقول الصحيحة عن المعصوم الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
ليتيم الشافعي
2009-04-20, 08:29
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ).
/ش/ والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تبارك وتعالى أحدُ الأركان الستَّة التي يدور عليها فَلَكُ الإيمان؛ كما دلَّ عليه حديث جبريل وغيره، وكما دلَّت عليه الآيات الصريحة من كتاب الله عزّ وجلّ.
وقد ذكر المؤلِّف هنا أن الإيمان بالقدر على درجتين، وأنّ كلاًّ منهما تتضمن شيئين:
(فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى [عَلِيمٌ بِالْخَلْقِ وَهُمْ] عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا
، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ.
فَأَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )، وَقَالَمَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصيِلاً:
فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ.
وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ…
فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ) .
/ش/ فالدرجة الأولى تتضمَّن:
أَوَّلاً: الإيمــان بعلمه القديم المحيط بجميع الأشياء، وأنه تعالى عَلم بهذا العلم القديم الموصوف به أزلاً وأبدًا كلَّ ما سيعمله الخلق فيما لا يزال، وعلم به جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال.
فكل ما يوجد من أعيان وأوصاف ويقع من أفعال وأحداث فهو مطابقٌ لما علمه الله عز وجل أزلاً.
ثانيًا: أن الله كتب ذلك كله وسجَّله في اللوح المحفوظ، فما علم الله كونه ووقوعه من مقادير الخلائق وأصناف الموجودات وما يتبع ذلك من الأحوال والأوصاف والأفعال ودقيق الأمور وجليلها قد أمر القلم بكتابته؛ كما قال :
((قدَّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)) .
وكما قال في الحديث الذي ذكره المؤلف:
((إن أول ما خلق الله القلم؛ قال لـه: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)) .
و(أولَ) هنا بالنصب على الظرفية، والعامل فيه (قال)؛ أي: قال له ذلك أول ما خلقه.
وقد روي بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره القلم.
ولهذا اختلف العلماء في العرش والقلم؛ أيهما خُلَقَ أولاً .
وحكى العلامة ابن القيّم في ذلك قولين، واختار أن العرش مخلوقٌ قبل القلم. قال في ((النونية))
((وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْقَلَمِ الَّذي
كُتِبَ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ
قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي الْعَلاَ الْهَمَدَانِي
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلُ لأَنَّهُ
[وَقْتَ] الْكِتَابَةِ كَانَ ذَا أَرْكَانِ
وَكَتَابَةُ الْقَلَمِ الشَّرِيفِ تَعَقَّبَتْ
إِيجَادَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلِ زَمَانِ))
وإذا كان القلم قد جرى بكلِّ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة بكل ما يقع من كائنات وأحداث؛ فهو مطابق لما كتب فيه، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره .
وهذا التقدير التابع للعلم القديم تارة يكون جملةً؛ كما في اللوح المحفوظ؛ فإن فيه مقادير كل شيء، ويكون في مواضع تفصيلاً يخصُّ كل فردٍ؛ كما في الكلمات الأربع التي يؤمر الملك بكتابتها عند نفخ الروح في الجنين؛ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيد .
فهذا تقديرٌ خاصٌّ، وهذا التقدير السابق على وجود الأشياء قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا؛ مثل: معبد الجهني ، وغَيلان الدِّمشقي ، وكانوا يقولون: إن الأمر أنف.
ومنكر هذه الدرجة من القدر كافر؛ لأنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
ادعو الله لك ولنا أن يغفر ذنوبنا ويقضي عنا ديننا ويختم بالصالحات اعمالنا
ليتيم الشافعي
2009-04-22, 10:09
ادعو الله لك ولنا أن يغفر ذنوبنا ويقضي عنا ديننا ويختم بالصالحات اعمالنا
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
إن شاء الله
ليتيم الشافعي
2009-04-25, 23:25
وفيك بارك الرحمان أسأل الله لك العفو والعافية فى الدنيا والآخرة
ليتيم الشافعي
2009-05-04, 09:34
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ
، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، [لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ] ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ).
/ش/قولـه(وأما الدرجة الثانية من القدر..)) إلخ؛ فهي تتضمن شيئين أيضًا:
أولهما: الإيمان بعموم مشيئته تعالى، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد، وأن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي واقعة بتلك المشيئة العامة التي لا يخرج عنها كائنٌ؛ سواءً كان مما يحبه الله ويرضاه أم لا.
وثانيهما: الإيمان بأن جميع الأشياء واقعة بقدرة الله تعالى، وأنها مخلوقة لـه؛ لا خالق لها سواه، لا فرق في ذلك بين أفعال العباد وغيرها؛ كما قال تعالى:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ).
ويجبُ الإيمان بالأمر الشرعيّ، وأن الله تعالى كلَّف العباد، فأمرهم بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته.
ولا منافاة أصلاً بين ما ثبت من عموم مشيئته سبحانه لجميع الأشياء وبين تكليفه العباد بما شاء من أمر ونهيٍ؛ فإن تلك المشيئة لا تنافي حرية العبد واختياره للفعل، ولهذا جمع الله بين المشيئتين بقولـه:
(لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).
كما أنه لا تلازمَ بين تلك المشيئة وبين الأمر الشرعيّ المتعلِّق بما يحبه الله ويرضاه، فقد يشاء الله ما لا يحبُّه، ويحبُّ ما لا يشاء كونه:
فالأول: كمشيئته وجود إبليس وجنوده.
والثاني: كمحبة إيمان الكفار، وطاعات الفجَّار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء ذلك؛ لوجد كله؛ فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
(وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ [خَلَقَ] أَفْعَالَهُمْ. وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ.
وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، [وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ] ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).
/ش/ وكذلك لا منافاة بين عموم خلقه تعالى لجميع الأشياء، وبين كون العبد فاعلاً لفعله؛ فالعبد هو الذي يوصَفُ بفعله، فهو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، والله خالقه، وخالق فعله؛ لأنه هو الذي خلق فيه القدرة والإرادة اللتين بهما يفعل.
يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي غفر الله له وأجزل مثوبته:
((إن العبد إذا صلَّى، وصام، وفعل الخير، أو عمل شيئًا من المعاصي؛ كان هو الفاعل لذلك العمل الصالح، وذلك العمل السيء, وفعله المذكور بلا ريب قد وقع باختياره، وهو يحسُّ ضرورة أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل، وكان هذا هو الواقع؛ فهو الذي نصَّ الله عليه في كتابه، ونصَّ عليه رسوله؛ حيث أضاف الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد، وأخبر أنهم الفاعلون لها، وأنهم ممدوحون عليها ـ إن كانت صالحة ـ ومثابون، وملومون عليها ـ إن كانت سيئة ـ ومعاقبون عليها.
فقد تبيَّن بلا ريب أنها واقعة منهم باختيارهم، وأنهم إذا شاؤوا فعلوا، وإذا شاؤوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلاً وحسًّا وشرعًا ومشاهدةً.
ومع ذلك؛ إذا أردت أن تعرف أنها وإن كانت كذلك واقعة منهم كيف تكون داخلة في القدر، وكيف تشملها المشيئة؟! فيقال: بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرها؟ فيقال: بقدرتهم وإرادتهم؛ هذا يعترف به كل أحد. فيقال: ومن خلق قدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم؟ فالجواب الذي يعترف به كل أحد أن الله هو الذي خلق قدرتهم وإرادتهم، والذي خلق ما به تقع الأفعال هو الخالق للأفعال.
فهذا هو الذي يحلُّ الإشكال، ويتمكَّن العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر والقضاء والاختيار.
ومع ذلك فهو تعالى أمدَّ المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوِّعة وصرف عنهم الموانع؛ كما قال :
((أما من كان من أهل السعادة؛ فسييسر لعمل أهل السعادة)) .
وكذلك خذل الفاسقين،ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يتوكَّلوا عليه، فولاَّهم ما تولَّوا لأنفسهم)). اهـ
وخلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في القدر وأفعال العباد ما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة من أن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال وغيرها، وأن مشيئته تعالى عامة شاملة لجميع الكائنات، فلا يقع منها شيء إلا بتلك المشيئة، وأن خلقه سبحانه الأشياء بمشيئته إنما يكون وفقًا لما علمه منها بعلمه القديم، ولما كتبه وقدَّره في اللوح المحفوظ، وأن للعباد قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم، وأنهم الفاعلون حقيقة لهذه الأفعال بمحض اختيارهم، وأنهم لهذا يستحقُّون عليها الجزاء: إما بالمدح والمثوبة، وإما بالذم والعقوبة، وأن نسبة هذه الأفعال إلى العباد فعلاً لا ينافي نسبتها إلى الله إيجادًا وخلقًا؛ لأنه هو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت بها.
ليتيم الشافعي
2009-05-04, 10:07
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ (: مَجُوسَِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حُكْمَهَا وَمَصَالِحَهَا).
/ش/ وضلَّ في القدر طائفتان؛ كما تقدم:
الطائفة الأولى: القدرية نفاة القدر، الذين هم مجوس هذه الأمة؛ كما ورد ذلك في بعض الأحاديث مرفوعًا وموقوفًا ، وهؤلاء ضلُّوا بالتفريط وإنكار القدر، وزعموا أنه لا يمكن الجمع بين ما هو ثابت بالضرورة من اختيار العبد في فعله ومسؤوليته عنه، وبين ما دلَّت عليه النصوص من عموم خلقه تعالى ومشيئته؛ لأن ذلك العموم في زعمهم إبطال لمسؤولية العبد عن فعله، وهدمٌ للتكاليف، فرجحوا جانب الأمر والنهي، وخصَّصوا النصوص الدَّالة على عموم الخلق والمشيئة بما عدا أفعال العباد، وأثبتوا أن العبد خالق لفعله بقدرته وإرادته، فأثبتوا خالقين غير الله، ولهذا سمُّوا مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يزعمون أن الشيطان يخلق الشر والأشياء المؤذية، فجعلوه خالقًا مع الله، فكذلك هؤلاء جعلوا العباد خالقين مع الله.
والطائفة الثانية: يقال لها: الجبرية، وهؤلاء غَلَوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل حقيقة، بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا اختيار، ولا فعل؛ كالريشة في مهبِّ الرياح، وإنما تُسْنَدُ الأفعال إليه مجازًا، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق؛ كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر، فاتهموا ربهم بالظلم وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتّهموه بالعبث في تكليف العباد، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي، ألا ساء ما يحكمون.
(فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ [أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ] أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَة) .
/ش/ سبق أن ذكرنا في مسألة الأسماء والأحكام أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وأن هذه الثلاثة داخلة في مسمى الإيمان المطلق.
فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين: ظاهرُه وباطنُه، أصولُه وفروعُه، فلا يستحقُّ اسم الإيمان المطلق إلا من جمع ذلك كله ولم ينقص منه شيئًا.
ولما كانت الأعمال والأقوال داخلة في مسمى الإيمان؛ كان الإيمانُ قابلاً للزيادة والنقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهرٌ مشاهدٌ من تفاوت المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وأعمال جوارحهم.
ومن الأدلّة على زيادة الإيمان ونقصه أن الله قسّم المؤمنين ثلاث طبقات، فقال سبحانه:
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ).
فالسابقون بالخيرات هم الذين أدَّوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرَّمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقرَّبون.
والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرَّمات.
والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترؤوا على بعض المحرَّمات وقصَّروا ببعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم.
ومن وجوه زيادته ونقصه كذلك أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خيرٌ كثيرٌ، فازداد به إيمانه، وتمَّ يقينُه، ومنهم من هو دون ذلك، حتى يبلغ الحالُ ببعضهم أن لا يكون معه إلا إيمانٌ إجماليٌّ لم يتيسّر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن.
وكذلك هم متفاوتون في كثير من أعمال القلوب والجوارح، وكثرة الطاعات وقلتها.
وأما من ذهب إلى أن الإيمان مجرَّد التصديق بالقلب، وأنه غير قابل للزيادة أو النقص؛ كما يُروى عن أبي حنيفة وغيره؛ فهو محجوجٌ بما ذكرنا من الأدلة، قال عليه السلام:
((الإيمان بضعٌ وسبعون شعبةً؛ أعلاها: قول: لا إله إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))
ليتيم الشافعي
2009-05-04, 10:13
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ ؛ بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف )
، وَقَالَ: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )،(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم ).
/ش/ ومع أن الإيمان المطلق مركَّب من الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فهي ليست كلها بدرجة واحدة؛ بل العقائد أصلٌ في الإيمان، فمَن أنكر شيئًا مما يجب اعتقاده في الله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أو مما هو معلومٌ من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا والقتل… إلخ؛ فهو كافرٌ، قد خرج من الإيمان بهذا الإنكار.
(وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ [ اسْمَ الإِيمَانِ] ) بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ.
بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَانِ ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ).
وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا (()، وَقَوْلُهُ (: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) .
[وَيَقُولُونَ] : هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ).
/ش/ وأما الفاسق المِلِّي الذي يرتكب بعض الكبائر مع اعتقاده حرمتها؛ فأهل السنة والجماعة لا يسلبون عنه اسم الإيمان بالكلِّيَّة، ولا يخلِّدونه في النار؛ كما تقول المعتزلة والخوارج، بل هو عندهم مؤمنٌ ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر معصيته، أو هو مؤمنٌ فاسقٌ، لا يعطونه اسم الإيمان المطلق،ولا يسلبونه مطلق الإيمان.
وأدلَّة الكتاب والسنَّة دالَّةٌ على ما ذكره المؤلف رحمه الله من ثبوت مطلق الإيمان مع المعصية؛ قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ).
فناداهم باسم الإيمان، مع وجود المعصية، وهي موالاة الكفار منهم.. إلخ.
فائدة: الإيمان والإسلام الشرعيَّان متلازمان في الوجود، فلا يوجد أحدهما بدون الآخر، بل كلما وجد إيمانٌ صحيحٌ معتدٌّ به، وُجِدَ معه إسلامٌ، وكذلك العكس، ولهذا قد يُسْتَغْنى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما إذا أفرد بالذكر؛ دخل فيه الآخر، وأما إذا ذُكِرا معًا مقترنين؛ أُريد بالإيمان التصديق والاعتقاد، وأُريد بالإسلام الانقياد الظاهري من الإقرار باللسان وعمل الجوارح.
ولكن هذا بالنسبة إلى مطلق الإيمان، أما الإيمان المطلق؛ فهو أخصُّ مطلقًا من الإسلام، وقد يوجد الإسلام بدونه؛ كما في قوله تعالى:
( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ).
فأخبر بإسلامهم مع نفي الإيمان عنهم .
وفي حديث جبريل ذكر المراتب الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان، فدل على أن كلاًّ منها أخصُّ مما قبله.
ليتيم الشافعي
2009-05-05, 09:53
فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ
كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )، وَطَاعَةُ النَّبِيِّ ( فِي قَوْلِهِ: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ)) .
وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ).
/ش/ يقول المؤلِّف : إن من أصول أهل السنة والجماعة التي فارقوا بها مَن عداهم من أهل الزيغ والضلال أنهم لا يُزْرون بأحد من أصحاب رسول الله (، ولا يطعنون عليه، ولا يحملون له حقدًا ولا بغضًا ولا احتقارًا، فقلوبهم وألسنتهم من ذلك كله براء، ولا يقولون فيهم إلا ما حكاه الله عنهم بقولـه:
( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) الآية.
فهذا الدعاء الصادر ممَّن جاء بعدهم ممَّن اتَّبعوهم بإحسان يدلُّ على كمال محبَّتهم لأصحاب رسول الله وثنائهم عليهم، وهم أهل لذلك الحب والتكريم؛ لفضلهم، وسبقهم، وعظيم سابقتهم، واختصاصهم بالرسول ولإحسانهم إلى جميع الأمة؛ لأنهم هُمْ المبلِّغون لهم جميع ما جاء به نبيُّهم فما وصل لأحدٍ علمٌ ولا خبرٌ إلا بواسطتهم، وهم يوقِّرُونهم أيضًا طاعةً للنبي حيث نهى عن سبهم والغضِّ منهم، وبيَّن أن العمل القليل من أحد أصحابه يفضل العمل الكثير من غيرهم، وذلك لكمال إخلاصهم، وصادق إيمانهم.
وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ـ وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ـ وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ.
وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ.
وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ ـ وَكَانُوا ثَلاثَ مِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَـ: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُم. فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)) .
وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ )، بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ .
وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِّنَ الصَّحَابَةِ).
/ش/ وأما قولـه: ((ويفضِّلون مَن أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على مَن أنفق من بعده وقاتل))؛ فلورود النص القرآن بذلك، قال تعالى في سورة الحديد:
(لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ).
وأما تفسير الفتح بصلح الحُديبية؛ فذلك هو المشهور، وقد صحَّ أن سورة الفتح نزلت عقيبه .
وسمي هذا الصلح فتحًا؛ لما ترتَّب عليه من نتائج بعيدة المدى في عزَّة الإسلام، وقوَّته وانتشاره، ودخول الناس فيه.
وأما قولـه: ((ويقدِّمون المهاجرين على الأنصار))؛ فلأن المهاجرين جمعوا الوصفين: النصرة والهجرة، ولهذا كان الخلفاء الراشدون وبقية العشرة من المهاجرين، وقد جاء القرآن بتقديم المهاجرين على الأنصار في سورة التوبة والحشر ، وهذا التفضيل إنما هو للجملة على الجملة، فلا ينافي أن في الأنصار مَن هو أفضل من بعض المهاجرين.
وقد رُوي عن أبي بكر أنه قال في خطبته يوم السقيفة:
((نحن المهاجرون، وأول الناس إسلامًا، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمْنا في القرآن عليكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء)) .
وأما قولـه: ((ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر...)) إلخ؛ فقد ورد أن عمر رضي الله عنه لما أراد قتل حاطب بن أبي بلتعة وكان قد شهد بدرًا لكتابته كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بمسير الرسول ، فقال لـه الرسول :
((وما يُدريك يا عمر؟ لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
وأما قوله: ((وبأنه لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة…)) إلخ؛ فلإخباره بذلك، ولقوله تعالى:
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ) الآية
فهذا الرضا مانعٌ من إرادة تعذيبهم، ومستلزمٌ لإكرامهم ومثوبتهم.
وأما قولـه: ((ويشهدون بالجنة لمن شهد لـه الرسول كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة)).
أما العشرة؛ فهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عُبيدة بن الجراح .
وأما غيرهم؛ فكثابت بن قيس ، وعُكَّاشة بن محصن ، وعبد الله بن سلام ، وكل مَن ورد الخبر الصحيح بأنه من أهل الجنة .
وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهـَا : أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ.
وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي الْبَيْعَةِ.
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ـ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا.
لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ.
وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ ـ مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ـ لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
[لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ] الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ : أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ).
/ش/ وأما قولـه: ((ويؤمنون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر وعمر)) فقد ورد أن عليًّا رضي الله عنه قال ذلك على منبر الكوفة، وسمعه منه الجم الغفير؛ وكان يقول:
((ما مات رسول الله حتى علمنا أن أفضلنا بعده أبو بكر، وما مات أبو بكر حتى علمنا أن أفضلنا بعده عمر)) .
وأما قولـه: ((ويُثَلِّثون بعثمان، ويربَّعون بعليٍّ..)) إلخ؛ فمذهب جمهور أهل السنة أن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة، وهم لهذا يفضِّلون عثمان على علي، محتجِّين بتقديم الصحابة عثمان في البيعة على عليٍّ.
وبعض أهل السنة يفضِّل عليًّا؛ لأنه يرى أن ما ورد من الآثار في مزايا عليٍّ ومناقبه أكثر.
وبعضهم يتوقَّف في ذلك.
وعلى كل حالٍ فمسألة التفضيل ليست ـ كما قال المؤلف ـ من مسائل الأصول التي يُضلَّل فيها المخالف، وإنما هي مسألة فرعيَّة يتَّسع لها الخلاف.
وأما مسألة الخلافة؛ فيجب الاعتقاد بأن خلافة عثمان كانت صحيحة؛ لأنها كانت بمشورة من الستة ، الذين عيَّنهم عمر رضي الله عنه ليختاروا الخليفة من بعده، فمن زعم أن خلافة عثمان كانت باطلة، وأن عليًّا كان أحق بالخلافة منه؛ فهو مبتدعٌ ضالٌّ يغلب عليه التشيُّع؛ مع ما في قولـه من إزراءٍ بالمهاجرين والأنصار.
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ :
حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ:
[أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي] .
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه ـ وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ ـ فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي)) .
وَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ))
/ش/ أهل بيته ( هم مَن تحرُم عليهم الصدقة، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، وكلهم من بني هاشم، ويلحق بهم بنو المطلب؛ لقوله عليه السلام:
((إنهم لم يفارقونا جاهليَّةً ولا إسلامًا)) .
فأهل السنة والجماعة يرعون لهم حرمتهم وقرابتهم من رسول الله كما يحبونهم لإسلامهم، وسبقهم، وحسن بلائهم في نصرة دين الله عز وجل.
و((غدير خُم)) ـ بضم الخاء ـ؛ قيل: اسم رجل صباغ أضيف إليه الغدير الذي بين مكَّة والمدينة بالجحفة. وقيل: خُم اسم غَيْضَةٍ هناك نُسِب إليها الغدير، والغَيْضَة: الشجر الملتف.
وأما قولـه عليه السلام لعمه: ((والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبُّوكم للـه ولقرابتي))؛ فمعناه: لا يتم إيمان أحدٍ حتى يحب أهل بيت رسول الله ( لله؛ أولاً: لأنهم من أوليائه وأهل طاعته الذين تجب محبتهم وموالاتهم فيه. وثانيًا: لمكانهم من رسول الله، واتصال نسبهم به.
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ:
خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ : ((فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)) .
/ش/ أزواجه ( هن مَن تزوجهُنَّ بنكاح، فأولهن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تزوَّجها بمكة قبل البعثة، وكانت سِنُّهُ خمسًا وعشرين، وكانت هي تكبره بخمسة عشر عامًا، ولم يتزوَّج عليها حتى توفِّيت، وقد رُزِقَ منها بكل أولاده إلا إبراهيم، وكانت أول من آمن به، وقوَّاه على احتمال أعباء الرسالة، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين عن خمس وستين سنة، فتزوج بعدها سودة بنت زمعة (رضي الله عنها).
وعقد على عائشة رضي الله عنها، وكانت بنت ست سنين، حتى إذا هاجر إلى المدينة بنى بها وهي بنت تسع.
ومن زوجاته أيضًا أم سلمة رضي الله عنها، تزوجها بعد زوجها أبي سلمة.
وزينب بنت جحش تزوجها بعد تطليق زيد بن حارثة لها، أو على الأصح زوجه الله إياها.
وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي، وحفصة بنت عمر، وزينب بنت خزيمة، وكلهن أمهات المؤمنين، وهن أزواجه ( في الآخرة، وأفضلهن على الإطلاق خديجة وعائشة رضي الله عنهما.
(وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ [أَوْ] عَمَلٍ.
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.
وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَهُم مِّنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ ـ إِنْ صَدَرَ ـ، [حَتَّى إنَّهُمْ] يُغْفَرُ لَهُم مِّنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِّنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ( أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ( الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ [الأُمُورُ] الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ [مَغْفُورٌ] فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمَن نَّظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَـاءِ، لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ).
/ش/ يريد أن أهل السنة والجماعة يتبرؤون من طريقة الروافض التي هي الغلو في عليٍّ وأهل بيته، وبغض مَن عداه من كبار الصحابة،وسبهم، وتكفيرهم.
وأول من سماهم بذلك زيد بن علي رحمه الله لأنهم لما طلبوا منه أن يتبرأ من إمامة الشيخين أبي بكر وعمر ليبايعوه أبى ذلك، فتفرقوا عنه، فقال: ((رفضتموني))، فمن يومئذٍ قيل لهم: رافضة.
وهم فرق كثيرة: منهم الغالية، ومنهم دون ذلك.
ويتبرَّؤُون كذلك من طريقة النواصب الذين ناصَبوا أهل بيت النبوَّة العداء لأسباب وأمور سياسية معروفة، ولم يعد لهؤلاء وجود الآن.
ويمسك أهل السنة والجماعة عن الخوض فيما وقع من نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم؛ لا سيما ما وقع بين علي وطلحة والزبـير بعد
مقتل عثمان، وما وقع بعد ذلك بين علي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم، ويرون أن الآثار المروية في مساوئهم أكثرها كذبٌ أو محرَّفٌ عن وجهه، وأما الصحيح منها؛ فيعذرونهم فيه، ويقولون: إنهم متأولون مجتهدون.
وهم مع ذلك لا يدَّعون لهم العصمة من كبار الذنوب وصغارها، ولكن ما لهم من السوابق والفضائل وصحبة رسول الله ( والجهاد معه قد يوجب مغفرة ما يصدر منهم من زلات؛ فهم بشهادة رسول الله ( خير القرون، وأفضلها، ومُدُّ أحدِهم أو نَصِيفه أفضل من جبل أحدٍ ذَهَبًا يتصدَّق به مَن بعدهم، فسيِّئاتهم مغفورة إلى جانب حسناتهم الكثيرة.
يريد المؤلِّف رحمه الله أن ينفي عن الصحابة رضي الله عنهم أن يكون أحدهم قد مات مصرًّا على ما يوجب سخط الله عليه من الذنوب، بل إذا كان قد صدر الذنب من أحدهم فعلاً؛ فلا يخلو عن أحد هذه الأمور التي ذكرها؛ فإما أن يكون قد تاب منه قبل الموت، أو أتى بحسنات تذهبه وتمحوه، أو غُفر لـه بفضل سالفته في الإسلام؛ كما غُفِر لأهل بدر وأصحاب الشجرة، أو بشفاعة رسول الله وهم أسعد الناس بشفاعته، وأحقُّهم بها، أو ابتلي ببلاء في الدنيا في نفسه أو مالـه أو ولده فَكُفِّر عنه به.
فإذا كان هذا هو ما يجب اعتقاده فيهم بالنسبة إلى ما ارتكبوه من الذنوب المحققة؛ فكيف في الأمور التي هي موضع اجتهاد والخطأ فيها مغفورٌ.
ثم إذا قِيس هذا الذي أخطؤوا فيه إلى جانب مالهم من محاسن وفضائل؛ لم يَعْدُ أن يكون قطرةً في بحر.
فالله الذي اختار نبيه هو الذي اختار لـه هؤلاء الأصحاب، فهم خير الخلق بعد الأنبياء، والصفوة المختارة من هذه الأمة التي هي أفضل الأمم.
ومَن تأمَّل كلام المؤلِّف رحمه الله في شأن الصحابة عجب أشد العجب مما يرميه به الجهلة المتعصِّبُون، وادِّعائهم عليه أنه يتهجَّم على أقدارهم، ويغضُّ من شأنهم، ويخرق إجماعهم… إلى آخر ما قالوه من مزاعم ومفتريات.
وَمِنْ أُصًولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِّنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَات ِ
، [كَالْمَأثُورِ] عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ [قُرُونِ] الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
/ش/ وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة، ودلت الوقائع قديمًا وحديثًا على وقوع كرامات الله لأوليائه المتَّبعين لهدي أنبيائهم.
والكرامة أمر خارقٌ للعادة، يجريه الله على يد وليٍّ من أوليائه ؛ معونةً لـه على أمر دينيٍّ أو دنيويٍّ.
ويفرِّق بينها وبين المعجزة بأنّ المعجزة تكون مقرونة بدعوى الرسالة، بخلاف الكرامة.
ويتضمَّن وقوع هذه الكرامات حكم ومصالح كثيرة؛ أهمها:
أولاً: أنها كالمعجزة، تدل أعظم دلالة على كمال قدرة الله، ونفوذ مشيئته، وأنه فعَّال لما يريد، وأن لـه فوق هذه السنن والأسباب المعتادة سننًا أخرى لا يقع عليها علم البشر، ولا تدركها أعمالهم.
فمن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الذي أوقعه الله بهم في تلك المدة الطويلة، مع حفظه تعالى لأبدانهم من التحلل والفناء.
ومنها ما أكرم الله به مريم بنت عمران من إيصال الرزق إليها وهي في المحراب؛ حتى عجب من ذلك زكريا عليه السلام، وسألها: (أَنَّى لَكِ هَـذَا ).
وكذلك حملها بعيسى بلا أب، وولادتها إياه، وكلامه في المهد، وغير ذلك.
ثانيًا: أن وقوع كرامات الأولياء هو في الحقيقة معجزة للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعتهم لأنبيائهم، وسيرهم على هديهم.
ثالثًا: أن كرامات الأولياء هي البشرى التي عجَّلها الله لهم في الدنيا؛ فإن المراد بالبشرى كل أمر يدلُّ على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن جملة ذلك الكرامات.
هذا؛ ولم تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة، والمشاهدةُ أكبرُ دليلاً.
وأنكرت الفلاسفةُ كرامات الأولياء كما أنكروا معجزات الأنبياء، وأنكرت الكرامات أيضًا المعتزلة، وبعض الأشاعرة؛ بدعوى التباسها بالمعجزة، وهي دعوى باطلة؛ لأن الكرامة ـ كما قلنا ـ لا تقترن بدعوى الرسالة.
لكن يجب التنبه إلى أن ما يقوم به الدَّجاجلةُ والمشعوذون من أصحاب الطرق المُبتدعة الذين يسمون أنفسهم بالمتصوِّفة من أعمال ومخاريق شيطانية؛ كدخول النار، وضرب أنفسهم بالسلاح، والإمساك بالثعابين، والإخبار بالغيب… إلى غير ذلك؛ ليس من الكرامات في شيء؛ فإن الكرامة إنما تكون لأولياء الله بحق، وهؤلاء أولياء الشيطان .
فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ، حَيثُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ))
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ [الاجْتِمَاعُ] ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ.
وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.
وَالإِجْمَاعِ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، [وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ] ).
/ش/ قولـه: ((ثم من طريقة أهل السنة…)) إلخ؛ هذا بيان المنهج لأهل السنة والجماعة في استنباط الأحكام الدينية كلها، أصولها وفروعها، بعد طريقتهم في مسائل الأصول، وهذا المنهج يقوم على أصول ثلاثة:
أولها: كتاب الله عز وجل، الذي هو خير الكلام وأصدقه، فهم لا يقدِّمون على كلام الله كلام أحد من الناس.
وثانيها: سنة رسول الله ، وما أُثر عنه من هدي وطريقة، لا يقدمون على ذلك هَدْيَ أحد من الناس.
وثالثها: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرُّق والانتشار وظهور البدعة والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، فإن وافقها؛ قبلوه، وإن خالفها ردُّوه؛ أيًّا كان قائله.
وهذا هو المنهج الوسط، والصراط المستقيم، الذي لا يضلُّ سالكه، ولا يشقى مَن اتَّبعه، وسطٌ بين مَن يتلاعب بالنصوص، فيتأوَّل الكتاب، وينكر الأحاديث الصحيحة، ولا يعبأ بإجماع السلف، وبين من يخبط خبط عشواء، فيتقبل كل رأي، ويأخذ بكل قول، لا يفرق في ذلك بين غثٍّ وسمينٍ، وصحيحٍ وسقيمٍ.
فَصْلٌ: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ.
وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَقَوْلِهِ (: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بُالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)) .
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ [عِنْدَ الرَّخَاءِ] وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)) .
وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.
وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ.
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َوَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا
/ش/ قولـه: ((ثم هم مع هذه الأصول…)) إلخ؛ جمع المؤلف في هذا الفصل جماع مكارم الأخلاق التي يتخلَّق بها أهل السنة والجماعة؛ من الأمر بالمعروف؛ وهو ما عُرِف حُسْنُه بالشرع والعقل، والنهي عن المنكر؛ وهو كل قبيحٍ عقلاً وشرعًا؛ على حسب ما توجبه الشريعة من تلك الفريضة؛ كما يفهم من قوله عليه السلام:
((مَن رأى منكم منكرًا؛ فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) .
ومن شهود الجُمَعِ والجماعات والحج والجهاد مع الأمراء أيًّا كانوا؛ لقوله عليه السلام:
((صلوا خلف كلِّ برٍّ وفاجرٍ)) .
ومن النصح لكل مسلم؛ لقوله عليه السلام:
((الدين النصيحةُ))
ومن فهمٍ صحيحٍ لما توجبه الأخوة الإيمانية من تعاطفٍ وتوادٍّ وتناصرٍ؛ كما في هذه الأحاديث التي يشبِّه فيها الرسول المؤمنين بالبنيان المرصوص المتماسك اللَّبنات، أو بالجسد المترابط الأعضاء من دعوة إلى الخير، وإلى مكارم الأخلاق، فهم يدعون إلى الصبر على المصائب، والشكر على النعماء، والرضا بقضاء الله وقدره.. إلى غير ذلك مما ذكره.
لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ . وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي)) ؛ صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ [الْمَأْثُورَةِ]
، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ [أَئِمَّةُ الدِّينِ] ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ [وَدِرَايَتِهِمْ] ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ : ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَّنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
/ش/ وأما قولـه: ((وفيهم الصِّدِّيقون…)) إلخ؛ فالصِّدِّيق صيغة مبالغة من الصدق، يراد به الكثير التصديق، وأبو بكر رضي الله عنه هو الصدِّيق الأول لهذه الأمة.
وأما الشهداء؛ فهو جمع شهيد، وهو مَن قتل في المعركة.
وأما الأبدال ؛ فهم جمع بدْل، وهم الذين يخلف بعضهم بعضًا في تجديد هذا الدين والدفاع عنه؛ كما في الحديث:
((يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدد لها أمر دينها))
والله أعلم، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
ليتيم الشافعي
2009-05-05, 09:59
تم بحمد الله عزوجل نقل شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عزوجل كاملا..
أسأل الله عزوجل أن ينفع به الأمة جمعاء
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وبارك على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وصحبه وأزواجه الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
*******
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir